فضحكت ضحكة كبيرة وقلت: إذا كنت تشاء ذلك فسوف أكون لها الرفيق الأديب.
فقال بابتسام: ولا بأس من مغازلة طفيفة سرية، ولا نمنع عنك مغازلة على نمط ما تشتهي العذارى الطالبات الاقتران، افتن واسحر قلبها، سرحها في عوالم العشق كيف تشاء، سر معها في عالم النجوم والأشعار كما تهوى، فإني لا أرى ضررا في ذلك إذا كانت لك ثمة مقاصد حسنة، تراني أتساهل لك وأحسن إليك! آه لو كنت مكانك، وكان لي عشرون سنة.
فسألته إذا كانت البارونة لا ترافق بنت أختها إلى هذه الملاعب، فقال: إنها لا تود ذلك، فهي مشغولة بابنها، مولعة به إلى درجة تعد جنونا، وكل من يكلمها عن الملاعب والأعياد والمراقص تنظر إليه شزرا بمؤخر عينيها، ولا تجيبه على خطابه كأنه أذنب إليها، ويدهشني منها هذا الحب المفرط لابنها، وكنت أحسبه يضعف في أول الشتاء لدى الأعياد والمرافع، فخاب ظني، وأرى اعتناءها به يزداد دوما، وقد أقفلت بابها دون الزائرين والزائرات وصارت عبارة الخادم المألوفة في دفع من يرغب مقابلتها «البارونة لا تستقبل اليوم أحدا.» على أني مسرور بذلك، فإن هنري ينمو نموا حثيثا، وصار إذا رأيته اليوم لا تعرفه.
ومن يوم بلغ خبر ولادتها إلى صديقتها جنفياف دي سيمان أسرعت إليها، وترامت على عنقها وقبلتها، وها هي لا تزال تزورها في كل يوم، وقد أعجبت لويزا بذكاء هذه السيدة الجميلة ورقة حديثها، فهي مذ تدخل من الباب تأخذ في سرد الأقاصيص والأحاديث الملذة حتى تختلب الألباب، وتسحر العيون وهي تسمي هنري «ابن العجائب».
ولما عدت إلى البيت وجدت ورقة دعوة من المسيو ليكرم، يقول فيها: إنه سيقيم في المساء مرقصا شائقا، ويرجوني أن أحضره، فلما أزف المساء سرت في شارع القديسة أنوريه إلى أن بلغت قصر ليكرم، وكان مزدانا بالأنوار المختلفة الألوان، والزهور المتباينة الأشكال والأجناس، رافلا بالحلل الزاهرة، ناهضا بالجلال والزينة الباهرة، فوجدت على الباب مسيو ليكرم بنفسه، يستقبل الجمهور فحييته، فرد علي التحية بطلاقة وتلطف، ثم سار معي إلى القاعة، وأجلسني ورحب بي.
ورأيت بادئ بدء أناسا قليلين، حيث ملابس الرجال السوداء تغيب في حرير مطارف النساء وخملها وكشاكشها وفرائها، ولم أسمع غير أحاديث متقطعة منخفضة، أو أصوات الأقدام المتنقلة والكراسي المتحركة.
ولما أن تكاثر القوم وابتدأ الرقص، قمت أتمشى في القاعة، فأبصرت المركيزة دي سيمان وإلى جانبها مدموازيل جونريت فابتدرتني المركيزة بالكلام قائلة: ما كنت أشك في قدومك، ولهذا أخليت لك محلا، وأظنك تحفظ لي هذا الجميل، أليس كذلك؟ - على الأرض وفي السماء سأحفظه لك يا سيدتي. - في السماء؟ ومن يؤكد لك أننا نلتقي هناك؟ - يقال إن في ذلك المكان موسيقى مطربة يا مولاتي، وفي هذا الرمز كفاية. - إنك تتكلم عن الموسيقى مثل ما كان فدييس يتكلم عن اللغة الرومية، إننا لنعلم قدر علمك بالموسيقى حي مدموازيل جونريت، ثم اسألني عن صحتي ، فذلك أولى لك من الكلام عن الموسيقى. - إنك مصيبة برأيك. - إنك فهمت معنى ما أقول. - وهل لكلامك معنى غير المعنى المستفاد من ظاهره؟
فقهقهت طويلا.
وكان في قهقهتها كل ما يستطيع أن يجمعه العالم في رواية من معاني التعجب والمزاح والهزؤ والتهكم والازدراء، وعند ذلك دخل المسيو ليكرم مع أربعة بزيه، وأعلن افتتاح المرقص، فسكنت القاعة، وقعدت بأتم سكون وقعود، وابتدأت الكتيور، وهي قطعة موسيقية ترتل بأربعة أصوات.
وعند نهاية الألجرو صفق الحضور أي تصفيق، وابتدأت الاندنت وهي الصوت الثاني من الكتيور بأحسن ما يتمنى السامع من التوقيع، فأرسلت نظرة إلى لويزا؛ لأرى تأثير الاندنت عليها، فوجدتها شاخصة العين منوطة بالسقف والحدقة غائبة منقبضة، والثغر مفتوح ثلث فتحة، كأنه يهم أن يبتسم، واليدان مرسلتان إلى جنبها كأنها إيطالية مولعة بالموسيقى، وقد سمعت لحنا مؤثرا، وكأن روحها أفلتت من أسر، فهي تحوم بأجواء الخيال تحت أجنحة الألحان الرخيمة والأنغام الشجية الشديدة التوقيع، ثم إن ابتداء الترواطان دي مينيت حولها نوعا عن حلمها، ولما ابتدأ برستو الختام ملكت نفسها، وعادت إلى عالم الحقيقة.
Page inconnue