وكل يوم كنت أؤجل القرار، لا بحكم العادة والكسل فقط، ولكن لأني كنت - رغم إيماني المطلق بخطأ هذا الطريق - أخاف أحيانا أن أكون أنا المخطئ، وبصراحة ليس هذا كل شيء؛ فقد قضيت سنوات طويلة أكافح جنبا إلى جنب مع تلك المجموعة من الناس، وفوق رباط العمل تآلفنا كأشخاص وكأصدقاء، حتى لم يعد لي أصدقاء آخرون، أصبحوا هم كل أصحابي وأقربائي ومعارفي، هم شلتي التي أسهر معها والتي لا أرتاح إلا لمناقشاتها، شلة أفقدتني الإحساس بطعم الناس العاديين، بل جعلتني أمج هذا الطعم وأمج الحديث العادي الذي قد أجبر عليه حين يأتي لزيارتي قريب أو أوجد في حضرة أطباء أو موظفين، وأصبح الانفصال الكامل أمرا صعبا أو أهم من هذا، لم أكن أجد أمامي طريقا آخر لأسلكه وأحقق به كل ما يجيش في صدري وأرد به على تلك الهواتف الخفية التي تهيب بي أن أعمل دائما عملا من أجل بلادي وأناسي. وعلى هذا كنت أقول لنفسي: عمل خير من لا عمل، وحتى العمل في طريق مشكوك في صحته خير من لا عمل بالمرة، وأؤجل القرار.
وحين عرفت سانتي فرحت، ولعل جزءا كبيرا من فرحتي كان راجعا إلى أنها جعلتني أؤجل ذلك القرار إلى الأبد، وجعلتني أعود لمحبة طريق كدت أكرهه رغما عني، جعلتني أعود أتمنى أن تحدث المعجزة وأن ننجح فعلا في تغيير كل ما كنا نراه غير قابل للتغيير.
وهكذا بدأت في الاجتماعات أناقش وأجادل وأنفعل، وكنت قبلا قد دفعني اليأس إلى حضورها ساكنا ساكتا مطرق الرأس. كنت آتي إلى الاجتماع وأنا أكاد أنفجر بالثورة وأنفجر بها فعلا ويصغي إلي شوقي حتى أنتهي من كلامي ثم يبدأ يفند أقوالي. والعجيب أنه كان ينجح بلباقة في تنفيذها كلها وفي إقناعي أن كل شيء على ما يرام وأن سياسة المجلة هي أسلم سياسة ممكن اتباعها، وأنه إذا كان هناك عيب فالعيب يكمن في أنا، والأعجب من هذا أني كنت دائما أقتنع. بل يحدث أحيانا أن أقر بخطئي وأعترف صراحة أني مقصر وأتعهد بإصلاح ذات نفسي. ولكني كنت أخرج من الاجتماع وأنا في أعماقي أكثر إيمانا بآرائي قبل دخولي إليه، معاهدا نفسي أن يكون هذا آخر اجتماع أحضره. وكالعادة لا يكون، وكالعادة آتي للاجتماع التالي وكلي ثورة وأغادره بتصميم فاشل آخر وعهد آخر.
13
موضوع الاجتماع كما قلت كان هذا الخطاب الذي جاءنا من البارودي في سجنه، ومن ملامح الزملاء كان واضحا أن الخطاب خطير وأنه مفاجأة لم نكن نتوقعها. والمجلة رغم كل القيود كانت تصل البارودي وبانتظام وهو في السجن، ويبدو أنه أدرك من أعدادها الأخيرة كنه التغييرات التي بدأنا ندخلها على سياسة المجلة بقصد تعريبها وتمصيرها. والخطاب في الواقع لم يكن يناقش هذه التغييرات، كان يناقش المبدأ، مبدأ أن نجري - نحن الذين بقينا بالخارج - أي تغيير يمس سياسة المجلة، ويصر على أن أمثال هذه التغييرات مسألة من اختصاص «القيادة» حتى لو كانت القيادة بعيدة عن أرض المعركة ومقطوعة الصلة بالمجلة والكفاح، مشكلة كادت تضحكني؛ إذ هل من المعقول أن نمنع، نحن الذين نخوض المعركة، من قيادة أنفسنا ويعطى هذا الحق للقيادة القديمة، سواء كانت داخل السجن أو في المنفى؟ وهل من المعقول أن نظل ننتظر التوجيه من قائد مسجون أو منقطع الصلة بنا ولا يدري من أمرنا أو أمر المعركة التي نخوضها شيئا، ولا نتحرك إلا إذا جاءنا الأمر منه؟ وكل هذا لكيلا يصبح من حقنا أن نقود أنفسنا، ولكي تظل القيادة هي القيادة؟ وجها لا يعقل، وجها كنت أعرف حقيقته وأعرف أنه موجود، ولكن لم يخطر ببالي مطلقا أن أراه مجسدا أمامي على تلك الصورة وفي خطاب من البارودي.
كان عطوة هو أول من طلب الكلمة للتعقيب على الخطاب، ودائما كان هو أول من يطلب الكلمة. وبدأ كلامه بطريقة ظننت معها أن معجزة قد حدثت وأنه سيندد بما جاء في الخطاب، ولكني وجدته يلف ويلف ويعود يتكلم عن خبرة القيادة وضرورة احترامها وتقديسها، وأن هناك مشاكل أعلى من مستوى تفكيرنا ولا يملك البت فيها إلا أمثال البارودي، ولم يكتف بهذا، بل أكسب ملامحه في النهاية كل ما يملكه من جد وخطورة، وخاطبنا بجفون مسبلة ودون أن ينظر إلينا قائلا: يا زملاء، في نهاية الكلمة بتاعتي عندي اقتراح أرجو أنكم تقبلوه، أقترح أننا نبعث لقائدنا البارودي خطاب شكر وتأييد.
ثم فتح عينيه وأدار فينا نظرات سريعة خجلة وقال: بس، دا كل اللي أنا عايز أقوله.
وسادت فترة صمت، طلب مني شوقي بعدها أن أتكلم، وكان في نيتي أن أبدأ كلامي في خفوت، وأن أتحدث على مهل وبرزانة كما يفعل محترفو الاجتماعات وهواة الكلام، ولكني ما إن بدأت حتى وجدت الضيق يكاد يكتم أنفاسي، ضيقا ماديا حقيقيا أحسست أن لا منفذ لي منه إلا بالانفجار، وانفجرت وتكلمت بحدة وانفعال وقلت رأيي بصراحة، رأيي في سياسة شوقي المترددة، ورأيي في تذبذب المجلة، وفي خطاب البارودي والتعفن الذي سادنا، وسببه الوحيد أننا لا نتصرف في أنفسنا بأنفسنا، وكيف أننا من المستحيل أن نستمر على هذا الوضع، وكيف لا بد من اتخاذ خطوة إيجابية نحصل بها على حقنا في قيادة أنفسنا، ونحيل بها هذا الكلام الميت الذي ننشره على الناس إلى شعلة نار وحماس، خطوة نخرج بها من الدائرة القاتلة المغلقة التي احتوتنا وامتصت كل ثورتنا وأحالتنا إلى كائنات بيزنطية لا عمل لها إلا أن تجتمع وتناقش وتنفض لتعود إلى النقاش.
وقال شوقي: انتهيت يا زميل يحيى؟
قالها بتكشيرة رسمية جعلتني أضيق به هو الآخر، ولم أكن قد انتهيت ولا قلت ربع ما عندي، ولكني أجبته: أيوه.
Page inconnue