اليقظة
حياة اللغات وموتها ولماذا تبقى العربية حية!
والمجمع اللغوي؟ «الإجبشن ميل» تضحك
ما زلنا في الموضوع «الإجبشن ميل» تناقش
فلان «ومدامته»
أجوبة الامتحان1
النشيد القومي المصري
محروسة!
الحياة أمامك1
تكلموا لغتكم!
رسالة وحاشية
الشعر القصصي الحماسي
حديث عن الشرق الأقصى
إمبراطور يصير ملكا1
في عالم الألحان
معرض الصور المصري
لبيك يا مسيو فانبير!
زواج الشرقيين بالغربيات
نهضة الشرق العربي
اليقظة
حياة اللغات وموتها ولماذا تبقى العربية حية!
والمجمع اللغوي؟ «الإجبشن ميل» تضحك
ما زلنا في الموضوع «الإجبشن ميل» تناقش
فلان «ومدامته»
أجوبة الامتحان1
النشيد القومي المصري
محروسة!
الحياة أمامك1
تكلموا لغتكم!
رسالة وحاشية
الشعر القصصي الحماسي
حديث عن الشرق الأقصى
إمبراطور يصير ملكا1
في عالم الألحان
معرض الصور المصري
لبيك يا مسيو فانبير!
زواج الشرقيين بالغربيات
نهضة الشرق العربي
بين الجزر والمد
بين الجزر والمد
صفحات في اللغة والآداب والفن والحضارة
تأليف
مي زيادة
المقدمة
بقلم سلامة موسى
مي كاتبة الشباب، تنافح عن حقوقه وتعتذر عن أغلاطه، وهي تفعل كل ذلك بروح الاعتدال مسوقة في ذلك بالطبع لا بالتطبع.
ثم هي أيضا لأنها شرقية تحب الشرق وبخاصة مصر وسوريا بقلبها وعواطفها، ثم لأنها ذكية تحب الحضارة الغربية وتدعو إليها، وذكاؤها ووطنيتها كلاهما يدفعانها إلى الإعجاب بهذه الحضارة والحث على اصطناعها؛ لأنها من الجهة الواحدة نتاج عظيم للذهن الإنساني، ومن الجهة الأخرى سلاح يمكن الشرق أن يرد به غارة الغرب.
فبهذا المفتاح يمكننا أن نفهم مي، وأن ندرك معنى المثل العليا التي تتشوف إلى تحقيقها، وأن نعطف عليها، ومن هذه الوجهة تكاد جميع مؤلفاتها تتجه إلى غاية واحدة وإن اختلفت الوسائل، وهذه الغاية هي إصلاح هذا الشرق، وتنبيه شبابه إلى اصطناع المثل العليا، والحث في كل ذلك على التجديد.
فهي تساير الشباب في رغبته في تجديد اللغة والميل بها إلى التطور والإقلاع عن الجمود، وتسايره أيضا في نزعته إلى الإصلاح الاجتماعي أو الاشتراكي؛ الذي كان سببا في نهوض أوروبا في الثلاثين السنة الماضية، وفي تشوفه إلى صوفية طليقة من القيود المذهبية والفروق الدينية، التي كثيرا ما مزقت الوحدة الوطنية والرابطة القومية، ولكنها لما استقر في نفسها من ذلك المزاج الذي يقوم لديها مقام الصابورة من السفينة، تراها على الدوام معتدلة بحيث يقرأها الشاب الثائر فيرتاح إليها، ويقرأها الشيخ الجامد المتزمت فلا يجد ما ينقم منها.
وإنه لمن أوضح البراهين على صحة نهضتنا أن نجد آنسة مسيحية مثل مي تدافع عن العرب واللغة العربية، كما يرى القارئ في أحد مقالات هذا الكتاب، ففي هذه المقالة: «حياة اللغات وموتها» نجد مي عاطفة على اللغة العربية، راجية لها الحياة، تستقرئ الماضي لكي تستضيء به في المستقبل، تتهكم من طرف خفي على أولئك الشيوخ الذين ألفوا المجمع اللغوي، فما هو أن تركهم لطفي السيد حتى انتثر عقدهم.
وهنا لست أستطيع أن أترك هذه الفرصة تمر دون أن آسف على خروج الأستاذ لطفي السيد من ميدان الأدب والسياسة، وكيف لا نأسف على زمن كان يقود فيه الشباب نحو المستقبل؟! يضرب الجمود بمطارق الحديد، ويعلمنا مبادئ الوطنية وحلاوة الأسلوب الساذج الخالي من الصنعة، وأمانة التفكير، ومكافحة الاستبداد.
ولست أظن إلا أن مي قد تأثرت به كما تأثر به جميع الملتصقين بالحركة الفكرية في مصر، ومن الصعب أن نعرف جميع المؤثرات التي أثرت في ذهن مي؛ فإن سعة ثقافتها تكاد تحول دون ذلك، فهي تعرف عدة لغات أوروبية تقرأ آدابها كما تقرأ العربية وتلتذها جميعا، ومن هنا بعض إعجاب الكثيرين بها.
وكيف لا نعجب بفتاة شرقية تقول (في مقال المحروسة): «فالمسئولية صارمة تثقف الذات القومية والذات الفردية، غير ملاينة ولا مهادنة، وهي من أكبر البواعث على نفض دثار الخمول وتكوين صفات النبل والكرامة.»
والدفاع عن المسئولية هو دفاع عن الحرية، وليست توجد حرية إلا وفيها مسئولية، كما ليست توجد مسئولية بدون حرية، ولو كان شبابنا يفعل فعل مي، وبدلا من أن يطلب الحرية الدستورية أو الحرية النسائية أو غيرهما يطلب المسئولية الدستورية أو المسئولية النسائية؛ لما وجد الجامدون منفذا في حصن المجددين. فالحرية في نظر من يفهمونها ويدافعون عنها هي المسئولية، وليس يخشاها إلا من يخشى المسئولية؛ لأن الإنسان إذا ألف القيد والسياج ارتاح إليهما، فكانا له سندا يأمن به الغوائل. أما الانطلاق في فسحة الحرية فلا يطيقه إلا الأقوياء. ورجال الصحافة عندنا يعرفون قيمة المسئولية التي تستتبعها الحرية؛ فقد كانوا أيام الأحكام العرفية والرقيب يقرأ صحفهم يستكينون إلى هذا القيد ولا يحسبون حسبانا للمسئولية، فلما رفعت عن الصحف الرقابة وعادت إليهم حريتهم، شعروا جميعهم بالمسئولية، فشدت من أعصابهم ونبهت من أذهانهم.
فإذا كنا نطلب مع مي زيادة مسئولية نسائنا، وزيادة مسئولية شبابنا، وزيادة مسئولية صحفنا، فإننا ننال ما نبتغيه من الحرية دون اسمها.
وهناك أسف واحد يعتري الإنسان كلما قرأ كتابا لمي، وهو أسف شبيه بالغبطة؛ فإننا نغبطها جميعا لذكائها وسعة ثقافتها، ونود لو نجد عددا كبيرا من فتيات سوريا ومصر يقتفين أثرها في خدمة الحياة القومية العربية والعمل على رقيها ورفعها، ولسنا نطمع في أن نجد من تساويها، ولكننا نود أن نجد من تدانيها. ولعل بعض المسئولية في ذلك تلقى على عاتقها، فإن واجب الأديب لا يقتصر على التنوير والإفادة، وإنما يعدو ذلك إلى إيجاد القدوة يقتدي بها الناشئ ويحمل إلى الخلف ذلك المصباح المقدس، يزيد ضوءا على ضوء كلما مر به جيل.
اليقظة
فليحيا الاستقلال التام!
فلتحيا الحرية!
فلتعش مصر حرة مستقلة!
فليحيا الوطن!
انتبهنا يوما على وقع هذه الأهازيج غير المألوفة، التي سرعان ما اهتدت إلى مصبها في القلوب، كالماء يفيض فيتدفق على منحدر هيئ له منذ أجل مديد.
الأفواج، أفواج المتظاهرين، تتقاطر من كل صوب، والأعلام التي طال عليها العهد في الحقائب تخفق فوق الرءوس خفوق الألوية المنتصرة، وهتاف المئات والألوف ينتظم متجمعا في نبرة واحدة وقياس واحد، كأنه من صوت واحد ينطلق. والأصداء الشائعة يصدمها هنا وهناك ترجيع المواكب الجائبة أنحاء المدينة في هرج وتهليل، والجو يدوي بارتطام الأصوات، وقرع الطبول، وعزف الآلات، وزغردة النساء بين الهتاف والتصفيق.
وتمشت روح النشوة إلى الضيف والنزيل، فأذابت ما بين الأجناس والشعوب والمذاهب من جليد، وألغت حاسة التفرق وسوء التفاهم ضامة النفوس كما في اعتناق من التعاطف وحسن الوئام.
لمن يهتف الأجانب؟ وأي الألوية ينشرون؟ وعلام تنثر أياديهم الرياحين وفرائد العطور؟!
أتراهم يحتفون بعيد الوطنية الشاملة لظهور طلائع الوطنية عند شعب يستفيق؛ فتحييه حتى جنود الإنجليز وضباطهم بالإشارة والتلويح، ويحييه الجميع بالأصوات والألوان والأزهار؟
نعم، في ذلك اليوم من أواسط شهر مارس سنة 1919 وقد عبق الهواء ببشائر الربيع، ونورت البراعم الزهية على الغصون، وسرت في الأجساد نفحة التجديد كرسول من حياة الأرواح؛ في ذلك اليوم الغني بتنبه الأرض بعد هجود الشتاء، استيقظت أمة الوادي الجاثم بين البحر والصحراء.
استيقظت الأمة وهتفت؛ فإذا في صوتها غضبة الأسود، ومفاداة الأبطال، وعزم الرجال، ومرح الأطفال، وحنو النساء، وصدق الشهام. •••
وتصرمت أيام الفرح والهناء بعد أيام الاحتجاج والمطالبة؛ فسارت الجماهير وراء نعوش الموتى، سارت كاسفة لدى زوال صور الحياة، متهيبة حيال جلال الموت، لا أن العاطفة المستجدة ظلت تجيش وتطمى حينا بعد حين. وبصوت المفجوع الذي تزكي منه التضحية الحمية، تهتف الجماهير وراء الأعلام المنكسة:
فليحيا الوطن!
فلتحيا مصر!
فليحيا ذكر شهداء الحرية!
يا للرعشة العجيبة تعرو النفس لنداء الحماس والاستبسال! إن القلب عنده جازع والطرف دامع، أمام مشاهد الفوز ووراء نعوش الضحايا على السواء.
وكأني خلال الألفاظ المتكررة في الفضاء المجوف، سمعت مصر الفتاة تقول: لقد كنت أيها القطر، مسرحا خاليا منذ أجل طويل، مسرحا زيناته هذه السماء الزرقاء، وهذه الصحراء العفراء.
وهذا الليل الناعم السحيق المغري إلى تلمس الأسرار.
وهذه الشمس المشرقة أبدا كمجد لا ينقضي.
وهذه الهياكل وما انتصب فيها واضطجع والتوى.
وهذه التماثيل الشواخص للذين عاشوا ولن يموتوا من آلهتي وعظمائي.
وهذه الآثار التي تركها الزمان الوثاب أوعية كبيرة تدخر أحلاما لا تدرك ورؤى لا تمس.
ونيلي هذا، شاهد العصور المتابع سيره بلا انقطاع ولا ملل.
كلك، يا هذه الأجواء والمروج والبقايا والأمواه، إنما كنت مسرحا خاليا ينتظر.
لقد مللت شلال الذراري المتلاحقة في ربوعك صامتة خانعة تجهل اسم الأمل والقنوط.
وانتظرت طويلا طويلا ، انتظرت صوتا يليق بعلواء تاريخك العظيم .
وها قد آن الأوان فهببت فاسمعي!
اسمعي صوتي يخاطب الرعاة بين النخيل، والكهان في الهياكل، والفراعنة والبطالمة في البلاطات والقصور.
يخاطب الغزاة والفاتحين من عتاة العهد القديم والعهد الجديد.
قائلا: إن كل ما حل بي من نكبات وعلل أخرسني حينا، ولكنه لم ينل من حيويتي!
لقد استيقظت، أيتها الأمم، استيقظ الشعب الصريع المستعبد!
استيقظ وأرسل كلمته الأولى: كلمة أسنى من الربيع، وأبقى من الأرض، ترن في قلبي فأزيد وثوقا بما أريد وأبتغي.
كلمة هي تتمة للماضي، وعهد للمستقبل، كلمة هي المنبه، والغاية والوسيلة.
كلمة عميقة رحيبة كالحياة: الحرية. •••
ما هي الوطنية؟ كيف تشب فجأة فتغزو القلوب وتثير فيها جنون العواطف، وتنمي في جوانبها نبتة التأمل والتبصر والإرادة؟!
في مواكب الحماسة تسير المخدرات سافرات، وفي الألوية تتلاثم الأهلة والصلبان، ويتحاذى من الجمهور الرفيع والوضيع والوطني والأجنبي، ممثلين جميعا إمكان التآخي بين بني الإنسان في التفاهم العام وإعطاء كل ذي حق حقه.
واستيقظت شخصيتي الشرقية بفعل ذلك التأثير، وكما يحملنا أحيانا سحر الأنغام إلى بقاع مجهولة؛ سارت تلك الشخصية إلى أقاليم بعيدة وراء مترامي القفار.
اجتازت فلوات الظمأ والخوف والوحشة والسراب والسكون، ومرت بأبناء المشرق في أوطانهم في المدن والعواصم، في السواحل والجبال والأودية، عند القبائل المقيمة وعند العرب الرحل.
مرت تصيح في كل قوم: وأنتم ما حالكم يا أبناء الشمس؟ أما سمعتم قعقعة القيود المتكسرة في الوادي الأخضر؟! لقد تحطمت القيود الدهرية وأخذت تتساقط على وقع أناشيد الحرية. شعب الوادي يهتف ويثبت حقه على الحياة والحرية؛ ألا فاصغوا إلى صوته فقد ملأ المروج والبحار! وأطلقوا أصواتكم من حناجرها فقد انقضى وقت الرقاد! •••
أيها الشرق!
يا شرقي الكبير الرهيب الرءوف.
يا شرق الطرب والحميا والنخوة والشدة العاصفة كريح السموم!
إنك لتتجمع تحت نظري كلوحة مصورة؛ فأرى منك الفقر، والجهل، والاضطراب، والاحتدام، والانفعال، ليس فيك فيض الثروة ومعجزات الحضارة، ربوعك خالية مما لدى الأقوياء من صروح ومعاهد ومصارف ومعامل، ربوعك خالية من المتاحف والخزائن والودائع المجلوبة من قصي الأنحاء. إنك جاهل فقير مفكك الأوصال!
ورغم ذلك فأملي بك عظيم كالحياة والحرية!
أية قوة هذه التي تشد وثاقي إليك؟
لماذا أهوى من لغتك الشدو الشجي النواح، والنبرة السريعة الحادة، والهتاف الأبي الحار؟ ماذا تلمس في هذه اللغة العربية التي تنثرها شعوبك في مجاهل القفار، وعلى الجبال والهضاب، وعلى سواحلك وأنهارك وجداولك، ووراء القطعان في مروجك، وقرب أنين نواعيرك؟
أية وديعة لها عندي حتى تثير لهجاتها في البكاء الحنون، كبكاء اللقاء بعد فراق طويل؟
طويتك الواسعة الخفية تستهويني أيها الشرق، وتأسرني أنا الذرة الصغيرة بين ملايين الملايين من ذراتك، وتمرج في كل كيانك بصحاراه ورياضه، بشواهقه وشواجنه، ببداهته وعجزه، بفضائله ونقائصه، وبالقلوب المضطرمة فيه والنوايا الخالصة بين أبنائه.
ألا نظرة إلى هذه السماء المخيمة عليك ببهاء العسجد واللجين والأرجوان!
إنها الجو الوحيد الذي أظل الرسل، وما رضيت النبوات أن تنزل في غير هوائه.
إنك أيها الشرق، اصطفيت لتكون أرض الأبطال ومنشأ الجبابرة.
لقد حقت لك الراحة ثلاثة قرون بعد ازدهار عشرات القرون، لقد حق لمدك السني المحسن أن يجاري ناموس الكون؛ فيتخاذل في جزر محتوم، ولكن ها قد آن أن ترتفع موجتك الجديدة وتمتد، ها قد جاء وقت النهوض؛ فإلى النهوض رغم النوائب والمثبطات، إلى النهوض.
حولك الأقوياء يتكافحون ويجاهدون ويغنمون، وهم رغم ذلك يئنون في الظلام: «هناك فجر منتظر لم يلح بعد.»
وكيف يلوح الفجر قبل أن يستنير المشرق؟
أنت برج الفجر، أيها الشرق، أنت مزجي الأشعة.
فقم واعمل، قم وارقب من أي أنحائك يلوح مشعل الضياء.
حياة اللغات وموتها ولماذا تبقى العربية حية!
(1) اللغة والحضارة
الشعوب كالبحار: لهذه مد وجزر ولتلك ارتفاع وهبوط.
للبحار موجات يأتين لاطمات الشاطئ بتجمع مياههن، ثم يغرن في صدر موجات متهجمات. وللشعوب مدنيات تنمو فتعلو إلى ذروة المجد والسؤدد، ثم تهبط إلى منحدر الوهن والنسيان متخلية عما لديها من نظام وقوة وخبرة لمدنيات جديدات تحل محلها.
ما هو الداعي إلى هذا التموج الدائم في مناطق المجهود البشري حتى تهلك عنده أشواط المدنية واحدا بعد آخر؟ وما هي العوامل التي تجعل زاهر الأمس اليوم يابسا، وخصيب اليوم قاحطا غدا؟
لقد درس هذه المسألة الخطيرة علماء التاريخ والآثار والعمران؛ ففصلوا لذلك الأسباب ووضعوا لتعليله المؤلفات الكبيرة، إلا أن أبحاثهم لا تفيد في تلافي المحتوم على كل مدنية بلغت شأوها المنطق، ثم خضعت في هبوطها كما في ارتقائها لناموس التموج الدائم. وليس في وسع المتأمل المخلص إلا إثبات ما قد تتابع وقوعه منذ فجر التاريخ: وهو أن الشعوب تخلف الشعوب، والمدنيات تعقب المدنيات، وأنه في دوران الأحقاب لا بد أن يمسي الجديد قديما، وأن ينقلب القديم يوما جديدا.
كذلك تنتشر لغة قوم بانتشار حضارتهم؛ فيسارع المغلوب إلى تعلمها وإتقانها ما استطاع، حتى إذا انحطت تلك الحضارة، عاد ينكمش انتشار لغتها ودخلت مع الزمن في صف اللغات الميتة.
إن هذا المقدور نفذ في جميع اللغات القديمة حتى التي يتصل عهدها بعهد اللغة العربية؛ لقد ارتفعت اليونانية واللاتينية بارتفاع مدنيتيهما وهبطتا معهما أو بعدهما بزمن يسير. فلماذا خرجت اللغة العربية من حكم ذلك المقدور، فظلت حية كل هذه القرون الطوال بعد تشتت دول الفتوح واندثار العظمة العربية؟ (2) عند اليونان
تاريخ بلاد الإغريق هو الفصل الأول من تاريخ المدنية الحديثة، ومنه استمدت أوروبا مبادئ العلم والفلسفة والآداب، وما كانت تتمتع به المدن اليونانية من حرية واستقلال مثل أعلى يتطلع إليه المفكرون والمصلحون، وتنشده الحكومات الحديثة الحرة؛ ذلك لأن اليونان بدأوا بحل المشاكل الفلسفية والعمرانية ومعالجة بعض القضايا العلمية التي تضطرب لها أجيالنا.
مرت عصور لم يكونوا فيها إلا منفعلين بحضارة الكلدان والمصريين والسوريين؛ إذ كانت شواطئ النيل والفرات منذ زمن بعيد محط مدنيات قد وصلت إلى أوج العظمة والاقتدار، لكن جاء يوم قاموا يناهضون تأثير الفينيقيين فيهم ليفسحوا المجال لمدنيتهم القومية؛ فارتقوا ارتقاء باهرا وبسطوا سلطانهم على شواطئ البحر المتوسط، وبينا جيوشهم تنشر أعلامهم على بلاد يفتحونها ويستعمرونها، كان أهل البلاد اليونانية يعيشون عيشة هنيئة مستمتعين بما وضعته جمهورياتهم من النظامات الديموقراطية والاستقلال القومي.
ولما أن قام الفرس يهددون بلادهم الأوروبية بعد فتح الآسيوية ، نهضت أثينا وإسبارطة لرد غارات المغيرين، وأصبحت أثينا عاصمة المدنية اليونانية منذ القرن الخامس قبل الميلاد.
غير أن منافسة إسبارطة لها ولدت بينهما الحرب البيلوبونيزية
1
الشهيرة التي انتهت بانكسار أثينا. ثم قامت طيبة تزاحم إسبارطة. وهذه الحروب المتوالية أضعفت المدن اليونانية ونالت من تضامنها واستقلالها؛ فسطا عليها فيلبس المكدوني وأخضعها لسلطانه، واجتاح ولده الإسكندر مملكة الفرس عدوة اليونان فضمها إلى مملكته الواسعة، إلا أن الإغريق انقسموا بعضهم على بعض بعد موت الإسكندر، فاستنجد الإيتوليون بالرومان فكان ذلك أول النهاية، وصارت بلاد اليونان إقليما لاتينيا منذ عام 146 قبل الميلاد. •••
أما اللغة اليونانية ففرع من طائفة اللغات الهندية الأوروبية كلغات: الفرس، والهند، وأرمينيا، وليتونيا، والقلت، والجرمان، والسلاف. وقد استعملت أولا في بلاد الإغريق الأوروبية، ثم امتدت إلى شواطئ آسيا الصغرى، وإلى الجزر التي كانت تأتيها السفن للاستراحة في رحلاتها بين القارتين الآسيوية والأوروبية. ولما تعددت مستعمرات اليونان على شاطئ البحر المتوسط انتشرت لغتهم؛ فأصبحت لغة إيطاليا الجنوبية، وأكثر جهات صقلية، وبلغت قارة أفريقيا يوم شادوا قيرين، وبلاد غاليا يوم بنوا مرسيليا.
اللغة اليونانية الأولى من أوفر اللغات ثروة، تتجلى الفصاحة في: رناتها الرقيقة، وألفاظها الأنيقة، وأساليبها الفخمة، وقد أكسبها تنوع تشكيلها وتحريك منطوقها رخامة في مقاطع الأصوات، وموسيقى لفظية في التعبير عن الأفكار والعواطف، وقد فازت بما لم تفز به اللغات الأخرى، وهو أن لها مفردات خاصة باللغة الشعرية ومثلها للغة النثرية، وقد كتب بها بعد المتقدمين المدعوين «بالمدرسيين» علماء العهد الإسكندراني، وآباء الكنيسة الشرقية، وأدباء بيزنطية منذ ملك يوستنيانس إلى فتح الأتراك لمدينة القسطنطينية (1435).
ولقد تلقينا مآثر اليونان في الفلسفة والفن والأدب عن طريق هذه اللغة؛ فيها نشأ الشعر القصصي الحماسي
Epic
بأشعار هوميرس الإيلياذة والأوديسا، وقصائد هيزيوذس، وبرز الشعر الغنائي
Lyrice
ذو الوسمة الدينية أو السياسية أو الرثائية، مع صولون وسافو وأناكريون وغيرهم. ولما جاء العصر الشهير المدعو بعصر بركلس
2
سما النتاج الفكري إلى درجة الإتقان العظيم في الروايات المفجعة مع إسخيلوس وصوفوقليس وأوربيذس، والروايات الهزلية مع أرستوفانس، والتاريخ مع هيرودوتس وثوسيديدس وزينفون، والفلسفة مع أفلاطون وأرسطو، والبلاغة مع خطباء الأطيقيين؛ هؤلاء وغيرهم جعلوا الآداب اليونانية آيات ينسخ عنها الناسخون.
وبدا الفن بجماله الساذج الأنيق سواء في هندسة البناء والنحت والرسم.
ظل الأدب والفن في تلك المنزلة إلى القرن الرابع، إلا أنهما فقدا عندئذ قوة الإبداع والبداهة؛ فكان الرسامون والنحاتون قاصرين على نسخ التماثيل القديمة، وصار الشعراء يحتذون هوميرس وأمثاله. غير أن الفلسفة لبثت تتألق في سماء مجدها مع: الرواقيين، والأبيقوريين، والمشائين، والمرتابين، وأنصار الأفلاطونية الجديدة. كذلك كانت علوم التاريخ واللغة في ازدهار. •••
أخضع اللاتين اليونان فأعطاهم هؤلاء مدنيتهم الفريدة، وباحتكاك الفكرين لطف الفكر اللاتيني وسما سموا عظيما، ثم انشطر العالم الروماني إلى شطرين: عاصمة أحدهما روما، وعاصمة الآخر بيزنطية،
3
وقد زاد الاختلاف الديني في هذا التباعد: فمن الناحية الواحدة اليونان وتلاميذهم السلاف، ومن الناحية الأخرى اللاتين وتلاميذهم الجرمان والإنجلوقلتيين، ولم تتلاش اللغة اليونانية تماما بعد سقوط بيزنطية، بل ظل شعب الأقاليم يتكلم خلال القرون الوسطى لغة اصطلاحية مشتقة من اليونانية القديمة، ومن تلك اللغة الاصطلاحية استخرجت اليونانية الحديثة.
أما اليونانية القديمة فقد دخلت في عداد اللغات الميتة منذ زمن طويل، ولا يعنى اليوم بدرسها إلا بعض العلماء، ويدرس مبادئها بعض الطلبة في الجامعات الكبرى. وقد قل الذين يجيدونها بين الأكليروس اليوناني على استعمالها في الطقوس الدينية. (3) عند اللاتين
يبتدئ التاريخ الروماني بدور هو أقرب إلى الأساطير المبتدعة منه إلى الحقائق التاريخية الراهنة، ويخمن المؤرخون تتابع ملوك سبعة، ملكوا في خلاله من عام 754 (؟) إلى عام 510 قبل الميلاد، وفي 510 أعلنت الجمهورية في روما، وقد أدى ذلك بالأمة إلى إيجاد نظامات جديدة كالقنصلية والتشريع، وإضافتها إلى ما كان عندها من نظامات سابقة كطبقة الأشراف وامتيازاتها، وجمعية المقاطعات، ومجلس الشيوخ ... إلخ، وعقب الانقلاب منازعة طويلة بين الأشراف والعوام لم تنته إلا بفتح أبواب التشريع للشعب.
ولما اتحدت كلمة روما وملكت أمرها في الداخل، كبرت مطامعها في الاستيلاء على أنحاء جديدة؛ ففتحت جميع جهات إيطاليا، وزحفت إلى الشرق فهدمت قرطاجنة العظيمة، وحولت بلاد الإغريق إلى إقليم لاتيني، غير أنها رحبت بالنفوذ الفكري من هؤلاء الإغريق الذين كان سيفها قد غزاهم. ولما عادت المنازعات الداخلية تبلبل أحوال الجمهورية، تولى أكتافيوس إدارة شئون الدولة؛ فأصبح سيد العالم القديم، ونودي به إمبراطورا باسم «أغسطس» يجمع في يده كل اقتدار وسلطة وتشريع.
ثم انتقل الصولجان إلى القياصرة، ورغم ما تخلل أيام حكمهم من ثورات عسكرية؛ فقد أصبحت روما بعد إخضاع الإغريق عاصمة الشرق والغرب فسميت «سيدة العالم»، وتكاد تنحصر عظمتها الخطيرة في القرون الأولى من عهد الإمبراطورية؛ لأنها كانت حقا عاصمة العالم؛ إذ كانت دماغه المفكر، وقلبه الخافق، ويده العاملة. وليس من مدينة أخرى، حتى ولا أنطاكية والإسكندرية لتقوى على منافستها وادعاء ما لها من الشأن والفخار.
وأصبحت النصرانية في عهد قسطنطين (306-337) دين روما الرسمي، وقد أخر حزم ذاك الإمبراطور زمنا سقوط المدينة العظيمة، لكن الذين خلفوه هبطوا بها إلى دركات التقهقر والإهمال، فما مرت فترة حتى ثلمت أسوارها حراب الهاجمين واندكت جدرانها أمام غارات الفاتحين. •••
اللغة اللاتينية كاليونانية شعبة من شعب اللغات الهندية الأوروبية، وهي التي تكلمها جنود اللاتين والمستعمرون من الرومان؛ فحملوها إلى جميع أنحاء الدولة، ونشروها في كل بلد فتحته جيوشهم؛ فتولدت منها اللغات اللاتينية الجديدة
Néo latines
كالفرنساوية، والبرفنسالية، والإسبانية، والبرتوغالية، والإيطالية، والرومانشية (واللادينية)، والرومانية
Roumain . ويظن علماء اللغات أن هناك وسيطا بين اللاتينية الأصلية واللغات الحديثة المشتقة منها، وهي اللغة الرومانية
Langue romane
المحضة، وهي شديدة الشبه بالفرنساوية والبروفنسالية.
سبق القول أن روما قبل أن تتأثر بالمدنية الإغريقية لم تكن على شيء من الآداب؛ إذ يتعذر إطلاق هذا الاسم على بعض الأناشيد الدينية، والنكات المبتذلة، وفن الإيماء أو التخييل
الذي كان يطرب له اللاتين طربا شديدا.
على أن اختلاطهم باليونان بث فيهم الميل إلى الاقتباس والاستيحاء والرغبة في إيجاد الآداب الكتابية، فكان الشعر اللاتيني في بادئ الأمر يحتذي الشعر اليوناني في الأساليب والموضوعات، أو يكتفي بنقله إلى اللاتينية معنى ومبنى.
وكان المؤرخون أول الناثرين، وأشهرهم كاتو الرقيب
4
الذي وضع تاريخ أمهات المدن الإيطالية، ووضع آخرون تواريخ عامة أو خاصة في الشعوب اللاتينية، وهم في الغالب يتحدون مؤرخي الإغريق في سياق الكلام وتصنيف الفصول وتبويب التآليف، وقد ظلت البلاغة اللاتينية على جفوة وحوشية مدة طويلة، فما إن استوحت الإغريق؛ حتى انقلبت فنا مرنا جزلا استمر يصقل ويتكامل بفعل بيانهم، وكان نظام روما السياسي ملائما لفن الخطابة؛ إذ كانت أساليب الكلام متوافرة للمحامين والمتشرعين.
