وتعال معي يا سيدي فانظر عن يمين، ثم انظر عن شمال، واسمع لما يأتيك من هذا الوجه، ثم اسمع لما يبلغك من ذلك الوجه، ثم حدثني أو حدث الناس بما ترى وما تسمع إن استطعت أن تخلص للحديث، فإني أخشى أن ترى من ملكهم الحزن فتحزن، أو ترى من ملكهم الضحك فتغرق معهم فيما هم مغرقون فيه.
انظر يا سيدي إلى يمين، فسترى أصحاب الجاه الرفيع والعز المنيع والسلطان الواسع والصوت البعيد قد ردوا إلى حياة لو أنها برئت من الجاه والعز، وخلت من سعة السلطان وبعد الصوت لكانت على أصحابها شرا ونكرا، ولكنها امتلأت بالعبر التي جعلتها نكالا لما بين يديها وما خلفها، وعظة لمن يستطيع أن يتعظ، ودرسا لمن يحسن أن يفهم عن الأيام ما تلقي من دروس.
انظر يا سيدي عن يمين ؛ فسترى الإبراشي باشا كاسف البال، ضيق الصدر، شاحب الوجه، مقطب الجبين، مخفوض الرأس، مقوس الظهر، مطبق الفم، معقود اللسان، وسترى من حوله الغرور وبنات الغرور، ثم اليقظة وبنات اليقظة، وهن يتراقصن ويتبادلن فيما بينهن أحاديث عنيفة لينة فيها حزن ويأس، وفيها سخرية ودعابة، والرجل بين هؤلاء الراقصات يقظان كالنائم، ونائم كاليقظان، قد زلزلت به الأرض زلزالا شديدا، لم يتصل ولم يطل أمده، ولكن الأرض على ذلك ما زالت تدور به وتضطرب من تحته، حتى أصبح لا يملك قدرة على أن يحقق شيئا أو يثبت في نفسه شيئا، أو يفكر في شيء، أو يقدر شيئا، إنما هو داخل مأخوذ يرى هؤلاء الراقصات يضطربن من حوله، بعضهن ينتحبن ويبعثن في الجو نشيجا وزفيرا، وبعضهن يضحكن ويبعثن في الجو صياحا متصلا، فيه الرضى وفيه الابتهاج، وفيه السخر من طغيان الطغاة والاستهزاء بظلم الظالمين، والاستخفاف بهذه الآمال العذاب الكذاب، التي تملأ الإنسان غرورا وجهلا وحمقا وثقة بالنفس واطمئنانا إلى الأيام، والرجل يرى ولا يحقق، والرجل يسمع ولا يفهم، والرجل قد أخذه هذا الذهول، حتى إنه ليود لو استطاع أن ينهض فيرقص مع هؤلاء الراقصات المحزونات، أو يدور مع هؤلاء الدائرات المبتهجات؛ ولكنه واهن، خائر القوى، منهوك الجسم كما أنه منهوك العقل، قد سكن هو واضطرب من حوله كل شيء، بل سكن جسمه واضطرب في نفسه وعقله وقلبه وجوفه كل شيء.
ثم انظر يا سيدي وأبعد النظر قليلا؛ فسترى رجلا آخر قد تقدمت به السن بعض الشيء، وأرسلت على صدره لحيته إرسالا، ودارت على رأسه خرقة بيضاء ... هو جاثم في مكانه يهم أن يقول فلا يستطيع أن يقول، يهم أن يعمل فلا يستطيع أن يعمل، يهم أن يفكر فلا يستطيع أن يفكر، وإنما أخذت عليه طرق القول والعمل والتفكير أشباح لا تنقطع تمر أمامه متتابعة، وهو يراها تخرج من مكانها لا يستطيع لها ردا، ولا يملك منها مهربا، ولا يبلغ لها إحصاء، يرى كأن الأرض تمر أمامه مرا، ولا يمر منها جزء إلا انفتح فيه قبر، وخرج من هذا القبر شبح أو أشباح، وهو لا يدري ما خطب هذه الأشباح التي تطيف به، وتدور من حوله، وتنشق له عنها الأرض، وتنفتح له عنها القبور، وهو يكاد يصيح لو استطاع الصياح، ويكاد يسأل لو أطاق السؤال، ولكن هاتفا يهتف به: أرح نفسك من السؤال والصياح؛ فإنما أنت رجل تحب القبور وزيارة القبور، وأنت رجل محزون مكدود، لا تستطيع أن تسعى إليها زائرا ولا عاتبا ولا متوسلا ولا مستعطفا، فهي تسعى إليك، وهي تلم بك وتقف عندك، وهي تقرأ ما في نفسك، وتفهم ما في قلبك، وكم تحب أن تجيبك إلى ما تبتغي، وتعينك على ما تريد، لولا أن القبور لا تملك للناس نفعا ولا ضرا، ولا تغني عنهم من الله شيئا.
