فأولئك المستعمرون الأوائل، الذين قدموا من أوروبا رافعين رايات المسيح المقدسة، سعوا إلى إقامة علاقات خاصة مع بعض الأقليات الدينية في المنطقة، ووجدوا ضالتهم في طائفة مسيحية شرقية، تنتسب إلى القديس مار مارون، عاشت في رخاء نسبي نتيجة احتكارها لإنتاج الحرير. ومن جانبها رأت الطائفة المارونية في المساندة الأوروبية حماية لمصالحها الاقتصادية، وتدعيما لها.
وطبق الأتراك نفس السياسة عندما حلوا بالشام عام 1516، في ظل الراية الإسلامية، فقد عمدوا إلى احتضان طائفة السنة المسلمة على حساب بقية الأقليات من مسلمة ومسيحية. وكان المصريون الذين وجههم محمد علي إلى الشام بعد 1833، هم الذين ألغوا كافة المظاهر التي فرضها الأتراك لتمييز المسيحيين من حيث الملبس، كما فتحوا الوظائف العامة أمامهم. وبدا المشرق العربي كله على أبواب مرحلة جديدة، تنقله من ظلام العصور الوسطى إلى آفاق العصر الحديث.
لكن القوى الاستعمارية كانت بالمرصاد لمحمد علي. كما أشعل الصراع البريطاني الفرنسي في المنطقة الفتنة الشهيرة عام 1840، بين الدروز والموارنة؛ ذلك أن الأولين، وهم مسلمون يؤلهون الحاكم بأمر الله (الشيعي)، قد اتبعوا مثال الموارنة، وأقاموا علاقة خاصة ببريطانيا، يوازنون بها علاقة الموارنة بفرنسا.
اتسعت الفتنة بعد خمس سنوات بانضمام الأرثوذوكس والسنة والشيعة إلى جانب الدروز، ثم تكررت عام 1860، عندما ثار الفلاحون الموارنة على إقطاعييهم؛ فلم تكد محاولات التوفيق بين الجانبين تشرف على النجاح، حتى هاجم فريق من مسيحيي المتن قرى درزية، وأغار الدروز على قرى مارونية، وتحول الأمر إلى حرب بين المسلمين والمسيحيين، انتهت بتدخل قوات الدول الأوروبية، ودخول الجيش الفرنسي بيروت.
وينسب المؤرخون لنابليون الثالث دورا في إثارة هذه الفتنة؛ فقد دخلت فرنسا في عهده، مرحلة جديدة من الآمال التوسعية، وأراد الامبراطور أن يظهر في ثوب المدافع عن حقوق المسيحيين في الشرق.
لكن الآمال الفرنسية لم تتحقق إلا في أعقاب سقوط الإمبراطورية العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى؛ فقد تقاسم الإنجليز والفرنسيون المشرق العربي، وهزموا قوات الأمير فيصل، الذي كان بسبيل إنشاء الدولة العربية الموحدة من الأردن وسوريا ولبنان وفلسطين.
تولت فرنسا سلطة الانتداب على إقليمي سوريا ولبنان، فحافظت على النظام الطائفي، ودعمت مركز الموارنة، بإعطائهم امتيازات عدة، وإتاحة الثقافة الأجنبية لأبنائهم؛ الأمر الذي هيأ لهم فرصا اجتماعية لم تتوفر لغيرهم.
ولاح أمل الدولة العربية الموحدة من جديد عام 1952، عندما نشبت الثورة التي بدأها الدروز بقيادة سلطان باشا الأطرش، تحت شعار وحدة البلاد السورية (الأردن وسوريا ولبنان وفلسطين) واستقلالها. لكن الفرنسيين قمعوا الثورة بالسلاح، كما قضوا على جذوة الوحدة العربية بتأسيس دولة منفصلة لجبل لبنان.
ففي سنة 1926، أعلنت فرنسا قيام الجمهورية اللبنانية، وأعطتها علما هو العلم الفرنسي ذاته وقد أضيفت إليه شجرة أرز. وأطلق بعض الموارنة على الدولة الوليدة اسم «فرنسا الصغرى».
وبعد ثمانية عشر عاما، انتهى الانتداب الفرنسي على لبنان، فأصبحت جمهورية مستقلة. وكان الموارنة قد أدركوا خلال ذلك أن عصر الإمبراطورية الفرنسية قد ولى، فتبلور داخلهم اتجاه متحالف مع البريطانيين، شكل مع عناصر من السنة والشيعة والدروز ما عرف في تاريخ لبنان السياسي باسم «الكتلة الدستورية».
Page inconnue