ولقد كانت بلاد اليونان مدرسة روما؛ لأن شبان اللاتين العازمين على الاشتغال بالمحاماة واعتلاء المنابر كانوا يقصدون إلى مدارس اليونان الكبرى لإتمام دروسهم وتثقيف مواهبهم، كما أن كثيرين من الإغريق كانوا يدرسون في روما فن الخطابة والإلقاء. وتدل كتابات العهد المدعو «بعهد أغسطس» (أي آخر قرون الجمهورية) على أن المؤلفين كانوا مطلعين على أشهر مصنفات الإغريق من شعر ونثر، وأنهم يقلدونهم صراحا، وفي مقدمتهم شيشرون العظيم تلميذ اليونان في الخطابة والكتابة والفلسفة جميعا، ومثله المؤرخون والشعراء على وجه خاص.
لكن هذا لا يعني أن الآداب اللاتينية حاشية معلقة على هامش الآداب اليونانية، بل كان لها طابعها الخاص؛ لأنها كانت أكثر من تلك امتزاجا بالأحوال العمومية وأظهر لشئون الأمة؛ ذلك أن معظم الكتاب من خطباء ومؤرخين وفلاسفة قاموا بأدوار سياسية، فكان لعلمهم وآرائهم وخبرتهم أثر فعال في مصالح الدولة، وكفى أن يذكر منهم: شيشرون، وقيصر، وماركس أوريليوس، وتاشيتوس، وپلينوس الأول، وپلينوس الثاني، ليثبت لنا ما تقدم، ولما كانت الآداب اللاتينية ذات اتصال بالحركة السياسية كان اللاتين جاهلين اتباع الفن لذاته، الأمر الذي كان رائد اليونان في معظم آدابهم وفنونهم. •••
فن اللاتين كآدابهم منقول عن الفن الإغريقي، إلا أنهما يختلفان في أن الأول يقلد الثاني بلا أمانة، ثم يخلطه بصنوف فنية أخرى؛ فيحرمه قالبه المجرد وبساطته الأنيقة. والزخارف القليلة التي كان يستعملها الإغريق بمنتهى التحفظ كان الرومان يغدقونها على أبنيتهم وصروحهم بلا حساب، بيد أن الآثار الرومانية إذا كانت دون الآثار اليونانية دقة وسذاجة، فهي لا تعدم عظمة وجلالا يلقيان التهيب في نفوس الناظرين.
وامتاز فن النحت في روما بما لم يكن ليعنى به الإغريق كثيرا، وهو تماثيل الأحياء؛ لأن من عادات الرومان قبل اتصالهم باليونان أنهم كانوا يحفظون في منازلهم صور آبائهم وجدودهم، وكانت تلك الصور والتماثيل تصنع من الشمع أو الخشب، ثم تحسنت بانتعاش الفن فصارت تحفر في الرخام. والرغبة في التزلف إلى القياصرة وتملق الكبراء كانت تؤدي إلى الاهتمام بتماثيلهم ووضعها في الأبنية العمومية وصروح الحكومة؛ ومن هنا تعدد التماثيل اللاتينية والباعث على إتقانها.
أما في غير ذلك فقد قال الشاعر اللاتيني: «إن بلاد الإغريق المغلوبة أغارت على قاهرها فاكتسحته في دورها.» (4) عند العرب
سقطت روما العظيمة، فتساءل العالم أي شعب قدر له أن يحمل مصباح الحضارة باعثا بأشعته إلى القارات الثلاث؟ فإذا بحركة جديدة تنشأ في أرض بعيدة بين قوم جهلت أسماءهم سجلات التاريخ.
قضت مدنية الإغريق طفولتها في حضن المدنية الفينيقية، ثم دفع اليونان الآسيويين عنهم فنمت مدنيتهم وترعرعت في أرض خصيبة، جميلة الموقع، معتدلة الهواء، عذبة الماء، ثم نسخ اللاتين مدنية الإغريق مكيفيها في قالب يلائم سليقتهم، ويتمشى مع روح لغتهم، وقد كانت بلادهم في منطقة تسهل لأهلها الانطلاق إلى الخارج وبسط سلطانهم على ما حولهم.
ولكن كيف تكونت المدنية العربية، وهي التي انبثق نورها الأول في شبه الجزيرة حيث تستعر الرمضاء ليل نهار؟
نعم، إن بعض الجهات الساحلية مثل: اليمن، والحجاز، وحضرموت كثيرة الخصب تنتج البن، والقطن، واللبان، والمر، والند، والبلح، والموز، والمشمش، والحنطة، والذرة، والعدس، وقصب السكر، وشجر النارجيل (جوز الهند)، وأنواع الطيوب العربية على اختلافها. غير أنها بعيدة عن أوساط التمدن والعمران، بعيدة عن تأثير الإغريق ونفوذ الرومان، فأي سر أوجد تلك الحضارة التي انتشرت بسرعة لم تظفر بها حضارة، فعبرت من قارة إلى قارة تحمل عز العرب، باسطة تمدنهم على آسيا، وأفريقيا، وبعض أوروبا، جالبة ثروة، وعلما، وانتعاشا حيثما نشر القوم أعلامهم؟
تنتنمي اللغة العربية إلى طائفة اللغات السامية، وهي ثالث فروع أصلية ثلاثة: الآرامية والكنعانية والعربية. فالآرامية تشمل الكلدانية والسريانية والآشورية (الميتة منذ زمن طويل)، وهي لغة عامية يقال إن السيد المسيح كان يخاطب بها تلاميذه. وتتكون الكنعانية من العبرانية والفينيقية. فالعبرانية لغة اليهود المقدسة، ومع أنها تختلف اليوم كثيرا عن العبرانية الأصلية؛ فإنها ما زالت مستعملة عندهم في الطقوس الدينية، ولهجة من الفينيقية (وهي البونيقية) استعملت مدة طويلة في قرطاجنة وعلى شواطئ إسبانيا، ولها بالعبرانية قرابة لفظية شديدة.
أما العربية فتشمل العربية الفصحى ولهجات مختلفة تكلمتها القبائل القاطنة في جنوب بلاد العرب وبلاد الحبشة وغيرها، وهي اللغة التي فازت بالبقاء على حين أخواتها وبنات عمها طوين في عالم النسيان منذ أمد مديد.
ظلت العربية منزوية إلى أواسط القرن السادس، فبرزت بغتة تتمتع بقوة بالغة أشدها، فما عرف لها التاريخ أدوار الطفولة والنمو، وذلك لا ينفي أنها قد تكونت في زمن بعيد القدم، أو أنها قد تكون شعبة من لغة سامية سابقة فقدت في مجاهل التاريخ؛ لأن بعض خصائصها اللغوية (كجمع التكسير مثلا) يميزها عن العبرية والآرامية، فيجعلها أشمل منهما للمعاني وأوفى للأغراض، ومن ذا الذي لم يسمع بغناها في المفردات والمرادفات؟ ذاك الغنى الذي يعد عجيبا إذا ما قوبل بفقر اللغات السامية الأخرى.
بدت العربية في القرن السادس لتكون لسان الحضارة الجديدة، فانطلقت من شبه الجزيرة تنقل إلى الأمصار القصية مفرداتها ومميزاتها، وجابت الأقطار ناشرة لهجاتها المختلفات من أطراف جزر الهند إلى أواسط القارة الأفريقية. •••
لم تقم سطوة العرب في أيام مجدهم وعزيز الذكر المحفوظ لهم على فوزهم الحربي فحسب، بل الخلافة العربية مدينة بعظمتها للآداب والعلوم أكثر منها لمضاء السيف وتعدد الفتوحات.
ففي القرون السبعة الأولى التي بدأت بالدعوة إلى الإسلام والهجرة من المدينة (عام 622 للميلاد)، وامتدت إلى القرن الثالث عشر، يشهد المؤرخون لمدنية من أعظم المدنيات التي عني بإثباتها تاريخ الآداب، فيها كان الشعراء والأدباء والعلماء والمؤرخون والفلكيون على اختلاف طبقاتهم ونحلهم يتسابقون إلى أصقاع أظلها العلم العربي؛ فصارت وجهة الطالب وكعبة الباحث. كانوا يذكرون حث النبي على طلب العلم، وقوله: إن الذي يسير في سبيل طلبه إنما هو مسهل أمامه طريق الجنة. يذكرون ذلك فيتقاطرون من كل الأمصار من المغرب الأقصى والهند وجاوه والقوقاز وتركستان ، فيقطعون البحار الواسعة، ويطوون الجبال والوهاد وراء القوافل الكبرى ووجهتهم المساجد الشهيرة في مكة ودمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة؛ لأن الجامع لم يكن مكان الصلاة فقط، بل كان (وما زال في أكثر البلاد الإسلامية) ملتقى العلماء ومجمع المتباحثين ومدرسة المتعلمين؛ فتقوم ثمت المناظرات في الموضوعات السياسية واللغوية والدينية.
ويجوز القول في الذين كانوا يهتمون بتلك المناقشات اهتماما يدفعهم إلى تدوين خلاصة ما يسمعون في صحائف يوزعونها على فريق دون آخر - يجوز القول فيهم: إنهم كانوا الصحافيين الأول. وقد كانت جميع أحوال الدولة داعية إلى إثارة هذه النهضة الفكرية. فالاحتكاك المتواصل بالشعوب الغريبة، وعيشة المدن الكبيرة، وثروة الدولة المتزايدة، ورفاهية الحياة الفردية الناتجة عن الفتوحات الواسعة، كل ذلك كان دافعا بالمدنية الأدبية إلى الأمام.
منذ القرن الثاني للهجرة أخذت تلتئم الاجتماعات العلمية في مدن الشام والعراق، في دمشق والبصرة والكوفة على وجه خاص. فكان عهد الخليفة المنصور عهدا زاهرا تقدمت فيه الآداب، وارتقت الأفكار، وترجمت المؤلفات الهندية واليونانية في الفلسفة والآداب والعلوم؛ فتعددت المكاتب العمومية وغصت قاعاتها بالطلاب والمطالعين، وكان كل خليفة وكل أمير يفاخر بما أنشأه من المكاتب، وبعدد ما جمعه من نفيس الكتب. ولما كان الخلفاء يبتاعون الكتب بوزنها ذهبا، ويفسحون صدر مجالسهم للشعراء والعلماء ويجزلون لهم العطاء، كان الأغنياء والأعيان يقتفون بالخلفاء ويفردون للعلم والأدب مكانا من حياتهم وحياة قومهم.
ولقد عني العرب بالتاريخ عناية خاصة؛ لأنهم شعروا باحتياجهم إليه لتدوين ما يقع من الحوادث في صدر الإسلام، وما يلقاه الدين الجديد من المقاومة أو الترحاب. أما العلوم اللغوية فقد كان لها عندهم شأن لم يكن لعلم آخر، وسرعان ما وضعوا قواعد الصرف والنحو للغتهم الزاخرة، في حين أن الإغريق، وهم مهذبو الأمم الأوروبية، لم يفرغوا من وضع أصول غراماطيقهم
5
إلا بعد انتقالهم إلى خارج بلادهم، يوم جازت حضارتهم إلى وادي النيل فقامت بها عظمة الإسكندرية.
وما قيل في الرومان من حيث تأثير الإغريق في مدنيتهم ينطبق على العرب بعد فتح بلاد فارس ؛ لأن التمدن الفارسي القديم قد صب في التمدن العربي الحديث وما كان أن امتزج بعناصر بيزنطية، ومن ذلك الخليط المختلف، المتناقض أحيانا؛ حيث تلاقت آثار مكة، وسوريا اليهودية والمسيحية، وبيزنطية، وبلاد فارس وبلاد الإغريق، (هذه فيما يتعلق بالعلوم والفلسفة فقط) نشأت مدينة سبكت في قالب خاص؛ فبدت للملأ مدنية قومية عربية.
لم يعن الفن العربي بالصور والتماثيل، والنحت العربي كالرسم؛ مقتصر على تنميق الحروف الكتابية. إنما العرب أجادوا في نوع من هندسة البناء بدأوا باقتباسه عن الفرس، ثم مزجوه بخصائص بيزنطية، وقد راج ذلك الفن رواجا عظيما في إسبانيا؛ فبنيت طبق أصوله «الحمراء» في غرناطة، وجامع إشبيلية ومأذنته الباذخة، ويمتاز البناء العربي بأقواسه الأنيقة، وأعمدته الهيفاء، وتخريمه الدقيق، وبزخرف كله رونق وبهاء، ومن أجمل آثاره مساجد الأستانة وقرطبة ومصر.
كان اليونان واللاتين قد سبقوا العرب إلى غربي آسيا وشمالي أفريقيا، إلا أن نظاماتهم وعاداتهم لم يكن لها نصيب في حياة الشعب، ولم يقتبس بعضها إلا سكان المدن الكبرى، وبقي أهل الأرياف في ذلهم وبؤسهم يرتعون.
لكن العرب الذين كانوا يستنكفون عيشة الحضر هبطوا الأودية الخضراء، واستوطنوا المروج الفيحاء في جيرة الفقراء والفلاحين، وقد زاوجوهم فامتزجت المشارب واتحدت القلوب، فترك الغالب في حياة المغلوب أثرا بينا من حيث تحسين الأحوال وتسهيل المعيشة ورفع مستوى الإدراك؛ فإن الآداب والعلوم والصناعة والثروة والأمان كانت تحل أينما حلت مدنية العرب، وقد كانت سوريا ومصر وشمال أفريقيا والأندلس أوساطا سعيدة للدأب والنشاط، بينا كانت أقطار أوروبا في حالة أشبه بالهمجية، ويوم كان الغرب جاهلا وجود الشرق الأقصى، ولا يعرف من أفريقيا إلا بعض سواحلها القريبة، كانت قوافل العرب وسفائنهم تحمل تجارتهم إلى الهند وجاوه والصين، وأواسط أفريقيا والجهات القصية من أوروبا كروسيا وأسوج والدانمارك.
عرفت أوروبا العرب بفتوحاتهم الواسعة، ولم تكن لتصدق في بادئ الأمر أن سكان البادية يحسنون شيئا غير النهب والسلب والتخريب، على أنها ألفت مع الزمن وجودهم في الأندلس، ولما أن رأت إسبانيا مستمتعة بعيش رغيد في أمان وسلام؛ أرغم أهلها على الإقرار بأن العرب بارعون في فنون السلم كما أنهم متفوقون في فنون الحرب. وما تأسست جامعة قرطبة العظيمة وطارت شهرتها إلى ما وراء جبال البرنات؛ حتى توارد علماء الفرنجة يطلبون العلم على علماء المسلمين.
ومن بين قاصديها رجل فاضل كان يدعى
Gerbrt ، تلقن العلم من أساتذة العرب، وذلك لم يحل دون ارتقائه كرسي البابوية الجليلة بعد سنوات باسم سلفستر الثاني؛ لأنه كما قال روجر باكون الراهب الفرنسيسكاني، وهو نابغة كبير من نوابغ القرون الوسطى، إذ أوصى في كتبه بدرس اللغة العربية: «إن الله يهب الحكمة من يشاء، فلم ير إعطاءها للاتين؛ لذلك لم تزهر الفلسفة إلا عند شعوب ثلاثة: اليهود والإغريق والعرب.»
ومعلوم أن أوروبا مدينة للعرب بكتب جمة نقلها اليهود من العربية إلى العبرية، ثم ترجمت إلى اللاتينية ومنها إلى اللغات الأوروبية الحديثة. كما أن فلسفة أرسطو لم تصل إلى علماء القرون الوسطى إلا عن طريق العرب وبعد تراجم أربع: من اليونانية إلى السريانية، فالعربية، فالعبرانية، فاللاتينية.
وقد نشر الأستاذ سلامة موسى في جريدة «البلاغ» المصرية مقالا عن «العلوم والحضارة، ونصيب العرب فيها» نقلا عن مجلة «كونكست» الإنجليزية، جاء فيه:
أن العلم الحقيقي دخل أوروبا عن طريق العرب لا عن طريق الإغريق؛ فقد كان الرومان أمة حربية وكان الإغريق أمة ذهنية، أما العرب فكانوا أمة علمية.
فإنهم غزوا ممالك الشرق مثل: الهند وفارس وبابل، وتعلموا منها كل ما استطاعت هذه البلاد أن تقدمه لهم، ولم يقتصر علمهم على الصنائع اليدوية مثل: النسيج، والدباغة، والصياغة التي اشتهر بها الشرق، ولكنهم تعلموا أيضا جميع ما يمكن تعلمه من الهندسة والطب والميكانيكيات.
وقد أحرق البطريرك كيرلس مكتبة الإسكندرية في القرن الخامس، فهجر آلاف من العلماء تلك المدينة إلى فارس واستوطنوها، فلما ظهر العرب عادوا فجمعوا تلك المعارف المشتتة، بل أضافوا إليها.
ثم انتشروا في الغرب، وجازوا البحر إلى إسبانيا حيث لا يزال شاهدا على عبقريتهم كاتدرائية قرطبة والحمراء، وقد كان سكان مدينة قرطبة يزيدون عن المليون في القرن الثالث عشر، وكانت شوارعها مبلطة ومضاءة، وكان فيها ما لا يحصى من الحمامات، وكان فيها نحو مائة مستشفى عمومي، ولعل القارئ يدرك قيمة ذلك إذا عرف أن شوارع باريس لم يوضع عليها البلاط إلا في ختام القرن الخامس عشر، ولم يكن في لندن في نصف القرن السادس عشر مصباح واحد في شوارعها، أما الحمامات والمستشفيات فلم تعرفهما هاتان المدينتان إلا بعد قرون.
فنحن مدينون للعرب باستكشافاتهم العلمية أكثر مما نحن مدينون لهم بثقافتهم أو فنونهم؛ فهم رواد الزراعة العلمية والتربية العلمية للدواجن، وقد زادوا معلوماتنا عن الكيمياء ونواميس البصر، وعرفوا حمض الكبريت وحمض النيترات، وهم الذين علمونا الحساب والجبر وأضافوا الصفر إلى الأعداد الهندية التسعة، وكان الناس قبلا يعتمدون على الهندسة في تقديراتهم؛ فاخترعوا الحساب الأعشاري. وكان علماء العرب يعتمدون على المشاهدة في أبحاثهم بخلاف الإغريق، فإنهم كانوا يعتمدون على الفلسفة، ولكن العلم لا يرقى إلا بالمشاهدة والتجارب. وقد استعمل العرب المغناطيس كما أنهم استخدموا البوصلة في الملاحة ا.ه.
كذلك أدى العرب إلى الإنسانية ما على الأمم الكبيرة من واجب النفع والإفادة. انتشرت لغتهم وحضارتهم أيما انتشار؛ فكانوا صلة أمينة، صلة خير وضياء بين العصور الخالية والقرون الحديثة، ولما هبط الصليبيون الشرق عادوا إلى بلادهم يحملون بعض أنظمة العرب التي اطلعوا عليها في رحلتهم؛ فاقتبسها الأوروبيون وقدروها قدرها، وعلى ذلك الأساس العربي المتين أقامت أوروبا صرح مدنيتها الحديثة. (5) لماذا تبقى العربية حية؟
من هو المنبه إلى تكوين هذه المدنية القومية؟
هو فتى كان بالأمس يقصد الشام في عير قريش للتجارة، وهو اليوم محمد النبي العربي ورسول المسلمين.
أما مصدر تلك الحضارة فهو القرآن.
لقد ذاع القرآن بسرعة لم يظفر بها كتاب قبله ولا بعده، ولم يقصر انتشاره على الشعوب التي نزل بينها وتوافقت تعاليمه ومدركاتها وطبيعتها، بل خضعت له بعدئذ أمم لها من حضارتها السحيقة ما قد كان يعد كافيا للتفلت من سطوته ورفض الإذعان لأحكامه.
ولقد أوجد القرآن دينا عربيا، ودولة عربية، وأحكاما عربية، وآدابا عربية، صارت كلها أجزاء قومية واحدة ربطت شعوبا لم تكن العربية لغتها؛ لذلك قال جماعة من المؤرخين: إن التمدن العربي كان تمدنا إسلاميا صرفا.
والقرآن مصدر جميع العلوم التي عني بها المسلمون في أوج حضارتهم؛ فلتفسير آياته وسوره وجدت علوم الكلام وعلوم المنطق، ولتفهم ما فيه من نظام وتشريع وجدت علوم الشرع والفقه، ولم تكن غاية المؤرخين الأولين من العرب إلا تحديد وقت نزوله وتدوين الأحاديث النبوية.
ثم أليس الجغرافيون الأول أو علماء المسالك والأمصار، هم الذين مضوا من أقاصي أفريقيا وآسيا لتأدية فريضة الحج، ثم عادوا يصفون رحتلهم وما رأوه في البلاد البعيدة من الجديد غير المألوف؟ ألم يكن غرض علماء اللغة إيضاح ما غمض من آي القرآن وتطبيق قواعد الصرف والنحو على نصوصه؟ ألم تطلب أرصاد الفلكيين وعمليات الرياضيين لتحديد ساعات الصلاة وتوقيت مواعد الحج والصوم؟ ألم تستدع مسائل الوقاية الصحية والنظافة اهتمام الأطباء كما ظلت بعد تحثهم على البحث والتنقيب؟
نعم، لم يهتم العرب في ذلك الدور بعلم من العلوم إلا لأن آيات القرآن قضت بمعرفته لاجتلاء معنى غامض، أو شرح قول مستغلق. ومذاهب علماء الكلام هي التي نبهت أبحاث الفلاسفة ومناظراتهم؛ فكانوا بما نقلوا وما أوجدوا أساتذة الفلسفة الحديثة.
سبق القول أن قد اشترك مع العربية لغتان أخريان بكونهما قوميتين نشرتا عقيدة دينية ومذهبا سياسيا بين شعوب مختلفة أي: اليونانية واللاتينية، فقد كانت اللاتينية مستعملة من كمبانيا في إيطاليا الجنوبية إلى الجزر البريطانية، ومن نهر الرين إلى جبل الأطلس. واستعملت اليونانية من أقاصي صقلية إلى شاطئ دجلة والفرات، ومن البحر الأسود إلى تخوم الحبشة. لكن ما أضيقه انتشارا إذا ما قوبل بانتشار العربية التي امتدت إلى إسبانيا وأفريقيا حتى خط الاستواء، وجنوب آسيا وشمالها إلى ما وراء بلاد التتر! أما اللغة الفصحى فقد استولت على جميع أنحاء الشرق الإسلامي، وإن لم تكن لها الغلبة كلغة كلامية على بعض اللغات في الشرق والشمال، فقد أوجدت تبديلا محسوسا في الفارسية، والهندية، والهندستانية، والتركية، ولغات أفريقيا، ولهجات التتر. كذلك في اللغات الحديثة المشتقة من اللاتينية أو المقتبسات منها، كلمات كثيرة ذات أصل عربي .
لقد عدت اليونانية واللاتينية في صف اللغات الميتة منذ سقوط مدنيتيهما، فما الذي حفظ العربية حية بعد زوال مدنية العرب بقرون سبعة؟
إن الذي كان باعثا على تكوين المدنية العربية هو هو الذي ما زال حافظها إلى اليوم: هو القرآن.
لذلك ستظل اللغة العربية حية ما دام الإسلام حيا، وما دام في أنحاء المسكونة ثلاثمائة مليون من البشر يضعون يدهم على القرآن حين يقسمون.
والمجمع اللغوي؟
نعلم أن المجمع اللغوي كان يلتئم كل أسبوعين اثنين في دار الكتب المصرية بدعوة من المدير السابق، وأن هذه الجلسات ظلت تنعقد في الشتاء الماضي حتى جاء الصيف ولفحت لوافحه؛ فانحل المجمع وانطلق «يصطاف» في أشخاص أعضائه الموقرين، على الشاطئ ذي النسيمات العليلات.
ولما انكسرت شوكة الحر ورجع الناس من مصايفهم عاد المجمع إلى الالتئام في دار الكتب، وكل من لجانه تشتغل على حدة لعرض خلاصة أبحاثها على هيئة المجمع. لكن ما كان أن استقال الأستاذ لطفي بك من إدارة المكتبة، وقد مر على هذه الاستقالة شهر دون أن يلتئم المجمع، ودون أن نقرأ عنه في الصحف شيئا.
فأي خطب دهاه؟
يتحمس الناس عندنا لمسألة في بادئ الأمر تحمسا أحسن ما يقال في تعريفه أن الفرنجة ينعتونه «بالشرقي»، حتى إذا ابتعد موجد الفكرة وواضع أسها عن ميدان العمل لسبب من الأسباب، هبط المشروع وتفككت أجزاؤه، كأن لا قيمة للفكرة نفسها ولا أهمية لها إلا بأهمية مروجها ودوام حضوره، في حين ينبغي أن تكون قيمة الرجل من قيمة مشروعه، وأن يكون حضوره وغيابه سيان من حيث التأثير في العمل؛ لأنه يظل في اطراد على كل حال.
فإذا كان لطفي بك موجد فكرة المجمع والداعي إلى عقد جلساته قد ترك إدارة المكتبة للاندماج في الوفد المصري؛ فأي علاقة للمجمع بذلك؟! لم يكن للمجمع اللغوي صبغة رسمية، ولا كان للحكومة تدخل في شئونه، رغم أن اجتماعاته كانت تعقد في دار تابعة لوزارة المعارف، فما دام متمتعا بالحرية التامة، ترى لماذا لا يتفق الأعضاء المحترمون فيما بينهم على الاجتماع في مكتبة أحمد زكي باشا مثلا، أو في منزل أي عضو من الأعضاء الآخرين، وكلهم من أهل الجاه، كما أنهم أهل علم وفضل؟!
لماذا لا يتفقون على ذلك؛ فلا يدعون هذا المشروع يغرق في الماء أو يطير في الهواء كأكثر مشروعاتنا الشرقية؟
1
«الإجبشن ميل» تضحك
استهلت جريدة «الإجبشن ميل» الإنجليزية هذه السنة المباركة بضحكة مطبوعة ذات عنوانين أنيقين، يزينان العمود الخامس في الصفحة الأولى من عددها الصادر صباح أول يناير سنة 1919، لقد أضحكها ما قلت عن المجمع اللغوي فترجمته إلى الإنجليزية تحت هذا العنوان: «إهمال «الخالدين» في مصر»، ونشرت مقدمة وجيزة قالت فيها: إن «تهاون أعضاء المجمع يترك اللغة العربية ملوثة بالألفاظ الغريبة، مثل: بوستة، وبيسكليت، وتراموي، وغيرها من الكلمات التي تشوب صفاء اللغة».
ثم عادت فنقلت كلام «الأخبار» في تصريح فضيلة شيخ الجامع الأزهر ورئيس المجمع اللغوي بأن جلسات المجمع ستعود إلى الانعقاد، وأنهم (أي الأعضاء) يبذلون جهدهم في إيجاد ألفاظ عربية للمسميات الإفرنجية.
هذا التصريح أثبتته «الإجبشن ميل» بالحرف دون أن تعلق عليه بكلمة، إلا أنها جعلت له هذا العنوان الضخم الذي ينم عن بسمة الازدراء وراء لهجة الجد: «جهد المجمع الجهيد»، وهي تعني بذلك كلام الأستاذ الأكبر القائل: «إننا أجهدنا النفس كثيرا في سبيل إطلاق أسماء عربية على كثير من الآلات الزراعية، وفي سبيل وضع تعبيرات عربية صحيحة بدلا من عديد الاصطلاحات المتداولة.»
لا لوم على الصحيفة الإنجليزية، ولكن أتتفضل فتقول لنا: لماذا هي تنظر إلى هذا المشروع بعين المرتاب في نجاحه، القائل أن لا ضرورة لهذا المجمع ولا فائدة من أعماله؟!
وإلا فما الذي يضحكها يا ترى؟
لماذا لا يجوز للمجمع اللغوي ولكل كاتب عربي أن يؤثر استعمال ألفاظ عربية دون التعبيرات الإفرنجية؟! أليست الحال كذلك عند جميع الشعوب؟
ولو اقتصرنا على لغتها دون غيرها ألا تذكر «الإجبشن ميل» أن الإنجليز أنفسهم يفضلون الكلمة السكسونية الأصل على الكلمة اللاتينية؟ وأن كبار كتابهم إذا وجدوا أمامهم كلمتين اثنتين تؤديان المعنى تماما إحداهما سكسونية، والأخرى لاتينية سارعوا إلى استعمال الكلمة الأولى؛ لأنهم يرونها أفصح وأبلغ؟
فلماذا ينكر علينا ما هو في نظرهم عين البلاغة وكل الحق؟
ما زلنا في الموضوع
يظهر أن إخواننا السوريين سواء في الوطن والمهجر، قد وصلوا إلى دور إنشاء الروابط وتأليف المجامع؛ ففي نيويرك «الرابطة القلمية»، وفي دمشق «الرابطة الأدبية»، وفي بيروت «المجمع العلمي»، وكلها خطوات صالحات ننظر إليها نظرة الرضى والاستحسان. إن لمثل هذه المجامع تأثيرا في اللغة من حيث: التنقية والصقل، فضلا عن الإنعاش والتنشيط.
عندما أقرأ الكثير مما يكتب في هذه الأيام أقف حائرة وبي استفهام، ما عسى يكون حكم الأجيال المقبلة علينا؟ إني أشعر في أكثر مطالعاتي العربية بأني في ماضي اللغة العربية أو في مستقبلها؛ في ماضيها مع المحافظين الجامدين، وفي مستقبلها مع المتهورين المجازفين.
ولكن أين نحن من حاضرها؟ وما اسم اليوم الذي نحن فيه؟ إن السير على الأساليب العتيقة وتقييد الفكر بالاستعارات المتحجرة من جهة، والمجازفة في اعتناق كل جديد دون بحث ولا تمحيص من جهة أخرى؛ يوقفاننا في موقف الحيرة والقلق، ويجردان أدبنا العصري من طابع تطبع به الآداب عادة في كل دور من أدوارها.
ولئن حق الانتقاد على دعاة الأسلوب العتيق الذين كأنهم ينكرون أنهم ولدوا بعد أولئك القدماء بعصور، فليس ثمة ما يسوغ إفساد اشتقاق اللغة وتصريفها والتساهل في قواعدها أو القضاء على روحها.
