كانت سانتي تأتي من أجل أن تتقوى في العربي كما اتفقنا . وفي أول يوم لمجيئها أحضرت معها كراسة وكتاب مطالعة من كتب الأطفال. وتحدثنا قليلا، وشربنا قهوة، ثم أخذت في إعطائها الدرس، واستمر الدرس حوالي ساعة وتسلينا به كثيرا، أضحكها من نفسي على دوري كمدرس، وتضحكني من نفسها على دورها كتلميذة، وأحاول أن أوضح ما أريد بالكتابة فلا تستطيع قراءة خطي، وتطلب مني أن آخذ أنا درسا في اللغة العربية، إلى أن انتهى الدرس.
وكنا قد اتفقنا على أن أعطيها الدرس مرتين في الأسبوع، السبت والثلاثاء. وسانتي كانت تعمل، لم أكن أعرف ماذا تعمل بالضبط، ولكنها على أية حال كانت تخرج من عملها في الثانية، فاتفقنا على أن يكون لقاؤنا في الثالثة والنصف. كان ميعادا غير مناسب، ولكنه على ما بدا كان الوحيد الذي يهيئ لنا فرصة أكبر لمده وإطالته.
وكنا أيامها في فبراير، في تلك الفترة التي يتقلب فيها الجو بين الدفء والبرودة، وتتقلب فيها الأمزجة كذلك.
وحين جاءت لتأخذ «الدرس» الثاني جاءت ومعها «الواجب» الذي كنت قد أعطيته لها، ولم تنس أيضا الكراسة وكتاب المطالعة.
ولم يستغرق الدرس هذه المرة إلا الوقت الذي «صححت» فيه الواجب، وأعطيتها «عشرة على عشرة» رغم أنف كل ما كان هناك من أخطاء، وكنا نتحدث قليلا ثم نبدأ الدرس، ولكنا تحدثنا كثيرا ولم يبدأ الدرس في ذلك اليوم أبدا. وفي حديثنا لا أذكر أن جدلا نشب بيننا حول أي شيء، كانت أحاديثنا تجاوبا لا غير، نتحدث في السياسة فإذا برأيها هو نفس رأيي، وحتى ما يعن لي من نقد هو نفس ما يعن لها، ونتحدث في الموسيقى فتقول: إنها تحب موزار، ولا أكون قد سمعت من موزار إلا قطعة أو قطعتين فأؤكد لها أني أحبه أنا الآخر ومتعصب له.
ومع أن الدروس انقطعت بعد هذا الدرس الثاني الذي لم يبدأ، إلا أننا اقترحنا أن نزيد عدد الحصص إلى ثلاث مرات في الأسبوع «لنسرع» في البرامج أكثر. ولا أذكر من منا هو الذي اقترح هذا، ولكن الأكيد أن كلينا تحمس للاقتراح ووافق عليه في الحال .
كنا نقترب كما قلت بانجذاب رائع متساو.
إلى أن كان يوم!
كانت سانتي تأتي في العادة حوالي الثالثة والنصف، وكنت أيامها قد افتتحت عيادة صغيرة، وكان وقتي موزعا توزيعا يكاد يكون كاملا بين العمل كطبيب لورش السكك الحديدية في الصباح والعمل في العيادة ابتداء من السادسة مساء، ثم العمل في المجلة إلى ساعة متأخرة من الليل. ودونا عن بقية ساعات الأيام كلها كانت الساعة الثالثة والنصف من أيام السبت والثلاثاء والخميس (وهي الأيام التي اتفقنا أن تأتي فيها)، قد أصبحت لدي شيئا حبيبا. أصبحت تلك اللقاءات وما نتبادله فيها من حديث واحة جميلة أحن إليها هربا من جفاف حياتي. وأنى لي أن أعرف أني بتلك الواحة كنت أجتاز أسعد أيام العمر؟! فنحن لا نسعد إذا استرحنا دائما، نحن نسعد بساعة الراحة إذا جاءت في وسط يوم كامل أو ربما حياة كاملة من الشقاء، نسعد بها سعادة مبالغا فيها كتلك التي يحسها الضارب في الضارب في الصحراء حين ينتهي إلى واحة يرى في نخيلها القليل وبئر مائها المهدم جنة تضارع جنان الخلد.
وذات يوم دق لي شوقي تليفونا في مكتبي بالورش وقال لي إن البوليس قد صادر المجلة، وإن علي أن أحضر في الحال. وذهبت وكنت متأكدا أني حتما سأستطيع الرجوع إلى البيت قبل حلول موعدي مع سانتي بوقت طويل، ولكن الموضوع تطور، وعرضت المجلة على النيابة وطال التحقيق، وجاءت الثالثة والنصف والرابعة والخامسة دون أن ينتهي وأنا رائح غاد لا أستطيع حتى الاعتذار، والنيران تأكل قلبي وأنا أتخيلها تنتظر على مضض هي الأخرى، ثم وأنا أتخيلها تنصرف ضيقة بي وبقلة ذوقي.
Page inconnue