واعتقاد شو في الموسيقى أنها تنقل إليك الشعور نفسه من حيث يعجز القصاص عن نقله فيكتفى بوصفه. وإننا إذا أصغينا إلى الرواية الموسيقية غمرتنا حالة كالحالة التي جاشت بنفس البطل، واستولت عليه في تلك اللحظة، وهو يقول: «إنني نفذت إلى فكتور هوجو وشيلر من طريق الموسيقي دونيزتي والموسيقي فردي والموسيقي بيتهوفن، ونفذت إلى التوراة من طريق هاندل، وإلى جيتي من طريق شومان ...»
والذين يعقبون على هذا الرأي، منكرين لا يبخسون الموسيقى حقها، بل يعطونها فوق هذا الحق ويجعلونها غرضا مقصودا لذاته، ولا يحصرون مهمتها في التعبير عن الأغراض الأخرى، وهي عندهم «حياة مستقلة» وليست بكلام أو أداة للكلام.
وفي اعتقادنا أن الموسيقى قد تكون معبرا، كما قد تكون هي نفسها «شيئا معبرا عنه».
وهي لا تكون كذلك إلا إذا كانت صورة للنفس في حالات انتظامها، وتناسق الشعور فيها، وتطابق النغمات بينها وبين نظام الكون الذي نعيش فيه، وهي بهذه المثابة أكثر من تعبير؛ لأنه ليس هناك ما تعبر عنه غير هذه المطابقة بين عالم السريرة وعالم الوجود كله، وما أندرها من مطابقة! وما أندر الموسيقى التي تحكيها وتغنينا بها عن كل حكاية سواها!
وقد اشتغل شو بالنقد الموسيقي زمنا، واشتغل معه بنقد الآثار الفنية على الإجمال، ومأثرته العظمى في هذا الباب أنه أنقذ النقد الفني من «المشرحة الطبية» التي حاول بعض النقاد العلماء أن يردوه إليها ويقصروه عليها، وفي طليعتهم «ماكس نورداو» الطبيب الكاتب المفكر المعروف صاحب كتاب «الانحلال والاضمحلال»، الذي أنحى فيه على عشرات من الأدباء والفنانين بسلاح المشرطة ولغة الوصفات والتحليلات.
وكان هم نورداو أن يثبت على الفنان أعراض المرض كما «يشخصها» من كتاباته وترجمة حياته، ثم يحكم على فنه بالشذوذ والانحلال.
ومن الواضح أن هذه الطريقة كثيرة المزالق، كثيرة الأخطاء؛ لأن إثبات الشذوذ على النوابغ لا يزيد على القول بأن شذوذ المزايا يقترن بشذوذ التركيب، وتعليل الإحساس بعلة مرضية - أو فزيولوجية - لا ينفيه، فقد يكون ورم الجلد علة لفرط الإحساس ، ولا يعني هذا أن الإحساس باطل وأن المحسوس به غير موجود، وقد يقول قائل إن الألماس من الفحم، ولا ينفي بذلك أن الألماس جوهر نفيس، وقديما فهم الناس «أن صاحب العاهة جبار»، وفهموا أن المختلين والمعتلين سر من الأسرار، فلم يكن هذا الأسلوب الجديد من «النقد الطبي» للفن والأدب جديدا في مجموعه، بل الجديد فيه هو تسليطه على الأدباء والفنانين لإنكار آثارهم من طريق المشرحة ووصفات الدواء.
وقد تصدى برنارد شو لهذه المدرسة النقدية فعصف بها عصفا، ومثل بها تمثيلا، قضى عليها في البلاد الإنجليزية والأمريكية على الخصوص، فجاءته المقترحات من كل فج للكتابة في نقد الفنون، ومنها نقد الشعر ونقد الصور والتماثيل ونقد المباني والآثار.
إلا أن تفصيلات النقد في هذه الأبواب لم تسجل له فضلا أكبر من فضله في تصحيح المقاييس وتمحيص الطريقة، ورد النقد العلمي أو النقد الطبي إلى مكانه الأمين.
وقد تقرر مكانه هو في عالم الفن وعالم النقد باتفاق بين النقاد قلما يمتري فيه ناقدان.
Page inconnue