إنما الغرض من اللغة أن تكون آلة صحيحة لإظهار ما يراد إظهاره من فكر وعاطفة وبيان. إنما الغاية منها إيصال المعنى الذي وضعت لأجله، والتردد في التعبير كثيرا ما يكون ترددا في ما وراءه من مادة فكرية وإنشائية، فإذا وصلت أقلية راقية إلى الكمال النسبي فكرا وتعبيرا، وتيسر لها أن تكون ذات أثر في بيئتها؛ قامت تحتذيها خاصة المتعلمين، فاحتضنت أساليبها وتعلمت منها البحث عن أساليب جديدة.
وهذه الأقلية تؤثر بدورها في غيرها، فيظل تفاعل الفكر واللغة في اطراد لمصلحتهما معا؛ لأن هذا التفاعل أي: تهذيب الفكر عن طريق التعبير، وتهذيب التعبير عن طريق الفكر، عامل أولي في تكوين آداب الأقوام وتطورها بمقتضى ما يحيط بها من الأحوال، وما يستحثها ويوحي إليها من المؤثرات. •••
ولكن لماذا دعوا مجمع بيروت «المجمع العلمي»؟ أليس أنه تألف للبحث في شئون اللغة والنهوض بالآداب العصرية؟ فما «للعلم» وله والحالة هذه؟!
أعرف أننا اعتدنا إطلاق هذه الكلمة على علم اللغة، كما نسمي العارف بأصوله «عالما»، فعندنا في مصر مئات (ولماذا لا أقول ألوف؟) «العلماء» في اللغة والفقه، الحائزين لشهادة «العالمية» من الأزهر أو من مدرسة القضاء الشرعي، ولكنهم ليسوا «علماء» بالعلوم الرياضية والطبيعية ... إلخ، غير أنهم يتبعون نظاما معينا في ألقابهم وفي دراستهم جميعا.
أما المجامع التي تؤلف في هذه الأيام، وتسن لها القوانين على الطراز الحديث؛ فعليها أن تسمي الأشياء بأسمائها دون إبهام ولا إشكال. •••
في القاهرة مجمع يدعى «المجمع العلمي المصري» أنشأته الحملة التي صحبت نابوليون من الاختصاصيين في مختلف العلوم، وأعضاؤه اليوم خليط من وطنيين وأجانب، وكلهم من صفوة العلماء في هذه الديار، يتطارحون في قاعته المحاضرات العلمية النفيسة، ثم «الجمعية الجغرافية» ومحاضراتها تبحث في حدود البلدان وطبيعتها وأخلاق أهاليها وعاداتهم، كذلك جمعية «الاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع» تعنى بما ينطبق على اسمها ويدخل في دائرتها.
أما المجمع الذي كان قصده كقصد المجمع البيروتي، فكان يدعى «المجمع اللغوي»، ومن أعضائه: الدكتور صروف، وأحمد زكي باشا، والأب لامنس اليسوعي، والمغفور لهما: شيخ الأزهر السابق، وحفني بك ناصف. وقد دعا إلى إنشائه أحمد لطفي بك السيد يوم كان مديرا لدار الكتب.
لقد كان لطفي بك عاملا كبيرا في تكوين النزعة المصرية الحديثة، وكان له في «الجريدة» أبحاث خطيرة اجتماعية وقانونية وسياسية وفلسفية وأدبية، وقد عني باللغة عناية خاصة، ومن رأيه إدخال اصطلاحات المعاملات وما حسن من الألفاظ العامية في لغة الكتابة، وقبول كل لفظة أجنبية ليس لها مقابل في العربية لتسمية الأدوات والآلات وتعريف المشاعر النفسية ... إلخ. •••
عقد المجمع جلساته الأولى في دار الكتب، وبدأ أعماله بتعيين لجان تبحث في الشئون التي عهد بها إليها؛ فهذه تبحث عن الاصطلاحات العلمية، وتلك عن الاصطلاحات الفلسفية ، وتعنى غيرها بالمسميات السيكولوجية ... إلخ. وقد رأيت قائمة حسنة «لمصطلحات علوم الفلسفة الحديثة» قدمت إلى المجمع من أحد أعضائه أمين بك واصف، ثم جاءت الحركة المصرية تهز الأمة منذ 13 نوفمبر 1919؛ فاستقال لطفي بك من منصبه لينضم إلى الوفد المصري المجاهد في أوروبا لتحرير البلاد، وتمزق شمل المجمع، وتوفي بعض أعضائه ولم نسمع عنه بعدئذ خبرا.
ولا أظنه عائدا إلى الالتئام في هذه الأيام العصيبة أيام المظاهرات والألوية، أيام «فليحيا» و«ليسقط»، بين تشكيل الوفد الجديد وانتخاب أعضاء الجمعية الوطنية المقبلة التي ستكون بمثابة «برلمان» نيابي.
السياسة هي الزي الذي تتزيا به اليوم أفراد الأمة: فمن عالم ماذا يريد، ومجاهر بما يعتقد، ومن تابع هو سعيد بأن يسير أمامه قوم ليسير في أثرهم مع التابعين ...
«الإجبشن ميل» تناقش
1
تذمرت بالأمس إذ رأيت «الإجبشن ميل» تضحك من مشروع المجمع اللغوي. أما اليوم وقد توزعت في عمود منها ونصف عمود شظايا قنبلة قلمية؛ فإني أذهل بعض الذهول أمام هذه الحملة غير المنتظرة.
لا أظن المناقشة ذات جدوى إذا أريد منها الإقناع، بيد أنها موفورة الفائدة مرغوب فيها عندما ترمي إلى احتكاك الآراء، وما قد يؤدي إليه من شحذ الذهن والاهتداء إلى رأي جديد أو اجتلاء رأي مبهم، وإذا كان مناظرنا واسع الاطلاع، خالص النية، صادق في تمحيص الفكرة بأمانة ودقة دون تشبث بها وتعنت لها لأنها فكرته ليس إلا؛ وجدنا في مناقشته عدا الفائدة سرورا ونشاطا.
وهذا ما أشعر به - بعد الإجفال الأول - إزاء اعتراض سبيرو بك.
وأول ما يحضرني من اعتراضه هو قوله:
إن المجمع اللغوي لا فائدة منه إلا إذا جعل غايته تلقف جميع الكلمات الشائعة بين العامة ودمجها في اللغة؛ لأن اللغة ملك الأمة، وفي يد الأمة حياة اللغة وموتها، وإن لم يكن لهذا المجمع من مثيل إلا في فرنسا؛ أفنحسب سائر الأمم عاجزة ركيكة البيان لأن لا أكاذمية لها؟ كلا، إن الغربيين لا يقضون وقتهم في مثل هذه المماحكات الباطلة، ولديهم ما يصرفهم عنها من المشاغل الخطيرة، وكما أن اليونان والطليان لا يجهدون النفس لإحياء لغتهم القديمة ويكتفون بلغتهم الحديثة التي تتفق منها السهولة والتراكيب والاصطلاحات مع حاجات العصر، كذلك على المتكلمين باللغة العربية أن يطرحوا اللغة الفصحى بصعوبتها وتعقيدها جانبا، وأن يأخذوا بكل لفظة تدور على الألسن؛ لأنها تؤدي معنى من المعاني المطلوبة، فإذا اعتزم المجمع اللغوي على ذلك كان عمله نافعا، وإلا فليدع الشعب وشأنه يتصرف بلغته كما يشاء.
هذا أول ما أذكره من اعتراض سبيرو بك؛ لأن الاستعارات المقبولة والتراكيب المنقولة التي يرى فيها بعضنا كل الفصاحة وكل البلاغة، كادت تفسد علينا ذوقنا ونشاطنا وحريتنا الفكرية، بل وحاسة الحياة فينا!
الغرب يعالج مجاري الماء وتيارات الهواء، وينبش دفائن الطبيعة وأسرار النفوس، ويسعى إلى أخفى الزوايا من هذه الأرض؛ فيستعمرها ويغلبها على مرافقها ومواردها ومحصولاتها، ويستدر من جبالها وسهولها وأنهارها ثروة ما كان الأهلون ليحلمون بوجودها.
وفي هذا الوقت المملوء بالعراك وتنازع موارد التجارة والثروة، والسعي للمعرفة والنور، ترانا إذا شئنا أن نكتب ونعبر عن هذه الحركات الجديدة؛ نحرص جدا ليس فقط على أن لا يغضب من عجزنا الخليل وسيبويه، ولكن نجتهد (وباطلا نجتهد) أن لا نعرض اللفظة الحديثة لسخط المناطقة وعلماء اللسان والشعراء والمفسرين العديد عديدهم الذين لم يصدروا لها التصريح بالحياة والتجوال!
الأمم حولنا وفي ديارنا تجري وتبدع وتنبش وتطير وتغوص وتكتشف، مسخرة قوى الطبيعة لنشاطها وحاجتها، أما نحن فإذا حاولنا أن نحدث عن بعض هذا، فليس لدينا إلا الاستعارة القديمة والاسم الذي رضي عنه القاموس، وهما لا ينطبقان على المعنى المستحدث والآلة التي لم يعرفها أسلافنا. فإذا اقتحمنا على الاسم الإفرنجي وكتبنا كما تملي علينا شخصيتنا ونزعتنا الفردية، تلقحانا في الحال الحرم اللغوي القاسي، وجوزينا على وقاحتنا، أو على استقلالنا الأدبي، بالكلمة ذات الشأن الخطير كأنها هي الأخرى قدستها موافقة الخليل وسيبويه: «هذا عربي بالإفرنجي!»
والذين يرموننا بهذا «الحرم» لا يذكرون حتى ولا حقنا الطبيعي في أن يكون لنا حكم متواضع على «اللغة العربية البليغة» التي أقنعوا نفوسهم بأنهم كاتبوها!
2
فإن أنا رأيت رأي سبيرو بك بوجه في وجوب إصلاح اللغة وإنعاشها؛ فأراني وإياه على خلاف في التفاصيل، ويمكن تلخيص اعتراضه في هذه البنود الثلاثة. يعترض حضرته:
أولا:
على صعوبة اللغة.
ثانيا:
على تضاعفها بين فصحى أو كتابية وكلامية؛ أي: عامية.
ثالثا:
يعترض على إنشاء المجمع اللغوي ويحدد وظيفته، أو بالحري هو يحذف الحدود من تلك الوظيفة ويجعلها شائعة.
أما الصعوبة فإذا كانت بينة في اللغة العربية فهي غير محصورة فيها، وأية لغة تخلو من صعوبة اللفظ أو التعبير والكتابة أو القواعد، أو الزوائد التي لا منفعة لها؟! حتى ولو كانت حديثة مختلطة كاللغة الإنجليزية، فكيف بالعربية وهي من أمهات اللغات، وميزتها على جميع اللغات الشائعة في كونها اللغة القديمة الحية رغم الزمان؟!
إن الذين تعلموا منا الإنجليزية يعرفون صعوبة نطقها، ويعجبون للحروف الكثيرة التي لا تظهر في اللفظ، ومع ذلك فلا يحذفها الإنجليز ويرغمون أبناءهم والمتعلمي لغتهم على إجهاد النفس في ما لا طائل تحته. والإنجليز قوم عمليون، ملكوا العالم بهذه الصفة، وروجوا مصالحهم ولغتهم؛ حتى صارت مع الإسبانية أوسع اللغات انتشارا، وهم مع ذلك يحرصون على تلك القيود التي تثقل كل لغة عصرا لتسقط عنها في عصر آخر، ويظهر أن وقت تحرير اللغة الإنجليزية من تلك القيود لم يأن بعد.
ويصدق هذا على اللغات الأخرى: هاك الألمانية مثلا، لغة العلم والتجارة والكبرياء، التي يطمع أهلها في إحلال الثقافة الجرمانية محل الثقافة اللاتينية في أنحاء المعمور، فإن الأطفال يتعلمون بها أبجديات أربعا: اثنتين منهما الكبيرة والصغيرة
Majuscule & Minuscule
من الكتابة التي يسمونها لاتينية، واثنتين أخريين من الكتابة التي يسمونها جرمانية، ولكل من الكتابتين حروفها وخطها كأنهما لغتان لا تتشابهان. وما هذه إلا إحدى صعوبات تلك اللغة العصية، إلا أنها لم تحل دون تقدم الألمان في ميادين العلم والاقتصاد والفلسفة والآليات والرياضيات ... إلخ، وهم يباهون بهذه الصعوبة، وينظرون ببعض الازدراء إلى اللغات المشتقة من اللاتينية، وينكرون عليها اسم اللغات، بل يقولون إنها «لهجات».
حتى الفرنساوية تجد في كتابتها صعوبة لا شبه لها في اللغة العربية؛ فما قد يكتب عندنا بثلاثة حروف يقتضى أحيانا عندهم سبعة حروف، والحركات التي تجد اليوم عندنا من يثور عليها، ويطلب حذفها موجودة عند الفرنسويين، وإن اختلفت وظيفتها اللفظية بعض الاختلاف، وتصريف الأسماء الذي يحرجنا في العربية موجود عند الألمان وعند اليونان الذين يضرب بهم سبيرو بك المثل. إن اليونانية الحديثة بتصريفها وحركاتها وقواعدها ليست دون العربية صعوبة، وتزيد عليها في اشتباك الأبجدية. وحسبي أن أذكر من ذلك أن حرف الياء يكتب عندهم على سبعة أنواع؛ تارة بالحرف المفرد، وطورا باتحاد حرفين من حروف العلة.
الإصلاح ليس الهدم دواما، بل هو في الغالب تبديل وصقل وتكييف؛ إذ ليس في صالح الأمة إنكار الماضي الزاخر بالمجد الأدبي والحكمة، وكما أن الفرد الواحد من الناس لا يأتي العالم مستقلا عن أمسه وغده، بل يأتي متصلا على رغم منه بما سبقه وبما سيلحقه، فكذلك اللغة التي هي وحدة حية ورثناها وورثنا معها الحق في أن يكون لنفسيتنا مجموعا وأفرادا أثر فيها. أما نبذها والاستعاضة عنها باللغة العامية فاعتراف بالعجز والخذلان؛ لأن اللغة تنتعش بانتعاش الأمة وتجمد بجمودها، وأدل دليل على ذلك أن أساتذة الأزهر - وهم أئمة اللغة والساهرون على كيانها القديم - كانوا - على ما قيل لي - يلقون الدروس على تلاميذهم منذ نحو قرن باللغة العامية. ولا عجب في ذلك والأمة يومئذ في سبات عميق!
3
لذلك كان اقتراح سبيرو بك بالاكتفاء باللغة العامية غريب في بابه، ولا أدري هل في التاريخ مثال واحد من نوع هذا التنازل والتجرد؟!
لئن اكتفى اليونان والطليان بلغتهم الحديثة دون القديمة؛ فلأن الشعبين الأولين اندثرا، والذين يعيشون في إيطاليا وبلاد اليونان لا يتحدرون منهما مباشرة، بخلاف العرب الذين نجد بينهم عائلات متسلسلة منذ عهد صدور القرآن، والشعبان الأجنبيان ينطقان بلغة جديدة مشتقة من القديمة، ولكن لها قواعدها وأصولها وضوابطها، لا لهجة من لهجاتها الاصطلاحية.
إن تضاعف اللغة أمر طبيعي عند جميع الشعوب؛ ففي قومية واحدة ذات لغة كبرى تتفاهم بها جميع أنحاء الوطن الواحد، تجد لكل إقليم لهجته الاصطلاحية الخاصة، يخلد هذه اللهجة الشعراء والكتاب الأوفياء لبيان «وطنهم الصغير» بتجديدها دون أن يكون ذلك تهديدا لكيان اللغة الجامعة الكبرى.
عن طريق إحياء اللهجات الإقليمية نشأت شهرة نفر من كتاب الفرنسويين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ أمثال: ميسترال، ورومانيل، وأوبانيل مجددي لهجة بروڤنسا، واللهجات الأخرى من لسان أوك
Langue d’oc
الذي يشمل وحده اللهجات: الجكسونية، والكتالونية، واللنجدوسية، والليموزينية، والبروڤنسالية والدوفينية، والساڤوارية، والرومندية. أقتبس هذه القائمة عن لاروس الذي يختمها بكلمة ... إلى آخره!
ويقابل هذا اللسان لسان أويل
langue d’oil ، وهو الذي تغلب على تلك اللهجات؛ فكان اللغة الفرنساوية التي نعرفها اليوم.
كذلك في إيطاليا لهجة البندقية غير اللهجات: البيمونتية، والبولونية، والمودينية، والنابولية، والصقلية، والفيورنتينية. ولكل من هؤلاء شعراء وكاتبون بلهجتهم الإقليمية على مقربة من تصانيفهم في اللغة الإيطالية الفصحى.
ونلقى التعدد نفسه في اللهجات العربية: فلهجة مصر غير لهجات سوريا والعراق والحجاز والجزائر ومراكش ... إلخ. حتى لهجات تلك الأقطار نفسها تختلف فيما بينها: فلهجة الصعيد غير لهجة القاهرة، ولهجة فلسطين غير لهجة لبنان، ولهجة لبنان غير لهجة دمشق، ولهجة دمشق غير لهجة حلب والإسكندرونة. وهنا أقلد «لاروس» وأقول ... إلى آخره.
فأي هذه اللهجات نعتنق؟ وهل من صالح أهل البلاد أن يؤلفوا لكل لهجة منها كتبا جديدة، ويضعوا لها أصولا وقواعد جديدة؟! أليست صعوبة اللغة الفصحى والحالة هذه أقرب إلينا منالا وأثبت أساسا؟ لا شك عندي في أن ضلع جميع هذه البلدان معها.
وقد خضعت اللغة الفصحى مرغمة لسنة التطور، فما أضعف الشبه بين عربية الجاهلية وعربية أيامنا! هناك ألفاظ وتراكيب واصطلاحات اندثرت من تلقاء نفسها؛ لأن اللغة الحية كجميع الكائنات الحية تشمل قوتي التركيب والتحليل، فهي من الجهة الواحدة تنمو وتتجدد بما تضمه إلى معانيها ومفرداتها، ومن الجهة الأخرى تندثر منها الألفاظ الغريبة والمفرادات الحوشية والكلمات غير المطلوبة. وهذا ما تم للغة العربية في تاريخها، وعلينا الآن أن نمهد لها الوسائل لتجاري الحركة الكبرى في العالم بجميع شعبها وفروعها؛ فيتسنى إذن أن تبقى رابطة فريدة بين مختلف الشعوب الشرقية. ولا يمكن أن نحافظ على مكانتها هذه إلا وهي اللغة الفصحى القوية بقواعدها وأصولها، النازعة عن الجمود للاحتكاك بنشاط الأفكار حولها.
4
وصلنا إلى المجمع اللغوي الذي تتخاصم صحف العاصمة لأجله وهو في غيبوبة الأحلام.
وظيفة المجمع - يقول سبيرو بك - أن يقبل جميع الألفاظ الدائرة على الألسن ويدونها في قاموس اللغة.
إذن يا سيدي الكريم، ما شأننا والمجمع في هذه الحال؟ ولماذا تنعقد هذه الهيئة العلمية وكل فرد من أفراد الأمة «مجمع» قائم بذاته؟
الشعب يقول: «تلتوار» و«ترمبيل» و«سمس» و«سجر» و«ماراتزمو»؛ أيكون إنعاش اللغة بمثل هذه الألفاظ التي تعد بالمئات؟ أتجديد هذا وترقية أم هو مسخ وتشويه؟!
في اللغات الأوروبية لغو هو من سقط الألسن الجاهلة يسمونه
Slang
أو
Argot ، ولا نعلم أنه يرضى باستعماله كاتب يحترم نفسه، فضلا عن نبذ المجامع له. فإذا كان الشعب كثير الاستعمال لمثل هذه الألفاظ؛ أيتحتم تسجيلها في اللغة الراقية، وهي التي يأبى الإصغاء إليها الفرد المهذب؟ إن للتعبير ارتقاء كما للأفكار والعواطف والميول، وكلما لطفت النفس من امرئ وتثقف الفكر تهذب تعبيره وسما بيانه؛ لأن بين القلب واللسان سبيلا سويا. وما نطمع فيه الآن هو إنصاف أنفسنا، فنصرح لها بأن تكون كما أرادتها الطبيعة، وتفصح عن خوالجها بحرية. وإن ننصف اللغة فنحترم قواعدها وأصولها؛ فلا نحن نكذب ونداجي، ولا اللغة تجمد وتختلط. وما نطمع فيه ويعمل له التعليم والتهذيب هو رفع العامة إلى فهم أوسع وأحذق، والنزول ببعض الخاصة إلى ميدان أسهل ليتم في اللغة ما هو تام بين المراتب من التمازج.
أما ما يستطيع أن يفعله المجمع اللغوي سواء انعقد في مصر أم في غيرها من الأقطار العربية، فينحصر في أمور أربعة:
أولا:
أن يؤلف لجنة تبحث في كتب العرب، ففيها بحر زاخر من الألفاظ والمسميات والمفردات الرشيقة البليغة التي نجهلها؛ فيستخرجون منها كل ما يمكن الانتفاع به.
ثانيا:
أن يؤلف لجنة أخرى توجد لجميع المسميات والمعاني والأدوات الجديدة أسماء وتعبيرات سهلة، إن لم تكن في كتب العرب فعن طريق النحت والاشتقاق والتعريب؛ لتقرير ما يتفاهم به أهل جميع الأقطار، فلا يكون كل من كتابهم قاموسا لذاته ومجمعا متفردا.
ثالثا:
أن يؤلف لجنة ثالثة ترجع إلى: «عمال السكة الحديد، وباعة الأقمشة والأثاث والماعون وأدوات الزينة والاستصباح والطب والهندسة والصناعة والزراعة، وسائر شئون الحياة، ومرافق المعيشة التي اتسعت دائرتها بيننا؛ فتتعرف مصطلحات كل جماعة ومهنة، وتأخذ عنهم الأسماء التي عربوها وتواطئوا على استعمالها، فتتناولها وتهذب منها ما هو خليق بالتهذيب وتدونه في القاموس الذي يتحتم تأليفه.
رابعا:
أن يلخص لنا المجمع القواعد في كتاب واف على اختصاره على نحو ما يفعل الإفرنج، بحيث يضمن للمتعلم الإلمام بها؛ فيعالج اللغة ويكتبها كتابة صحيحة في أقرب وقت ممكن.
هذا أهم ما يقوم به مجمع لغوي عربي، على أن لا ينفرد مجمع قطر واحد بتقرير الألفاظ وتدوينها؛ لأن اللغة ليست له وحده، بل عليه أن يعرض خلاصة أبحاثه على علماء الأقطار الأخرى ومجامعها، فيبحثونها ويكون التقرير في آخر الأمر بالإجماع - قدر المستطاع.
إذا كانت الأكاذمية الفرنساوية أشهر أكاذمية من نوعها؛ فلماذا نضرب صفحا عن مثيلاتها اللائي هن دونها شهرة، على أنهن جميعا أنشئن في بادئ الأمر لتنقيح اللغة وإنعاشها، ثم تدرجن إلى العناية بعلوم الآداب والتاريخ والاجتماع وغيرها؟
على المجمع العربي أن يبدأ بما بدأت به المجامع الأخرى، لقد أطلعتنا أوروبا على ما أبدعته وتتابعت الاكتشافات وتعددت العلوم؛ فوجدنا أنفسنا بغتة إزاء أشياء نجهلها ومسميات لا أسماء لها عندنا، بينا يشتد احتكاكنا بالأجانب واحتياجنا إليهم، ونضطر إلى مخالطتهم سواء في بلادنا وفي بلادهم، وقد درسنا لغاتهم فرأينا فيها العجب، ولا أدري لماذا نحن لا نجاري تلك اللغات، ومميزات لغتنا هي ما فيها من التصاريف وحروف المعاني، وهذه كافية وافية. وإذا اضطرت إلى اسم لمسمى جديد فإما أن تضعه لها وإما أن تقتبسه من غيرها. على هذا النسق تمشت العربية في القرون الأولى حين ترجمت إليها كتب العلم والفلسفة من السريانية واليونانية والهندية، وقام فيها واضعو علوم اللسان، فإنهم وضعوا واشتقوا وعربوا واقتبسوا، وبقيت العربية في مقامها الأنيق يتفنن في سبك المعاني في قوالبها أبو الطيب وأبو العلاء والصابي والأصفهاني وابن سينا وابن رشد وأمثالهم من العلماء والأدباء.
لقد وسع القرآن اللغة العربية وحفظها من الدثور، وأبقاها في رونقها الأول.
1
ولا يطلب من أبنائها الآن لجعلها تجاري النهضة الفكرية والصناعية الحديثة إلا أن يجروا على خطة أسلافهم الأولين في وضع المصطلحات وتسمية المسميات.
إن لغتنا واسعة حية نكتبها، ورغم ما يعصانا من المفردات والمعاني؛ فإننا نشعر بفيض فيها وتجدد.
الشعوب تحاول اليوم نشر لغاتها لتقوي كيانها وتروج مصالحها، وتحاول إيجاد لغة دولية جديدة يتفاهم بها الغرباء فيتحدون ويتضامنون، وهي لغة الإسبرانتو وما نحوها، فكيف ينبذ الشرقيون هذه القوة الكبيرة التي امتازوا بها، ويتجاهلون أهمية جامعة اللغة التي توحد بين عواطفهم وأفكارهم وأميالهم؟!
يكتب الكاتب العربي الواحد كلمة الشكوى، أو الحرية، أو الإصلاح، ويخطها في زاوية كوخه في قرية بعيدة؛ فيرن صوته في ملايين القلوب الشرقية، وتتوزع عواطفه بين شعوب عديدة، وحسبنا هذا لنحرص على اللغة الفصحى التي هي رابطتنا الوحيدة المكينة.
هذا ما ينبغي أن يذكره المجمع اللغوي أنى انعقد، كما عليه أن يذكر أن التحصن في الماضي جمود وموت، والاستسلام للفوضى جنون واستهتار؛ فكما أن الشعوب هي ابنة الماضي والحاضر والمستقبل فكذلك لغاتها ترتكز على الماضي، وتجاري الحاضر، وتهيئ المستقبل الذي يسهل عليه بعدئذ أن يعمل لنفسه.
ولا يفوتني هنا أن أسدي إلى سبيرو بك الشكر على عنايته باللغة العربية والآداب العربية مما تفرد به بين إخوانه الصحافيين والباحثين، فله مني ومن جميع عارفي فضله الحمد والثناء.
فلان «ومدامته»
بين الجمل الاصطلاحية المستعملة على بطاقات التهنئة بالعام الجديد تجد هذه الجملة الكثيرة الشيوع: «فلان ومدامته يهنئانكم ... إلخ إلخ.»
طالما وقع نظري على هذه الكلمات مع أني ألفتها، فهي تضحكني كل مرة؛ لأنها تذكرني بذلك اللبناني الذي أضاع زوجته في شوارع نيويرك، ومضى يسأل البوليس عنها بلغة زعمها إنكليزية حين قال: «يا مستر وين راحت هالمستيرة؟»
لا يخفى على ذوي «المدامات» وغيرهم أن مدامتي ومدامتك ومدامته ليست دون مستيرتي ومستيرتك ومستيرته فكاهة مستملحة، ولا يخفى أن التعبير العربي في هذه الحالة ليس بالميسور، ولا ينتظر أن يكون ميسورا؛ لأن العرب لم يكونوا ليضموا أسماء نسائهم إلى أسمائهم في تبادل المجاملات الاجتماعية؛ فبديهي أن المتفرنج منا يتفرنج «بنصفه الأفضل» بعد أن تفرنج في أمور جمة لا غنى عنها في الوقت الحاضر.
ولا يظنن أن الشرقي وحده حائر في هذا المعنى، بل تناولت الحيرة الأوروبيين، وكثيرون منهم يشيرون إلى زوجاتهم بأسماء يتبسم لها السامع إن لم يكن بشفتيه ففي نفسه.
ولقد أخذت المسألة منذ شهور دورا في فرنسا هو من الأهمية بحيث استدعى اهتمام الأكاذميا، التي حاولت أن تعين لفظة يعني بها الرجل شريكته في الحياة.
ترى إذا ذكرها في غيابها فكيف يدعوها؟ أيقول: سيدتي أي: «مدامتي» (بالفرنساوية وليس بالعربية)؟! أم يقول: «مدام فلان» أي: مدام نفسه - شأن الطفل المدعو بزيد مثلا، يحدث الناس عن كورته التي هي كورة زيد، وإن زيدا أكل تفاحة كبيرة بعد أن ارتدى زيد ثوبا جميلا لا يمكن أن يحصل عليه من لم يكن بزيد.
أم يقول زوجتي، أو امرأتي، أو جنيتي، أو أي شيء؟
ولم يخبرونا ما إذا مر في أبحاث الأكاذميا خيال من هو أكثر ملوك فرنسا أرستقراطية وأناقة؛ أعني: لويس السادس عشر، الذي كان يذكر ماري أنطوانت أمام الأعوان باسم «الملكة» أحيانا، وباسم «امرأتي» غالبا، دون أن يردعه ما في اللفظة من معاني الدالة العائلية.
لقد درجنا كالشعوب التي اقتبسنا بعض أساليبها الاجتماعية، على أن يسمي الرجل زوجته باسمها في العائلة، وفي حلقة الأصدقاء، تاركا لفظة «السيدة» أو «الست» لكلامه عنها مع الخدم؛ فلا يسأل خادمه هل عادت فلانة؟ وإنما هل عادت «الست» أو «السيدة»؟ ولئن حسن التمشي على هذا؛ فلماذا لا يرضى الرجل الشرقي أن يقول للغرباء وللمعارف «امرأتي» أو «زوجتي» ببساطة لويس السادس عشر؟
إن أفخم ما أعرفه هو اصطلاح المسلمين في هذه الديار بقولهم عن مدام فلان: «حرم» فلان، إنها لتسمية توفقوا فيها كل التوفيق، وإذا ذكر الواحد زوجته قال: «حريمي».
بيد أني لاحظت أنهم يطلقون هذه اللفظة على الزوجة المسلمة.
أما المتزوجون من أوروبيات (وجلهم من الشبان المتعلمين في أوروبا)؛ فإن الواحد منهم يقول: «زوجتي»، وهي دون «حريمي» فخامة وأنفة، ولكنها أقرب إلى التسوية الأدبية بين الزوجين.
