قالت هذا وهي تدق الأرض بقدميها، وتعمدت أن أكف عن الإنصات إليها، ولم يعلق بأذني إلا سؤالها الملح الذي كانت تبدأ منه الكلام ثم تعود إليه: لماذا أنت مصر على أن أحبك؟ لماذا؟
وربما لأن تساؤلها ذلك كان أقرب كلماتها إلى مأساتي، فكرت أن أجيبها عليه أكثر من مرة، ولكني لم أكن أعرف ماذا أقول لها، ولا كيف أطلعها على جزء من نفسي لم يره أحد مطلقا، وكان لا يمكن لأحد أن يراه، حتى أنا أيامها لم أكن أراه، ولكني كنت أحسه. جزء عميق خفي ولكنه يكاد يكون روح حياتي ومفتاح شخصيتي، إحساس ربما يوجد لدى الناس جميعا دون أن يعرفوه، ولكني كنت أحسه، ومتأكد أنه لدي، إحساس بثقة لا حد لها بالنفس تجاه الحياة، الإحساس الذي يلون قمة صبانا وفجر رجولتنا، الإحساس بألا مستحيل علينا تحت الشمس، كل ما نريده نستطيعه، وكل ما نريد أن نحلم به نحلم به، وكل ما نحلم به ففي استطاعتنا أن نحققه، إحساس عدم الخبرة كمن لا يعرف المصارعة ولكنه يؤمن أنه في استطاعته أن يصرع أي إنسان لو نازله، إحساسنا بالثقة في أنفسنا، الإحساس الذي يغادرنا حين نحتك بالحياة ونتبين من احتكاكنا بها كنه قوتنا وقصور قدرتنا عن تحقيق أحلامنا، وحتى قصورنا عن أن نحلم. وكنت كغيري أعتقد أني إذا أردت أن أنال أية امرأة فلا بد أن أنالها، وإذا أردت أن تحبني أي فتاة فلا بد أن تحبني، مهما كانت عيوبي، ومهما كانت الظروف التي ألقاها فيها والطريقة التي أعاملها بها، سواء كانت زوجة أم محبة، عجوزا أم صبية، مليونيرة أم فقيرة؛ فقد كانت لدي ثقة تامة أني أستطيع أن أجعلها تحبني. بل أكثر من هذا كلما كانت الظروف أصعب، فتنني الوضع وسلطت عليه إرادتي وكياني لأنتصر، وأزداد ثقة بنفسي وأزداد ثقة بثقتي بنفسي.
وربما أردت سانتي كل تلك الإرادة لاعتقادي أنها منيعة فعلا وبعيدة جدا، وصعبة المنال إلى أقصى حد، ولإيماني أن ظروفي أسوأ ظروف ممكن أن يظفر فيها شاب بفتاة مثلها.
في الصالة نصف المظلمة، وأمامي سانتي أقصر مني، أحاول أن أنتهز الفرصة لأقبلها، ومع أني كنت قد حققت هدفي القديم منها ونلتها، إلا أنها لم تكن قد أحبتني كما أردت، وها هي ذي لا تزال مصرة على أنها لا تحبني ولن تحبني، فلأدعها إذن تتحدث كما يحلو لها وتصر كما يحلو لها؛ ففي نفس ذلك الوقت كنت أبتسم ابتسامة شيطانية ذات بريق أقوى من البريق الصادر من عيني؛ فقد أدركت لأول مرة أنها ليست قصة حب أخرى تلك التي أواجهها، ولكنها تجربة حياتي. حقيقة كنت أحس أن صفارة البدء قد انطلقت وأني أنزل الحلبة لأبدأ أول صراع ينشب بين الواقع وبين ما أريد.
ويبدو أن إدراكي لكنه اللحظة التي أواجهها قد جعل البريق الصادر من عيني ينقلب إلى شيء مخيف؛ فقد أحسست برعشة تجتاح ذراع سانتي وأنا قابض عليها بيدي، أقربها مني وأبعدها وهي تتحاشى النظر إلى عيني، ومع هذا أحس بها تنزلق من قبضتي كالزئبق انزلاقا مستمرا منتظما من المستحيل أن يتوقف أو تفلح قبضتي في منعه، ورعشة من نوع آخر هي التي انتابتني.
ولم أفق إلا حين وجدت سانتي تفلت مني فجأة، وتفتح باب الشقة وتختفي في لمح البصر داخل حلزونية السلم، وأسرعت خلفها، ووقفت على أعلى درجة منفعلا إلى أقصى حد وقلت: سانتي!
ولم تجب.
ومرة ثانية ناديتها: سانتي.
وأيضا لم تجب.
ومرة ثالثة قلتها، وخرج صوتي متهدجا يملؤه التأثر كمن ينادي على رفيقة الصعود إلى جبل حين تتركه فوق القمة وتهبط وحدها السفح، وهي عاجزة عن إيقاف نفسها عن الهبوط، وهو مقيد في مكانه لا يستطيع إلا أن يبقى فوق القمة ويناديها لتعاود الصعود، وهو مؤمن أشد الإيمان أنها لن تكف عن الهبوط، ومؤمن أشد الإيمان أيضا بأنه سينجح بطريقة ما، وحتى بدون طريقة، بمجرد وجوده، بمجرد كيانه، بمجرد ثقته التي لا حد لها في نفسه، سينجح في إرجاعها إلى القمة، قمة حبها له.
Page inconnue