لقد ألممت بالقبور إلماما في إثر إلمام، وأطلت عند القبور مقاما في إثر مقام، فانظر لهذه القبور تلم بك، وتقيم عندك. ولقد وقفت عند القبور فهمهمت ودمدمت وزمزمت وتمتمت، فاسمع لهذه الأشباح التي تنشق لك عنها القبور، إنها من حولك تهمهم وتدمدم وتزمزم وتتمتم، ولقد ضاعت جهودك عند القبور، وجهود القبور ضائعة عندك، لم تحفظ عليك قوتك حين كنت قويا، ولم ترد عنك ضعفك حين أصبحت ضعيفا، الله وحده هو الذي يحفظ القوة على الأقوياء، ويرد الضعف عن الضعفاء، ولكنه قد قضى ألا يحفظ قوة على قوي، ولا يرد ضعفا عن ضعيف، حتى يخلص له قلبه ونيته وقوله وعمله، فليتك أخذت من بعض هذا بحظ، فيغني عنك الآن حين لا يغني أحد ولا شيء عنك من الله شيئا. والرجل يرى، والرجل يسمع، والرجل لا يحقق ما يرى ولا يفهم ما يسمع، وإنما هو قلب مضطرب، وعقل مختلط، ونفس مفرقة، وخواطر مشردة، وعبرة للمعتبرين، وعظة للمتعظين.
وأبعد نظرك يا سيدي قليلا، فسترى أشباحا ضئيلة نحيلة شاحبة ذائبة أو كالذائبة تذهب وتجيء، تقول وتعمل، تتصرف تصرف الأحياء؛ وليست من الحياة في شيء، إنما هي حياة كالموت، أو موت قد ترددت فيه أنفاس من حياة، وأطل النظر إلى هذه الأشباح الذاهبة الجائية الرائحة الغادية، فستتبين بعد الجهد والعناء أشخاصها، وستعلم أنها أشخاص قوم كان إليهم الحول والطول، وكان في أيديهم الحل والعقد، كانوا وزراء يأمرون وينهون، يرفعون ويخفضون، يذلون ويعزون، يبسطون الرزق لمن يشاءون، ويكفون الرزق عمن يشاءون، يقضون بأهوائهم فيما لا ينبغي أن يقضى فيه إلا بأحكام الدستور والقانون، ولكنهم ألغوا الدستور وأهدروا القانون، واتخذوا من أهوائهم وشهواتهم نظما تقوم مقام الدستور والقانون.
انظر إليهم يا سيدي أين هم وسلهم، أو سل عنهم يا سيدي، ما خطبهم وماذا يصنعون؟ لقد لفظتهم الأرض ونبذهم الناس، وانصرف عنهم أشد الناس إلحاحا عليهم وحبا لهم وتهالكا على تملقهم، تحدث إليهم يا سيدي إن استطعت، فلن تسمع منهم إلا ما يصور الضغينة والحقد، والموجدة والبغض، واليأس والقنوط، والتحرق على ما مضى، والتشوق إلى ما لا سبيل إليه، وصل إلى ضمائرهم إن استطعت الوصول إليها؛ فلن ترى فيها ندما، ولا أملا، ولا استغفارا، ولا اعتذارا، ولا توبة، ولا نزوعا إلى التوبة، إنما هو الحزن اللاذع على نعيم مضى، وانتهاز الفرصة وتربص الدوائر وملاطفة الأحلام، لما قد تتكشف عنه الأيام من نعيم تتقطع دونه الأعناق، وتتمزق دونه القلوب.
وألق نظرة واسعة عريضة يا سيدي إلى هذه الأشخاص الذابلة الناحلة التي تدب على الأرض دبيب النمل، لم يدركها الموت المهلك، ولم يبلغها اليأس المريح، وإنما هي عاملة جادة، تملقت أولئك حتى ذهب عنهم السلطان، وهي تنتهز الفرصة لتتملق هؤلاء ما أقبل عليهم السلطان، تريد أن تملأ بطونا لا تمتلئ، وأن تفعم جيوبا لا تفعم، وأن تصيب من لذات الحياة ما تبيع في سبيله القلوب والعقول، والشرف والكرامة، والضمائر والأخلاق. انظر، إنهم كثيرون، كانوا شياطين مردة، فأصبحوا اليوم ملائكة أطهارا، ينتظرون أن تتيح لهم الظروف خلع أجنحة الملائكة والدخول في أثواب الشياطين. انظر واسمع، ولكني أراك محزونا أسفا كئيبا، قد ضاقت نفسك بما ترى وما تسمع، وقد صغر في نفسك كثير من المعاني والخصال التي لم تكن تحب أن تراها صغيرة ولا حقيرة ولا متضائلة . قد ثقل عليك الجد فلا بأس عليك، أرح نفسك من الجد وتحول إلى شمال فانظر واسمع، وحدثني عما ترى وما تسمع.
وانظر غير بعيد إلى التقاليد؛ فسترى منظرا عجيبا، وستسمع أغاني أقل ما توصف به أنها مضطربة مضحكة مسلية لذيذة، أشد إثارة للذة وإبهاجا للنفس من أغنية السواقي السبع التي يتغنى بها الشباب في بعض الأحياء الوطنية، ومن يتغنى السواقي السبع ويردد أنغامها الحلوة وألحانها الشجية إذا لم تتغن بها التقاليد، وما أدراك ما التقاليد! انظر إليها فلن يثوب نظرك إليك، ولن ينقضي عجبك مما ترى.
هذا رجل ضخم فخم، طويل عريض، غليظ الوجه، واسع الشدقين، عظيم الأنف، عذب الصوت، حلو الغناء، يا له من صوت، ويا له من غناء، استمع إن كنت تحب الطرب، واعجب إن كنت تريد العجب، ألا ترى إلى هذه الأشياء الكثيرة المنتشرة المختلفة المتنوعة التي تضطرب من حوله، بعضها يرقص وبعضها يدور، بعضها يقفز في الجو، وبعضها يثب في الهواء؟!
Page inconnue