بقي أن نقرر أن كلمة «حريمي» - بلا مداورة - دليل ناصع على ارتفاع قيمة المرأة؛ إذ إن الزوج من زمن غير بعيد (وما زال كذلك في الطبقة الدنيا والمتوسطة الجاهلة) كان إذا أراد أن يذكر زوجته بلع ريقه أولا، ثم صمت لحظة، ثم أشار إليها باستعارة «الأولاد عندنا». «والأولاد عندنا» هي التي صارت «حريمي» بفضل «التطور» الحاضر.
وخلاصة القول، فإن استعارة «فلان وقرينته» تقوم بكل لياقة مقام «فلان ومدامته»، أو «فلان ومستيرته»، أو «فلان وسنيورته»، وإذا ذكر الرجل تلك القرينة، فخير أن يقول: زوجتي أو امرأتي وليس مدامتي. هذا مع الاعتراف بأن لفظة «مدام فلان الفلاني» على بطاقة الزيارة هي أنسب وأحكم من اللفظة العربية، وإذا كتب للزوجين كتابا مشتركا فيستحسن العنوان باسم «فلان وقرينته»؛ لأن كلمة «زوجة» ليس لها الصبغة الرسمية المقتضاة في الاسم العلني لمكتوب.
أعترف بوجود لفظة أخرى كلما هم القلم بتحبيرها بلعت ريقي أنا الأخرى شأن من أوشك أن يقول: «الأولاد عندنا»، وهي لفظة «عقيلة» التي لا يأنف استعمالها كثيرون من كتابنا.
ألا رحمة، يا حملة الأقلام!
أجيرونا من وقر هذه الكلمة الممزقة غشاء المسامع! تنازلوا عنها كرما في مطلع هذا العام الجديد! وعليكم بالزوجة، والقرينة، وبزوجة فلان وقرينة فلان، ريثما تتحفنا الفطنة منكم بلقب سعيد لا حل فيه ولا ربط ...
أجوبة الامتحان1
هون عليك يا صادق أفندي! فليس ثمة ما يستدعي حرج الصدر، وضيق الخلق، وشق الجيوب. هون عليك، وابق في أحاديثك الشهرية على ذلك الظرف المأنوس.
سيطول منك العناء إن أنت أردت أن تنصب نفسك على تحري الألفاظ الدخيلة واستبدالها بما يقابلها في العربية، وستخذلك القوة والنشاط إن أنت تعمدت مطاردة تلك الألفاظ العديدة واكتساحها.
ليس للغات حدود؛ لأن ما تترجم عنه من عواطف وخواطر لا يقف عند حد، ولا يمكن حبس أية لغة ضمن سياج وهمي من محتويات المعاجم، ومفردات الثقاة، وتقارير المجامع العلمية؛ لأن الميول الباعثة على التعبير لا تأبه للمعاجم، ولا تعنى بآراء الثقاة، ولا تتكيف بتقارير المجامع، وعبثا تقام حول اللغة الحواجز والسدود؛ لأن اللغة ككل كائن حي حساس، ذات اتصال دائم بما يحاذيها ويطرأ عليها؛ فالمد والجزر فيها متعاقبان، والنبذ والاكتساب على وفق حاجاتها سنة جارية لا تجدي في تحويلها عربدة الساخطين.
وكما تتأثر أحوال الأمم باحتكاكها بالأمم الأخرى، وتتأثر بالحوادث فتأخذ وتعطي، وتقلد وتقلد، وتقبس وتقبس؛ كذلك تتأثر اللغة بذلك الاحتكاك، وتوجد فيها الحوادث، قومية كانت أم تاريخية، تغيرا محتوما. حتى ليتسنى على وجه التقريب تتبع تاريخ الأقوام بمسايرة التغير البادي في لغتهم طورا بعد طور.
ولقد اختلطنا بالدولة التركية اختلاطا شديدا ستة قرون سيطرت فيها على دوائر الحكومة والإدارة في مصر وغيرها من الأقطار الناطقة بالعربية؛ فأدخلت في تلك الدوائر ألفاظا تركية، واصطلاحات تركية بقيت في المحررات الرسمية، وأثرها يدور على الألسن. كذلك كثرت النساء التركيات سائدات ومسودات في المنازل الشرقية؛ فكان نشر لغتهن بين ذويهن ومخالطيهن أمرا طبيعيا، وحيث لم يفلحن في نشر اللغة نثرن أسماء لمسميات متداولة، هي هذه الألفاظ والأسماء التي تود أنت اليوم أن تستبدلها بسواها، ثم طرأ الاختلاط بأمم أخرى عن طريق السياسة والاقتصاد والزواج؛ فإذا بهذه الأمم تعطينا ألفاظها، وتغمر لغتنا بفضلها، وتحبونا بترقيع لغوي مزر، فصار حديثنا - حتى حديث بعض كبار كتابنا - شبيها ... بالسلطة الروسية. •••
أما كلمة «آبلا» التي يظهر أنك مستاء منها بوجه خاص، فأظنها مترجمة عن الاصطلاح الإفرنجي.
ذلك أن في مدارس الراهبات تنادي التلميذات معلماتهن الراهبات باسم «يا أختي»
Ma sœur . فبماذا تنادي التلميذة معلمتها في المدرسة المصرية؟ إن كلمة «يا أختي» «يا أخي» شائعة بين الشرقيين شيوعا لم يألفه الأوروبيون، والفتاة الشرقية كثيرا ما تنادي رفيقتها بالدراسة وصويحبتها باسم الأخت، فإذا استعملت هذا الاصطلاح لمخاطبة معلمتها، فأي فرق تضع إذن بين معلمتها ورفيقتها؟!
فاهتدوا إلى كلمة «آبلا »، وهذه اللفظة التركية ومعناها «الأخت الكبيرة» تفي هنا بالمراد؛ إذ ليس فيها تصلب كلمة «معلمتي»، ولا عبودية كلمة «سيدتي»، وليس فيها الدالة والألفة التي تلازم كلمة «أختي» العربية، بل هي جاءت مزيجا معتدلا من الدالة والاحترام، وكلاهما ضروري بين تلميذة ومعلمتها.
ولكن إذا جاز استعمال هذه اللفظة وسواها مما لا مقابل له في العربية (وهذا لا ينقص من شأن اللغة على الإطلاق)؛ فلا مسوغ لاستعمال الكلمات التي عندنا ما هو في معناها خير منها وأوضح.
منها كلمة «تنت» الفرنساوية التي تعني: العمة والخالة بلا تمييز، بينا هي عندنا أبين آصرة وأجلى تعريفا. و«الفاميليا» تستطيع أن تكون «العائلة» دون أن تتبلبل الألسن وتضل الأفهام. و«هاو آر يو، شير أمي؟» يمكنها أن تكون «كيف حالك يا صديقي العزيز؟» أو باللغة العامية اللطيفة «ازيك يا أخي؟» دون أن يرى أحد مكروها في عزيز لديه. «وتري بيان»، أو «أول رايت» في وسعها أن تكون «حسنا جدا» أو «كويس خالص» دون أن يضحي أحد بميل من ميوله، ودون أن يتنازل عن رأي من آرائه، ولكنه يكون بذلك أحسن ذوقا، وأوفى وطنية، وأكرم قومية. •••
لست أعني أن كل الوفاء وكل الوطنية في تعظيم ما هو لنا وتحقير ما هو لسوانا. إن في التعنت تصغيرا للنفس، وإفسادا للذوق، وتضييقا للإدراك، وهو أوسع السبل إلى الجهل والتقهقر والانكماش، ولكن الحكمة والواجب معا يقضيان بترويج ما عندنا مما ينطبق على حاجاتنا ويفي بمطالبنا، فإن لم يكن عندنا استفدنا بنتاج إخواننا بالإنسانية ليفسح لنا الحياة ويسهل علينا التفاهم؛ لأن نتاج الإنسانية من جميع جوانبها ملك للإنسانية في كل زمان ومكان، والمكابرة في كل أمر بلاهة وجمود وانتحار بطيء.
أما أن يكون لدينا ممتلكات ثمينة نعرض عنها بلا سبب فذاك الضلال المبين!
من ذا يشرح لي لماذا ينادي الطفل المصري والدته بقوله «نينه»؟ ولماذا تقول الفتيات المصريات عن أمهن: «نينتي»؟ كيف ترضون أن تكون أول لفظة غريبة، وأعز اسم غير عربي؟ للأمهات عذر في الماضي، ولكن ما عذر النساء الناهضات في الحاضر؟
إن كلمة «ماما» أقرب إلى لفظة أم العربية، ولقد سمعت بين أهل البادية وبين بعض أهالي فلسطين غير المتحضرين كلمة «ميمه»، وهي من أميمة تصغير التحبب في مناداة الأم، وهناك أساليب أخرى وكلها عذبة يهتدي إليها القلب العربي لينادي الأم المحبوبة التي تسهر على مهودنا، وتملأ خلايا حياتنا. فما شأن «نينا» غير العربية وشأننا والحالة هذه؟ •••
وفي الختام أقول: إن «لجنة الامتحان» الممثلة في صادق أفندي قد تحكم بأني غير ناجحة في هذا الامتحان، وإني من الراسبين الذين يرشحون نفوسهم أحيانا للانتحار. قد تحكم «اللجنة» بذلك لأني لم أقل باستبدال جميع الألفاظ الغريبة استبدالا سريعا عاما بألفاظ عربية.
لا بأس، لا بأس؛ فالزمان يغير الأحكام، إذ ندرت الأحكام المعصومة من الغلط.
وكيف يجرؤ امرؤ على الحكم في حين ما زال عندنا السردار والحكمدار والبكباشي ... إلخ إلخ، حتى بعض الإشارات الرسمية والأوامر العسكرية غير عربية؟ وفي حين ما زال الباشا المصري، والبك المصري، والأفندي المصري باشا وبيكا وأفنديا بالتركية؟!
لا ضير من الحكم أيا كان، كما أن اللغات الأجنبية لا تضيرها الألفاظ العربية المندمجة فيها، وليشهد الشهود أن العبرة ليست بترجمة كلمة من لغة إلى لغة، وأن لفظة «أميرال» التي تطلق على أمير جيش البحر، أو قائد الأسطول الإنجليزي مثلا - وهي من أصل عربي - لا تنال من قوة ذلك الأسطول، ولم تمنعه من نشر الراية البريطانية في أربعة أقطار الدنيا ... •••
هنا أورد فقرة جاءت في الصفحة الأخيرة من رسالة «الاشتقاق والتعريب»، التي وضعها الأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي عضو المجمع العلمي بدمشق، ليبدي رأيه في اللغة وتطورها، فقال بقبول اللفظة الغربية مع العربية أو المعربة واعتبارها مرادفة حتى تشيع ويتلقفها الفهم، ثم قال:
إذا تنكرنا لتلك الكلمات الدخيلة وأسأنا بها الظن وقلبنا لها ظهر المجن وعملنا على طردها من بين أظهرنا، أخشى أن يدركها الحنق علينا وتعمل على الانتقام منا؛ فتغري بنات جنسها - أعني: الكلمات المعربة كلها من قديم وحديث - بالاعتصاب العام، ويصممن على الجلاء والانسحاب من بين سطور لغتنا وبيوت أشعارنا. وبديهي أن كلمة «الله» تكون معهن ؛ لأنها سريانية أو عبرانية، وما ظنك بفئة «الله» معها؟ لمن يكون الفلح والنصر والغلبة؟ لا جرم أن تلك الكلمات الدخيلة الأعجمية الأصل التي لا عداد لها، لو غادرت لغتنا لأبقت فيها فراغا واسعا يعسر علينا أن نملأه بكلمات عربية أصلية؛ من ذلك عدة آيات وأحاديث إذا غادرتها كلماتها الأعجمية مست الحاجة إلى أن يخلفها غيرها من العربية المحضة، وفي هذا ما يدعو إلى وقف دورة الفلك وإعادة ما مضى من الزمن وتجديد أمر البعثة وإنزال الوحي.
اللهم غفرا!
النشيد القومي المصري
بزغت علينا شمس اليوم ومعها تصريح «لجنة ترقية الأغاني القومية» بوقوع اختيارها على النشيد الذي وضعه شوقي بك ليكون نشيدا وطنيا، وكانت هذه اللجنة قد فتحت مسابقة بين الشعراء المصريين؛ فاجتمع لديها 56 نشيدا حاز الأسبقية بينها نشيد شوقي بك، فطرحته على أهل الفن لتلحينه وضبطه بالعلامات الموسيقية ليصير النشيد الرسمي، ويتغنى به الناس في اجتماعاتهم.
أترانا نسمعه بعد اليوم من جماعات الصبيان الذين يجرون في الشوارع منشدين بذلك الصوت الشجي القرار عند كل مصري:
يا سمك يا بني
تلعب بالمية
ولعبك يشغلني
يا صيد العصر
يا سمك يا بني
أرجو أن أراهم بعد اليوم تاركين «السمك البني» وشأنه لينصرفوا مع شوقي إلى تعديد مفاخر الجدود التي يدور النشيد حولها:
لنا الهرم الذي صحب الزمانا
ومن حدثانه أخذ الأمانا
ونحن بنو السنا العالي نمانا
أوائل علموا الأمم الرقيا
إلا أنه لا يكتفي بامتداح الماضي، بل أضاف طارف الأمة إلى تالدها، وذكر اتحاد العنصرين المصريين: المسلم والقبطي، واتفاق كلمتهما على المناضلة في سبيل الاستقلال، ثم ختم النشيد بهذين البيتين وفيهما وعد بتهيئة مستقبل يليق بالماضي:
نقوم على البناية محسنينا
ونعهد بالتمام إلى بنينا
نموت فداك مصر كما حيينا
ويبقى وجهك المفدي حيا
أما النشيد الذي جاء بعد الأول في قرار لجنة التحكيم، فهو لمحمد أفندي الهراوي الشاعر وأحد موظفي دار الكتب. ومنه:
فيا وادي الكنانة لن تزولا
وفيك النيل يجري سلسبيلا
يطوف بمائه عرضا وطولا
ويبسط فيضه عاما فعاما •••
فيا ابن النيل، هز لواء مصرا
وهيئ في النجوم له مقرا
واطلع بالهلال عليه فجرا
وعش في ظله العالي إماما
آمين! هذا ما نتمناه لمصر العزيزة ولأبنائها.
ولكن كيف يكون لواء مصر في النجوم «وهيئ في النجوم له مقرا»، ثم يعيش «ابن النيل» في ظل ذاك اللواء وهو في مصر بالقارة الأفريقية من سيارة الأرض؟ كيف يتوصل المرء إلى رفع علم قومه في كوكبة الجوزاء، أو المرأة المسلسلة، أو الشلباق مثلا، ويبقى هو مستظلا به على سيارة، يبلغها نور تلك الصور السماوية فلا تدري هل الحياة مقيمة في مصدره، أم أن تلك الكواكب قد ضرب فيها الانحلال منذ انطلاق أشعة منها - لهول أبعاد تفصلها عنها!
هذا ما لا يستطيع تفسيره أحد، وليس من تفسير ممكن سوى أن الشاعر وجد أمامه معنى قديما ذا طنين مرضي فاستعاره ضاربا صفحا عن مخالفته لأبسط أصول العلم والمنطق، وهذا ما نفعله جميعا ومرات عديدة في الشعر والنثر والخطابة والمحادثة العادية، وهذا «الغلو البديعي» هو من ألزم عيوب الآداب العربية!
غير أن وصف الهراوي أفندي للنيل «وهو يطوف بالوادي عرضا وطولا ويبسط فيضه عاما فعاما» سائغ جميل. •••
وما دام الكلام على النشيدين الأولين؛ فيظهر لي أن نشيد الهراوي إسلامي «واطلع بالهلال عليه فجرا»، أما شوقي فقد جعل الوطنية غير الدين:
جعلنا مصر ملة ذي الجلال
وألفنا الصليب مع الهلال
وأقبلنا كصف من عوال
يشد السمهري السمهريا
وليس هذا التآخي في حب الأديان بجديد عند شوقي، بل تجده في كثير من قصائده.
وأي طبيعة سمحة رحبة لا تدرك أن الدين رابطة بين الخالق والمخلوق، بينا القومية هي الرابطة الدنيوية التي ما داخلتها فكرة الدين إلا أنزلت المحن بالقوم ومزقت شملهم، فلا يقوم لهم قائمة، ولا تضمن لوطنهم حياة هنيئة بغير التكاتف والاتحاد. •••
أهم الأناشيد القومية نوعان: فإما ابتهال إلى الله ليطيل أعمار الملوك وينصرهم على أعدائهم مثل: النشيد الملكي الإنجليزي، والميكادو الياباني، والمصري السلطاني، ونشيد القيصر الروسي قبل البولشفية، ذلك النشيد الفخم الجليل في تلحينه الهادئ وأوزانه الطويلة .
وإما امتداح البسالة والشجاعة والمفادة وجميع الفضائل التي ظهرت في أبناء الأمة واستحثاثها على النخوة والنهوض، مثال هذا النوع المارسلييز التي قال فيها نابوليون - على عهدة إدمون روستان: «لهذا اللحن شاربان»، والبرابانسون أي النشيد البلجيكي، والنشيد الأمريكي.
وربما كان أجمل هذه الأناشيد وأحراها بهز النفوس وإثارة الحمية أناشيد الشعوب المستعبدة التي تألمت كثيرا؛ فلم يسلبها الألم ثباتها وقوتها ورغبتها في استرداد حريتها المسلوبة وترميم شرفها المثلوم.
فإلى أي النوعين، بل إلى أي الأنواع ينتمي النشيد المصري الجديد؟
نشيد شوقي ونشيد الهراوي عذبان يظهر فيهما ما امتاز به الذوق المصري من: حسن اختيار الألفاظ، وسلاسة التركيب، ومتانة السبك، ولكن هل هما يفيان بالمقصود؟ وهل يبقى الأول نشيدا قوميا على الدوام؟ هذا سيحكم به المستقبل. •••
ابتاع أحدهم مرة بيانو، ومضى إلى معلم كان يعلمه الموسيقى، فأخذ يصف له حلاوة تلك الآلة ولطف طنينها، فقال المعلم: ليست المسألة مسألة حلاوة ولطف، إنما يجب أن تكون آلتك ذات اقتدار على إرسال جميع الأصوات التي وجدت لأجلها وتأدية جميع المعاني المطلوبة منها. عليها أن تكون هائلة عند الهول، ناعمة وقت النعومة، متحمسة وسط الحماسة، ممتثلة راضية ساعة الرضى والامتثال.
وهذا القول ينطبق على النشيد المصري؛ إنه «حلو كثيرا» وينقصه «شاربان»، ينقصه قصف المدافع، ورنين الأجراس، وزفير اللهيب، وزغردة النساء، وهتاف الثوار، وقعقعة قيود الذين سجنوا لأجل الحرية، وأنين الذين قتلوا في سبيلها.
ينقصه مواكب النعوش الملفوفة بالألوية الحمراء، وضجيج الجماعات حولها «ليحيا ذكر شهداء الحرية!»
محروسة!
في 16 يناير 1923
تستأنف «المحروسة» الصدور اليوم بادئة عامها التاسع والأربعين، بعد أن أوقفت عامها الثامن والأربعين بطوله تقريبا.
يقال: إن اسم «المحروسة» أطلق على القاهرة لاعتقاد السكان بأنها محفوظة بقوة سحرية، أو روحانية، تحمي منها الربوع والآثار؛ فلذا ترى ما فيها محفوظا ثابتا بينا آثار البلاد الأخرى تتداعى وتتهدم، وإن كانت أحدث عهدا.
فبديهي إذن أن نتوهم أن القوة التي تخفر مدينة الأهرام وأبي الهول تهيمن كذلك على كل ما سمي باسمها وتشمله بالعطف والرعاية. فإن هذه الصحيفة أوقفت ثلاث مرات منذ مطلع الحركة الوطنية سنة 1919، ولعلها أصيبت أكثر من جميع الصحف المصرية، ولكنها سلمت من الأذى كل مرة، محروسة بالقوة الخفية التي تخفر هذه المدينة العظيمة.
وكما أن آثار الجراح هي أنبل الأوسمة للجندي، «فالمحروسة» تحمل علامات جهادها الثلاث أوسمة حقيقة بأن يكون لها مكانها في متحف تذكاراتها الثمينة.
لقد صودرت «المحروسة» في أول عهدها - كما يقول العارفون - يوم أن كانت ميدانا لأقلام أثارت الشرارة الأولى التي صارت في النفوس يقظة، وفي الأذهان نورا؛ أعني: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده. كما امتزج اسمها بأسماء: سليم نقاش، وأديب إسحق، وعبد الله نديم وسواهم من كبار الأدباء والشعراء. ومن هذه الأسماء وهذه الأفكار تألف متحفها الذي تستعرض اليوم محتوياته، وقد حملت علاماتها الثلاث أوسمة خليقة بصحيفة وسمها أولئك العظماء بوسم المجد والبقاء. •••
أصبحت مصر كعبة العالم العربي وحاضرته المعنوية، فما لاح فيها نور إلا استضاءت به الأقطار الأخرى، ولا مضت في أرجائها صيحة إلا اهتزت لها القلوب، ولا ظهر فيها أسلوب جديد في الأدب والاجتماع والسياسة، إلا نظر فيه الآخرون باهتمام ومالوا إلى تحديه قائلين: «أليس إن مصر فعلت ذلك؟!»
صرفت شهور الصيف المنصرم في سوريا ولبنان، فكانت أكثر أحاديثنا اليومية تدور على مصر ويقظة مصر.
يمطرني السوريون الأسئلة فأحدثهم عن ظرف مصر وأدبها وطربها وذكائها، أحدثهم كيف أن مصر التي طالما صوروها صاغرة خانعة كالتماثيل الجاثية عند قديم الأضرحة - قد هبت اليوم موفورة الشباب والنبل والشهامة.
أحدثهم بخشوع وتحنان عما رأيت وسمعت وعرفت؛ فأرى الخشوع مني والتحنان قد انتقل إلى السامعين، فجال في عيون النساء دموعا، وبدا في وجوه الرجال تأثرا، فأدرك عندئذ أن مصر أصبحت مطمح الأنظار وموضوع الإعجاب.
ولئن كان هذا مما يبعث في مصر عاطفة الاغتباط والفخار، فهو كذلك يلقي عليها مسئولية كبيرة؛ لأن في الإعجاب تشجيعا ووازعا وإيماء إلى المنهج القويم الذي يتحتم السير فيه نحو العلى.
ولا يساق السائر في مثل هذا المنهج بدافع الغرور والمباهاة؛ إذ لا مباهاة ولا غرور مع المسئولية، فالمسئولية صارمة تثقف الذات القومية والذات الفردية، غير ملاينة ولا مهادنة، وهي من أكبر البواعث على نفض دثار الخمول وتكوين صفات النبل والكرامة في النفوس الموهوبة.
عيشي يا مصر المحروسة أهلا لإعجاب يتحول عندك مسئولية وكرامة، فترسلينه إلى الأقطار الشرقية وحيا وإنعاشا وقدوة جميلة!
الحياة أمامك1
الحياة أمامك، أيتها المصرية الصغيرة، ولك أن تكوني فيها ملكة أو عبدة: عبدة بالكسل، والتواكل، والغضب، والثرثرة، والاغتياب، والتطفل، والتبذل. وملكة بالاجتهاد، والترتيب، وحفظ اللسان، والصدق، وطهارة القلب والفكرة، والعفاف، والعمل المتواصل.
فإن عشت عبدة بأخلاقك كنت حملا ثقيلا على ذويك فكرهوك ونبذوك، وإذا عشت ملكة أفدت أهلك ووطنك وكنت محبوبة مباركة.
فأيهما تختارين؟
إذا اخترت الملك فروضي نفسك على المكارم منذ الساعة؛ لأن الملوك يسلكون طريق العز منذ الصغر.
تكلموا لغتكم!
حبذا غيرة تبديها «جامعة السيدات» في بيروت على اللغة العربية.
وعلى ذكر اقتراحها «اللغة والوطن» تقول: إني دخلت منذ أيام مكتبة إيطالية صغيرة أبتاع بعض كتب جبرائيل دانو نتزيو، فأقبل صاحب المكتبة على صفوف الكتب يستخرج منها مؤلفات ذلك الجندي الشاعر الفرنساوية (لأن دانو نتزيو وضع كتبا بهذه اللغة) وتراجم كتبه الإيطالية إليها. وإذ طلبت المؤلفات الإيطالية في الأصل لا منقولة سأل ما إذا كنت أريدها لنفسي أم لغيري.
قلت: «بل أريدها لنفسي.»
قال وقد أبرقت أسرته: «إذن تعرفين الإيطالية؟»
وإذا أجبت بالإيجاب أخذ يتكلمها، وقال بلهجة المتوسل: «لماذا لا تتكلمينها إذن؟ أعلم أن الفرنساوية أكثر شيوعا في هذه الديار، وأنها هي المصطلح عليها في الحوانيت والأندية، ولكن ماذا يمنعك عن استعمال لغتنا مع أبنائها؟ الفرنساوية جميلة، ولكن آه، ما أجمل الإيطالية في فم من يحسنها! وما أحبها إلى من اعتادها! هي لغة الموسيقى والفن والقلب والشباب والربيع، وكل لفظة من ألفاظها تستحضر شواطئ إيطاليا وآكامها وخضرتها وأزهارها، وألواح متاحفها، ولياليها الغريدة، وقلبها الخصيب وروحها الخالد ...»
وظلت كلمات الشيخ صاحب المكتبة وصورة وجهه المفتون بوطنه في ذاكرتي حتى المساء، إذ اجتمعت بطائفة من كرام السوريين رجالا ونساء، فأخبرتهم عما سمعت في ذلك الصباح، وتمنيت أن يكون لنا نحن الشرقيين مثل ذلك التعلق باللغة التي فكر فيها آباؤنا، وعبروا عن أفراحهم وآلامهم وآمالهم وجهادهم.
فوافق الحاضرون. إلا أن أحدهم - وهو من «الطراز الحديث» المكرر ثلاثا - فتح فاه فتحة أنيقة تليق بالقرن العشرين، وتكلم قائلا: «نعم، ولكن لفظ العربية صعب علينا؛ فهناك حروف خشنة مثل (محاولا إتقان اللفظ) ال ... عين وال ... حاء وال ... خاء، يا إلهي! كل هذا يمزق الحلق فضلا عن ثقله على السمع.» وطفق حضرته يتكلم الفرنساوية جاعلا الراء منها غينا غناء.
فتبادر إلى ذهني أن المرحوم الدكتور شميل قبل وفاته بشهور قليلة حضر درس الكونت دي جلارزا أستاذ الفلسفة يومئذ في الجامعة المصرية، وكانت المحاضرة في فلسفة أرسطو، فمضت عشر دقائق تقريبا والدكتور يصغي بانتباه تام، إذ ذاك لفظ جناب الكونت كلمة «الطبيعة» ثلاث مرات في جملة واحدة، فمال نحوي الدكتور شميل وسأل: «أوطني هذا المحاضر أم أجنبي؟»
فأجبت: «هو مستشرق إسباني.»
ذكرت تلك الحادثة متعجبة كيف أن أناسا ولدوا في جرود لبنان، أو في أنجاد سوريا، أو في سهول مصر، يجدون اللغة «خشنة يا إلهي! تمزق الحلق»؟! ويحسبون من يتكلمها في المجتمعات «فلاحا». في حين أن أجنبيا يتقن لفظها ويحسن الإفصاح بها في موضوع فلسفي عويص. يحسن ذلك إلى درجة إيهام رجل كالدكتور شميل، وحمله على التردد مدة عشر دقائق تقريبا، قبل أن يقدم على الاستفهام هل ذلك الأجنبي من أهل اللغة أم من محبيها!
تكلموا ما شئتم من اللغات يا بني أمي! ولكن لا تنسوا لغتكم.
رسالة وحاشية
(1) نقد الكتب
أستاذي الدكتور العلامة
أشكر لك المقال الممتع الذي كتبته عن نقد الكتب في عدد فبراير، وكان علي أن اصمت تهيبا عند لهجته الصادقة. على أن لدي شيئا أضيفه.
لم أعن «مجلتكم» في كلامي عن قصور الصحف، ولا عنيت سواها من المجلات المنتبهة لما فرض عليها، فتحدثنا كل شهر عن كتب ونشرات ومجلات وأعداد ممتازة من الصحف بكلام كله إفادة، فهي من هذه الوجهة ترضي الواجب العلمي الذي تعمل للقيام به بكرامة وأستاذية.
أما ما ذكرته عن الصحف الأجنبية فأستأذنك بألا نتباحث فيه، لتلك الصحف شأنها في التفاهم مع جمهورها وإرضاء بيئتها، إننا بعيدون عنها، ولأغراضها ودخائلها جاهلون. أنت تعرف منها بالاختبار بعض أساليبها، أما أنا فأجهلها تماما، فإذا حدثت عنها كنت دعية متطفلة. وعلى كل، فليس كل سار في الغرب جديرا بالاقتباس في الشرق دون مراعاة الحاجة المباشرة.
وإنما أسألك: كيف يمكنني، أنا الجمهور أن أطلع على حركة التأليف والترجمة في البلاد، في مختلف الموضوعات الفلسفية والعلمية والاجتماعية والتمثيلية والأدبية ... إلخ؟ كيف يمكنني أن أعلم بصدور ما يهمني من الكتب؛ سواء كان اهتمامي بها اضطرارا للعمل وكسب الرزق، أم للفائدة الفكرية، أم للتفكهة وإرضاء للرغبة؟ إن رسائل الأخبار الكبرى هي الصحف السيارة، وكل الغاية منها إيصال الأخبار إلى الجمهور وإطلاعه على ما يجري في بيئته وفي العالم من الشئون والحوادث. فإن لم تنقل لي تلك الصحف ما وجدت لنقله ونقل نظائره، فمن ذا يكون الرسول بين المؤلف الذي كتب للجمهور، وبيني أنا الجمهور الذي أتطلع إلى ما ينشر لي مؤلفي؟!
تعلم الصحف الغاية من وجودها والسر من نشرها؛ فتراها تذيع أمثال الأخبار التالية:
تشاجرت زينب بنت علي في الخرنفش مع جارتها المدعوة حنيفة بنت أحمد السقا، فتضاربتا وجرحت إحداهما الأخرى جرحا طفيفا في يدها تقتضي معالجته يومين كاملين.» أو «سطا اللصوص ليلا على عزبة «ما أدري إيه»؛ فاستيقظ بعض الأهالي ففر اللصوص ولم يوقف لهم على أثر ... إلخ إلخ.»
