فقال وهو يبتسم: ما أرق ممانعتك، زيديني منها!
ولكنها أبدت شيئا من المقاومة عند مدخل الحجرة قائلة: عيب يا سيدي ... (ثم كالمحذرة) الحجرة ملأى بالبق.
فدفعها وهو يهمس في قفاها: أنام على العقارب من أجلك يا نور.
جارية، هكذا بدت بأدق ما تحمل هذه الكلمة من معان، وقفت مستسلمة بين يديه في الظلام، فوضع شفتيه على شفتيها، وقبلها بحرقة وتشوق وهي ساكنة مستسلمة كأنها تشاهد منظرا لا دور لها فيه، حتى قال لها بانفعال: «قبليني»، ثم أعاد لصق شفتيه بشفتيها وقبل فقبلته! ثم طلب إليها أن تجلس فرددت قولها: «عيب يا سيدي» الذي بدا مضحكا من ابتذاله على وتيرة واحدة، فأجلسها بنفسه فاستجابت بلا ممانعة، وما لبث أن وجد لذة جديدة في ترددها بين السلبية والإذعان، فجد في طلب المزيد منه، وتتابعت الممانعة اللفظية والإذعان الفعلي فنسي الزمن، ثم خيل إليه أن الظلام من حوله يتحرك، أو أن مخلوقات غريبة في طياته تتراقص، ربما الجهد أصابه من طول ما لبث إن كان طال لبثه، فإنه على وجه اليقين لا يدري كم لبث، أو لعلها التيارات المتوقدة المتلاطمة في رأسه تولد من ارتطامها في بصره أنوار وهمية، ولكن مهلا، إن جدران الحجرة تتماوج، ناضحة بضوء خافت ذابت فيه الظلمة الداجنة ذوبانا يهتك الأسرار، ورفع رأسه محملقا، فرأى نورا خافتا يتسلل من شقوق الجدار الخشبي مقتحما عليه خلوته، ثم ارتفع صوت زوجه في الخارج وهي تنادي الجارية قائلة: نمت يا نور؟! ... نور ... ألم تري سي ياسين؟
فانتفض قلبه فزعا ووثب قائما، واندفع على عجل ولهفة يتخطف ثيابه ويرتديها وهو يتفحص الحجرة ببصر زائغ لعله يجد مخبأ بين كراكيبها، ولكن نظرة واحدة آيسته من الاختفاء على حين صك أذنيه وقع شبشب يقترب، فلم تتمالك الجارية من أن تقول بصوت باك: أنت السبب يا سيدي، ماذا أفعل الآن؟!
فلكزها في كتفها بقسوة حتى أمسكت، وحدق في الباب بفزع ويأس وهو يتقهقر - بدافع لا شعوري - إلى الركن البعيد عن المدخل حتى التصق بالجدار، وتجمد في موقفه يترقب. تتابع النداء ولا مجيب، ثم انفتح الباب ولاحت ذراع زينب يتقدمها مصباح وهي تهتف: نور ... نور.
فلم يسع الجارية إلا أن تخرج من صمتها مغمغمة بصوت شاحب حزين: نعم يا ستي.
فقالت زينب بصوت ينم عن الحنق والتعنيف: ما أسرع أن تنامي يا شيخة! ألم تري سي ياسين؟ ... سيدي الكبير أرسل في طلبه، فبحثت عنه في الدور التحتاني والفناء، وها أنا لا أجده فوق السطح، هل رأيته؟
وما أتمت كلامها حتى كان رأسها قد برز داخل الحجرة، وهو يطل على الجارية المرتبكة في جلستها باستغراب، ثم بحركة غريزية التفتت إلى يمينها، فوقع بصرها على زوجها الملتصق بالحائط بجسم ضخم كأنما ترهل وتخاذل من الخزي والهوان، التقت عيناهما لحظة قبل أن يغض بصره، ومرت لحظة أخرى في صمت قاتل، ثم ندت عن الفتاة صرخة كالعواء، وتراجعت وهي تهتف ضاربة صدرها بيسراها: يا فضيحتك السوداء! ... أنت! ... أنت!
وجعلت ترتجف كما بدا من ارتجاف المصباح بيدها، وارتعاش ضوئه المنعكس على الجدار المواجه للباب، ثم ولت هاربة وعويلها يمزق الصمت. قال ياسين لنفسه وهو يزدرد ريقه: «انفضحت وما كان كان.» ولبث بموقفه ذاهلا عما حوله حتى انتبه إلى نفسه، فغادر الحجرة إلى السطح دون أن يخطر له أن يتجاوزه. لم يدر ماذا يصنع ولا إلى أي مدى تذاع الفضيحة، أتنحصر في شقته أم تنتقل إلى الشقة الأخرى؟ ... ثم راح يوبخ نفسه على ذهوله وضعفه اللذين منعاه من أن يلحق بها كي يحصر الفضيحة في أضيق حدود، ثم تساءل وهو في أشد حالات الضيق كيف يتلقى هذه الفضيحة؟ هل يسعفه الحزم هنا أيضا؟ ربما لو لم يتسرب نبؤها إلى أبيه. وسمع حركة آتية من ناحية الحجرة المشئومة، فالتفت نحوها فرأى شبح الجارية يغادرها وبيده لفة كبيرة، ثم هرولت نحو باب السطح ومرقت منه، هز كتفيه استهانة، وفيما هو يتحسس صدره بيده أدرك أنه نسي أن يرتدي الفانلة، فعاد إلى الحجرة مسرعا.
Page inconnue