فوافقت الأم على قوله بإيماءة من رأسها كأن الحديث كان موجها إليها، وراحت تقول: كان عرابي باشا أعظم الرجال وأشجعهم، لا يقاس به سعد ولا غيره، وكان فارسا وكان مقاتلا، فماذا لقي من الإنجليز يا ولداه؟ أسروه ثم نفوه إلى بلاد وراء الشمس ...
فلم يتمالك فهمي من أن يقول لها بلهجة جمعت بين الرجاء والضيق: نينة! ... هلا تركتنا نتحدث؟!
فابتسمت فيما يشبه الحياء مشفقة كل الإشفاق من إغضابه، فغيرت لهجتها الحماسية كأنما هي بتغيير لهجتها تعلن تغير رأيها كله، ثم قالت برقة واعتذار: يا سيدي لكل مجتهد نصيب، فليذهبوا في رعاية الله، وعسى أن يحظوا بعطف الملكة الكبيرة ...
فما يدري الشاب إلا وهو يسألها في غرابة: أي ملكة تقصدين؟ - الملكة فيكتوريا يا بني، أليس هذا اسمها؟ ... طالما سمعت أبي وهو يتحدث عنها، هي التي أمرت بنفي عرابي، ولكنها أعجبت بشجاعته كثيرا فيما قيل.
فقال ياسين ساخرا: إذا كانت قد نفت عرابي الفارس، فهي أجدر أن تنفي سعدا العجوز!
فقالت الأم: مهما يكن من أمرها فهي لم تزل امرأة يحمل صدرها ولا شك قلبا رقيقا، فإذا أحسنوا مخاطبتها وعرفوا كيف يتوددون إليها جبرت بخاطرهم.
وجد ياسين سرورا كبيرا في منطق الأم التي جعلت تتحدث عن الملكة التاريخية كما لو كانت تتحدث عن أم مريم أو غيرها من الجارات، ولم يعد يرغب في مجاراة فهمي، فسألها بإغراء: خبرينا عما يحسن أن يقولوه لها؟
فاعتدلت المرأة في جلستها مسرورة بهذا السؤال الذي أقر لها بالجدارة «السياسية»، ومضت تفكر باهتمام لاح في تقارب حاجبيها في صيغة مناسبة لأول «مفاوضة»، بيد أن فهمي لم يمهلها حتى تتم تفكيرها، فقال لها باقتضاب واستياء: الملكة فيكتوريا ماتت من زمن بعيد، لا تتعبي نفسك بلا طائل!
انتبه ياسين عند ذاك إلى غاشية المساء الزاحفة من خلال خصاص النوافذ، فأدرك أنه آن له أن يودع المجلس ليمضي إلى سهرته، ولما كان يعلم حق العلم بأن ظمأ فهمي إلى الحديث لم يرو بعد، فقد رغب في أن يقدم له اعتذاره عن ذهابه في صورة تأييد من نوع ما للنبأ الذي أخذ بلبه، فقال له وهو ينهض: إنهم رجال يدركون بلا شك خطورة ما أقدموا عليه، فعلهم أعدوا له الوسيلة الناجحة، فلندع لهم بالتوفيق.
وغادر المجلس وهو يشير إلى زينب لتلحق به فتجهز له ملابسه، فشيعه فهمي بنظرة لا تخلو من غضب، غضب من لم يظفر بمشاركة وجدانية تتجاوب مع نفسه المتأججة، لشد ما تثير أحاديث الوطنية أكبر الأحلام في نفسه، في دنياها الساحرة تتراءى لعينيه دنيا جديدة، ووطن جديد وبيت جديد، وأهل جدد، ينتفضون جميعا حيوية وحماسة، ولكن ما إن يفيق على هذا الجو الخانق من الفتور والسذاجة وعدم المبالاة، حتى تشب بين أضلعه نار الحسرة والألم، فتروم في قهرها متنفسا - أيا ما كان - تنطلق منه إلى السماء، ود في تلك اللحظة بكل قوته لو ينطوي الليل في غمضة عين؛ ليجد نفسه مرة أخرى في مجمع الطلاب من إخوانه، فيروي ظمأه إلى الحماس والحرية، ويسمو في وقدة حماسهم إلى ذلك العالم الكبير من الأحلام والمجد، لقد تساءل ياسين عن ماذا يصنع سعد حيال بلد تعد اليوم بحق سيدة العالم، وهو نفسه لا يدري على وجه التحقيق ماذا سيصنع سعد، ولا يدري ماذا يمكن أن يصنع، ولكنه يشعر بكل ما في قلبه من قوة بأن ثمة ما يجب عمله، ربما لم يجده ماثلا في عالم الواقع، ولكنه يشعر به كامنا في قلبه ودمه، فما أجدره أن يبرز إلى ضوء الحياة والواقع، أو فلتمض الحياة عبثا من العبث وباطلا من الأباطيل.
Page inconnue