فأكرم علينا يا أفندم، دام فضلك، برأيك في نشر أمثال هذه الغرر؟
قد يكون من واجب الصحافي أن يفسح صحيفته لما هو أتفه من هذا، فكيف بالوقائع الفكرية والأدبية التي هي من أصدق مقاييس تطور الأمة؟
أقول: إذن إن الصحافي يتحتم عليه - وليس له في ذلك الخيار - يتحتم عليه أن يذكر في صحيفته كل كتاب يرسل إليه، أما الركون إلى الإغضاء فإجحاف في حقوق المؤلف، إجحاف في حقوق القارئ، إجحاف في حقوق الجمهور الذي له أن يطلع على قوائم ما تنتجه أفراده ، وإجحاف في حقوق الصحافة ذاتها التي هي بذلك السكوت تسجل على نفسها القصور وعدم المبالاة بما لا يجوز إغفاله.
أفهم، وأعلم بالاختبار، أن النقد عمل شاق دقيق يستغرق وقتا طويلا ويتطلب معرفة واسعة، وذوقا مهذبا، وبصيرة شفافة، وإحساسا حيا يفهم العدل كما يفهم الجمال وكما يفهم أنظمة الحياة؛ فهو لذلك غير ميسور لكل من ادعى حمل لوائه. والصحف في شاغل لانهماكها بالمشاكل السياسية والقومية، فلا أقل من أن يؤدوا هذا الواجب، وبأن يذكروا باختصار اسم كل كتاب يهدى إليهم بلا تحيز ولا استثناء، مع اسم مؤلفه وموضوعه وثمنه والمكتبة التي يباع فيها، حتى إذا شعر كاتب أو قارئ باندفاع خاص في سبيل الكتاب كتب ما شاء في نقده أو تمحيصه أو معارضته أو تحبيذه.
الصحافة سجل الوقائع اليومية والمرآة التي ينعكس عليها من نفسية البيئة الصورة المتتابعة التولد، فأي الوقائع وأي الصور تفضل ثمرات المطابع ونتاج الأذهان والقلوب؟ بل يوم تقومون، أيها المفكرون، تزنون كفاءة الأمة وتحصون خطاها في سيرها إلى الأمام، فهل لكم من وثيقة أصدق من الكتاب والفن والمتحف؟ كلا! وذاك ما تهملون!
والآن وقد فرغت من الخصومة التي يحسبها سادتنا الرجال عنصرا ملازما للمزاج النسوي، أعود ضاحكة من قلمي الذي تمتع لحظة باستقلاله التام، وقام يناطح صخرة الصحافة المنيعة - أستغفر الله! عنيت صرح الصحافة المنيع. (2) «الرأي العام» المصري في عهد محمد علي باشا
حاشية
وهكذا في رسالة وحاشيتها علي أن أجابه العلم في شخص الدكتور صروف، والصحافة في ... صرحها المذكور أعلاه، والتاريخ في شخص حسين أفندي لبيب أستاذ التاريخ في مدرسة «القضاء الشرعي»، فقد أنكر علي حضرته قولي: إن إحدى الفوائد التي أخذت مصر تجنيها بعد جلاء الفرنسويين هي بدء تكون «القومية»؛ لأنه يرى أن «فشو روح القومية واستفحال الرأي العام مظهر من مظاهر رقي الأوروبيين في القرن التاسع عشر.»
لقد غنمت من كتابات الأستاذ، لا سيما من كتابه عن «المسألة الشرقية»، فوائد تاريخية جمة؛ لذلك أقول: إني لو كان لي الحظ أن أكون من تلاميذه لكنت اجترأت أن أسأله في «حصة» اليوم أو بعدها، ما إذا كان الرأي العام الأوروبي قد اشترك اشتراكا أصح كثيرا من اشتراك «الرأي العام» المصري على عهد محمد علي، في جميع الحوادث التاريخية العصرية.
أهو «الرأي العام» الإنجليزي الذي يبايع ملوك إنجلترا، مثلا؟ أم هي فئة من الموظفين والكبراء تقوم بإتمام العادة المرعية والتقليد المستحكم في مكان معين من عاصمة إنجلترا، فيعد سكوت الجماهير في إنجلترا وفي المستعمرات الشاسعة مبايعة وتسليما؟
هذه صورة «الرأي العام» في ما هو عادة وتقليد، فما هي صورته في الانقلابات الخطيرة؟ أهو «الرأي العام» الذي أوجد الجمهورية في الولايات المتحدة، وأوجدها في أمريكا المتوسطة والجنوبية؟ أهو «الرأي العام» الذي دعا إلى الجمهورية الفرنساوية الأولى والثانية والثالثة؟ أهو «الرأي العام» الذي قلب الحكومة الروسية؟ يقال: إن ألمانيا لو استفتيت اليوم لغلب فيها الحزب القيصري، ورغم ذلك فأفراد قلائل يديرون دفة الجمهورية فيها، ويوم يتكلم التاريخ سيحدثنا عن «ثورة» أمريكا وفرنسا وروسيا وألمانيا فنحذق ما يقول؛ لعلمنا أن كل انقلاب يبدأ دواما برأي أخص أي: رأي فرد، يصير بعدئذ رأيا خاصا أو رأي أفراد أو زعماء يسيطرون على «الشعب» بنفوذهم أو بالاستهواء أو بالإرهاب، ويتكلمون باسمه، وهو أحب ما عليه أن يذكر ويحسب في الوجود، في حين لا مقدرة له على التدقيق والتمحيص. وإذا وجد في «الرأي العام» بعض العناصر المتبصرة المدركة أليس معظمه مسيرا معالجا كآلة تدفع فتصيح، ثم تجذب فتصمت؟ وسيكون ذلك أبدا لأنه يستحيل ترقية جميع الناس إلى مستوى واحد.
فلماذا لا يجوز لمصر التعبير المستعمل في البلدان الأخرى لأحوال متشابهة؟ وتلك الأقلية التي انتبهت سواء عن استياء من حكومتها، أو طمعا بمصلحة خاصة، أو بإيعاز من محمد علي، لو لم تنتبه لمقدرتها على إزعاج المماليك ترى أكانت تزعجهم فتغلبهم ثم تلاشيهم؟ وأكان محمد علي ينجح وحده كما نجح بأعوانه؟ وتلك الحلقة التي التأمت يومئذ حول الوالي وأيدته فكانت النواة الأولى في تكوين الوحدة المصرية الحديثة؛ أي الأسماء نطلق عليها سوى اسم «القومية» الآخذة في التكون؟
هذا، وإني لأرجو الأستاذ الجليل أن يظل «واقفا لنا بالمرصاد» في سبيل تحري الصواب في الوقائع التاريخية ما أمكن؛ لأنه بذلك يتم واجبه العلمي وينيلنا الفائدة المطلوبة.
الشعر القصصي الحماسي
1
أستاذي الدكتور العلامة
قرأت البحث المستفيض الذي نشر تباعا في عددي أبريل ومايو، وقد تفضل به الشيخ كاظم الدجيلي اعتراضا على ما كتبته في الشعر القصصي الحماسي حينما نشرت عمرية حافظ. أسأل حضرته قبول شكري لما استهل به مبحثه من تجميل ذكري. إني أعتبر ذلك الثناء ناطقا بسعة حلمه أكثر منه دليلا على أهليتي. ولكني على كل حال سعيدة بهذه الكلمات المنشطة الآتية من بعيد. ويظهر لي أن العظمة العربية التي اندثر ما كان لها من صرح ومعقل على شواطئ دجلة والفرات ما برحت حية نامية نباهة وخلائق عاليات في نفوس كرام الأهلين.
على أنه في أجزاء بحثه الأخرى قد أوقع بي ظلما عادلا ... إذا جاز الجمع بين هاتين اللفظتين؛ لأنه لم يكتف بإيراد أسماء القصائد والملاحم والعلواءات المدونة في مجموعات الأشعار ودواوين العرب، بل لامني تلميحا لأني لم أقرأ تلك القصائد التي نظمها عرب الجاهلية ومن عقبهم، ولم يصل إلينا ذكرها إلا بالنقل والتواتر. كذلك لامني لجهلي منظومات قصصية حماسية مخطوطة حفظت في المكاتب الخصوصية، لم يطلع عليها غير حضرته وأفراد قلائل من الأفاضل أمثاله.
أعترف بأني مجرمة في ذلك، ولكنها جريمة أجبر على ارتكابها سائر أبناء العرب، كما ترتكب ملايين البشر خطيئة أبينا آدم بنظام الوراثة، بيد أني مستعدة للتكفير عن جريمتي بالصورة الآتية؛ ليؤكد لي حضرته أن تلك المنظومات من نوع الإلياذة وحائزة مثلها لجميع الشروط التي يعرف بها الشعر الذي يسميه الفرنجة
épopée ، فأتلقى تأكيده باليقين وأستشهد بتلك المنظومات بعد اليوم على عهدته.
وبكلامي عن «الإيبوبي» عند الإفرنج إنما أعني تلك المنظومات القديمة الطويلة مثيلات إلياذة هوميروس أو التي نسجت على منوالها، وقد ذكرت بعضها في سياق الكلام على عمرية حافظ، أما اليوم فقد سرت الفوضى إلى كل شيء، وكما حدث اختلاط محتم بين الدرجات الاجتماعية واللغات، فقد سرى الاختلاط كذلك إلى أبواب الشعر والأدب. فملاحم الإفرنج في العهد الأخير يتغلب فيها العنصر الغنائي فضلا عن قصرها، وإذا اتصل الباحثون إلى إثبات عربية سفر أيوب قبل أن يبرز عبرانيا؛ فلا حاجة بنا إلى غير هذا الأثر العظيم لنكون من أغنى الأمم في الشعر القصصي الحماسي.
أما الجزء المحسوس من مقال الأستاذ، حيث ذكر القصائد المدونة في مجموعات العرب، فيسرني أني وإياه على اتفاق تام في أمرها الجوهري، والاختلاف بيننا إنما هو على الاسم فقط، فحضرته يطلق على هذه المنظومات اسم الشعر القصصي الحماسي، وأنا أسمي بعضها شعرا وصفيا: كقصيدة بشر بن عوانة في مقتل الأسد مثلا، وقصيدة مزرد بن ضرار السعدي في وصف شكته، وأسمي الكثير الآخر شعرا حماسيا. حضرته يقول: إن من قرأ شعر آخيل في الإلياذة، ودرس أشعار عنترة العبسي ومهلهل بن ربيعة وقرابته البراق بن روحان، يرى قرب المبدأ والمغزى بين أبطال العرب الثلاثة وبطل اليونان. ذلك لا ريب فيه، غير أن آخيل فرد واحد من أمة يتكلم كلاما حماسيا، وما كان كل من عنترة ومهلهل والبراق إلا فردا واحدا من أمة يتكلم كلاما حماسيا. أبطالنا كأبطال الإغريق بل أشد شكيمة، وكلامهم كعزيمتهم ورجولتهم، قد تفوق بلاغته بلاغة الإلياذة، على أن ذلك لا يكفي لتكوين الشعر القصصي الحماسي الذي وضع له أهل الغرب قواعد وشروطا، فإن نقص شرط من تلك الشروط، أو تبدلت قاعدة من تلك القواعد، خرجت المنظومة من حيز (الإيبوبي) ودخلت دائرة شعرية أخرى. لذلك قلت يوم كتبت عن عمرية حافظ: إن هذا النوع من الشعر (الحماسي) «عندنا منه كثير كشعر عنترة العبسي مثلا.»
غريب أن جميع من قرأت من المستشرقين يقول بخلو العربية من الشعر القصصي الحماسي، ومنهم من يطنب في وصف جمالها واتساعها وفلسفة قواعدها. وقع في يدي في العام الماضي مجموعة المعلقات مذيلة بشرح ألماني من وضع المستشرق «وولف»، وكنت في مجلس حضره أحد كبار علماء المسلمين عندنا، فصرت اسأله عن معنى بعض الألفاظ غير المألوفة - وما أكثرها في المعلقات! - فكان يهز رأسه أحيانا ويبسم قائلا: «لا أدري!» فأبحث إذ ذاك عن معنى الكلمة في الذيل الألماني وأجده. فإذا ما ذكرنا أن عرب الجاهلية كانوا أقرب العرب في جميع العصور إلى نظم الملاحم، وذكرنا أن المعلقات أول تلك الملاحم وأهمها، عجبنا لأمثال وولف هذا، الذين وقفوا حياتهم على هذه الأبحاث، وتعصبوا للغة العربية، وأحبوها حبا يفوق حب كثيرين من أهلها لها، كيف ينكرون عليها شيئا ثابتا فيها؟ وكيف لا يدري هذا الرجل الذي ذيل المعلقات بذاك الشرح الوافي في أي الصنوف الشعرية ينتظم صنف المعلقات؟
ومن جهة أخرى كيف يقول معرب الإلياذة في مقدمته: «فلا سبيل إذن للزعم بوجود ملاحم لعرب الجاهلية على نحو ما يراد منها بعرف الإفرنج»؟ وهو الذي قال بعد التلميح إلى أن حرب البسوس عند العرب تقابل الحرب الطروادية عند الإغريق، وذكر ما تناقلته العرب من منظوم بديع لوصف مواقعها، قال: «إننا نجد تلك القطع غير ملتئمة لفقدان اللحمة بينها، فهي كالحجارة المنحوتة قد أحكم صنعها وبقيت ملقاة في أرضها غير مرصوصة بالبناء، ثم إذا نظرت إلى أشهر الرجال والنساء فيها رأيتهم جميعهم شعراء: فكليب يقول الشعر، ومثله زوجته جليلة وأخوه مهلهل، وكذلك مرة شاعر وابنه جساس شاعر، وكل ذي شأن في القصة من غريب وقريب شاعر؛ كالحارث بن عباد وجحدر بن ضبيعة، فمجموع شعرهم أشبه من هذا الوجه بالشعر التمثيلي؛ لأن لكل حادثة شاعرا ينطق بها. بخلاف شعر الملاحم كالإلياذة إذ ترى هوميروس فيها ينطق بلسان الجميع.»
نقلت هذه السطور عن مقدمة الإلياذة؛ لأن حضرة الأستاذ استشهد غير مرة في مبحثه بالمقدمة المذكورة، ولأني أرى فيها تعريفا حسنا لما جرينا على تسميته شعرا قصصيا حماسيا.
نقول: «شعر قصصي حماسي»، ولا نفطن أن أول دليل على تغيبه من عندنا هو تغيب اسم ينبئ بوجوده؛ كيف لم يهتم العرب الذين وضعوا للمسمى الواحد مئات الأسماء أحيانا، بإيجاد كلمة تدل على خلاصة ما عندهم من آداب؟ نعم، إنه يوجد كلمة ملحمة، وجمع ملحمة ملاحم ... يا حفيظ ! لو كنت شاعرا وعلمت أن إحدى قصائدي ستصبح، بل ستمسي، يوما ملحمة من الملاحم، لكنت كتبت براءة شرعية بيني وبين القوافي والأوزان بحذافيرها.
ثم إن هذه الكلمة لا تؤدي معنى
Epopée
مطلقا، واسم «حماسي» وحده أو «قصصي» وحده يعني نوعا آخر من الشعر، واسم قصصي حماسي طويل كالشواطئ وهو من وضعنا نحن أبناء هذه الأيام، ولكني أتلقى بسرور كلمة «علواء» التي أشار بها حضرة البحاثة المفضال الأب أنستاس ماري الكرملي، فهي أتم ما استعمل إلى الآن معنى واختصارا ولفظا، ولكن إن نحن أخذنا بها وأطلقناها على الشعر القصصي الحماسي، فهي كذلك دليل على غيابه لندرة استعمالها؛ فقد أخبرني من قرأ أكثر كتاب الأغاني أنه لم ير لها ذكرا فيه!
إن غياب «الإيبوبي الإفرنجية» لا يحط من مقام لغتنا؛ لأن في العربية منظومات عالية وشعرا حماسيا بديعا (مما دعاه بستاني الإلياذة «ملاحم قصيرة») يتفق مع روح الأمة، ولن يصل شعراء الإفرنج إلى الإتيان بمثل ما يميزه من جزالة اللفظ وفخامة المبنى ورصف المعنى والبساطة البليغة: بساطة الروح العربي وبلاغته الخلابة؛ لأن الغربي سيظل أبدا غربيا والعربي عربيا مهما قربت بين أحوالهما الخارجية أسباب العمران.
ومن طبيعة العربي الهبوط إلى نفسه وتحليل ما يجول فيها من عاطفة وميل ورغبة ومفخرة، فإذا ما أقبل ينشد تغنى بما يهيجه من غضب وكيد وانتقام وحماسة وكرم ونخوة، فكان مبدعا شعر الحماسة والفخر. أو نظم المراثي أو زفر بما يسعر جنانه من وجد وحنين، فكان مبدعا شعر الغزل والنسيب. وشعره الوصفي ينتمي دواما إلى أحد هذين النوعين؛ لأن الطبيعة العربية لم تهتم قط بالنظريات المجردة، ولم تنزع إلا إلى الأشياء المحسوسة الملموسة، فجاء شعرها الفريد صورة صادقة لجوهرها الوجداني. وكان الشعر القصصي الحماسي عندها متفقا وسليقتها الخاصة، يجري على منهجه الخاص، خاضعا لجماله العربي الأنيق الخاص. ولو قام أحد شعراء عصرنا يسرد تاريخ الأمة العربية لجاءت هذه العلواء المجيدة أعظم وأبدع إلياذة في تاريخ الأدب عند جميع الشعوب.
أثبت هذا الرأي ليس بصفته رأيا حسنا، ولكن بصفته رأيي - كما كان يقول مونتاين، وقد يكون الخطأ نصيبي والصواب في جانب غيري، ولكن الحقيقة كعبة جميع الباحثين، فإنما إياها ينشدون في كل نفي وإثبات، ولو أردت اليوم كتابة ما دونته بالأمس لما أبدلت من الألفاظ الأساسية لفظة واحدة، ولو لم يكن لذلك من سبب سوى حمل الشاعر البغدادي على كتابة تلك الصفحات الممتعة النفيسة الاثنتي عشرة في معارضتي لكفى.
2
هللويا!
لقد عاد الشيخ كاظم الدجيلي في فبراير 1924 إلى موضوع الشعر القصصي الحماسي الذي يطلق عليه هذه المرة - ولعله نسي أني كنت من أنصار هذه التسمية - اسم «العلواء عند العرب»، فجاء يثبت وجود هذا النوع من الشعر تقريرا «للحقيقة»، وإنصافا للعرب، وترويضا - طبعا! - لذلك «العناد» الذي يأبى حضرته إلا أن ينسبه إلي.
ناقشني، وصمت خمسة أعوام درس خلالها الحقوق، ونفحني بقصيدة نشرها في «الهلال»، ودعاني فيها ببعض الأسماء الحلوة التي يبتكرها الشعراء يوم يوطدون النفس على معالجة «العناد» عند امرئ بوجه من الوجوه، وعلى أن يسترضوه بالأوزان والأسجاع ليخاصموه بالنثر المرسل.
وكنت أعلم بقصيدة وبلا قصيدة، برسالة وبلا رسالة، باسترضاء وبلا استرضاء، أن الشيخ كاظم لن يسكت حتى يسكتني ويسكت المستشرقين القائلين بتغيب الشعر القصصي الحماسي من لغة العرب ولغات الساميين عموما.
وليسمح لي الشيخ كاظم أن أحاول إرضاءه في أن أضيف إلى بعض القصائد «العلوائية» التي ذكرتها سابقا من حافظ وشوقي ومطران (أورد الأسماء على حروف الأبجدية) منظومات جديدة اطلعت عليها بعد ... الفصل الأول من قضيتنا؛ إحداها «الحرب الكبرى شعرا»، وهي منظومة طويلة تملأ كتابا تاما، وتصف وقائع الحرب الكبرى، بقلم الأستاذ أسعد خليل داغر، وأخرى قصيرة هي «ترجمة الشيطان» للأستاذ عباس العقاد في الجزء الثالث من ديوانه، ومنظومتان للمرحوم عبد الحليم أفندي المصري.
ولئن خصصت هذه المنظومات بالذكر فلأني اطلعت عليها، وقد يكون هناك غيرها مما أجهله.
أنشأ الشيخ كاظم ينشر رده لتقرأ الناس، وظهر الجزء الأول من تلك المرافعة الجديدة في شهر فبراير. لا شك أنه تعب كثيرا وبحث كثيرا، وهو ولا شك مورد لنا مع أسماء المنظومات التي اهتدى إليها الاسم الذي كانت تعرف به عند العرب؛ إذ كيف يهتدي المرء إلى فرع من الآداب ولا يهتدي إلى اسمه؟
فإذا أثبت الشيخ كاظم وجود الشعر القصصي الحماسي (وهو فاعل بإذن الله) في لغتنا، فهل يعترف لي شعراء العصر والمجامع العلمية بهذا «الفضل»؟ وهل يسلمون بأنه لولا «العناد النسائي» ما كنا وصلنا إلى هذه النتيجة «الباهرة»؟
قيل لي: يا سيدي الأستاذ إنك رحلت أخيرا إلى إنجلترا لتدرس اللغة العربية في جامعة لندن، وسواء كنت الآن في إنجلترا أم في العراق فهات يدك أصافحها!
تعجبني منك نخوتك وتعصبك للغتك في أدب وهدوء ورصانة، ويعجبني منك ثبات خمسة أعوام رغم أعمالك الأخرى، ورغم قصائد الاسترضاء في الشعر والنثر.
قد تستغني اللغة عن كثير من شعرها، ولكنها لا تستغني عن همم رجالها وثباتهم وجهادهم للخير والحق والإنصاف.
أتمنى هذا الثبات وهذا الجد وهذه النخوة لجميع رجال الشرق، ولأجلها أصافحك عن بعد، أيها الشاعر العراقي، مصافحة الثناء والإعجاب.
حديث عن الشرق الأقصى
في الشتاء موسم السياحة يكثر من الأدباء والعلماء الأجانب رواد هذه الربوع من يطلب التعرف إلى بعض حملة الأقلام عندنا، فيفوزون بذلك عن طريق التوصية التي ليس أبرع منهم في السعي للحصول عليها.
ولئن أزعجك، دون أن يدهشك من بعض هؤلاء تصميمهم على تسيير الحديث في منهج قرروه سلفا، وإصرارهم على تأويل الكلام لمصلحة سياسية يخدمونها، أو غرض خاص يعملون له، فإنه يشفع فيهم الغربي اليقظ المنصف الذي يحب بلاده ويجاهر بحبه، إلا أنه يسلم بأنها ليست كل الدنيا، وأن ليس من المعقول أن تتغلب مصلحتها على مصالح جميع الأوطان وجميع الشعوب، بل إن هناك إنسانية لكل جزء منها حقه في حدوده الطبيعية.
يسلم بأنك إنسان مثله تتمتع بمثل حقوقه في العاطفة والمطلب والمصارحة والمسعى، ويعترف بأنه سمع عن هذا الشرق ولكنه لا يعرفه، ويود أن يعرفه ليقف على ما فيه من جمال وصدق وإنسانية.
من هذا الفريق كاتبان أمريكيان جآني العام الماضي يحملان توصية من الدكتور فارس نمر ، كانا قد طافا في ربوع الشرق الأدنى، ومما أدهشهما في مصر وغير زعمهما في «تعصب الشرقيين» أمر بسيط في نظرنا، وهو أنهما دعيا إلى تناول طعام الغذاء يوم عيد الميلاد على مائدة رئيس الوفد المصري (وهو يومئذ المصري (بك) باشا السعدي).
وسارا من الشرق الأدنى إلى الهند، وقد يظهر بعض ما هما عليه من صدق وعدم تحيز في هذه النتف التي اقتطعها من رسائلهما عن الشرق الأقصى - الأقصى بموقعه الجغرافي، ولكن ما أدناه إلينا بروحه وحالته وموقفه!
بورت سعيد، 27 ديسمبر 1922
لقد كان سرورنا عظيما عندما سمعنا البارحة أننا ذاهبان إليكم مرة أخرى مع زكي باشا وأمين بك يوسف؛ فظفرنا بزيارة الوداع بعد زيارة التعارف. ... نكرر هنا ما قلناه سابقا، وهو أن أهم ما في رحلتنا هذه يقوم بما نتلقاه من أفراد أدركوا الفكرة الواحدة الشفافة التي لمسها القليلون، وتتبعوا وراء الحوادث الجزئية أنظمة الكون الكبرى المحدثة كل شيء، «أولئك نوادر قلائل في العالم بأسره وفي جميع الأجيال» كما قلت البارحة، ولكنهم النواة الجوهرية التي تتكون حولها دوامات الجماعات المنظمة حركاتها على يد أشخاص ثانويين، ولقد كان في نظرنا أمرا خطيرا أن نستبين هذه النواة الثمينة في الشرق الأدنى وراء تحرك الخواطر والمطالب في اختمار بطيء ...
كالكتا (الهند)، 30 أبريل 1923
عدنا اليوم من زيارة طويلة لمدرسة تاغور سانتينكتان (ميناء السلام). وطي هذا قصيدة إنكليزية من الشاعر مهداة إليك خاصة، واسمها «طائر الصباح».
1 ... سمعنا خلال هذه الآونة أخبارا كثيرة عن مصر: منها ظهور لائحة الدستور الجديد، ومنها احتجاج حزب العمال في إنكلترا على سياسة لورد اللنبي، وهذه الأمور وغيرها لا تخلو من الأهمية رغم أن لكل مسألة وجهين، ورغم أن هذه الحوادث نتائج لا أسباب. يمكننا أن ندرك ذلك نحن اللذان زرنا الشرق الأدنى واستجلينا شيئا من تلك الحركة الفكرية الواسعة التي تعمل بهدوء ليوم آت.
جئنا الهند منذ ثلاثة شهور تقريبا، وهو وقت قصير جدا لمن يتلمس المعنى الجوهري من حياة متشابكة مرتبكة في مثل هذه البلاد العظيمة المترامية الأنحاء، ومع ذلك يمكننا أن نخبرك ببعض ما رأيناه وشعرنا به خلال هذه المدة.
الهند - كبلادنا الأميركية - في تطور، وهي الآن تجتاز أزمة سينتج عنها خير كثير للهند نفسها وللعالم أجمع. جئناها والروح مشبعة من روح ثقافتها القديمة، فوجدناها في القرن العشرين مجاهدة تتنازعها مشاكل القرن العشرين؛ النشء الجديد فيها جاد حار، ونراه راغبا في تأدية خدمة صالحة للنفع العام. العادات هنا بسيطة والأساليب الحيوية خالية من تكلف الرسميات، إلا أن أثر الفكر الغربي آخذ في إيجاد التضاعف والتركيب فيها شيئا فشيئا. وترين الهندي بوجه عام حساسا رقيقا يتأثر بسرعة ويلبي بكل إخلاص نداء الجود، ويبادل عواطف المحبة بكل صفاء.
يخيل أنه انحط بعض الشيء على كر الأجيال، لكن ليس في جميع القبائل؛ فالماراثا نشيط مستقل يتكل على نفسه، والبنجابي شديد محب للحرب وإن كان في وسعه أن يصرف قواه في غير المكافحة والقتال، وهو أمر أثبته في «أمريتسار» خلال فترة اللاتعاون. أما البنغالي فهو أضعف من هذين بنية، وهو رقيق لطيف ذكي طاهر القلب سامي الفكر، ومنه تلقى الفن الهندي نفحة الانتعاش، وهو الذي أوجد في الآداب نزعة التجدد والتحسين.
أما فقدان قيادة غاندي الشخصية فظاهر كل الظهور، وأمثال س. ر. داس موفورو الإخلاص والكفاءة، إلا أنه ينقصهم مغناطيس المهاتما ومواهبه الروحية. على أن الشعور جلي بأن غاندي تكلم فأرسل نفحة من روحه العظيمة، وأن هذه النفحة تبحث لذاتها عن طريق في حياة الهند، وأما الاتحاد بين المسلمين والهندوس فليس على ما يرام، ولهذين الفريقين دروس لا بد أن يتعلمها أحدهما على الآخر قبل أن يتفاهما ويتحدا الاتحاد الأمثل، ورغم ذلك فهناك فكرة مستقيمة تتمشى وتنمو في سبيل الاتحاد المنشود وتقدره وتعمل له، وهذا بلا ريب أهم أغراض غاندي.
أما تاغور ومدرسته «سانتنكتان» فخميرة فعالة في عجين الهند. كان فن الهند منذ قرن على لا شيء من الإبداع تقريبا، إذ كان قاصرا على النقل والتقليد، فأرسل تاغور صيحة في الهمم الخامدة ، وما فتئ ينادي بالهند لتجود بما لديها، وتسعى لتوحيد ثقافتها والترابط الفكري والأدبي مع سائر أنحاء آسيا. عندئذ - يقول تاغور - يمكننا أن نعود إلى الغرب مقتبسين خير ما في حضارته فلا تشوهنا؛ لأننا نكون مرتكزين على حضارتنا القومية.
فكر تاغور فكر بديع التآلف، محكم التركيب، بعيد المرمى، هو الفكر الشرقي المحض الذي لم تفسده نزعة سطحية أو زخارف غريبة، ولكن الرجل مع ذلك لرحابة قلبه واتساع عواطفه يدرك الجيد الحسن من جميع الجوانب، ويقدر ما فيه من إنسانية صادقة ...
و. ب.
هذا الحديث عن الشرق الأقصى ما أحراه بأن يكون عن شرقنا الأدنى، لو نحن استطعنا أن نوجد لنا اسمين متوافقين كاسمي رسولي الحرية السياسية والأدبية في الهند.
لقد أطلق سراح غاندي في أوائل فبراير الماضي، وما إن غادر المهاتما سجن يرودا حتى أرسل منشوره الأول بشكل خطاب إلى محمد علي رئيس الجامعة الهندية الوطنية الكبرى فعبر فيه عن عقيدته الوطنية ورغباته وآماله، قال: إنه يعلم أن الحالة الآن أشد قلقا مما كانت يوم دخوله السجن، وقال: إنه ما زال يعتقد أن طريق الحرية والاستقلال هي؛ أولا: في الاتحاد بين الهندوس والمسلمين والسيخة والمجوس والنصارى. ثانيا: في مداواة فقر الهند بالاتكال على مغازلها وإنتاجها؛ لأنه مقتنع بأن المغازل وحدها هي التي تنقذ الهند من موتها الاقتصادي الذي تجود فيه بنفسها.
