قال وهو يرسل البصر إلى الطريق فوق كتفي: هذا المكان من الأماكن الفريدة في بيروت؛ فصاحبه نصف فنان ونصف سياسي، وهو يقدم الوجبات الخفيفة والخمور والأخبار والمعارض الفنية. وإلى هنا يأتي ثوار المقاهي، واللصوص، والمنفيون، والعشاق، والقوادون، واللوطيون، والسحاقيات، والجواسيس.
أحضر لنا النادل كأسين من الويسكي، وصحنا من الفول السوداني أو فستق العبيد كما يسميه أهل الشام، وآخر من شرائح البطاطس المحمرة. وما لبث صاحب المكان أن انضم إلينا مرحبا بوديع. ووجدته أربعينيا ذا عينين زرقاوين ذكيتين، وفم حسي.
تبادل هو ووديع الأخبار والتعليقات الضاحكة. وانصرفت أنا إلى تأمل اللوحات المعلقة على الجدران. وكانت لمصورين لبنانيين معاصرين تنوعت مدارسهم وأساليبهم. ولاحظت أن أسماءهم تتراوح بين أرمنية ومسلمة ومسيحية. وكانت الأسماء المسيحية فريقين؛ واحد ذو طابع عربي مثل إلياس وصليبا ، والآخر أوروبي مثل إيفيت وهيلين. وبالمثل كانت موضوعات اللوحات؛ إذ تميز بعضها بجو أوروبي، والقلة منها كانت ذات طابع محلي.
أعجبني لوحتان متجاورتان لنفس المصور، تميزتا بغنى الألوان، ووحدة المصدر الشعبي. كانت إحداهما التي غلبت عليها الألوان البنفسجية تمثل فارسين متقابلين على نسق الصور الشعبية للخضر وذي القرنين. أما الثانية فاستمدت موضوعها من شكل الصليب الذي احتوى السيدة العذراء في هيئة شمعة متوهجة.
تأملت شابا وفتاة جلسا متلاصقين في أحد الأركان وأمامهما كأسان من المارتيني. وكان الشاب يهمس في أذن رفيقته بصورة متصلة. وشعرت بصاحب المقهى يغادر مائدتنا، فتابعته ببصري وهو يشق طريقه بين الموائد، ويوجه تعليقا ضاحكا إلى سيدة كبيرة الجسم في ملابس سوداء، انفردت بإحدى الموائد، وظهرها إلى ناحيتي.
خاطبني وديع: هل سمعت ما قاله؟ إنه يعتقد أن المكتب الثاني هو الذي دبر الانفجار في دار عدنان، والظاهر أيضا أن له يدا في حادث بشير عبيد. - كيف؟ - بشير عبيد مسيحي ماروني. وهو تقريبا الماروني الوحيد بين قيادات الحركة الوطنية، وإزاحته تخدم الكتائب التي تريد الانفراد بتمثيل الموارنة.
تساءلت: لكن «المرابطون» هم الذين قتلوه؟
هز كتفيه وقال: هذا لا يمنع أن يكون الأمر من تدبير المكتب الثاني لحساب الكتائب. - ما هو المكتب الثاني بالضبط؟ - جهاز المخابرات. وهو في تركيبه يعكس الوضع القائم؛ فيمكنك أن تجد به ممثلين لكافة التيارات، فضلا عن أجهزة المخابرات العالمية.
حانت مني نظرة إلى السيدة ذات الملابس السوداء، فوجدت أنها لم تعد بمفردها؛ فقد جلست قبالتها امرأة أخرى في مقتبل الثلاثين، جميلة الوجه، ترتدي بلوزة سماوية اللون بغير أكمام، كشفت عن ذراعين بضتين.
سألت وديع: وعدنان؟
Page inconnue