ولست أدري ما حدث ليلتها.
كانت الأوبرا تموج بالناس والأضواء؛ ومعظم المتفرجين من الإيطاليين المقيمين في مصر؛ واليونانيين والفرنسيين والأجانب بشكل عام. ومعظمهم سيدات، شابات وعجائز، الشابات جميلات وأنيقات، والعجائز يظهرن وكأنهن شابات، وكلهن يبتسمن ويضحكن، ورواد الصالة والبناور يسخرون بنظراتهم من رواد البلكون وأعلى التياترو، فيقابل هؤلاء سخريتهم بسخرية أشد. والجو يملؤه ذلك الأزيز الأنثوي الذي يصدر عن الجماعة إذا كان معظمها من النساء، والرواد جميعا واضح أنهم في ساعة مرح وتفرغ كامل للاستماع والاستمتاع، لا مشاغل لا تفكير في مشاكل. الابتسامات كثيرة تملأ الأركان، والضحكات أسهل من الكلمات، والأرواح شفافة خفيفة يلونها المرح الدافق بألوان زاهية ساحرة.
وقالت لي سانتي همسا: خفت ألا تأتي.
وقلت وأنا مبهور بالجو الذي حولي، قلت شيئا ما، كلاما من الكلام الذي نسد به خانات الحديث؛ إذ كان تفكيري الأكبر موزعا بين تأمل كل تلك الوجوه الشابة الجميلة، وبين الاستعداد لسماع الأوبرا نفسها وهي تجربة جديدة، وبين استعادة لهفة سانتي على مجيئي وإبقائها حاضرة في ذهني لا تغيب.
وحين أقول اللهفة فإني أعنيها؛ إذ يبدو أن من كثرة استعمالنا لبعض الكلمات فقدت تلك الكلمات وقعها ومعناها. اللهفة التي لمحتها ناطقة بها ملامحها، اللهفة النابعة من الأعماق المتجسدة كيانها كله حتى أصابع القدمين، هذه اللهفة ...
ليلة الأوبرا ...
ما فائدة أن أتكلم عنها؟ إن كل ما حدث ليلتها أشياء لو قلتها لبدت عادية جدا، ولكن الأشياء العادية تصبح في أحيان ذات معان غير عادية بالمرة. اللهفة التي قابلتني بها ممكن أن تكون لهفة الصديقة التي دعت صديقا إلى الأوبرا ثم مضى وقت طويل ولم يظهر له أثر، ولكنها لم تكن كذلك، وقد أطيل ويبدو حديثي مملا، ولكني أود أن أوحي بالفرق، الفرق الدقيق الذي يحس ولا يوصف. إنك تستطيع أن تصافحني عشر مرات، بنفس القوة، بنفس القبضة والضغطة ونفس الترحيب، ولكني أستطيع أن أقول دائما أي تلك المرات كانت أدفأ وأكثر مودة.
ولو كنت قد رأيت أعز الناس لدي يحتل مقعدا في مؤخر الصالة أو في أي مكان من المسرح، لما كنت قد تذكرت الآن أني رأيته؛ فعقلي لم يدر فيه أي شيء خارج سانتي، الفتاة الصغيرة النحيلة التي كانت تجلس على بعد قليل (إذ لم يأت مقعدي بجوارها تماما)، الفتاة التي تعجبني جدا والتي دعتني إلى الأوبرا وتلهفت على قدومي.
في تلك الليلة بدأ إحساسي بملكيتها.
بدأت أحس أن هذه المرأة لي، أو إن لم تكن كذلك فيجب أن تصبح لي وحدي.
Page inconnue