ثالثا: في التزام السلم في القول والعمل والفكر، «وهي أسلحة لازمة لنا للوصول إلى غايتنا»، ويعتقد أنهم «لو عملوا بإخلاص لما احتاجوا إلى المقاومة السلبية، التي يرجو أن لا يحتاجوا إليها، وإن كانت مؤثرة وحقة، وإنها حق من حقوق الأمة والفرد، بل واجب إذا هددت حياتهما بالخطر.»
هذه الأركان الثلاثة التي تقوم عليها سياسة غاندي ذي الروح الكبيرة الحلوة يعجبنا أن نرددها كل يوم، وبسببها يقول رومان رولان الفرنسوي في كتابه الجديد الجميل: إن «المهاتما أوجد في تاريخ السياسة أقوى وأنفذ حركة شهدها العالم منذ ألفي سنة.» •••
وبينا غاندي وتاغور، وهما مجدا الهند، يتفاهمان ويتعاطفان ويطلبان لوطنهما شيئا واحدا إلا أنهما لا يسلكان لذلك سبيلا واحدا.
غاندي يريد أن يجرد الهند من كل أثر غريب في الصناعة والسياسة والإدارة والثقافة، وأن يعود بها إلى عهد الآباء؛ فتكفي نفسها من نتاج مغزلها ومنوالها، وتعيش عيشة ساذجة هادئة بمعزل عن ضوضاء العمران الأوروبي.
وأما تاغور فيمثل قوة أخرى من القومية الهندية؛ ذلك الشاعر العالم والفيلسوف لم يلق بنفسه في المعمعة السياسية، بل عني بوجه آخر لا يغني عنه الاستقلال الاقتصادي والسياسي، وهو التهذيب القومي في المدرسة الحرة، وإسماع العالم صوت الهند في آدابها العالية وفلسفتها الزاخرة.
في كتبه خاطبت الهند العالم أجمع، وما زالت تلقي الهيبة في النفوس محرزة بذلك نصرا خالدا، وليكون أثره التهذيبي مباشرا، فقد أنشأ مدرسته «مرفأ السلام» ببلدة بلبار من إقليم البنغال، وهي التي انضمت إليها أخيرا جامعة كبيرة من هاتيك البلاد.
يتخرج النشء في هذا المعهد على آراء تاغور ومذهبه، ولا ريب أنه سيكون قوة كبيرة في تجديد ذلك المحراب العظيم الذي ما زال مستودعا للمثل الأعلى رغم عواصف الحياة وأنوائها.
ويوم الأربعاء من كل أسبوع، وهو يوم الراحة في «مرفأ السلام»، كان تاغور يجمع تلاميذه ويخاطبهم كأخ كبير وصديق رءوف، ومن تلك المحاضرات الاجتماعية والفلسفية والفنية التي ترمي إلى تحقيق كنه الحياة، والوقوف على اتصال الحياة الفردية بالحياة العامة، خرجت مجموعة كتابه «سيدهانا» النفسية، مؤدية صورة حية من روح تاغور النورانية الرحيبة المفعمة جمالا ولوذعية ووطنية وإنسانية.
فكأنه في حين غاندي «النبي السياسي الوديع» يدفع الأيدي العاملة إلى العمل ويحرض على الثورة السلبية، فإن تاغور يقوم على حراسة اللهيب الجوهري في حياة الهند، ويذكيه في مدرسته ويغذيه، ويرسل إلى العالم الوقت بعد الوقت خبرا عنه وصورة محيية منه. •••
كل من غاندي وتاغور متمم للآخر، وإذا كان الحديث عن الهند أشبه ما يكون بحديث عن شرقنا الأدنى لتشابه المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية هنا وهناك، فالدواء العام الذي ينشدونه في تلك الأقطار هو أول ما نحتاج إليه. نحن كالهند نحتاج إلى التوحيد بين العناصر ليتم لنا النهوض والأخذ بأسباب الحياة، نحن كالهند في حاجة إلى إحياء الصناعة الوطنية وترويجها لنتدارك فقرنا، ونكفي حاجتنا قدر المستطاع، وإن لم يكن في الإمكان أن يستغني الآن أي قطر من أقطار المسكونة عن صناعة الأقطار الأخرى أو عن بعض إنتاجها؛ فذلك لا يخلينا من تبعة التهاون في ترويج أقمشتنا ومصنوعاتنا على اختلافها.
ونحن كالهند نحتاج إلى مدارس وطنية حرة - دون أن ننكر فضل مدارس الأجانب - تكيف النفوس على حب البلاد وتتعصب لقوميتها ووحدتها، فرقي الأمم والأفراد يقاس بمبلغ امتلاكها زمام أمورها وحسن إدارتها لمصالحها الحيوية، والتعليم - مع ترقية الصناعة الوطنية وترويجها - في مقدمة هذه المصالح، وعليه المعول الآن في الشرق لتقوم المدرسة مقام المدرسة ومقام العائلة في آن واحد؛ لأن النشء يجد غالبا في المدرسة الراقية الجو المعنوي المثقف الذي لا يجده في البيت.
اعتدنا أن نلقي جميع المسئوليات على الحكومة، مع أن التعليم يجب أن لا تتعهده الحكومة وحدها التي يهمها منه خصوصا تخريج الموظفين لمصالحها، بل هو عمل أهلي وطني حر.
لذلك حق على الشرقيين في هذا الطور الجديد أن ينيلوا التعليم الوطني الحر ما يليق به من الاهتمام، وأن يجعلوا لوزارة المعارف حق «الرقيب الناصح لا الشريك المخالف»، ومجالس المديريات وهي الصور الصغرى لطبقات الشعب أولى الهيئات بنشر التعليم الحر والنهوض به.
كذلك نحتاج إلى إرسال صوت الشرق إلى الخارج لنقول: إن حركتنا السياسية والاقتصادية إنما هي مظهر فقط من حياة قومية غنية واسعة.
إمبراطور يصير ملكا1
أعني الرصيف الذي طلب أهالي بورت سعيد استبدال اسمه «فرنسوا جوزيف» باسم ملك إيطاليا، وغريب أن يكون المرء إمبراطورا فينقلب ملكا، رغم اعتقاد البشر أن الأول أرفع من الثاني، ورغم أن الملوك لا يهدأ لهم بال في هذه الأيام إلا إذا غنموا لقب إمبراطور!
قد يكون الحق في يد إخواننا البورسعيديين، غير أني لا أفهم لماذا يطلق اسم ملك أجنبي على شارع أو رصيف مصري، ولا أدري ما هي علاقة عميد أسرة هبسبورج، أو كبير أسرة سافويا بأماكن شرقية عمومية أو خصوصية ؟!
معقول وواجب أن تطلق على شوارعنا وأرصفتنا أسماء المحسنين من الأجانب، فإذا ما رأيت تمثال دي لسبس قائما عند اليم، الذي أوجد له دي لسبس يدا زرقاء تصافح البحر الأحمر، وتنقل بين قارات العالم القديم - بصرف النظر عن كل ما يتخلل ذلك من السيئات وأشباه السيئات - حسنات العلم والتجارة والاقتصاد، إذا ما رأيت ذلك التمثال قلت: «أحسنت أيتها الأمواج بلثم موطئ قدميه!» وإذ أرى تمثال ماريت باشا منصوبا فوق ضريحه على مقربة من المتحف المصري الذي سعى لإنشائه، قلت: «لقد جمعت أيها المحسن آثار الفن المصري في متحف جميل، فنم آمنا في ظل المتحف المجيد!»
ولكني لا أحذق معنى تسمية رصيف في بورت سعيد، أو في غيرها من البلاد المصرية والشرقية جميعا، باسم رجل أجنبي منتهى ما يعلم الباحث من مميزاته أنه إمبراطور!
تؤخذ أسماء الشوارع من أسماء عظماء البلاد وأبطالها وكتابها والمحسنين إليها من أبنائها إحسانا ماديا أو معنويا، أو هي تستخرج من تاريخها القديم، أو تقتبس من حادث طرأ عليها وترك فيها أثرا. هذا هو الاصطلاح الذي يتمشون عليه في سائر البلدان، فما لإمبراطور النمسا والمجر ولشوارعنا، وما لنا ولاسمه مهما يكن طويلا عند ما يكتبه باللاتينية؟
كان وما زال سمو الخديو السابق صديقا لهذا الإمبراطور، فلم نسمع أن حكومة النمسا دعت أحد شوارع فينا باسم عباس حلمي، وكان وما زال سمو البرنس فؤاد شقيق الحضرة السلطانية صديقا حميما لإيطاليا وأبنائها، وحتى الآن لم نعلم أن رصيفا في روما أو شارعا في نابولي يعرف باسم هذا الأمير المصري.
فلماذا نعطيهم ما لا يعطوننا؟ ولماذا نجرد أبناء الشرق من نصيبهم الطبيعي؟
نعم، إن شوارع كثيرة تدعى بأسماء الحوادث التي طرأت على المدينة وبأسماء نفر من المصريين، ولكن آخرين يستحقون الذكر ولا يذكرون، بينا كثير من أسماء الشوارع تدهش وتضحك، وتحمل على التساؤل ما إذا كان رؤساء مصلحة التنظيم من الاستغراق في التأملات الفلسفية بحيث لا يدركون، مثلنا نحن عامة الناس، ما تكنه وتبديه تلك الأسماء من النكتة والمهزلة!
في عالم الألحان
1
لقد أخذ المعهد الموسيقي المصري على عاتقه حملا ليس بالخفيف ، ووضع نصب عينيه غاية محمودة، فلا يسعنا إلا التمني أن «يأخذ الله بناصره» والدعاء له بالعمر الطويل.
قالت صحف الأمس: إن إدارة هذا المعهد ضمت إلى أعضائها حضرة الأب كولانجت وغيره من الملمين بهذا الفن إلماما نظريا أو عمليا، وذلك عين الصواب؛ إذ لا شيء يفيد موسيقانا والولوعين بدرسها مثل احتكاكهم بالموسيقى الغربية والاطلاع على أفكار فناني الإفرنج وأسلوب تمرينهم العقلي واليدوي والاقتباس عنهم.
يعيرنا الغربيون أن ليس في الموسيقى الشرقية أفكار، ولا وصف، ولا تصوير، ولا تصور، ولا أوبرا. سبحان الله! وما حاجتنا يا ترى، نحن ذوي الأعصاب الطروبة الذين يشجينا شدو القصب وتنهد النهر ونوح الحمام، ما حاجتنا إلى اشتباك الألحان وضوضائها؟ نحن نتمنى لموسيقانا أن تظل شرقية محضة، تعبر بأنغامها العميقة الحزينة عن خفايا القلب الشرقي وحنينه ولوعته، وتلمس نفوسنا بترجيعها البسيط فتهتدي فيها إلى مستودع العواطف الشجية وينبوع العبرات السخينة.
إن الموسيقى الغربية رغم كونها «علمية» في طورها الحاضر تحدث مختلف التأثيرات، شرط أن يكون السامع عليما بها أو فاهما ببداهته أنغامها، وإلا كانت جلبة وضجيجا لا يناله منهما غير الصداع الأليم.
على أن أكثر الشرقيين يفهمون موسيقى بلادهم بلا درس ولا استعداد؛ لأن مقاطع ألحانها ساذجة متشابهة، باستثناء المتفرنجين الذين يدعون أن الموسيقى العربية لا معنى لها. وسبب هذا الحكم في الغالب هو تمكنهم من التوقيع - سواء كان ما يوقعون من جيد الموسيقى الإفرنجية أم من رديئها - على البيانو، مع أن تقدير الموسيقى الغربية لا يؤدي إلى إنكار الشرقية، وأصدق برهان على ذلك أن جماعة من كبار الموسيقيين الإفرنج حاولوا اقتباس الألحان الشرقية، وإدخال شيء منها في ما يؤلفون؛ منهم كميل سان سانس الذي ألف لحنا ممزوجا من جملة ألحان مصرية باسم «تذكارات الإسماعيلية»، فضلا عن قطعه الفارسية الكثيرة.
يشعر الإفرنج الذين لم يألفوا ألحاننا بشيء من الغرابة إذ يسمعونها لأول مرة، وقد يتألمون لجدة الأوزان وتنافر الاهتزازات منها وتباطؤ الآهات؛ ذلك لأن السلم في الموسيقى الإفرنجية ينقسم فقط إلى مقامات كاملة وإلى أنصافها، في حين قسم الشرقيون المسافات بين المقامات الأصلية، فكانت عندهم «المسافة الكبيرة» المحتوية على ثلاثة مقامات سموها أرباعا، و«المسافة الصغيرة» المحتوية على ربعين فقط؛ ومن ثم الاهتزازات الدقيقة التي تزعج السمع الغريب في بادئ الأمر. زد على ذلك أن الأصوات الشاذة عندنا كثيرة، وهي لا تندر بين أكبر ملحنينا. وأقول بصراحة: إني لا أعرف بين الذين سمعتهم من الأموات أو الأحياء إلا اثنين أو ثلاثة من ذوي الأصوات الصحيحة، أما الأموات فأشهد فيهم، بهذه الثقة؛ لأني سمعت صوتهم في الفونغراف.
كذلك يخطئ المغني عندنا في تقسيم أوقات الإنشاد وتوازن الآهات والأدوار، فقد يبدأ بإصلاح أوتاره في الساعة التاسعة، ولا يفرغ من ذلك إلا نحو الساعة العاشرة، فيصرخ «يا ليل يا عين»، ويظل مناديا ليله وعينه حتى انتصاف الليل، ثم يقضي الشطر الثاني من الجلسة الموسيقية على مقطع أو مقطعين من الدور. وكم يضيق المرء ذرعا بهذا التطويل، ويكاد يصرخ في وجه المغني: فهمنا يا سيدي! اذكر النشوء والارتقاء وغير هذه الجملة!
ليس كل الغناء في اللحن فقط، بل إن معنى الكلمات عامل أولي في حمل الأعصاب على الإذعان لسلطة الموسيقى؛ فلينوع الموسيقيون إذن ألفاظهم ما استطاعوا، ولينشدوا كل أدوارهم وليس كلمات منها فقط، وليتركوا الليل مصغيا لآهاتهم المطربة والعين مغرورقة بدموع الحزن والسرور، والآهات مؤثرة، شرط أن لا يكثروا منها إلى حد يمل عنده السمع وتسأم النفس.
ليس على المعهد الموسيقي الاحتفاظ بالموسيقى العربية ونشرها بين الغواة فحسب، بل عليه - وفي هذا أهمية موقفه - أن يعنى بإصلاحها وحذف ما علق عليها من الشذوذ والإفراط في المرادفات، وأن يبث فيها نسمة الإنعاش.
نرجو أن يعنى المعهد بذلك، وما أشد شكرنا له يوم نراه قد أدخلنا في سفر التكوين!
أعني بلا ضحك، سفر التكوين الموسيقي.
2
كان المعهد السابق ذكره يشتغل خلال الحرب، ويظهر أنه هو الآخر استبد به المقدور المتحكم في كثير من مشروعاتنا، فكان «شعلة قش وانطفأت»، ولعلي أجهل مصيره وهو ما زال حيا يرزق ويرزق؟ حبذا الخطأ في مثل هذه الحال وفي كل حال تشبهها!
على أننا لسنا في جمود موسيقي صرف، ولا يسعنا إلا تقدير جهود أساتذة الموسيقى وهواتها في وسط ما زال من هذه الجهة في سبات، ولم يستيقظ منه إلا الأفراد القلائل.
لا يخفى أن الموسيقى الشرقية جمدت عصورا طويلة بعد أن وصلت عند المصريين والآشوريين والعبرانيين إلى درجة الإتقان المتناهي، بشهادة الآلات المنقوشة صورها على الآثار، ولم يتغير السلم الموسيقي الشرقي أصلا رغم انحطاط الفنون كل هذه المدة. وأهم ما يلاحظ في الأعوام الأخيرة من قبيل التجديد هو ضبط الألحان بالعلامات الإفرنجية، بعد أن كانت الألحان تنتقل بالتواتر والتدوال من جيل إلى جيل شأن الألحان الشعبية القديمة في أوروبا.
فكتابة الموسيقى إذن أصبحت غربية يزيد عليها العلامات المحتم زيادتها؛ لأن ليس في الموسيقى الغربية ما يقابلها وهي أرباع المقامات. ويساير هذا التجديد محاولة إدخال العنصر الغنائي الغربي وإدماجه في النغم الشرقي على نحو ما فعل ملحنو الغرب، الذين استوحوا الموسيقى الشرقية وأفاضوا من عنصرها على مبتكراتهم، إلا أنهم أبرع منا في الاستحياء؛ لأنهم فازوا بثقافة موسيقية وفنية راقية. أما نحن الذين كان لنا آلات موسيقية تمتعت بكمال لم تصل إلى بعضه آلات الإغريق في مجدهم، ونشأت عندنا ذوات الأوتار كالعود والقانون والقيثار التي دخلت أوروبا عن طريق إسبانيا - فضلا عن سائر الآلات المذكورة في التوراة - فما نحن اليوم إلا في دور الثغثغة.
وفي هذا صعوبة موقفنا وكثرة ارتباكنا وتهافتنا أحيانا على ما هو بالإعراض أحرى، في حين نطرح الطرفة الفنية المنيلة قوتا وتثقيفا وصقلا.
3
في فصل الشتاء تكثر عندنا الحفلات الموسيقية الوترية والغنائية، ولقد حضرت أخيرا حفلة كانت كلها مكرسة لتوقيعات كلود دبسي الشاب الذي أبدع في الموسيقى الفرنساوية العصرية، وهو اليوم مع ملحني الروس رائج بين هواة الموسيقى، لا سيما منذ وفاته؛ لأنه بعد أن سكب شبابه الغض أنغاما مضى، فهو يمثل في نظري الدور الذي مثله كيتس أو شلي في الشعر الإنجليزي .
في موسيقى دبسي تهب حينا بعد حين لفحة من جونا، أو تئن روح الشرق الحزينة، وقد بدا بعض ذلك في قطعة موسومة باسم «سهرة في غرناطة» سمعتها في الحفلة المذكورة موقعة على البيانو أحكم توقيع. لم يخلد الملحن في كل تأليفه هذا إلى جو الأندلس الذي تلاقت في بيانه الفني أرواح الغزاة من: العبرانيين، والقلت، والفينيقيين، واليونان، والقرطاجنيين، واللاتين، والقوط، والعرب، ولا تغلب على شتيته المنظم النغمات ذلك الطابع الشرقي ذو الحماسة الكئيبة الذي نستجليه في معظم ما نسمعه من الموسيقى الإسبانية، بل هو استسلم لأثر الموسيقى الأوروبية المتعارضة أنغامها بالعناصر الوصفية والذهنية والتصويرية في تساوق الألحان
harmonie
لمسايرة اللحن الأساسي وهو بنغم
mélodie . استسلم لذلك وعبر عنه بأسلوبه الأركستري بعد تكييفيه بطبيعته الفنية ونبوغه الطروب، إلا أنه ظل يعود دواما ويعود أبدا بعد كل وثبة وكرة وفرة إلى ذلك القرار، الذي تئن فيه كآبة الشرق السحيق، وتتنغم منه الزفرات والآهات على وقع خرير المياه من نوافر المرمر الشفاف، في ليل قصر الحمراء المثقل جباه الملوك والأمراء بوسم المجد وأحلام الغرام.
أظن أن من أنفع ما يستوحيه ملحنونا الشرقيون هو هذه الحفلات الموسيقية تعزف فيها ألحان الغربيين الذين بين أرواحهم وبين الروح الشرقية قرابة.
لأن هذه القرابة موجودة في الفن والأدب والموسيقى والفلسفة. فإن إدجر آلن بوو مثلا، وموسه وبايرن ودانتي وهايني وشكسبير كذلك، أقرب ما يكونون إلينا، بينا ملتن وتاين ولافونتن وكاردوتشي ورسكن وأوهلند أبعد ما يكونون. بتلك القرابة نستوحي الموسيقى التركية والفارسية والأرمنية واليونانية الحديثة والبلقانية، لا سيما الهنغارية التي يسهل الاقتباس منها مباشرة، ففيهن جميعا شيء من ذلك الحث المهيج تلازمه النهفة الحزينة الجوهرية في الروح الشرقية، ونجد مثل ذلك في الموسيقى الروسية؛ كموسيقى: روبنشتاين، وجلنكا، ورخمانينوف، وأرنسكي، وليادوف، وجريج النروجي. فعند هؤلاء وغيرهم نجد من الانفعال والشجن والبث والكآبة ما يجعلنا وإياهم في جو واحد من الطرب.
ولكن صونوا كرامة الطرب أيها الأساتذة، ولا تسجلوا علينا أشباه حكاية الكوكاين. لا تجدد لموسيقانا بهذه الدندنة التي تدعى
Musiquetté ، وحاشا للمحترف أو الغاوي أن يفسد ذوقه وثقافته الفنية بالاستماع إلى مثل هذه الألحان التافهة. ليست الغاية من التجدد نقل الألحان الغربية على ما هي، وإنما التجدد بالاستيحاء؛ كأن مثلا ترى شيئا جميلا، أو تسمع لحنا مطربا، أو تقف على فكرة رائعة فلا ترسخ في حافظتك على ما هي بلا زيادة ولا نقصان، بل هي تشعرك بوجود كنوز كثيرة وراء ما تدرك، وتفتح لك منافذ على آفاق لم تأبه لها من قبل، فتنظر فيها ومنها تستمد.
أكبر قيمة البيان الفني وقيمة الحياة الأدبية في ما تفسح من أفق وتشعرنا بوجوده من مجهول، لا بما تؤديه من المعاني المحدودة. كل قيمتها في حثنا على تناول أعلى مثال من الجمال، وبما تبسطه من أبدية لا يلمسها الحس إلا لدن يحاذي الوحي، رغم كون الأبدية كامنة في هذا الحس كما يشتمل عمر الشخص الواحد على سلسلة من حلقات التجدد والفناء، والأثر الفني قمين بالخلود على قدر ما يحدث عن تلك الأبدية التي تتعاقب في الأجيال، وما عمل الأجيال إلا أن تمر في رحابها وتنقضي.
4
بين موسيقى الشرق وموسيقى الغرب فرق أساسي؛ فهي في الغرب علم، تمثل في تأليفها وتوقيعها مأساة الجهاد والكفاح بين العواطف والذكاء.
أما في الشرق فكل الموسيقى عذاب وشجو وأنين.
هي صوت القلب وخلاصة التعبير الوجيع، يتجسم فيها دون غيرها معنى الامتثال اليائس والصبر المرير؛ فتسمعها أبدا منشدة على لحن واحد «ميلودي». وكل إنعاشها يجب أن يأتي عن هذه الطريق، وليس عن طريق إدخال التساوق «الأرموني» فيها؛ فتساوق الألحان أخص خواص الموسيقى الغربية.
قال لسنج مرة: إنه يعتقد بأن رافائيل قد كان يكون مصورا عظيما حتى ولو ولد بدون ذراعين. والموسيقى الشرقية تستطيع أن ترتقي دون أن تتبدل طبيعتها إذا هي تعهدها الحذق الفني والحاسة الموسيقية الدقيقة.
معرض الصور المصري
1
مارس 1919
لقد أضيف إلى الأحاديث المزعجة التي ملأت أندية القاهرة في هذه الأيام موضوع لطيف لم تألفه بعد اجتماعاتنا، موضوع الفنون الجميلة، وذلك بفضل المستر ستيورت الذي عرض رسومه المصرية، وفضل إخواننا الأقباط الذين أقاموا قبله معرضا كشف لنا عن أمر جهلناه.
وإني لأستغفر عما خالجني من الشكوك؛ فإني دخلت القاعة وفي نفسي ارتياب كثير وأمل ضئيل، ولكن ما إن عرضت طائفة من متقن الرسوم حتى قلت الكلمة التي سمعتها ممن زاروا المعرض قبلي وهي: «إنه أحسن كثيرا مما كنت أتوقع.»
مرضية النظرة الأولى في الردهة الكبرى لجامعة المحبة والغرف الأربع المحيطات بها، وقد تغطت منهن الجدران طولا وعرضا، ولم أكن أدري أن للطائفة القبطية شغفا بالرسم، غير أن العارفين يقولون: إن هذه المعروضات إنما هي لبعض الغواة من رجال ونساء، وإن الآخرين لم يعرضوا لوحاتهم. أما المحترفون - وهم عدد يذكر على ما قيل لي - فقد أبوا الاشتراك في المعرض؛ لأنهم اشترطوا ما لم يتم الاتفاق عليه.
لا يلوم هؤلاء من يدرك قيمة العمل والجد لنيل غاية بعيدة، ولكل مطالب تقاس عنده بما بذل من سعي ومجهود. على أننا كنا نود أن يتم الاتفاق على ما يرضي الغواة ولا يغضب السادة المحترفين؛ حتى ينجلي للجمهور مظهر صادق من الحركة الفنية عند إخواننا الذين يبالغون في التكتم وإخفاء أساليبهم وميولهم عن غير الأقباط.
لم يكن ثمة ما هو منقول عن الطبيعة مباشرة أو معبر عن فكرة شخصية إلا رسمان اثنان، إلا أن من الرسوم المنسوخة عن رسوم موضوعة من تماثيل ونقوش وفوتغرافيات ومناظر طبيعية، كان حسنا، ومنها ما هو دقيق الإتقان سواء في التفاصيل والإجمال، وكل من سعى لإقامة هذه الندوة وعمل في تنسيقها وترتيبها يستحق جزيل الشكر؛ لأنه كان مشجعا فكرة صالحة ومعززا قيمة الفن بين ظهرانينا. ومما يغتبط له بنوع خاص أن قسما يذكر من هذه المعروضات (النصف تقريبا) من صنع السيدات والأوانس، وهو شيء لم نكن نتوقعه مطلقا وتسرنا منه المباغتة اللطيفة. وقد كان هناك غرفة خاصة بإحدى الأوانس، وقد غطت نقوشها ورسومها الجدران الأربعة. وفي غرفة أخرى كنت ترى جمهورا من الفتيات يتناقشن ويتسامرن ويسارقن الزائرين النظر آونة بعد أخرى، ولو علمت أنهن صاحبات الرسوم المعروضة لأدركت معنى تلك النظرات الخفية.
إن هذا المعرض التجريبي مقدمة لتحقيق آمال كبيرة إن شاء الله. لقد قلد إخواننا فكانوا متقنين، ونسخوا فكانوا مجيدين ونائلين من مثل رئيس مدرسة الفنون الجميلة في هذه العاصمة كلمات التشجيع والإطراء. فهيا الآن إلى الإبداع والابتكار واستيحاء الطبيعة والحياة مباشرة بلا وسيط! نظرة عين أو ثنية شفة، أو دمعة ترتعش على حافة الجفن، أو سحابة تذهب حواشيها أشعة الشمس، أو خيال من خيالات السرور والأسى والشوق والتمني. كل معنى مهما يكن هزيلا ينقلب أثرا فنيا بعمل المخيلة المبدعة والريشة الخالقة، وكلما عالج الفنان التعبير عن ذاتيته نمت تلك الذاتية واتسعت، وقد أصبح باب المقابلة والمسابقة والمفاضلة مفتوحا، وكثرة المترددين على الندوة تنبئ باستعداد عند الجمهور لدرس الأعمال الفنية وتقديرها.
أي شيء أجمل من الفن، وأي شيء أقدر منه على تصفية النفس وترقية الميول وتطهير الأفكار وتنقية العواطف؟ وإذا انفتح ذلك الباب؛ باب الغبطة المعنوية، فهو لا يغلق أبدا، بل يعبره المرء إلى عالم جديد تملأه مسرات (وآلام!) تتضاءل أمامها المسرات والآلام الأخرى.
نرجو أن يقام هذا المعرض كل عام، ونرجو أن يحقق الآمال، كما نرجو أن لا يكون في المستقبل قبطيا صرفا بل مصريا كل المصرية؛ لأنه كما يتيسر الإخاء في أفق الوطنية، كذلك هو ميسور في جميع الدوائر السامية؛ دوائر الخير والعلم والفن والفلسفة.
1
2
أبريل 1924
رأينا هذه السنة المعرض السادس، وهو طبق المرام، ذو صبغة مصرية كما يليق بالبلاد التي يقام فيها، وطائفة كبيرة من معروضاته من صنع المصريين، ومعها معروضات لغير المصريين، محترفين وهواة، رجالا ونساء. وهذا هو الكمال في المساواة في عوالم الفن والفكر والعلم، حيث تتجلى الطبيعة الإنسانية العامة واحدة عند الجميع.
وقد درج المعرض على هذه المساواة منذ سنته الثانية، بيد أنه أقيم هذه المرة في قاعات سافواي بصورة شبه رسمية ومكبرة عن صورة المعرض الذي كان يقام في الأعوام الماضية، وهو الذي كان حجر الزاوية منه ذلك المعرض الصغير في دار جامعة المحبة القبطية سنة 1919.
كانت القطع المعروضة هذا العام تنيف على الأربعمائة، ولا أدري هل اللجنة المنظمة أصابت في ذلك؛ لأن الكثرة ليست ضمانا لرقي الذوق الفني ولا دليلا على جودة الصنعة.
قد لا يغض التدفق من نفاسة النوع عند الطبائع الغنية الفياضة، ولكنه عندئذ الاستثناء الجميل. أما القاعدة ففي وجوب التأني للإتقان الذي لا كمال بدونه؛ والقليل المتقن لا سيما عند المبتدئ خير من الكثير المشوش.
كان على اللجنة أن تتصعب في قبول المعروضات، وأن تكون أدق نظرا في الاختيار؛ ليكون القبول منها بمثابة التشجيع لذوي المواهب الفنية والتقدير لمعروضاتهم. كان عليها أن تنبذ «الخرابيش» التي يزعم أهلها أنهم يعرفون يرسمون ويصورون، فلا تضع الادعاء والخلو حيال الكفاءة والمقدرة يطميان عليهما. وخير «للصالون» أن يحوي مائة لوحة - أو أقل - جديرة بالالتفات والاستحسان من أن يحوي مقدار ما تحويه صالونات باريس وروما؛ فيظهر العجز في هذه الكثرة، ولا يكون تعدد الأطر والنقوش شفيعا في نقص الأصل وضعفه.
