فقالت متنهدة بصوت مسموع كأن السؤال حرك أشجانها: الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، ربنا يلطف بنا جميعا.
فهز السيد رأسه كالآسف وتمتم: ربنا يأخذ بيده ويمنحه الصبر والعافية.
وأعقب حديث المجاملات صمت قصير، فأخذت السيدة تتهيأ للحديث الجدي الذي جاءت من أجله كما يتهيأ المطرب للغناء بعد الفراغ من عزف المقدمة الموسيقية على حين غض السيد بصره تحشما تاركا على شفتيه ابتسامة لتعلن ترحيبه بالحديث المنتظر: يا سيد أحمد، أنت في المروءة مثل يضرب في الحي كله، فلن يخيب رجاء لمن يقصدك مستشفعا مروءتك.
فتمتم السيد بصوت حيي وهو يتساءل في نفسه: «ترى ما وراء هذا كله؟!»: أستغفر الله. - المسألة أنني جئت الساعة لأزور أختي ست أم فهمي، فما هالني إلا أن أعلم بأنها ليست موجودة في بيتها وأنك غاضب عليها!
وأمسكت المرأة لتسبر أثر كلامها ولتسمع رأي السيد فيه، ولكنه لاذ بالصمت كأنه لا يجد ما يقوله، ومع أنه شعر بعدم ارتياح إلى فتح هذا الموضوع، إلا أن ابتسامة الترحيب ظلت معلقة بشفتيه. - هل توجد ست أكمل من ست أم فهمي؟! ست العقل والحياء، جارة عشرين عاما وأكثر، لم نسمع خلالها منها إلا ما يسر الخاطر، فما عسى يمكن أن تجني مما تستحق عليه غضب رجل عادل مثلك؟!
فثابر السيد على صمته متجاهلا تساؤلها، ثم دارت برأسه خواطر زادت من عدم ارتياحه ... ترى أجاءت زيارة المرأة للبيت اتفاقا أم أنها استدعيت بتدبير مدبر؟! خديجة؟ عائشة؟ أمينة نفسها؟ إنهم لا يملون الدفاع عن أمهم، هل ينسى كيف تجرأ كمال على الصراخ في وجهه مطالبا بعودة أمه، الأمر الذي عرضه فيما بعد لعلقة ساخنة تطاير بخارها من يافوخه؟! - يا لها من سيدة طيبة لا تستأهل عقابا ... ويا لك من سيد كريم لا يليق به العنف، ولكنه الشيطان اللعين أخزاه الله وما أجدر نبلك بإفساد كيده.
وشعر عند ذاك بأن الصمت غدا أثقل من أن يحتمل مجاملة للزائرة، فتمتم قائلا باقتضاب متعمد: ربنا يصلح الحال.
فقالت أم مريم بحماس متشجعة بما أصابت من نجاح في استدراجه إلى الكلام: لشد ما يعز علي أن تترك جارتنا الطيبة بيتها بعد ذاك العمر الطويل من الستر والكرامة. - ستعود المياه إلى مجاريها، ولكن لكل شيء ميعاد. - أنت أخي، بل أعز من الأخ، ولن أزيد على هذا كلمة واحدة!
جد جديد من الأمر لم يغب عن وعيه اليقظ، فسجله كما يسجل المرصد الزلزال البعيد مهما تدق حركته. خيل إليه وهي تقول: «أنت أخي» أن صوتها رق وعذب، فلما قالت: «بل أعز من الأخ» جهر الصوت بحنان دافئ نشر في الجو المحتشم نفحة طيبة، فتعجب وتساءل، ولم يعد يطيق غض بصره على الشك، فرفعه مستأنيا .. واسترق إلى وجهها النظر - فوجدها - على غير ما توقع - تتطلع إليه بعينيها الدعجاوين، فجاش صدره وخفض بصره مستعجلا بين الدهشة والحرج، ثم قال مواصلا الحديث كي يغطي على تأثره: أشكرك على ما أوليتني من أخوة.
وعاد يتساءل ترى أكانت تتطلع إليه هكذا طوال الحديث أم صادف رفع بصره إليها تطلعها إليه؟ وما القول في أنها لم تغض بصرها عند التقاء العينين؟ ولكنه سرعان ما هزأ بأفكاره قائلا لنفسه إن ولعه بالنساء وخبرته بمعاشرتهن أرهفا حاسة سوء الظن بهن عنده، وإن الحقيقة بلا ريب أبعد ما تكون عن تصوره، أو لعل المرأة من النساء اللاتي يفضن الحنان طبعا وسجية فيظنه من لا يعرفهن غزلا وما هو بالغزل، ولكي يتحقق من صدق رأيه - لأنه لم تزل ثمة حاجة إلى التحقيق - رفع بصره مرة أخرى، فما هاله إلا أن يراها رانية إليه، فتشجع هذه المرة وثبت عليها عينيه قليلا، فلم تزل ترنو إليه باستسلام جسور حتى غض بصره في حيرة شاملة، وعند ذاك لاحقه صوتها الناعم وهو يقول: سأرى بعد هذا الرجاء ما إذا كنت حقا أثيرة عندك.
Page inconnue