بل حتى حالة الاستسلام التي كانت فيها، لم أحدثها أنا الرجل فيها، لم يحدثها كلامي أو ضغطاتي ولا قبلاتي، كتابتي هي التي أحدثتها. ولم أكن أريد أن تستسلم لي ككاتب، ولا أن تحبني كمحرر في المجلة وصاحب قلم وأسلوب. كنت أريد أن تحبني أنا، أنا الرجل، أنا الجسد والشكل والروح.
كل ما كنت أريده تلك اللحظة هو نفس ما أردته دائما، أن أبيع حياتي من أجل أن أظفر بلمحة منها تدل على أنها تريدني هي الأخرى ، طيلة علاقتي بها كنت في انتظار هذا، وفي تلك اللحظة كنت أيضا لا أزال أنتظر. والموقف يستدعي أن أتصرف بإيجابية وأنالها، فكيف أنالها وأنا أنتظرها؟ وكيف أتحرك وأنا أنتظر منها أن تتحرك أولا لأريدها وأرغب فيها. كان مستحيلا علي أن أتحرك ما لم تتحرك هي، ما لم تعاملني كامرأة تحبني لأعاملها كرجل يحبها.
واللحظة رهيبة وفاصلة، حقيقة فاصلة؛ فإحساس مبهم غامض وكأنه الحاسة السادسة، قارئة المستقبل، ومدركة البعد الآتي في أي وضع حاضر، كانت تهيب بي أن تلك اللحظة سوف يكون لها أعمق الأثر في علاقتنا، سوف تحدد مصير العلاقة. كنت أدرك أن العلاقات تبدأ بمناورات مزدحمة من جانب المرأة والرجل على حد سواء، ويظل الاثنان يحاوران بعضهما حتى ينضج ما بينهما، فإذا جاءت ولم يتم لا تلبث العلاقة أن تفتر وتبرد ثم تنهار. ترى لو لم يتم ذلك الاتحاد بيننا في هذه اللحظة وانتهى المشهد على غير تلك النهاية، فهل أغفر لنفسي هذا؟ وهل إن غفرت أنا ستغفر لي هي الأخرى وتسامح؟
وحتى إذا كنت قد تغلبت على كل قيودي الداخلية، فكيف ستواجهني هي بعدما يحدث شيء كهذا بيننا؟ كيف ستجلس في اجتماعاتنا، كيف تستعيد نفسها وتتكلم وتعمل وكيف أجلس معها، وبأي عين نناقش حينئذ نشاطنا وثورتنا؟ وكيف أستطيع أن أحمل على سياسة المجلة وأطالب بالقيادة لنا وأتهمها بما تستحقه؟ كيف أدعي الشرف بعد هذا والبراءة؟ وكيف أعود نظيفا كالبلور مثلما أريد؟
ولا أكذب على نفسي وأقول إن أفكاري الأخيرة تلك كانت حوائل رئيسية في نظري، ولكنها هي الأخرى كانت تعمل، ولقائي مع أحمد سيف النصر وكلماته، وكلمته بالذات: والله أنت أناني! ووجه العامل المتشبث بحديد النافذة لا يبرحه، تلك الأشياء المتباعدة التي كانت تبدو لي قليلة الأهمية كانت تدق فوق رأسي بعنف، وأحيانا أتفه الأشياء هو الذي يدق فوق رءوسنا ويأخذ الأهمية الكبرى في لحظات كتلك.
وفجأة أنتبه لأجد نفسي أفكر في شيء غريب، وكأني مذهول من استسلام سانتي لي، وكأني لم أكن أتوقع أبدا أن تستسلم وتصنع كما تصنع أية امرأة أخرى، إلى درجة أني أكاد أنهرها بنظراتي وأنهاها وأستنكر أن يكون ما تصنعه لحظتها أن يثبت في النهاية أنها امرأة ككل النساء. كنت أشك وأومن، وأظن أنها لا يمكن أن تفعل هذا أبدا، وأنظر إلى الواقع فيكاد الواقع ينطق ويكذبني، بل أحد الدوافع الرئيسية التي كانت تدفعني للمضي في المشهد إلى نهايته هو أن أتبين بدرجة لا تقبل الشك إن كانت ستسلم حقيقة في النهاية كغيرها أو أنها لن تفعل.
وفجأة أيضا أضيق بكل شيء، بها وبنفسي وبعلاقتنا وبالدنيا كلها، وأكاد أنفجر في سانتي سبا ولعنا؛ فلم أكن أريد بخطابي لها إلا مجرد افتتاح الحديث ليدور بيني وبينها، حديث تنضج فيه لحظتنا ونتجاوب خلاله، وينتهي إلى هذه النهاية نفسها. كنت أريد أن أؤقت أنا المسألة ولا يكون الموضوع كله مفاجأة لي، فإذا بتأثرها بالخطاب يصل إلى درجة يصبح معها أي حديث بعده سخيفا سخفا لا حد له، وإذا بما رتبته ينقلب رأسا على عقب، وإذا بي واقف عاجز لا أكاد أعرف ما يجب علي أن أفعله.
وبدأت أختنق.
والكلمة تستعمل أحيانا للتهويل، ولكني حقيقة بدأت أحس بأشياء تتصاعد من داخلي، وتلتف حول عنقي، وبدأت أحس بروحي ترف في صدري وأنني حالا قد لا أستطيع التنفس.
لم يكن قد مضى منذ جلست معها على الكنبة أكثر من دقيقة أو دقيقتين، في أثنائها دارت كل تلك الاحتمالات والافتراضات والتصورات في عقلي، وكانت لا تزال تدور حتى كدت أحس بعقلي يجأر كموتور عربة تصعد مرتفعا وهي تحمل فوق طاقتها. وكانت سانتي لا تزال على جلستها ودموعها قد بدأت تسيل في وهن، ولأنها كانت ترتكز برأسها على ذراعي فدموعها كانت قد صنعت خطين لامعين فوق وجهها المحتقن. لأول مرة كنت أرى دموعا حقيقة تصنع بسيلها خطين لامعين كلما قاربا الجفاف بللتهما دموع جديدة. وبدأت لي مسكينة ضعيفة واهنة لا حول لها ولا قوة، هي سبب الدوامة التي تجتاح عقلي وحياتي ولا أستطيع لومها، وكل ما أحسه أني أريد حمايتها حتى من نظرة لوم تفلت مني، ولا أريد منها أكثر من أن تسمح لي بأن أحميها.
Page inconnue