وعلى هذا النحو تستطيع أن تفهم سعي الساعين بين رجال السياسة والأدب والاقتصاد والمال، وكيد الكائدين لهم، ومكر الماكرين بهم، وتحبب المتحببين إليهم، وتهالك المتهالكين عليهم، وتملق الذين يبتغون إليهم الوسائل ويمدون إليهم الأسباب ... ورجال السياسة والأدب والاقتصاد والمال يفرحون بهذا كله ويبتهجون له: يرونه آية من آيات المجد، ومظهرا من مظاهر الجاه، ودليلا من أدلة التفوق والامتياز، ولكنهم لا يطلعون ولا يرون تلك الأفواه البشعة التي تنفجر عن ضحك مروع بشع، يتلهى به اللاعبون من شياطين الجن والإنس جميعا! •••
فمن يبلغ المؤمنين بأنفسهم والراضين عنها، والمطمئنين إلى ما تتيح لهم الظروف من تفوق طارئ وامتياز عارض وتسلط موقوت، والمغرورين بما ينظم لهم من عقود المدح، وما يدبج من فنون الثناء، والمستيقنين لأن الأيام أقبلت عليهم أنها لن تدبر عنهم، من يبلغ هؤلاء من رجال السياسة والأدب، والاقتصاد والمال أن الدنيا توكل بالناس - وبالضعاف منهم خاصة - شياطين الإنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، وأن الذين ينظمون لهم عقود المدح، ويجبرون لهم فنون الثناء لا يكاد يخلو بعضهم إلى بعض، ولا يكاد كل واحد منهم يخلو إلى نفسه حتى يسخروا من عقود المدح التي نظموها، ومن حلل الثناء التي نسجوها، ومن الذين حلوا أجيادهم بتلك العقود، وزينوا أعطافهم بهذه الحلل؟!
ومن يبلغ المغرورين والمفتونين من رجال السياسة والأدب والاقتصاد والمال أن الأيام تقبل لتدبر، وتدبر لتقبل، وأن الرجل الأديب الأريب والحازم الرشيد هو الذي يضن بنفسه على أن يكون كرة تتقاذفها وتعبث بها شياطين الإنس والجن، وإنما يقبل على الحياة جادا في العمل، مؤمنا بالحق، ساعيا إلى الخير، متواضعا لا يزدهيه الغرور، واثقا لا تنال منه الفتن والمحن، مستذكرا دائما أن الله قد وعظ الناس فأحسن وعظهم حين قال:
واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا * المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا .
1948
جوع وأحاديث
لا يغضب المواطنون الأعزاء أن نشق عليهم في القول ونعنف بهم في الحديث، فقد يجب أن يقال الحق وإن لم يبلغ من نفوسهم موضع الرضا، وقد يجب أن يقال الحق وإن بلغ من نفوسهم موضع الغضب، وأثار في قلوبهم موجدة وغيظا، والمواطنون الأعزاء قد تعودوا أن يكال لهم المدح كيلا، ويهال عليهم الثناء هيلا، حتى رضوا عن أنفسهم أعظم الرضا، وسخطوا على غيرهم أشد السخط، وناموا ملء جفونهم والأحداث لا تنام، وعاشوا ساهين لاهين تتخطفهم النوائب، وتعبث بهم الخطوب، فلا يغير ذلك من رأيهم في أنفسهم وحياتهم شيئا؛ لأنهم قد ألفوا الرضا عن أنفسهم، والاطمئنان إلى حياتهم، فأصبح من أعسر العسر أن نخرجهم من هذا الرضا أو نزعجهم عن هذا الاطمئنان ... ولا بد مع ذلك من أن يبصروا بحقائق الأمر، ومن أن يخرجوا من رضاهم ويزعجوا عن اطمئنانهم، ويعلموا أنهم يعيشون أبغض العيش، ويحيون أبشع الحياة، وأن هذا المثل العربي القديم الذي اتخذته عنوانا لهذا الحديث لم يوضع إلا لهم، ولم يضرب إلا فيهم، ولم يصور إلا ما دأبوا عليه وتورطوا فيه من كلام كثير لا يغني، وعمل قليل لا يفيد!
ولعل المواطنين الأعزاء قد فطنوا ليومين من أيام الأسبوع الماضي كان أحدهما عيد الجهاد، والآخر عيد الهجرة. وكان من قبلهما يوم له في حياتهم خطره الخطير، وشأنه العظيم؛ وهو يوم افتتاح البرلمان.
ولعل المواطنين الأعزاء، قد لاحظوا أن هذه الأيام الثلاثة قد انقضت كما تنقضي غيرها من أيامهم المتصلة التي يتبع بعضها بعضا، ويشبه بعضها بعضا كما تشبه قطرة الماء، حتى كأن أيامهم على اختلافها وتعاقبها يوم واحد.
ومضت هذه الأيام الثلاثة كما يمضي غيرها من أيامهم: كلام كثير، وعمل قليل، واضطراب في غير حركة، ونشاط في غير إنتاج، وجعجعة في غير طحن، ورضا بعد ذلك عن النفس، واطمئنان بعد ذلك إلى هذه الحياة المطردة المملة، التي لا تنفع الناس ولا تنفع أصحابها، والتي لا تغني عن الناس ولا عن أصحابها شيئا! •••
Page inconnue