فمن تلك المعروضات ما كان يحتمل احتمالا، ومنها السطحي المصطنع الباهت كأنه نقش بماء الورد، ومنها ما لا يقبل إلا كاثر رسم في الطفولة يوم بدأنا ننسخ طاقات الورد والأواني الزرقاء والصفراء عن دفتر كاتارينا كلاين الألمانية. وأفهم أن يستاء الفنانون من جيرة لا ملق لهم فيها ولا فخر.
وكان مما يبعث على السرور والأمل أن نتبين بين تلك القطع - المنسوخة عن منسوخ في الغالب - بعض الرسوم الجديرة بمكانة لائقة في أي معرض ذي كرامة؛ فنرى فيها فن التلوين، وجرأة الخطوط، وإحكام الرسم، وجلاء الأسلوب، وحذق التعبير عن خاطرة جلية أو تأثر غير مرتبك.
ولا بأس من عيب أو عيوب إذا كانت اللوحة ناطقة بمزاج فني واضح الحدود والفوارق، فعيوب المصور في الخطوط والألوان والشكل والقالب بمثابة الأغلاط اللغوية في آثار الكاتب. تلك الأغلاط تتضخم ولا تغتفر عند الكويتب المتطفل، بينا هي جزء من شخصية الكاتب الكبير. فالشواذ اللغوية والبيانية كثيرة عند شكسبير، وجلية عند بايرن وغيره، على أنها لا تنقص من قيمتهم، بل الواقع أنهم جوزوها ودمجوها في اللغة لمجرد وجودها في آثارهم، وهي عيوب قابلة الإصلاح، وإصلاحها من أسهل ما يكون.
رأينا من هذه اللوحات في المعرض. أما عيوبها ففي: ارتباك التأليف، وعدم مراعاة التوازن في توزيع الطباق والإبعاد، وكأنها كانت مفتقرة إلى توحيد الأسلوب على منهج واحد. ولكن فيها مجهودا جميلا، واقتحاما جديدا، وسعيا لشق سبيل غير مألوف.
وهناك لوحات تستوقف الانتباه؛ لأنها خلال التعبير عن فكر متغلب أو تأثر طام أنبأتنا بأن ثمة شخصية كبيرة ومزاجا فنيا مشوقا قدر له أن يبرز بحرية وأن يصعد عاليا في أفق الفن.
فكما أن في هذا المعرض وجوها للتحسين والإصلاح، فكذلك فيه حسنات توحي الرجاء، وأكبر الأمل أنه يقام كل سنة، وأن في مصر الآن نواة فنية يرجى لها النمو. فللجنة الساهرة على هذا المعرض السنوي أجمل الثناء، مشفوعا بالرجاء أن يكون الانتخاب في العام الآتي أدق وأحكم؛ فمصر طفلة في الفن واليقظة، وهي ككل حدث تحتاج إلى من يتعهدها بخبرة ومحبة.
3
أقول مصر في طور الحداثة، وأعني كل ما تتضمنه هذه الكلمة، فإن هذا الطور إذا كان كثير العيوب ففيه كذلك حظ كبير من الحسنات والمواهب التي تنتظر الصقل والنمو.
في هذا الطور خلوص النية، وصفاء الطوية، وذكاء الفؤاد، ومقدرة العطف، وشتى الحوافز لاقتحام أعلى القمم. وفيه خلو من مرارة التجربة وتجاهل لليأس والفشل، وهو حديقة تنور فيها كل أزهار الأمل.
ومصر متمتعة بهذه الثروة الفاخرة.
فعلى متعهدي الفن فيها أن يذكروا أن بعض الأمزجة ذات وزن كبير أو ذات وزن ما، وتلك هي التي يكون الإغضاء عنها جريمة وخسران، وسيكون لأصحابها أثر في الروح العامة إذا هم وجدوا من الظروف ظهيرا، واستطاعوا أن يثقفوا مواهبهم بما تقتضيه من سعي ومجهود وثبات.
ولكن ليس كل من رسم كذلك، وللمرء كل الحرية في أن يرسم لنفسه ويعرض رسومه في منزله، ولكن حريته تغدو محدودة يوم يهم بنشر ما لها به في معرض عام.
إن الرسم والتصوير والنحت كالشعر والموسيقى، لا خير فيها إلا إذا عبرت عن مزاج تام، وكانت على جانب من الإتقان، في حين أن أية نهفة من صوت ولو غير جميل، تعني شيئا ما، وتدل على خاصة حيوية. وحسبها أنها تنوع من التنفس الذي هو أصل الحياة وضمانها ودليلها الواحد. أما التصوير والرسم والنحت والشعر والكتابة الأدبية فلا بد أن يتساوى فيها حظا الصنعة والفن؛ أي «كيفية» التعبير و«كمية» من شخصية يتسنى التعبير عنها.
ونحو هذه الغاية فلتسر مصر في معرضها التصويري، فتنشر آثارا توازت فيها المادة والأسلوب. وليس من الضروري أن يتكاثر العدد كل سنة، ولكن من المحتم أن يرتقي الفنانون وتصقل مواهبهم وتجود آثارهم. فالفن ككل شيء آخر في الحياة، له مختاروه وأشياعه، وقد كان دواما نصيب الأقلية. ولا يطلب من الجمهور إلا أن يفهمه أو يفهم بعضه. وتربيته على ذلك ميسورة في مثل هذه المعارض السنوية.
4
ومن مزايا هذا المعرض الذي يخلق «جوا» للفن، ويبث في الجمهور رغبة في درس الفن، وينشط معالجي الفن وهواته، إنه موضوع يمرن عليه كتابنا مقدرتهم في النقد التصويري، ومنهم من يبدي في ذلك إدراكا دقيقا وإحساسا نافذا، وإخلاصا مشكورا؛ فلا يسئم المواهب الصالحة بالكلام الفاتر في الموضوع الحار، ولا يملق الغرور والغطرسة بالثناء الوفير على ما هو عادي قد لا يستحق أكثر من النظرة السريعة. «ما نفع النقد؟» يتساءل شارل بودلير، ثم يجيب: «الفنان يلوم الناقد في أنه لا يفلح في تعليم المتفرج الرسم والنظم، وهو كذلك لا يعلم الفنان الذي لولا فنه ما كان النقد، ولكن هذا اللوم لا ينطبق إلا على النقد الذي لا يرى ولا يشعر ولا يدرك.» «كيف يكون النقد إذن؟» «أعتقد بإخلاص أن خير نقد هو النقد المنوع الشعري المبهج، لا ذلك النقد البارد الذي يسلك طريقة علم الجبر في حل المسائل الرياضية، فيزعم شرح كل غامض وفض مغالق الطبيعة، دون تحيز ولا نفور، بل بتجريد نفسه اختيارا من كل مزاج وكل نزعة.» «يتحتم أن يكون الناقد واسع المعرفة والإدراك، رقيق الإحساس، صادق الإخلاص، ومقياسه هو الطبيعة بأسرها بإنسانها ومجتمعها، ثم عليه أن يتأثر لينقد بانفعال. لأن كونك ناقدا لا ينفي كونك إنسانا، والانفعال يقرب بين الأمزجة المتشابهة، ويسمو بالمدارك إلى علو جديد؛ وبهذا منفعته للفنان والمتفرج.» «التصوير كجميع الفنون، هو الجمال تستوعبه عواطف كل منا، فيعبر عنه بانفعالاته وأحلامه، أو هو التنوع في الوحدة، أو هو الوجوه النسبية المتعددة من الكل المطلق. فعلى الناقد البصير إذن أن ينظر إلى الأثر الفني والتعبير الفني ومن ورائه الطبيعة وما وراءها لا يغيب عن بصره؛ فيشرح ما في البيان الفني من معلوم ومجهول، أو من نقص في العلاقات، أو من علاقات مختلة. الناقد العليم القادر أستاذ الحياة بما فيها من العلانية والأسرار، والمتحركات والسواكن، يعرفها للفنان الذي عالجها صامتا، ويعرفها للجمهور الذي يحدق فيها جاهلا.»
هذه بعض أقوال بودلير في النقد الفني، وهو الذي كان ناقدا ممتازا كما كان شاعرا مطبوعا، والكلام على النقد الفني ينطبق على النقد عموما؛ إذ إن النقد كالحرية والعلم والفن لا يأتي بالطفرة، بل هو تمرين متتابع طويل لكفاءة طبيعية.
لذلك قلت: إنه إذا سرنا أن نرى هذه المعارض الابتدائية؛ فيسرنا كذلك أن تظهر على مقربة منها، وتصقل عن طريقها، موهبة النقد الذي يدرك، ويشعر، ويحاسب نفسه على ما يقول، مقابلا بين موضوعه وبين ما يعدله في الحياة والطبيعة والمجتمع.
وهذا النقد العام الناظر إلى الأمور من جميع جهاتها قليل جدا في اللغة العربية التي عني أئمتها في الغالب بالنقد اللغوي وما إليه.
ولذلك كان من دواعي الابتهاج أن تبدو مع النزعة الجديدة إلى الحرية السياسية النزعة إلى العمل الفني، يحاذيها النقد الصادق الذكي.
هو ثالوث حي سعيد، بورك فيه!
لبيك يا مسيو فانبير!
المسيو فانبير هو الكاتب الأجنبي الذي يكتب لمجلة بلجيكية عن حركة الأدب في العالم، وإذ هم بالكتابة عن الآداب العربية وجد أنه في أمرها على جهل تام؛ فبعث إلى الدكتور طه حسين يشكو جهله، وزود الشكوى بعشرة أسئلة يليها «ملاحظة»، وجهها الدكتور في جريدة «السياسة» إلى الأدباء وحملة الأقلام، ولا أدري هل هم ردوا عليها فهيئوا لمسيو فانبير مادة كافية لمبحثه عن الأدب العربي.
تعرف أوروبا شيئا غير يسير عن آداب: الهند، والصين، واليابان، والفرس، والترك، والأرمن، ولا تعرف منا نحن إلا ما يحدثها به المستشرقون عن آدابنا القديمة، وبعضهم ذو فضل عميم، أما عن آدابنا الجديدة فيحدثها كتابها وسياحها الذين يمرون بالشرق فيرونه كما يريدونه أو كما يتخيلون، ويحدثها بعض محاسيبها فيذكرون لها ما يهمها مباشرة، وقد يؤولون ويكيفون لتتوافق الأحاديث وهوى المصلحة.
وأدباؤنا الكاتبون باللغات الأجنبية يعنون بالتعبير عن شخصيتهم، ويعالجون الموضوعات العامة لتأييد مذهب ما؛ فنظل مجهولين إلا من الذاكرينا الوقت بعد الوقت بما يحمل على الحكم بأن كل ما لدينا فتيت يقع عن موائد الغير، أو هم يفخمون بعض الحوادث والمعاني والأشخاص ويضخمونها ضاربين صفحا عن مركزها المحدود في عالمنا الأدبي العام.
فلا عجب أن يشعر الكاتب الأجنبي بالجهل والقصور إذا هو هم بالبحث الجدي، أما الملاحظة فأوردها قبل المسائل لأهميتها؛ قال: «ليست هذه المسائل دقيقة، وإنما هي أعلام تبين لك الغرض الذي أقصد إليه من هذا البحث، ولك الحرية المطلقة في أن تفصل ما استطعت، وتبسط كل آرائك في المسائل التي ألقيت عليك.»
وقد صدق مسيو فانبير؛ فليست هذه المسائل «دقيقة» وإنما هي الخطوط الكبرى الراسمة صورة الآداب، وهي عندي أهم من «الدقة»؛ إذ رغم ما نريقه كل يوم من مداد، فإننا لم نوضح بعد ما قد توضحه الأجوبة الصغيرة عن هذه المسائل، وكثيرون منا لم يفكروا فيها، وفي بعض ما يكتبه أفراد من صفوة كتابنا، دليل على أن هذه الخواطر لم تمر في أذهانهم بمثل هذا الاطراد. ولا لوم، وإن جاز اللوم فهو يقع أولا على الصحف الإفرنجية التي لا تعنى عندنا بغير الجانب السياسي وتغفل ما عداه، ويقع بعدئذ أو قبلئذ، على الصحف العربية التي لا تهتم برسم صورة عامة من آدابنا. وبعد وقد زل بي القلم إلى ما يغضب الصحف العربية والإفرنجية جميعا، فلأمضين في الجرأة فألوم الدكتور طه حسين الذي يشغل صحيفة الأدب الأسبوعية في «السياسة» بأبحاث ممتعة عن الشعراء الأقدمين، ويتغاضى عن الأدب العصري فلا ينيله كل ما هو جدير به من البحث، وهنا أسكت وبي شبه ذعر أن تنقض علي الصواعق من كل صوب.
ومن ثم أجيب عن المسائل؛ لا لأرسلها إلى المسيو فانبير، بل لأهتدي إلى ما يحب أن يعرفه الكاتب الأجنبي، ولأرسم لذاتي صورة واضحة على قدر الإمكان من هذه الموضوعات المتشابكة.
السؤال الأول:
هل لك أن تكتب لي ترجمة مفصلة لحياتك وآثارك الأدبية؟
الجواب:
لا، يا سيدي المسيو فانبير؛ فذلك التفصيل يستغرق حياتي الصغيرة كلها!
السؤال الثاني:
ما الينبوع الذي يستمد منه الشعر العربي الحديث؟
الجواب:
شعر شعرائنا يستمد الآن من ينابيع شتى لا من ينبوع واحد؛ فهناك الشعر المستمد من الشعر العربي القديم يتحداه ويعارضه بالوصف والتشبيب والمجاز، وهو قلما استحسن الجديد، وشعر آخر يستمد من القديم كذلك إلا أنه يتناول بعض المعاني العصرية ويلخص شيئا من النزعات الشائعة، فيصبها في قوالب قديمة يحرص عليها جد الحرص. وهناك الشعر الجديد الصرف أي المستمد من المعاني الجديدة والانفعالات الجديدة والمعارف الجديدة (له)؛ فيصوغها في قوالب مبتكرة متفلتا من القيود القديمة إلى تحدي الإفرنج في تعديل الأوزان وتنقيح القوافي. وهذا الشعر تختلف شعبه باختلاف معرفة أهله للغة الفرنساوية أو الإنجليزية أو غيرها، ولكن هاتين اللغتين بما نقل إليهما عن اللغات الأخرى هما الشائعتان.
السؤال الثالث:
ما وجهة الشعر العربي الحديث؟ وماذا عمل فيه من المؤثرات؟
الجواب:
أما وجهته المعنوية فلم تبرز بوضوح حتى الآن، وإني لا أرى غرضا مقررا يرمي إليه بمجموعه أو في قطر من الأقطار، إلا كونه سائرا مع الجيل الجديد من الشعراء إلى التحرر يوما فيوما من الأسلوب القديم والتعبير القديم والقيود الصناعية التي يتمشى عليها أنصار القديم آمنين. أما المؤثرات فأهمها الشعور بحاجة البلاد وآلامها، والشعور كذلك بجمالها وخلودها، يصحبه استفزاز العاطفة الوطنية، والتغني بحميد الصفات الشرقية، وتعظيم الشرق وتمجيد الحرية. ومؤثرات أخرى اكتسابية أتت عن طريق الدراسة والاطلاع على مبتكرات الغرب فلفتت الشعراء إلى ما هو جدير بعنايتهم وأغانيهم، وشرحت لهم بعض ما يخالجهم، ودلتهم على كيفية الإفصاح عنه. وعندي أن أظهر ميزة في أبناء اليوم أنهم يعتلجهم القلق أمام مشاكل العالم. أدركتهم حمى الحياة فهم يبحثون من المسائل، ويعون من معاني المجتمع والطبيعة، ويحسون من روح الوجود ما كان ولا يزال الجيل السابق غافلا عنه. ومن الدلائل اعتقاده البادي في آثاره أن مشاكل العالم تحل «بالنصائح»، وأن ما نراه من التشويش والضجيج راجع إلى «عناد» الناس «وغرورهم»!
السؤال الرابع:
أتوجد في مصر أو في غيرها جماعات منظمة من الشعراء؟ وإذا كانت هذه الجماعات موجودة فما ميولها ومن زعماؤها؟
الجواب:
لا أرى شيئا من ذلك في مصر. لا يوجد هنا جمعية واحدة لا للشعر ولا للنثر، وهو أمر يؤسف له، وبي استعداد لألوم بسببه أحدا ما، ولكني لا أدري إلى من أوجه الملام. أما سوريا فقد كان فيها جمعيتان أو ثلاث: إحداها «الرابطة الأدبية» في دمشق ورئيسها خليل بك مردم بك، لم تشتغل هذه الرابطة إلا سبعة شهور ثم انحلت بأمر الحكومة، وعطلت مجلتها لأن أحد أعضائها اشترك في حركة ثوروية، وألقى قصيدة اعتبرت مهيجة، فلم ينفسح لهذه الجمعية الوقت لترينا ميلها بجلاء، إلا أنها كانت تعنى بجدة المعنى في الشعر ومتانة المبنى، وتنقل إلى العربية شيئا من آثار الإفرنج، وتتعهد النزعة الأدبية الحديثة وجانبا من النقد الأدبي مع تمسك بأصول اللغة ومميزاتها. وقد تشتت الآن أعضاؤها، وما زالوا يعالجون كل ما يميل إليه بطبيعته من شعر وأدب ونقد.
وفي بيروت «عصبة الأدب» ورئيسها فليكس أفندي فارس، وغاية هذه الجمعية النهوض بالأدب العصري. لم تحلها الحكومة، ولكني غير واقفة على أعمالها كجماعة منظمة وإن اطلعت على آثار أفرادها المنخوبين رجالا ونساء. وكان لها شبه لسان حال في جريدة أسبوعية يصدرها أحد أعضاء العصبة، وهي جريدة «الشعب» التي أوقفتها الحكومة منذ عام ونيف.
وسمعت عن جماعة تشبهها في حمص، إلا أني أجهل مبلغ قوتها وأين هي من أعمالها ونشاطها، وقد حدثتنا الصحف عن «منتدى التهذيب» في بغداد الذي كانت فاتحة أعماله أنه أقام حفلة تكريم للأستاذ جميل صدقي الزهاوي.
وفي نيويرك «الرابطة القلمية » وعميدها جبران خليل جبران، ولسان حالها جريدة «السائح» النصف الأسبوعية، وميل هذه الرابطة جلي إلى التحرر من القيود الصناعية والبيانية في الشعر والنثر، وتسهيل قواعد اللغة والتصرف ببعض ألفاظها. وهو ميل يتطابق وحالتها المكانية والزمانية؛ فهي في ديار نائية تقول بالتحرر من الماضي والسير على منهج حديث في الأسلوب والتعبير، وكل آثارها قدوة ناطقة بميلها وغايتها وهي من هذا الوجه أوضح «جمعياتنا» الأدبية شخصية وأجلاهن نزعة.
السؤال الخامس:
ما الأطوار التي مر بها الشعب العربي حتى وصل إلى صورته الحاضرة؟
الجواب:
يقول اليازجي في كتاب «المترادف والمتوارد»:
تقسم الشعراء إلى أربع طبقات. الأولى: الشعراء الجاهليون، وهم الذين كانوا قبل الإسلام كامرئ القيس والأعشى. والثانية: المخضرمون، وهم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام كلبيد وحسان. والثالثة: المتقدمون، ويقال لهم: الإسلاميون، وهم الذين كانوا في صدر الإسلام كجرير والفرزدق. والرابعة: المولدون، وهم من بعدهم كبشار بن برد وأبي نواس. والمراد بالعرب منهم أصحاب الطبقتين الأوليين؛ لأنهم نشأوا على عهد الجاهلية، وهم الذين يوثق بعربيتهم ويستشهد بكلامهم. والطبقة الثالثة منهم من عدها من العرب، ومنهم من عدها من المولدين لما وقع من اللحن في كلامهم، وهو الراجح. وجعل بعضهم الطبقات ستا. فقال الرابعة المولدون، وهم من بعد المتقدمين كمن ذكر. والخامسة المحدثون، وهم من بعدهم كأبي تمام والبحتري. والسادسة المتأخرون، وهم من بعدهم كأبي الطيب المتنبي وأبي فراس ا.ه.
هذا ما جرينا عليه في تمييز الشعر العربي، وهو كما ترى تمييز تاريخي؛ أي: إننا ننظر إلى أطوار الشعر بالنسبة للزمان الذي عاش فيه الشعراء دون ما شعروا به وعبروا عنه أو كظموه، مما يتفق وزمانهم ووسطهم أو يسبقهما. ولا تنتظر مني، يا سيدي العزيز مسيو إليان ج. فانبير، أن أحدثك عما يدور في خلدي النسائي الصغير في ما يتعلق بهذه الأطوار، أو أن أجازف بوصفها على غير ما ألفنا؛ لأنك لو عرفت لغتنا الشريفة فتسنى لك أن تنظر في هذا الكتيب، لرأيت أني لم أفلح بعد في إزالة استياء الشيخ كاظم الدجيلي بسبب «العلواء عند العرب». أفلا يشق عليك أن أشتبك بسببك في خصومة أخرى من هذا النوع وفي موضوع أخطر وأعم مع الأستاذ مصطفى صادق الرافعي مثلا أو مع الأستاذ جبر ضومط؟
ثلاثة قرون مرت على العالم العربي وهو ميت الأحياء، فلم يكن من أقوامه مجتمع ولا من لغوه صوت ورأي، ثم عاودته الحركة في القرن التاسع عشر، فنشأ أدباؤه وشعراؤه أقرب إلى تقليد القديم منهم إلى إبداع الجديد، وبذلك أوصلونا إلى حيث نحن. أما صورة الشعر الحاضرة ... ولكن علي أن أنتظر الأسئلة التالية.
السؤال السادس:
ما العصر الذي نستطيع أن نوقت به النهضة الأدبية الحديثة؟
الجواب:
هو عصر النهضة والتجدد بما فيه من هدى وضلال، وجهل يتبختر وإدراك ينمو ويتعذب.
السؤال السابع:
هل ظهرت في الشعر العربي آثار للمذاهب الغربية الشعرية المختلفة؟ أهناك تشابه ولو قليل بين هذه المذاهب الغربية وبين مذاهب الشعر العربي إن كانت هناك مذاهب للشعر العربي؟ لو أنك أردت أن تصف الشعر العربي الحديث على نحو ما يصف الغربيون شعرهم فإلى أي مذهب من مذاهب الغربيين تضيف هذا الشعر؟
الجواب:
كلمة «مذاهب» ليست هنا واضحة على ما يلوح لي، فلا أعلم منها ما إذا عنت الأقسام الأربعة التي اتفق الغربيون على جعلها أساسية في لغاتهم وهي: الشعر الليريكي أو الغنائي، والشعر الديدكتيكي أو التهذيبي، والدراماتيكي؛ أي المفجع، والأبيكي؛ أي القصصي الحماسي، أم تعني التطورات التي مرت بها هذه الأقسام في المذهب المدرسي والرومنتيكي والرمزي وما ينشعب منها؟
اسمح لي أن أذكرك، يا مسيو فانبير، بأن فردينان برونتير الناقد الفرنسوي يوم كتب عن «الرمزيين» قال: إن الآداب الفرنساوية منذ القرن السابع عشر تنقسم إلى ثلاث مدارس كبرى مقابلة لثلاث فنون مختلفة: المدرسة «المدرسية» ذات الأسلوب والنظم «الهندسي»، والمدرسة الرومنتيكية التي شغفت بالوصف فكانت «تصويرية»، والمدرسة الرمزية التي يخيل أنها استوحت «الموسيقى» وحاكتها. وكان لهذه المدرسة الفضل في مقاومة التعصب للقالب الشعري، الذي غالى فيه «البرناسيون» (وهم شعبة من المدرسة الرومنتيكية)؛ فانضوى تحت لوائها جميع الذين يطمعون في أن يجعلوا بيت الشعر الواحد معبرا عن خواطر وعواطف، وفي عصر تشبث أهله «بالناتورالزم» فزيفوا الفن، وزعموا أنه قائم بنسخ الخطوط البادية للعيان، قام الرمزيون يعلمون النشء أن للأشياء روحا نابضة وراء جمود الظواهر وحركتها.
وجميع ما بين أيدينا من شعر ونثر يا مسيو فانبير، مزيج من هذه «المدارس» الثلاثة، فعندنا الشعراء الذين يهندسون ويبنون (والشعر العربي ممتاز «بهندسته»)، ولهم من يفهمهم ولا يقدر سواهم، وينعت الذين لا يهندسون «بالخياليين» حتى ولو تكلموا عن الحديد والصوان. وعندنا الرومنتيكيون أو الذين يصفون بعض الأشياء والخوالج وقد تأثروا بالمذهب الغربي، ولهؤلاء جمهورهم أيضا. وعندنا الذين يرون وراء الظواهر، ولهؤلاء القلائل أنصارهم من النشء في الغالب، وهذه النزعة هي البادية بنوع خاص في شعر «الرابطة القلمية» وفي بعض نثرها.
ويتلخص الأمر عندنا في نزعتين عامتين: «تنصر إحداهما الأدب القديم وتنكر الجديد، والأخرى تقبل من الأدب القديم والروح القديم ما هي في حاجة إليه وتعدو مع الحركة الحديثة. ويقول الأستاذ سلامة موسى ما مفاده أن الفرق بين الجماعتين غير واضح كل الوضوح، وإنما يمكن تلخيصه في أن أنصار القديم يقصرون درسهم على الأدب العربي والحضارة العربية، ولا يرغبون في الخروج عن حضارة قديمة جليلة أدت رسالتها إلى العالم إلا أنها لا تقوم بمطالب العصر. بينا أنصار الجديد في تطور مستمر يدرسون العلوم الحديثة والنظريات العمرانية والدينية وفروع الأدب الأجنبية التي لم يعرفها العرب؛ لذلك يعمد هؤلاء إلى الاختزال والسهولة ليتسع المجال لكل ما لديهم من القول.» وأنا أرى ضرورة وجود أنصار القديم قرب الآخرين؛ لأن عندنا جمهورا لا يقوده غيرهم، ولأنهم حراس إرث الماضي.
وبين أفراد من هذين الفريقين مشاحنات كالتي قامت وتقوم في أوروبا بين مختلف النزعات الأدبية، وهي بين كتابنا تلذ لي جدا. وإنك قد تجد عند شاعر واحد من شعرائنا أثر المذاهب الشعرية الثلاثة دون أن يتغلب أحدها؛ لذلك وإن كانت النزعة الشعرية ظاهرة أحيانا عند بعض أفراد الشعراء، فلا يتيسر تعريفها في المجموع باسم مطلق.
السؤال الثامن:
أتعتقد أن هناك نهضة للغة العربية، وإن كان نهضة فصف مع التفصيل مميزات هذه النهضة؟ وإن لم تكن هناك نهضة فما هي أسباب الجمود؟
الجواب:
أعتقد أن اللغة العربية الآن في بدء نهضة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الناطقين بها، ومن أهم دلائل هذه النهضة سيرها الحثيث، وهي تتناول شتيت المسائل بلغة جلية تطرح التطويل والتعقيد يوما فيوما، دون أن تفقد شيئا من متانتها وروحها. جملة الكتاب في هذا العصر أوضح وأصدق منها في أي عصر سبق، رغم كونهم لا يتلاقون دواما على ألفاظ التعبير؛ لأن ليس لنا مجمع لغوي يعنى بتقرير ألفاظ نتواطأ جميعا على استعمالها. أما المجمع العلمي بدمشق والمجمع اللغوي المصري فهما يعملان، إلا أنهما لم يقرا بعد شيئا من هذا القبيل. ويعالج كتابنا معاني وشئونا لم يسبق إليها تاريخ اللغة؛ فهي جديدة في وراثتنا كما هي جديدة في وراثة العالم. وإجادتهم ناطقة بأهمية هذه النهضة، هذا في الأفراد. أما الجماعات ففي جمود، ولا يرجى لها أن تستيقظ بمجموعها إلا شيئا فشيئا بمختلف البواعث التي يأتي بها الزمن.
أفتح «البلاغ» وأنا أكتب هذا على مقال من الأستاذ عباس العقاد، موضوعه «القديم والجديد» الذي يتخاصمون لأجله في هذه الأيام، وقد كتبه ردا على استفتاء أديب عراقي في الموضوع؛ فأجد في هذا المقال ملاحظات أساسية عن اللغة والتعبير تعزز ما ذكرته عند مناقشة «الإجبشن ميل». والأستاذ يعتقد كذلك أننا الآن في نهضة فريدة فيقول بالحرف: «إننا في عصر لم تسعد اللغة العربية بعصر أسعد منه في دولة من دولها الغابرة»، «عصرنا هذا هو أقدم العصور وأحقها بالتوقير والتبجيل؛ لأنه وعى من الأزمنة التي درجت قباله ما لم تعه الأزمنة الماضية، وبلغت أممه من تجارب الحياة ما لم تبلغه الأمم الخالية.»
وأزيد أن مصر الآن هي عاصمة اللغة العربية كما هي عاصمة العالم العربي المعنوية.
السؤال التاسع:
ما رأيك في شعراء العرب المحدثين من غير المصريين؟ أبينهم وبين شعراء مصر صلة قوية أو ضعيفة؟
الجواب:
ليس الصلة قوية بينهم من حيث تفاعل الأفكار، وإنما هي متشابهة من حيث الدوافع القومية والمناهج البيانية. ففي سوريا مثلا والعراق يروج المذهب الهندسي والوصفي، والأسلوب الهندسي أو المدرسي ما زال هو المتغلب في مختلف الأقطار العربية، والوصفي أو الرومنتيكي هو «الجديد»؛ فبديهي أن الصلة أحكم بين ذوي النزعات المتشابهة، وإن كانت تلك «الصلة» تقصر في الغالب على نقل القصيدة أو المقال، أو الاستحسان الكلامي والموافقة السلبية، أو النقد الذي يحاول أن يكون حاذقا وقد يجيء أحيانا صبيانيا.
السؤال العاشر:
من أشد شعراء العرب القدماء تأثيرا في الشعر الحديث؟
الجواب:
يتعذر التحديد، إنما يمكن ذكر المتنبي للمفاخرة، والمعري للاستياء، وغيرهما.
