Entre religion et science : Histoire de leur conflit au Moyen Âge à propos des sciences astronomiques et géographiques
بين الدين والعلم: تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى إزاء علوم الفلك والجغرافيا والنشوء
Genres
يقول الأستاذ بنيامين كيد صاحب كتاب التطور الاجتماعي المعروف:
إن الروح الحربية التي تملكت زمام المدنية في عصور الوثنية هي التي شكلت تاريخ الغرب برمته، فخرجت الشعوب الغربية من تلك المعامع - معامع التدمير والتخريب - بمدنية هي أغرب ما وصل إليه الإنسان في تاريخ الدنيا. وما من نتاج من ثمار هذه المدنية، وما من نظام من أنظمتها الاجتماعية أو شكل من أشكالها، إلا وتجد للروح القديم أثرا فيه كبيرا. يرجع ذلك إلى اعتقاد ثابت راسخ في روع الشعوب منذ نشأتها لحمته أن حيازة القوة والانتفاع بثمراتها هو المبدأ الذي يجب أن تعمد إليه الأمم إذا ما شاءت أن تحتفظ بكيانها. غير أن هذا الكائن الناطق الذي خرج من جوف الأزمان الأولى وبيده آلات الحرب والتخريب كان ذا عقيدة دينية، عقيدة تخالف في أسسها ومبعثها الذي ترتكز عليه في طبيعة الرغبات الإنسانية. نزعته إلى القوة من أية طريق أتاها وبأية من الوسائل التي تذرع إليها. وظلت نزعة الإنسان إلى القوة تحارب تلك العقيدة الموروثة حربا عوانا تشهرها على ذلك المعتقد نزعات الإنسان وبواعث انفعالاته طوال القرون الأولى. ولا يزال الشجار قائما حتى الآن. وإنك إن قلبت تاريخ الإنسان لتجلى لك مقدار ما جالد ذلك الحيوان الناطق المفكر في سبيل التخلص من قيود تلك الوراثة الدينية التي خرج بها من حياته الأولى مستعينا بها على هدم ذلك المعتقد بكل ما أوتي من قوة الفلسفة والعقل، فكم زجت تلك النزعة بالإنسان في غمرات حروب تهدم بها ما أقام السلم من صروح العمران، وكم تمزق بها ما رأيت شريعة الآداب من صدوع الإنسانية.
تلك روح خالدة في الجماعات قد تتغير مظاهرها، وجوهرها ثابت في الزمان، مرتكز على طبيعة الإنسان المفكر المعتقد المدرك لحقيقة الشريعة الأدبية، المحكوم بوازع مما فوق عقليته يخضع عقله لحاجات الاجتماع. تلك الصفات التي ترتكز عليها أصول المدنية.
عبثا ما حاول بعض الفلاسفة أن يقاوموا تلك الروح بمذهب فلسفي في النفعية، يستغوي الفردي ليخرج عن شعور الجماعة وروحها. كثر في أوروبا من حاول ذلك في أواخر القرن الفارط، ونشر بعض المشتغلين بالآداب كتبا في «دين الطبيعة» ما لبثت أن قتلتها روح الجماعات، شأنها في كل شيء يصد طريقها الشعوري الصرف. حاول هؤلاء أن يجعلوا العقل حد الدين، فوقع الإنسان في مأزق من مآزق البعد عن الشريعة الأدبية كاد يتداعى معه أساس المدنية. ولا يزال بعض المفكرين يتابعون ذلك الرأي، قائلين بأن دين المستقبل سوف يكون معتقدا بعيدا عما تبعثه في أهل هذا العصر معتقدات ما بعد العقلية البشرية. حاول هؤلاء أن يجدوا في عقل الإنسان وحده هاديا ومرشدا أمينا بصفته فردا صالحا من مجموع إنساني، يختط له خطة من السلوك والأخلاق جديرة بأن تحفظ نظام الهيئة البشرية التي يجب أن تقوم على أساس من الإحساس الأدبي أخفقوا سعيا وضلوا سبيلا؛ لأن الطبيعة لم تحب الإنسان بشيء من هذا.
رجع الناس بعد ذلك مؤمنين بأن وازع ما بعد العقلية، أول عنصر من عناصر المعتقد الديني بل نواته، وأنه الضابط الذي يضبط علاقة الفرد بالجماعة في كل حالة من الحالات وتحت تأثير أي ظرف من الظروف، على أنك تجد أن في النظام الاجتماعي قوتين متضادتين تتنازعان بقاءه: قوة مفرقة وقوة مؤلفة؛ فالقوة المفرقة يمثلها عقل الفرد الأناني المحب لذاته، والقوة المؤلفة يمثلها معتقد ديني يستمد مما فوق عقلية الفرد، وتنحصر وظيفته في أن يحتفظ في تطور الجماعات بإخضاع مصالح الأفراد ومطامعهم لصالح الكل الاجتماعي. وإن الدين في طبيعته ضرب من ضروب المعتقد يهيئ الإنسان بوازع مما فوق عقليته، يضبط سلوكه نحو المجموع.
