وقبيل الثامنة هبطنا من البيت. وعند باب حديقة الأندلس وجدناها واقفة تنتظرنا. كانت من بعيد تبدو طويلة نوعا ما، تكاد تعادلني طولا، وكان قوامها مفصلا وممتلئا.
وحين اقتربنا خيل إلي أني رأيتها من قبل واحترت أين، وفقط بينما كنت أسلم عليها تذكرت، إنها الفتاة الكبيرة التي كانت مع سانتي في «الباريزيانا» يوم التقيت بهما أول مرة! وسلمت عليها بحرارة طبعا، ومكث معنا شوقي ريثما عرفنا ببعضنا وابتكر لنا من عنده أسماء مستعارة ثم انصرف، وبقينا وحدنا، أو على وجه أصح تمشينا وحدنا بحذاء النيل. ومن الدقيقة الأولى رأيتها تضرب صفحا عن قناع السرية الواجب وضعه، وتسألني عن مهنتي وأين أسكن، وهل أنا أعزب أم متزوج، وتخلط هذا كله بالحديث عن الجو والفرق بين باريس والقاهرة. وبعد خمس دقائق كانت تحدثني بدورها عن حياتها الخاصة وعائلتها، وعن أبيها الشديد القاسي الذي يمنعها من الخروج، وعن أخيها الأصغر المعفرت، وأمها «الرجعية» التي تمزق الكتب الثورية كلما عثرت عليها مخبأة في طيات مخدتها.
كانت طويلة، وجسمها له قوام الرياضيات، وشعرها أصفر، ووجهها أحمر، وتقاطيعها منسجمة، وجريئة تطرق أي موضوع بلا تحفظ، وتعاملك وكأنك صديقها الحميم. ولكنك تحس أن تصرفاتها الجريئة التي توحي بثقتها الكاملة بنفسها، سببها بلا ريب هو ضعف ثقتها بنفسها.
وكنت أنا سائر بجوارها أسترق النظر إليها وأختار أجزاء من حديثها أنصت لها باهتمام وأتأملها، وعقلي يقارن خفية بينها وبين سانتي، وحين لا تجدي المقارنة أروح - بوعي هذه المرة - أفتش فيها وفي قوامها وشخصيتها عن شيء يغنيني عن سانتي.
ولم يكن فشلي في العثور على شيء من هذا هو المشكلة. المشكلة أنني لم أحس لحظة واحدة أنها فتاة، أو أنها حتى تمت إلى جنس المرأة التي جاءت منه سانتي. وحديثها إلي كان كفيلا بصبغها في نظري بصبغة الأنثى ، أو على الأقل كان من الممكن أن ينم عن شخصية متميزة لها مجالها الخاص ودنياها وآراؤها الخاصة، ولكن حديثها لم يفعل شيئا أكثر من أنه زاد تعميم صورتها في خاطري؛ فالمواضيع التي كانت تطرقها كانت إما مواضيع خاصة بها لا أستطيع أن أتحدث فيها، وإما مواضيع عامة تدلي فيها برأي عام مما تعود الناس قوله بحيث لا تجد لديك أي حافز يدفعك لمناقشته أو الاعتراض عليه. الفيلم الذي تعرضه سينما «كايرو» رائع، ماذا تقول؟ تجد نفسك تقول بلا حماس: فعلا، إنه رائع. أو تأتي سيرة الازدحام فتقطع كلامها لتسألني فجأة: أنا أكره الازدحام، ألا تكرهه؟ ومن منا لا يكره الازدحام؟
ورغم هذا فقد كنت في عجب من نفسي؛ فهذه الفتاة كجسم وكقامة وملامح كانت قطعا أجمل من سانتي، وعلى رأي فتاة المستوصف «خوجاية» هي الأخرى ولا تمشي كشيتا، فكيف بي لا أجد في نفسي ذرة واحدة من الإعجاب بها، أو حتى مجرد الاعتراف بوجودها أو بأنوثتها؟
كنا قد قطعنا جسر النيل من كوبري الخديوي إسماعيل حتى كدنا نصل إلى الجيزة، وتحدثنا في كل شيء قد يخطر على البال، ولم يخطر على بالها أبدا أن تبدأ حديث العمل. وكان ممكنا أن نصل إلى أسوان دون أن يبدأ الحديث لولا أني استدرت وعدنا أدراجا ماشيين على شاطئ النيل الآخر، ووجدت نفسي مضطرا لأن أبدأ أنا أحدثها عن مهمتي تجاهها. وتطرق بنا الموضوع إلى الترجمة عامة، وهل الأكثر فائدة أن يكون المترجم متقنا للغة التي يترجم إليها أم اللغة التي يترجم منها. وطبعا أدلت برأيها في الموضوع، وكالعادة جاء رأيها مدعما للاعتقاد الشائع أن المترجم يجب أن يكون على دراية ضخمة باللغة التي يترجم إليها، ولا أعرف لم وجدت نفسي أصر على الرأي المضاد وأتحمس للدفاع عنه. ولدهشتي الشديدة وجدتها بعد قليل تقتنع وتغير رأيها وتوافقني على رأيي.
ولم نكن قد تحدثنا في تنظيم عملي معها أو وصلنا إلى قرار بشأن مواعيد الدروس أو مكانها. وكنا قد وصلنا في سيرنا إلى الزمالك، وكنت قد قدتها بلا وعي حتى أصبحنا قريبين جدا من بيتي، وحين واجهناه وقفت على الرصيف المقابل، وقلت: هنا أقطن.
فقالت: أين؟
قلت: في الدور الخامس.
Page inconnue