السؤال الحادي عشر:
بأي شعراء أوروبا أعجبت حتى اعتقدت أن شعره يمثل عصره وبيئته؟
الجواب:
أعجبت بشعراء كثيرين، نعمت في كل منهم بما كان عنده أوفى وأعم فغذيت به أحد ميولي، ولكني لم أجعل يوما تمثيل العصر كله أو البيئة بحذافيرها شرطا لإعجابي، بل أشك أن ذلك التمثيل في مقدور شاعر أو كاتب مهما يكن نبوغه عظيما وفنه شاملا، وأظن أن كل واحد يعطينا صورة عصره وبيئته، بل صورة الإنسانية في جميع العصور وجميع البيئات ملونة بلونه، متكلمة بصوته، وإلا فكيف يمكنني أن أقابل بين أقوال الشاعر أو الكاتب وبين حالة بيئته وعصره لأبحث ذلك التطابق وأقره؟ وإن تعذر ذلك علي فهو متعذر على كل أحد؛ لذلك أرجح أن هذه الكلمة التي يقولونها عن بعض الكتاب والشعراء في الآداب الأوروبية، من أدل الكلمات على «النسبية» في الناس.
ولو أردنا تطبيق هذه الكلمة على كتابنا في مصر لاستطعنا أن نجد من يمثل رأي جماعة أو يوضح اتجاه نزعة، ولكن لا يمكننا أن نجد من يتكلم بجميع مطالب عصره.
ورغم ذلك فإن الصوت المتغلب الآن في الآداب العربية هو صوت الاستياء والتبرم والدعوة إلى الإصلاح، تعتلج النفوس العواطف والمؤثرات، فتثور رواقدها فإذا بين الجيل الجديد والجيل الذي سبقه هوة. هذا يريد أن يسيطر بعدد الأعوام، ولكنه لا يستطيع القيادة والهداية في تيه المشاكل، فإذا بالجيل الجديد شيخ يشعر بالمسئولية مع اعترافه بأن الجيل السابق أدى كل ما كان في مقدوره.
لقد تبوأ منابر الأدب فتية لا عهد لهم بالجيل الماضي - يقول الأستاذ عباس العقاد في مقدمته لديوان المازني - «ونقلتهم التربية والمطالعة أجيالا بعد جيلهم، فهم يشعرون شعور الشرقي، ويتمثلون العالم كما يتمثله الغربي. وهذا مزاج أول ما ظهر من ثمراته أن نزعت الأقلام إلى الاستقلال، ورفع غشاوة الرياء، والتحرر من القيود الصناعية»، «إن كان هذا العصر قد هز رواكد النفوس وفتح أغلاقها، فلقد فتحها على ساحة الألم»، «وهو العصر طبيعته القلق والتردد بين ماض عتيق ومستقبل مريب، وقد بعدت المسافة فيه بين اعتقاد الناس فيما يجب أن يكون وبين ما هو كائن.» «نحن في عصر التردد والاستياء، ولا بد لهذا الاستياء أن يأخذ مداه ويطلع على كل نقص في أحوالنا، حتى إذا تمكن من النفوس فحركها إلى العمل، وعاد عليها العمل بالرضى؛ فلا ينسى الناس يومئذ فضل شعر الضجر والاستياء.»
والأستاذ المازني يضرب على هذا الوتر بعد صدور ديوانه بأعوام، فيقول في مقال جديد: «قضى الحظ أن يكون عصرنا هذا عصر تمهيد، وأن يشتغل أبناؤه بقطع هذه الجبال التي تسد الطريق، وبتسوية الأرض لمن يأتون من بعدهم. ومن الذي يفكر في العمال الذين سووا الأرض ومهدوها ورصفوها؟ من الذي يعنى بالبحث عن أسماء المجاهدين الذين أدموا أيديهم في هذه الجلاميد؟»
والدكتور هيكل يتكلم في إحدى مقالاته عن «الألم المعنوي» الذي يعذب، وهو أقسى من الألم المحسوس.
وهذه الشكوى تجدها في أكثر آثارنا شعرية كانت أم نثرية، والشجعان بين أبناء هذا الجيل هم الذي ينسون المشاكل التي تحرجهم ولا سلطان لهم عليها، فينظرون إلى ما يحيط بهم، وسواء كانوا من أنصار القديم أو الحديث؛ فإنهم يعمدون إلى الإفادة والنفع والتنشيط؛ ينسون الاستياء والتفطر ما استطاعوا، ولا يذكرون إلا أن مسئوليتهم كبيرة، وإن البلاد في حاجة إليهم، فيعملون.
لذلك كانت ميزة الأدب العصري في أنه لم يبق منزويا أو محدودا في الفرد، بل تناول فروع الحياة القومية شاعرا بأنه وهذا الجمهور واحد، وإنما المسئولية تعود على اللبيب؛ لأنه أشد من الجمهور شعورا بالألم والحاجة وضرورة العمل.
هذه حالنا عموما، يا مسيو فانبير، وهي أشبه ما تكون بحالة الجيل الجديد في الغرب مزيج من ألم وقلق وثورة إصلاحية.
نشعر بمشاكلنا الداخلية، ونعرف اشتباكها بمشاكل العالم، فنحاول الهرب إلى ما يصلح الأحوال، ولكن خيال الألم لا يغيب.
زواج الشرقيين بالغربيات
رد على استفتاء «الهلال» (1) السؤال:
هل زاوج الشرقيين بالغربيات مفيد أم مضر؟ (أ) من الوجهة الجنسية، (ب) الاجتماعية، (ج) الوطنية، (د) الأخلاقية.
الجواب:
إن زواج الشرقيين بالغربيات ككل أمر آخر تتحاذى فيه الفائدة والضرر. (أ)
أما والغاية من الزواج في النظام القائم هي: البنيان الاجتماعي بواسطة إنشاء الأسرة، وزيادة عدد المواليد، والربط بين أبناء الوطن الواحد برابطة القومية؛ فعلى الشرقيين أن يتزوجوا من بنات بلادهم، إلا أنه يستحسن الاستثناء، بل هو يتحتم في بعض الأحوال؛ لأن الشعوب كالأسر المتزاوجة على الدوام فيما بينهما، تنحط مع الوقت أخلاقيا ومعنويا، وينتهي بها الأمر إلى الاضمحلال والانقراض. فإدخال بعض الدم الغريب على الدم القديم ضروري لتحسين النسل، وتجديد القوى، وشحذ المواهب. (ب)
الأضرار المباشرة للزواج المختلط من الجهة الاجتماعية في: تبدل العادات العائلية، وتغير المبادئ القومية بالتبع، وما قد ينجم عن احتكاك الميول وتضارب النزعات من نفور واستياء؛ إذ ليست كل غربية لتتنازل عما تحب وترغب فيه إكراما لزوجها وحرصا على المستحسن من عادات محيطه وتقاليد جماعته. ولا كل شرقي - حتى وإن كان من أنصار المرأة العاملين على إنهاضها - ليحتمل ما ألفه الغربي من اختلاط النساء بالرجال ولو في أبسط المظاهر وأطهرها، وقد يحتمل فيكون مقاوما ما يرتاح إليه في صميم قلبه، وداهمه من جراء ذلك نكد متتابع، وهذا يجب ألا يكون في الحياة العائلية.
أما الفوائد ففي: احتكاك الشخصيات، واستيحاء الجيد النافع عند الآخرين؛ لأن لكل أمة خصائص وثروات لا يخلو اقتباسها والاهتداء إليها من بواعث الاستنهاض والتنشيط والتدريب. (ج)
المنفعة من الوجهة الوطنية أقل من الضرر. ذلك أن المرأة ذات العاطفة العالية قد تبث روح الوطنية وتذكيها في محيطها، إلا أنها تؤولها سهوا أو عمدا في مصلحة قومها وبلادها. لذلك كان ابن الوالدين المختلفي الجنسية أقرب إلى شيوعية الوطنية، واقتباس الحسنات منها والسيئات، وكان الزوجان من الوطن الواحد أدنى إلى التفاهم والاتحاد حيال المشاكل الوطنية والقومية. (د)
يتعذر تحديد القول في الوجهة الأخلاقية؛ لأنها مرهونة بالأخلاق الشخصية، إلا أن هناك خطرا عاما لا يستهان به؛ لأنه إذا انصرف الشرقيون إلى التزوج بأجنبيات فمن يتزوج الشرقيات؟! ومن الجور أن تقهر بنات الشرق على عيشة الخلو والوحدة، وقتل عواطف المحبة وبذل الذات في نفوسهن، وأن يحرمن عذوبة الحياة العائلية لتتمتع بها الغربيات على حسابهن، وليس أدعى إلى طرح القيود المحترمة المقبولة من وقوع الظلم والتعسف على امرئ دون أن يجني إثما؛ فقد تتسرب المرارة إلى خلقهن من هذه الناحية فيناهضن محيطهن تمردا، أو مكابرة، أو انتقاما. (2) السؤال:
إذا تزوج مسلم أجنبية مسيحية، فهل يحسن أن تعيش بدينها وعاداتها، أم يرغمها زوجها على تغييرها بالدين الإسلامي والعادات الشرقية وأخصها الحجاب؟
الجواب:
لا أستحسن الإرغام مطلقا، لا سيما فيما يتعلق بالدين، ولا بد أن ينظم الزوجان علاقتهما وفقا لمزاجيهما مع بعض التساهل من الطرفين دفعا للمشاكل والمصاعب. ولا أسوغ الإرغام إلا عند الضرورة القصوى؛ أي إذا ساء سلوك المرأة فسهت عن كرامتها، أو عندما تكون هي في حاجة إلى ذلك. لأن مما لا ريب فيه أن بعض النساء، غربيات كن أم شرقيات، لا تنتظم منهن الحياة إلا إذا عرفت تقودهن يد حاذقة قادرة، بينا أخريات يزددن كرامة وارتفاعا كلما أجيز لهن التصرف بحرية. (3) السؤال:
هل من فائدة للعالم الإسلامي والعمل لوحدته في التزاوج بين المصريين والترك والأفغان والفرس والمغاربة؟
الجواب:
التزاوج بين المصريين المسلمين وغيرهم من الأمم الإسلامية خير ناشر للرابطة الإسلامية، وقد سبق أن المسلمين جنوا فوائد هذا التزاوج أيام الفتوحات؛ إذ كانوا يصاهرون القوم في كل بلد ينزلونها، فلا ينقضي زمن إلا وهم من الأهلين. على نقيض اليونان واللاتين الذين احتلوا البلاد قبلهم، فلم يمتزجوا بالأهالي وظلوا، حتى تقلص ظلهم، الغرباء الممقوتين. على أننا نرى العناصر الإسلامية اليوم غير ميالة إلى التضحية بعنصريتها القومية في سبيل قومية إسلامية كبرى، بل نرى المصري شديد التمسك بمصريته، والتركي بتركيته ... إلخ، وإن هم رغبوا في الوقت نفسه في إيجاد الرابطة الشرقية المعنوية للوقوف في وجه الغرب وصد تياره الجارف. (4) السؤال:
لماذا يكثر التزاوج بين المصريين المسلمين والأجانب المسلمين المستوطنين مصر، ولا نرى أثرا كبيرا لذلك بين أقباط مصر المسيحيين وغيرهم من المسيحيين غير المصريين المقيمين بمصر؟
الجواب:
إن المسيحيين غير المصريين لا يتزوجون عادة إلا بعد الاجتماع والتعارف، بخلاف المسلمين الذين كانوا إلى هذه الأيام يتزوجون بلا سابق معرفة شخصية بين العروسين، وقد غلبت العادات الإسلامية على الأقباط؛ فحالت دون امتزاجهم بالمسيحيين غير المصريين. والمسلمون المصريون يشبهون المسلمين غير المصريين، في الغالب، عادات وأساليب اجتماعية. أما المسيحيون غير المصريين فلهم من العادات وشئون الاجتماع على اختلاف الطبقات ما لم يألفه الأقباط، والشاذ لا يعد قياسا.
وأظن أن الزواج بوجه عام أقرب إلى المسلمين منه إلى المسيحيين؛ بسبب سهولة الطلاق التي تمكن كل رجل وكل امرأة من تنظيم حياتهما على طريقة جديدة في زواج جديد.
نهضة الشرق العربي
رد على استفتاء «الهلال»
السؤال:
هل تعتقدون أن نهضة الأقطار العربية قائمة على أساس وطيد يضمن لها البقاء، أم هو فوران وقتي لا يلبث أن يخمد؟
الجواب:
يتعذر إطلاق حكم شامل على جميع الأقطار العربية، ونحن بعيدون عنها لا نعرف من أحوالها سوى ما تشرحه لنا صحفها وكتبها فضلا عن الأنباء التلغرافية والأخبار السياسية، بيد أنه يمكنني أن أتكلم عن مصر وسوريا، ويظهر أن أحوال البلدان الأخرى أحوالهما مع الاختلاف المحتوم الملاصق بكل قطر.
لكلمة «نهضة» التي نستعملها بمعنى
Renaissance
معنيان اثنان: أحدهما تجدد الأمة في مجموع أحوالها بعامل أو عوامل استفزتها وتغلبت على العوامل الأخرى؛ كالنهضة الأدبية الفنية في أوروبا في القرن الخامس عشر، والنهضة العلمية والآلية في أوروبا وأمريكا في القرن المنصرم وفي هذا القرن العشرين.
أما المعنى الآخر فهو الانتباه لوجوب إحداث التغير، والشعور بابتداء وقوع ذاك التغير. فالتجدد هنا هو التيقظ والرغبة في الأخذ بما أخذ به آخرون، فوسع عندهم مجال الحياة فاستفادوا به وخسروا، وتنعموا وتوجعوا، هو تحفز ومباشرة جميعا. وهذا المعنى من النهضة يتطابق والحالة في مصر وسوريا، بما يتضمنه من: قلق واضطراب، واندفاع ورعونة صبيانية، وإخلاص وارتباك، ونشاط وخطأ وإصابة. وبمثل هذا تبدأ دواما النهضات الحقيقة بهذا الاسم؛ إذ لا طفرة في الحياة، ولا بد لكل نضوج أن يستكمل وقته ونظامه.
أما كون هذه النهضة «قائمة على أساس وطيد» فليس ذلك بالمطلوب؛ إذ لا يحتاج النهوض إلى «أساس» يضمن له البقاء، بل يحتاج إلى «دافع» يسوق ويستحث ويحدو، والدافع موجود؛ ولذلك لن تكون هذه النهضة فورانا وقتيا، بل هي على نقيض ذلك ابتدأت منذ عهد قريب، وستظل في تزايد بتفشي حمى الحياة بين شعوب المسكونة. إن الحضارة العالمية الكبرى تنتقل من شعب إلى شعب خلال الدهور بحركة متموجة؛ تعلو موجتها في أمة فتتجلى مواهب تلك الأمة وتأتي بأقصى ما في إمكانها، ثم تهبط الموجة لتتكون من جديد عند شعب آخر، بينا تتأثر بارتفاعها سائر الشعوب بدرجات متفاوتة.
وكذلك الشرق العربي بعد إجهاد تسعة قرون أدى فيها خدما جليلة إلى العالم، وكان بازدهار مدنيته وانتشارها وصلة بين الماضي والحاضر - عاد فهجع ثلاثة قرون شأن من ينام بعد مجهود كبير ليسترد قواه، وعندما استيقظ وجد نفسه وقد أحاطت به أحوال جديدة تقتضي أساليب جديدة عند من يود مجاراة الآخرين حرا لا عبدا، فنهض الشرق يطالب بكل ما تسوغه الحياة لبنيها النشيطين. ولئن بدت هذه الحركة مشلولة من جهة، كفيفة من الجهة الأخرى، تفتقر إلى الدربة العامة والنظام والتنسيق، فما هذا الاضطراب إلا طبيعي يلازم الخطوات الأولى في جميع دوائر النشاط الإنساني، وسيأتي الزمن والمران والاختبار بالحنكة المطلوبة، والانتظام في مختلف الجوانب.
وأكرر أن «الدافع» موجود في جميع أقطار الشرق بشكل الاحتلال الأجنبي، وهو طبعا صائر من عنيف إلى أعنف بتنور الأذهان والتيقظ لمعنى الحرية، بل لدوي اسمها وحده دون إدراك معناها، ولا قبل لأحد في هذه الأيام إلى مقاومة هذا الصدى الرنان المتفشي في النفوس.
السؤال:
هل تعتقدون بإمكان تضامن هذه الأقطار وتآلفها؟ ومتى؟ وبأي العوامل؟ وما شأن اللغة في ذلك؟
الجواب:
بين هذه الأقطار منذ الآن تآلف ضمني منشأه ذلك «الدافع» المكون من: طلب الحياة الجديدة، ومن كره الاستعمار، والرغبة في دفع سيطرة المستعمرين عن مرافق البلاد وشئونها. فالهزة التي تضرب اليوم في الشرق هزة سياسية، وغريمته هي أوروبا القوية ولية الأمر في الاختراع والصناعة والاقتصاد والمواصلات والحرب وما نحوها، وبديهي أن أوروبا لا تريد هذا التضامن؛ لأنه يناهضها ليسلبها ما هي في جد الاحتياج إليه.
إن ما دفع بأوروبا إلى الهجرة والاستعمار في بادئ الأمر ليس الطمع، بل هو ذلك الباعث الاقتصادي المتلخص في «فقر البيئة بتزايد عدد سكانها». مضت تستغل موارد الثروة الغافل عنها أهلها، فإذا بالسفن تعود إلى البلاد الأوروبية طافحة بالمواد الغذائية، والمواد الغفل التي أنشأت تدير بها رحى الصناعة، ثم توزع الإنتاج على الآفاق فتجني أرباحه. وما زال الغرب، وهو أكبر دار للمعامل والمصانع، يحتاج إلى أن تمده الأقطار الأخرى بنقصه من الثمرات والأقوات والمواد الغفل ليصنع ويربح ويحيا، على ما اعتاد أن يحيا بعد انتشار الاستعمار. فالغرب بالتفريق بين الأقطار الشرقية إنما يدافع عن ثروته وحياته، والشرق المتيقظ يطلب كذلك ثروته وحياته، وسيتتابع الصراع بين الفريقين.
وعلى أي فقد انقضت للمستعمرين أيام الهدوء والهناء، وإذا كان لا بد من التموين وتبادل الإنتاج بين الشعوب فيتحتم أن يختلف نوعه وطريقته بعد الآن. إن العالم كله في عذاب، واضطراب الشرق والغرب سواء بسواء، والمؤتمرات الواحد والعشرون منذ الصلح مهزلة جعلت العالم أشد شعورا بضرورة «تصفية كبرى محسوسة» تعدل فيها المصالح، وتراعى الحقوق، وتنظم المطالب بلا تحفظات ومداورات. والمستقبل وحده يعلم متى تتم تلك «التصفية»، وهل هي تجيء عن طريق الحرب أم السلم.
أما الترابط بين أقطار الشرق العربي فيظل تعاطفا أدبيا، حتى ولو جلا عنه الغرب؛ إذ صار الناس اليوم يطمحون إلى «القوميات» ويرغبون شديدا في الاستقلال ضمن حدود وطنية طبيعية. هذا إلا إذا جاءتنا الأيام ببعض مباغتاتها؛ فكثيرا ما تأتي الأيام بما ليس في الحسبان. أيا كان المستقبل فاللغة العربية خير وسيلة لهذا التعاطف الأدبي والتفاهم المعنوي بين أبناء الشرق.
السؤال:
هل ينبغي للأقطار العربية اقتباس عناصر المدنية الغربية؟ وبأي قدر؟ وعند أي حد يجب أن يقف هذا الاقتباس: (أ) في النظامات السياسية الحديثة. (ب) في الأدب والشعر. (ج) في العادات الاجتماعية. (د) في التربية والتعليم؟
الجواب:
لم تقم إلى الآن في الشرق والغرب والشمال والجنوب سوى مدنية واحدة تعاونت الشعوب، على غير اتفاق، أن تتناوب العمل كل في جانب من جوانبها الموافق طبيعتها، فجاء الساميون بالعنصر اللدني والنبوي، وجاء الآريون (الهنود والفرس) بالفلسفة الباطنية والإلهيات، وجاء اليونان بالفن والفلسفة النظرية، والرومان بالنظام والتشريع والتجنيد والاستعمال، ولما تحضر العرب فعلوا ما فعلته كل من هذه الدول قبلهم؛ أي إنهم جمعوا شتيت ما وجدوا من عناصر المدنية، وسبكوها في قالبهم، وطبعوها بطابعهم، فكانوا وصلة أمينة قيمة بين الماضي والحاضر.
ولما حان الوقت نقلوا قبس الرقي إلى الغرب، فأحسن الغرب تلقي هذه المدنية العظيمة التي تجمعت فيها جهود الدهور، فأنماها من وجهها العلمي والآلي المتفق تمام الاتفاق مع السليقة الغربية، وسار بها شوطا بعيدا.
ولا يعني هذا أن الشرق ليس له مثل ذلك الاستعداد. إن أساس الهندسة، وخد الخنادق، ووضع مبادئ العلوم الفلكية والرياضية، جاء من آشور وبابل، كما كان الفينيقيون أول المستعمرين وأول من سلك البحار، وكما كان المصريون أول شعب وضع الأنظمة ونسق الإدارة.
ولو نظرنا مثلا إلى القانون الساري اليوم في المحاكم المصرية الأهلية (فضلا عن المختلطة)؛ لوجدنا أنه قانون نابوليون معدلا بعض الشيء وفقا لطبيعة البلاد. وقانون نابليون مأخوذ عن قانون يوستنيانس الروماني، وهذا جاء بقانونه من القانون اليوناني بعد تأثره بالمذهب الرواقي، والرواقيون واليونان جاءوا بأنظمتهم بعد تخليص الفرس وغيرهم من القانون المصري القديم؛ وهكذا لم يستنبط أولئك شيئا ، وإن نحن نعتنا الأشياء مجازا بأسماء الشعوب التي نأخذها عنها.
الاقتباس تبادل بين الأمم على مرور الدهور، وبينا يأتينا الأجانب يشيدون في بلادنا مدارس وجامعات يخرجون فيها ناشئتنا على أساليبهم في التربية والتعليم، ترى مثلا وزير الزراعة الأميريكية يخابر وزير الزراعة المصرية مستعلما عن طريقة زراعة القطن، وعن طريقة صيانته من الحشرات في وادي النيل، ليستعين بهذه المعلومات على تحسين زراعة القطن في البلاد الأمريكية.
هذا، فإن قمنا اليوم نزاور من أوروبا الأنظمة السياسية، والمنافع العلمية، والأساليب العمرانية والآلية والتجارية، وكل ما تبديه من نشاط حيوي جميل يشعرنا في الإنسان بفتوة وذكاء عظيمين. لو أعرضنا عن هذه المدنية الغربية، أو بالحري عن هذا المظهر الأوروبي والأمريكي من المدنية العالمية الكبرى، فإلى أي مظهر نتوجه وبأي الأساليب نأخذ؟ وإذا صمننا على أن لا نرى في المدنية إلا ما يزعجنا من ضلال وشطط فما نحن إلا ناسون أن هذا وجه الضعف البشري الذي وجد في جميع العصور، ولكن بأساليب مختلفة. وإذا انقطعنا عن حركة الحياة سجلنا على نفوسنا البله ونحن أذكياء، والخمول ونحن ناهضون، ولا يبقى لنا سوى ركوب الأظعان في البيداء، والسكنى تحت بيوت الشعر، والحداء الشجي في الليالي القمراء، والرقص بالسيف والترس.
لا أقول: إن هذه العيشة البدوية غير جميلة؛ إن فيها لهناء وراحة ونبلا، ولكن بشر أهلها باكتساح عاجل أو آجل؛ لأن الحياة تتأجج حواليها، وأصوات الآلات تهدر محلقة فوقها وعلى مقربة منها. إن الأرض تضيق بساكنيها، وحمى العمل تدوخ الشعوب، والأمكنة الصالحة الغنية مطلوبة لا غنى عنها، وللنشيط حق عليها؛ لأن نظام «الحق للقوة» نافذ في الطبيعة وليس هو من ابتكار المستبدين، فإن لم يكن أهل البلاد أقوياء عارفين بالطرق الحديثة مجارين حركة العالم اكتسحوا واستعبدوا، ونفذ فيهم قانون تغلب الأصلح.
في الأقطار العربية شخصية الماضي الذي لا بد أن تتكئ على بعضه دون أن يعارضنا في اكتساب ما يعود علينا بالحياة والحرية. عندنا عادات جميلة ووراثة أثيرة تحسن المحافظة عليها، غير أنها لا تكفينا، ليتغن بها الشعراء ولينشدها المنشدون ولينح عليها محبو الندب والنواح، ولكن مهماز الحياة وراءنا، واقتباس المحتوم لا يغض من كرامة الأمم؛ لأنها مركبة من روح وجسد، فشعرها وفلسفتها وفنونها وآلهياتها وأديانها وتذكاراتها الثمينة كل هذا بمثابة غذاء الروح، أما الحياة المدنية منها، الحياة الحسوسة، فلها أساليبها الآلية والمالية والاقتصادية والاجتماعية، وإلا فالغلبة والاستعباد. ولئن تحتم حمل القيود، فقيود يصيغها المرء لنفسه خير من قيود تربطه بها الأيادي الغريبة.
أما الأنظمة السياسية فلا «ينبغي» أن نقتبسها، بل تقودنا الحاجة إليها شيئا فشيئا، وتوحي إلينا الضرورة بما يحسن اقتباسه منها في صور مناسبة لحاجتنا. وهذا ما جرى لتركيا التي حورت نظامها السياسي ثلاث مرات في 15 سنة؛ فقد أوحت إليها الأحوال بحاجتها وبما تظنه حسن العائدة عليها، وهذا ما يجري لجميع الأمم، كما فاجأت الأحوال مصرا بحركتها الوطنية التي لم تكن في الحسبان قبل شهور أو أسابيع.
والأنظمة السياسية والاجتماعية أبدا في تفاعل، وهذا من بواعث التجدد في الآداب؛ لأن الآداب وإن كانت ترجمان عواطف راسخة في الأفراد، فإن لغة هذا الترجمان وأسلوبه يختلفان باختلاف العصور والبيئات والأحوال. ولا غنى لنا عن الآداب الغربية، وليس اطلاعنا عليها اقتباسا، بل هو تعرفا بالعالم واستيحاء. فلماذا يستوحي المصادر العربية دانتي مثلا، ويظل أدبه إيطاليا؟ ويستوحي كبار شعراء الفرنسيس في القرن السابع عشر الآداب الإسبانية والعربية والإنجليزية واليونانية واللاتينية فيظل أدبهم فرنسويا، فلا ننتفع نحن بما هو جائز للآخرين؟ إن الانحصار في موضوع واحد يضيق الفكر ويحمل على الغرور، ولا بد من اختلاف أنماط الأدب في اللغة الواحدة والوسط الواحد؛ لأن شاعر القصور لا يمكن أن يكون شاعر الأكواخ، والعكس بالعكس، وإن كان لكل شاعريته وعاطفته ومنفعته وصيحته وأثره في جماعته.
أما في التربية والتعليم، فحاجتنا إلى الأساليب التي تعرفنا ببلادنا أولا وموقفها وشأنها، وتربي على الاستقلال والرجولة والنشاط والاتكال على النفس، وتدفع رجالنا عن الوظائف الحكومية إلى الأعمال الحرة والعناية بتجارة البلاد وزراعتها ومنتوجاتها واستغلال مواردها. ولا خوف أن يخنق هذا المنهج العملي مقدرة الابتكار في الشرقيين، فما الابتكار إلا من خصائص الأفراد الأفذاذ من كل أمة مهما عظم شأنها ، وهؤلاء يظلون فوق المناهج الدراسية والأنظمة، لا يتقيدون بمكان ولا زمان. أما الأكثرية الساحقة فهي المقلدة المسيرة، المحتاجة إلى حياة محددة معروفة السبل يسير فيها الجميع على السواء.
للأفراد أن يعتزلوا وينقطعوا ويرغبوا في حياة العزلة (ولو سألتهم عن هذه الحياة لما أحسنوا تعريفها، ولا تجردوا فيها من مبتكرات المدنية وحاجتهم إلى أبسط آلاتها ومنافعها). على أن ذلك الانقطاع لا يحيي الأمم، وقد تجوز الراحة لمن جاهد كثيرا، ولكنها لا تجوز لأمة ما زالت تفتح عينيها لليقظة وتتحفز للنهوض؛ فالأمة صورة مصغرة من الإنسانية، والإنسانية مستودع جميع النزعات والكفاءات والعبقريات والمقدرات؛ فالمظهر العلمي الآلي في الإنسانية عبقرية بديعة مدهشة. وإن كان لهذه الحضارة عيوبها، فأي حضارة، وأية حال إنسانية تخلو من العيوب؟ ومصالح الأوطان والشعوب هي غير مصالح الرهبان في الأديار، وشيوخ الطرق في التكايا، وأغراضها القاسية غير أغراض الفلاسفة والزهاد في الصوامع.
تتحتم إذن تنشئة مختلف القوى في جميع أفراد الأمة والاستفادة بكل تجدد في العالم، ويتيسر تلافي عيوب العصر ما أمكن بالمحافظة على ما في وراثتنا من حميد الأخلاق، فلنحافظ على كل جمال شرقي، ولنروج كل فن شرقي، ولنعتز بلغتنا الشرقية دون أن نغض الطرف عما يقدمه لنا الغرب من جمال وفن ونظام وابتكار، وليس في ذلك القضاء على شخصيتنا؛ فالشخصيات «الذكية» تنمو وتتسع وتغنى ولا تفنى، والحياة وكل ما في الحياة حب؛ أي تبادل في الأخذ والعطاء، والإنسان في العالم وارث ملك لا تحده حدود الأقاليم، ثم يترك الإرث لمن يليه بعد أن يضيف إليه عمله الفردي؛ فالإعراض بلاهة وسجن تضييق، وتحديد الحياة حرمان ومجازفة وعبودية.
لقد أعطى الشرق الغرب أديانا وأخلاقا وفلسفة إلهية وأنبياء وإلها، فتلقاها الغرب شاكرا وارتقى بها. أفيخجلنا أن ننتفع باختباراته الدنيوية وعلمه والدنيا دنيا الجميع كما أن الخالق إله الجميع؟
Page inconnue