فقالت: إني تعبة، وأحس بدوران خفيف، على أن هذا يحدث لي أحيانا ثم يزول، فكن مطمئن البال ولا ترع.
فثارت في دمي عندئذ مفاعيل الغرام، وتسابق على لساني الكلام، فقلت لها والدموع تسيل على الوجنات: وأنا أيضا أشعر بما تشعرين، وليس ذلك لعلة مثل علتك، بل ذلك لمرض في الفؤاد دفين ... لويزا حبيبتي حياتي مليكتي إنني أهواك وليس في الهوى لوم، وأنا أهواك منذ شهرين مثل ما أهواك اليوم، وقد براني هواك حتى لولا العظام، لكنت مثل الخيال، فهلا رفقت بقلب يحتوي على فؤادك؟ وهلا رحمت فتى شقيا ليس يقوى على جفاك وبعادك؟ وإلا فردي إلي فؤادي وأعيدي إلي رشادي.
فاحمرت عيناها، وتوردت وجنتاها، وفاضت دموع عينيها أكثر من قبل فجعلت أكفكف عبراتها وعبراتي، وأمزج زفراتها بزفراتي، وتأوهاتها بتأوهاتي، ثم قلت: أيتها الغادة الطاهرة الكريمة قولي كلمة، ردي علي بلفظة أو بحركة أو بإشارة، احكمي على مكسيم بالسعادة أو بالشقاء، فإن نفسي تكاد تموت، فنهنهت دموعها، واعتدلت على المقعد، ثم قالت: لقد سبقتني إلى ما كنت أسعى إليه، وفتحت لي قلبك قبل أن أفتح لك قلبي والآن إذ برح الخفاء، وتم لي ما كنت أشاء، فأنا أقر أمامك بغرامي، وأعترف أنك حبيبي وبهجة أيامي، وقد ملكت قلبي، وسحرت لبي، وأن هذا الجسم الماثل لديك، تحييه وتميته نظرة من عينيك، ولكن هل غرامك طاهر شريف، أم إنك تخادعني لتنال مأربا دنيئا؟ فقلت: معاذ الله أن أخادعك كما يفعل النذل، وأن أضع شرفي موطئ النعل، وإنما أنا أحبك حبا أصفى من القطر، وأكبر من السماء والبحر، وأقسم لك بالله وأسمائه، وملائكته وأنبيائه، إنني أهواك هوى عذريا نقيا، أبقى عليه إلى أن أقترن بك أو أموت.
فعدنا عندئذ إلى المرسح وما كدنا نصل حتى دخل البارون، وعلى وجهه شيء أبيض علق به من خدود جوزيفا.
فقال لها: لا مرية في أن مكسيم لم يترك قصة لم يقصها عليك؟
فقالت: نعم، وإنني أشكر له لطفه، فقد قص علي نوادر لم ينلني معها ضجر.
ولما انتهى التمثيل استأذنتها بالذهاب، ومضيت على وجهي، لا أعلم كيف أذهب وأنى أسير، وجعلت أعدو في الطريق حائر الفكر رجلاي على الأرض وعيناي في النجوم.
الفصل الثالث
وأدركت ريتا أني أهوى لويزا، وأنها تهواني، فشحذت سيف الغرام، وأعدته ليوم الانتقام، ووقفت لي بالمرصاد، ترقب حركاتي أنى قصدت، وكيف كنت؟ مع جماعة أم على انفراد؟ وبينما كانت لويزا تضرب على البيانو في ذات يوم حانت مني التفاتة غرامية إليها، فابتسمت وتوردت وجنتاها، فرأت ريتا ما كان منا، وقامت من فورها، ودنت مني وقالت: «سوف ترى.» فأجبتها: «وأنت سوف ترين.»
ومضى على ذلك مدة، وأنا لا أستطيع الاختلاء بلويزا، ولا أجسر أن أشدد النظر إليها خوفا من عمتها، فضاقت بي الحال، وصعب علي الأمر، وجعلت أفتش على وسيلة أشرح بها لحبيبتي ما يخالج قلبي، وبعد الروية بدا لي الصواب، ورأيت أن المكاتبة أسهل طريقة لنيل المرام، وبلوغ المنى؛ لأن المكاتبة هي الزيت الذي ينير قناديل الحب، ومتى كان هذا الزيت موجودا في القناديل فلا يطفأ نورها، والمكاتبة نصف المشاهدة، كما يقول المثل السائر، وهي قبل العاشقين بل هي إرسال الشعائر والفؤاد، بصورة الورق والمداد.
Page inconnue