أرهفت أذني ولكني لم أسمع صوتا، غير أني كنت متأكدا أني سمعت الجرس يدق، فقمت، وقبل أن أصل إلى الباب بأمتار كنت قد لمحت خلف زجاجه شبحا، هي، أقسم كانت هي، رأسها الصغير، خيالها النحيف كان مرتسما على زجاج الباب، حتى ابتسامتها أقسم أني رأيت ظلها على الزجاج.
وفتحت.
كانت واقفة متكئة برأسها على ضلفة الباب وجسدها بارز إلى الأمام، وعيناها غارقتان في رمادية هالات، وابتسامة متعبة ولكنها حقيقة تطل من وجهها في تردد.
وخرج صوتها متعبا هو الآخر، ولكنه صوت الواثقة أن كلامها لن يرد: ممكن أدخل؟
كلماتها الإنجليزية خرجت في تدلل حبيب ممدود، حتى كدت لا أغادر فتحة الباب وأبقيها مستندة إلى ضلفته هكذا، لتقول لي مرة أخرى وبنفس الطريقة: ممكن أدخل؟
وأغرب شيء أنها حين رأتني جامدا أحدق فيها هكذا قالتها، وتنحيت جانبا وقد بدأت أبتسم وأحس أن شيئا خطيرا كان ينقصني وعاد، روحي ربما أو ما هو أكثر من روحي.
ودخلت تمشي بطريقتها المتعبة المتدللة، وأنا واقف أراقبها وهي تأخذ طريقها إلى الحجرة، أراقب ظهرها وهو يتمايل تعبا وتدللا، وأراقب إحساسها بأني أراقبها وبأني أتفرج على مشيتها وأني قادم وراءها حالا ولو كانت سائرة إلى آخر الدنيا.
وجلست هي إلى المكتب هذه المرة بعد أن طوحت حقيبتها وبلوفرها بإهمال على الكرسي، وارتكزت بكوعها إلى سطح المكتب الزجاجي وأضاءت مصباحه، وأضيء وجهها بالنور المنعكس من المصباح، وحفلت ابتسامتها بنشاط وعيناها بلمعة لم تكن موجودة لحظة أن فتحت لها الباب، وقالت وهي تبتسم في مزيج من المودة والاهتمام واللهفة: ازيك ؟ هه. ازيك؟
قالتها بالعربية، وخرجت الكلمات جميلة، أجمل ما فيها لكنتها الأجنبية، وأروع شيء أن السؤال كان موجها لي أنا، أنا الذي ظننت بالأمس أن كل شيء قد انتهى.
وأجبتها مبتسما، وظللنا نتبادل الابتسامات دون حاجة لأي حديث. كان يكفي أن أنظر لها وأبتسم فأجد ابتسامتي قد انتقلت إلى ملامحها، وتبتسم هي لأجدني تلقائيا - وكأن أعصابها صارت عضلات - قد ابتسمت.
Page inconnue