والوزير والرئيس موظفان آخر الأمر كغيرهما من المرءوسين؛ كلهم خادم مأجور للدولة، وقد أراد النظام - لأن المصلحة العامة أرادت - أن يكون بعض هؤلاء الموظفين رؤساء يديرون ويأمرون، وأن يكون بعضهم مرءوسين ينفذون ويطيعون ... يجري هذا كله طبقا لعقد مقرر نظمه الدستور ونظمته القوانين بينهم وبين الدولة، لا بينهم وبين هذا الفرد أو ذاك، ولا بينهم وبين هذا الحزب أو ذاك، ولا بينهم وبين هذه الوزارة أو تلك.
هذه كلها أوليات يتعلمها الصبية في دروس التربية الوطنية، ويتعلمها الشباب فيما يسمعون من أساتذتهم في المدارس الثانوية ومعاهد التعليم العالي.
ولكن العلم الذي يلقى في الدروس شيء؛ والعمل الذي تجري عليه الحياة اليومية شيء آخر في مصر ... كما أن الحقوق والواجبات التي تقررها النظم والقوانين المكتوبة شيء، والحياة العملية اليومية شيء آخر في مصر ... وإني لأذكر يوما من الأيام أشيع فيه أن في مصر أزمة وزارية حادة، وأن الوزارة توشك أن تقال أو تستقيل، وأن حزبا آخر سينهض بأعباء الحكم بعد إقالة الوزارة أو استقالتها.
شاع هذا في الصباح مع الصحف التي تلقى الناس حين يخرجون من دورهم، أو تقتحم عليهم هذه الدور قبل أن يخرجوا منها. وأقبل الموظفون على مكاتبهم في وزارة من الوزارات لا يتحدثون إلا في هذه الإشاعة، يذكرون الوزارة المضطربة منكرين لها، ساخطين عليها، ويذكرون الوزارة المنتظرة مكبرين لها راضين عنها كل الرضى، تجري بهذا كله ألسنتهم وتنطق به وجوههم، فأما قلوبهم وضمائرهم فعلمها عند الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور! ثم ارتفع الضحى، وكانت هناك غرفة لا يخف حولها ازدحام الزائرين والقاصدين والموظفين لحظة من نهار، وأخرى تقع منها غير بعيد لا يزورها الناس إلا لماما، فلما ارتفع الضحى من ذلك اليوم فرغت الغرفة الأولى وفرغ ما حولها من الفضاء فلم يطرقها طارق ، ولم يلم بها أحد، واستراح التليفون فيها وأراح، وتحول التيار العنيف من الزائرين والقاصدين والموظفين إلى الغرفة المجاورة.
وضحك صاحب الغرفة الأولى فيما بينه وبين نفسه رثاء لهؤلاء الناس، وضحك صاحب الغرفة الثانية فيما بينه وبين نفسه سخرية من هؤلاء الناس. ثم أقبل المساء وحملت الصحف إلى الناس أن الوزارة باقية في مناصبها، وأن الأزمة قد حلت أو أرجئت، فلما كان الغد عاد التيار إلى مجراه الأول؛ فازدحم الفضاء حول الغرفة الأولى، وخلا حول الغرفة الثانية خلوا مخيفا. وضحك صاحب الغرفة الأولى فيما بينه وبين نفسه ساخرا من هؤلاء الناس، وضحك صاحب الغرفة الثانية فيما بينه وبين نفسه راثيا لهؤلاء الناس!
وكل وزارة صائرة إلى الأزمة مهما تعمر، وكل حزب سياسي ذي خطر ناهض بأعباء الحكم ذات يوم مهما يبعد عن الحكم. فإذا خضع الموظفون لهذا الخوف وأصبحوا كالقربة التي تمخض بغير انقطاع، وتهز هزا عنيفا متصلا في غير راحة ولا أناة ولا سكون؛ فأخلق بهم أن ينصرفوا إلى غير أعمالهم، وأن يشغلوا بغير ما يؤجرون عليه من العمل، وأن يعنوا بغير ما تفرض عليهم النظم والقوانين أن يعنوا به من الأمر.
ذلك إلى أن الرجل الديمقراطي بالطبع، الحر بالفطرة؛ لا ينبغي أن يهز ولا يمخض لسقوط وزارة ونهوض وزارة أخرى، ولعزل رئيس وتولية رئيس آخر ... وإثم هذا كله ليس على الموظفين، وإنما هو على الوزراء والرؤساء الذين يتجاوزون حدودهم، ويطلبون إلى الموظفين بالإشارة الدالة وبالقول الصريح أكثر مما يبيح لهم القانون أن يطلبوا منهم. وفي الأمر ما هو أشد من ذلك خطرا وأعظم منه نكرا، فالموظف قد ألف من الوزراء والرؤساء أن يخاصم من يخاصمون، ويوالي من يوالون، حتى أصبح يرى ذلك واجبا عليه، وحتى أصبح يرى رزقه معرضا للخطر إن خاصم وليا للوزير، أو وفى لخصم من خصوم الوزير. وكذلك تفسد الطبيعة الديمقراطية والفطرة الحرة ... وكذلك تفسد الصلات بين الناس، ويقوم الكذب والنفاق والقطيعة مقام الصدق والإخلاص والتواصل. وكذلك تضيع مصالح الناس ومنافعهم؛ لأن الموظفين مضطرون إلى أن يرعوا في خدمة هذه المصالح والمنافع أهواء الوزراء والرؤساء؛ لا أصول الحق والعدل والقانون، وكذلك تهدر الكرامة والعزة، ويصبح الموظف عبدا للوزير وخادما للرئيس، لا يملك من أمر نفسه شيئا، وقد استقر في قلبه خطأ أو صوابا أنه موظف عند الوزير والرئيس، لا عند الدولة التي هي فوق الوزير والرئيس ... وكذلك تقوم حياة الموظفين على الخوف أن يقطع الرزق ذات صباح أو ذات مساء!
ولست أعرف شيئا يفسد الأخلاق ويملأ الحياة العامة شرا ونكرا كالخوف، ولست أعرف شيئا يصلح الأخلاق ويملأ الحياة العامة والخاصة خيرا وعرفا كالأمن ... فهل من سبيل إلى أن تعصم قلوب الموظفين من الخوف، وتطمئن نفوسهم إلى الأمن لتقوم حياتهم وصلاتهم على ما تقتضيه الطبيعة الديمقراطية والفطرة الحرة من الصدق والإخلاص والوفاء ورعاية الكرامة والارتفاع عما يذل ويهين؟!
1947
النفوس القلقة
Page inconnue