فإذا أيقنا بعد كل هذا أن الإنسان كائن معتقد كما هو مجتمع، وأن الدين من بين كل معتقداته هو الذي يهيئه بوازع مما فوق عقليته؛ استطعنا أن ندرك كيف أن الخصومة الموهومة بين الدين والعلم مستحيلة، وإلا فلو كان بين الدين والعلم خصومة وعداء، لتحطمت قواعد العلم قبل أن يهتز ركن واحد من أركان الدين.
الدين في النفس الإنسانية ثابت لا تتغير ماهيته وإن تغيرت مظاهره. وهو فوق ذلك صفة غريزية تلازم طبيعة الإنسان ما دام قد تكون ليكون إنسانا فيه من التكوين الطبيعي ما يجعل للدين ركيزة أثبت في نفسه من ركيزة العلم والفلسفة. وعلى هذا لا يمكن أن يكون بين الدين والعلم تجالد وصراع؛ لأنهما - على الرغم من الفوارق الطبيعية الكائنة بينهما والتي لا تجعل للصراع بينهما مجالا - يستمدان من ناحيتين متباعدتين من نواحي التكوين الإنساني. (4) الفرق بين العلم والفلسفة والدين
ضرورات الحالة الاجتماعية كثيرة متباينة، وهي على كثرتها وتباينها - بل وإن شئت فقل: تناظرها - إنما تستمد من طبيعة الكائن المجتمع وليس من هذه الضرورات ما ينزل عن حد الضرورة ليكون أكثر ضرورة أو أقل ضرورة من غيره، وليس منها ما هو أقرب إلى الكماليات من الحاجيات؛ فإن هذه الضرورات كلها تنزل منزلة واحدة من حاجة المجتمع إليها.
وهي فوق ذلك مستمدة من صفات غريزية في الكائن المجتمع تتشكل في صور مختلفة بمقتضى اجتماعه ليكون كلا اجتماعيا، أو كائنا اجتماعيا كما يقول سبنسر. ومن أول هذه الضرورات أن يكون في الإنسان صفات نفسية وأخرى عقلية. وهذه الصفات بصرف النظر عن مظاهرها الخارجية وباعتبار أنها أشياء كائنة في تضاعيف الفطرة، لا يمكن أن يكون بين ما تنتج تضارب وتجالد، أو عداء وصراع. قد يكون بين بعض ما تنتج من الحالات الاجتماعية جمود يناظره في أخرى نزعة إلى التقدم والارتقاء، وقد يكون في ناحية منها حركة في حين أن ناحية أخرى تتطلب الهوادة والسكون النسبي لتتعادل الكفة، ويحدث الثبات الاجتماعي الذي هو أول صفة من الصفات المطلوبة في جماعة إنسانية يصح أن يقال فيها إنها متحضرة وإنها تقيم عمرانا.
فالعلم مثلا صفة عقلية أصبحت الآن ضرورة من ضرورات المجتمع الحديث، وإن كان العقل - وهو نبعها الفياض - صفة من الصفات الأصيلة في حياة الإنسان الاجتماعية، بل وفي غيره من كثير من الحيوانات الأخرى. وكذلك الدين فهو صفة تستمد مما فوق العقلية البشرية ليسد فراغا في الاجتماع لا يسده العلم. وبين العلم والدين فجوة لا تسدها إلا الفلسفة. فهذه الدرجات الثلاث أو هذه الصفات الثلاث: صفة أن الإنسان يعلم وصفة أنه يتدين، وصفة أنه يتفلسف ليوفق بين طرفي العقل وما بعد العقل. صفات فطرية في الإنسان أصبحت بطبيعته ضرورات اجتماعية، ولا يمكن أن يكون بين شيء منها عداء وصراع، وإلا أصبح الإنسان عبارة عن مجموعة صفات متناقضة وهيكل من الفوضى المتحركة. هي في الواقع متناسقة متكاملة كالقضية المنطقية التي تتكون من طرفين ووسط، موضوع ومحمول وحد وسط. وهي فوق ذلك لا تنتج إنتاجا صحيحا إلا إذا صحت مقدماتها ... هذا مثل الإنسان في العلم والفلسفة والدين. وكلها ضرورات لا بد منها، وإن استمدت من نواح مختلفة من نواحي الفطرة الإنسانية. هي ضرورات اجتماعية من ناحية أن الإنسان مجتمع، وضرورات فطرية من ناحية أن الإنسان كون على ما فيه غير مخير هواه.
Page inconnue