لم يرفع ياسين رأسه ولم يتكلم، فظن صمته خوفا وشعورا بالخطأ - إذ لم يتصور أن يكون ما به سكر - ولكنه لم يجد في ذاك عزاء، بدا الخطأ أفظع من أن يترك بلا علاج حاسم، فإذا لم يكن من سبيل إلى العلاج القديم - العصا - فلا أقل من الحزم، وإلا انتثر سلك الأسرة جميعا، قال: ألم تعلم بأني أحرم على زوجي الخروج ولو لزيارة الحسين؟ كيف إذن سولت لك نفسك أن تأخذ زوجك إلى ملهى داعر لتسهر فيه إلى ما بعد منتصف الليل؟! ... يا أحمق أنت تدفع بنفسك وبزوجك إلى الهاوية فأي شيطان ركبك؟
وجد ياسين في الصمت آمن ملاذ أن تفضحه نبراته، أو أن يسترسل في الحديث بطلاقة مريبة تنم في النهاية على سكره، لا سيما وأن خياله أصر على التسلل - هازئا بالموقف الخطير - من الحجرة فانطلق إلى آفاق بعيدة بدت لرأسه الثمل راقصة تارة ومترنحة أخرى، ولم يستطع صوت أبيه على ما ابتعث في نفسه من الرهبة أن يسكت الأنغام التي غناها المهرجون في المسرح، فكانت تثب إلى ذهنه - على رغمه - بين لحظة وأخرى كالأشباح في ليل المرعوب هامسة:
أبيع هدومي عشان بوسة
من خدك القشدة يا ملبن
يا حلوة زي البسبوسة
يا مهلبية كمان واحسن.
تغيب تحت تأثير الخوف ثم تطفر راجعة، ولكن أباه ضاق بالصمت، فصاح به غاضبا: انطق، حدثني عن رأيك، فإني مصمم على ألا يمر الحادث بسلام !
خاف عاقبة الصمت، فخرج عنه متهيبا مضطربا، ثم قال وهو يبذل قصارى جهده ليتمالك نفسه: كان والدها يعاملها بشيء من التسامح ... (ثم متعجلا) ولكني أقر بأني أخطأت.
فصاح السيد مغضبا ومتجاهلا الجملة الأخيرة: لم تعد في بيت أبيها، عليها أن تحترم آداب الأسرة التي صارت عضوا فيها، أنت زوجها وسيدها وبيدك وحدك أن تصورها في أي صورة تشاء، خبرني عن المسئول عن ذهابها معك أنت أم هي؟
شعر على سكره بالفخ المنصوب له، ولكن الخوف دفعه إلى التواري فغمغم: لما علمت بنيتي في الخروج توسلت إلي أن أصطحبها ...
Page inconnue