وقال له والده: ولكن هذا شذوذ لا مبرر له يا بني!
ولما لم يجد منه استجابة من أي نوع سأله : ألا زلت تفكر في الخطبة؟
فأجاب ببساطة: كلا، الجوع هذه المرة لا الحب.
ولما ذهب همست نظيرة هانم في أذن زوجها: آخر العنقود يا عزيزي.
فتساءل الرجل مغضبا: هل نرضى بالهزيمة؟ - كلا، ولكن الأمر يتطلب عناية مضاعفة.
وآمن طاهر بأن «هذا هو عين العقل» تطارده حيث ذهب. إنها تطوقه في الظاهر والباطن. إنه غريق في نسيجها المحكم، حتى الحب والطرب والحزن. وسمع لجريان الدم في أطرافه صوتا، فأيقن أن شيئا سيحدث. وشاركه إحساسه من يعيشون حوله، ولكن في صمت متبادل. ويوما وهو في الفرندا المطلة على الحديقة الصغيرة حدث شيء. كان موسم الامتحانات يقترب، وسمير وهدى مكبان على المذاكرة. وكان الأب يكتب بحثا، والأم تقرأ مجلة أمريكية. وبكى طاهر، كان في الفراندا يذاكر. وشعر بأن الحمل فاق احتماله وأن الدنيا لا شيء. وترك الكتاب فوق الترابيزة وراح ينظر في لا شيء، وحزن حزنا عميقا، ثم انصهرت الكآبة فذابت دموعا. وكتم البكاء أول الأمر أن يسمعه أحد. ثم تدافعت الدموع بغزارة مذهلة، فنشج ثم نحب. وغلبه ذلك فاستسلم للنحيب حتى هرع إليه الجميع. وقفوا مبهوتين، وجاءت أمه بماء فغسلت وجهه، وظل يبكي بحركات بلا صوت وبلا دموع. وأسند رأسه إلى صدر أمه؛ فتلقته بحنان، وهي تتساءل بقلق: ترى هل جاوزت الحد «المعقول» في إظهار الحنان الذي يعتمل في صدرها؟ ثم هدأ طاهر تماما، فجلس واجما ولم يبق من الانفعال الغريب إلا نظرة حزينة بكل معاني الكلمة. وساد الصمت وارتسمت الأسئلة في الأعين القلقة. وسألته أمه: ما لك يا طاهر؟
أجاب دون أن ينظر إلى أحد: لا شيء.
ارتسمت الدهشة والاحتجاج مكان الأسئلة، وقال له سمير: خبرنا بما يحزنك!
وقالت هدى بحرارة: يجب أن نعرف ذلك.
ولكن الأب أشار إليهما بالخروج فخرجا، ثم سأله برقة: ماذا بك يا بني؟ - قلت لا شيء! - أيام الامتحانات أيام مرهقة للأعصاب؟ - كلا .. كل شيء طيب.
Page inconnue