واستغربت أنا نفسي للدهشة الشديدة التي اعترتها وأسكتتها تماما، وأسكتت معها الشقة والحمام وخرير الماء من الحنفية.
ولو ظلت ساكنة لما حدث شيء ولكنها شرعت تبكي. لم تبك ولكن ملامح وجهها بدأت تتقلص وترتفع في أمكنة وتنخفض في أخرى، وفمها يتسع وحاجباها يرتفعان من الناحية الملاصقة لأنفها فقط، وعيناها تغلقهما الجفون المنضمة، وبدت لي بشعة بشاعة قد تثير في النفس أي شيء إلا الشفقة، ووجدتني أقول لها بكل عنف وقسوة: اسمعي، أنا لا أحبك ولا أي شيء، لا بد أن تعلمي هذا وتتصرفي على أساسه.
وتهدلت عمامتها الضخمة في تلك اللحظة بالذات، وسقطت فوطة الحمام على كتفها وبقي جزء منها صغير عالقا بشعرها المبلل المنكوش، وكذلك تهدلت ملامحها فقبر مشروع البكاء إلى الأبد وحل محله استغراب بريء حزين وقالت: ولماذا إذن ...
ولم أدعها تكمل، قلت لها وأنا أعود لارتداء جاكتة البيجاما التي كانت قد خلعتها عني: هذا لا يدل على شيء.
وتركتها واقفة في الحمام وعدت إلى حجرة المكتب، وما يشغلني ليس هو لورا ولا ما قلته لها، ما يشغلني هو المفارقة العجيبة التي كشف لي كلامي للورا عنها. آه لو تقف مني سانتي حتى نفس هذا الموقف الخشن الذي وقفته أنا من لورا! آه لو تنهرني مرة واحدة وبقسوة وتفهمني بشكل قاطع أنها لا تحبني! لو تفعل لأراحتني؛ فمشكلتي معها أني لا أعرف حقيقة شعورها، ومشكلتها معي أنها لا تريد أن تعرفني.
جلست في حجرة المكتب وسمعت بكاء صادرا من الحمام ولم آبه له بالمرة. كنت في حالة غثيان واشمئزاز، وكم نتحول في حالات إلى كتل صخر قاس لا أثر للآدمية فيها، جلست على مضض ومنتهى أملي أن تغادر لورا الشقة بأسرع ما يمكن لأعود إلى وحدتي، إلى نفسي، إلى مأساتي.
وليلتها لم تغادر لورا الشقة، بعد أن ارتدت ملابسها وتهيأت للخروج، فجأة وأنا أكاد أتنفس الصعداء قالت لي إنها تذكرت أن والديها لن يناما الليلة في منزلهم، بل سيبيتان عند عمتها في مصر الجديدة. وكان معنى كلامها واضحا جدا، وكان إحساس بالشفقة والندم لما قلته لها بدأ يخالجني، فعرضت عليها أن تبقى، ولم توافق أو تلح، مضت تخلع ملابسها في صمت وتستعد لقضاء الليلة عندي.
وعلى عكس ما توقعت لم يكن ما قلته لها قد أغضبها كثيرا؛ فما كدت أبتسم لها مرة حتى عادت إلى طبيعتها في الحال، وظللت طوال الليل تحيطني بذراعيها وتهدهد علي، وكانت رقيقة في حنانها كأم، وكنت مذهولا كيف نسيت ما قلته لها بهذه السرعة وتناسته؟ لو كنت في مكانها لما أريتها وجهي بعد ما حدث، ولكن يبدو أن للنساء طابعا آخر. إنهن لا يتعاملن بالكلمات الجوفاء التي يتعامل بها الرجال، إنهن يعتبرنها مجرد كلمات قد لا تعني شيئا بالمرة في معظم الأحيان، نفس الكلمات الجوفاء التي يقتل الرجال بعضهم بعضا من أجلها.
وتركت للورا الحرية في أن تقبلني وتحدثني وتناجيني كما تشاء؛ فلم أكن معها، كنت مع سانتي لا أفكر في أي شيء بذاته مما حدث لي معها ولا فيها هي نفسها، ولكني كنت معها.
وفي الصباح وطوال اليوم التالي، يوم الجمعة، كنت قد تركت كل شيء جانبا وأصبح ما يسيطر على عقلي هو ماذا ستفعل حين تأتي في ذلك اليوم. كنت متأكدا أنها لا بد قادمة، وكنت خائفا جدا أن تكون الشفقة هي مبعث قدومها، أو على الأقل حب الاستطلاع، بل الواقع كنت خائفا جدا أن تكون قادمة لأي سبب كان إلا رغبتها في المجيء. بطريقة لا أعرفها ولا أدريها وجدت نفسي وكأن شيئا لم يحدث بالأمس، بل وكأن شيئا لم يحدث بيني وبينها بالمرة، وأصبح كل همي هو ذلك اللقاء الآتي وكأنه أول لقاء لي معها.
Page inconnue