ولكنه ضر وثان وثالث
تمزق أحشاء ولاعج حسرة
وغدر محب للمواثيق ناكث
ثم عادت إلى البكاء حتى نفد الدمع أو كاد، ثم قالت بعد فترة طويلة: «ڤكتور»، «ڤكتور»، عدت عن عزمي فلست أريد الموت. - قضي الأمر وجف القلم يا «أليس»، قدر هذا علينا فكان، فلسنا نخرج من هذا المكان. - لا، لم يفت شيء ولم يقض أمر، ولم تزل الحياة قريبة المنال منا، فما يعوزنا إلا شيء من الهواء، فافتح النافذة نشدتك الله. - لا، لا يمكن، لا يمكن، ولا بد من الموت. - لست أريد أن أموت، لست أريد، أموت وعمري عشرون سنة، وكل ما حولي يبتسم لي، فالثروة ترفعني مكانا عليا، والجمال يلبسني ثوبا بهيا، والناس من حولي يتلون تبارك الله الواحد الأحد، فيصيح العاشقون منهم مدد الله مددا ... لا، لا أريد الموت، لا أريد الموت. - لا بد منه، ولا ندحة عنه. - إذن تروم أن تقتلني صبرا، وكان حبك خديعة وغدرا، فما فيك من شفقة علي ولا رحمة، ولا أنت تذكر لي ذمة ولا حرمة. - هذه عاقبة جنوننا، فذوقي ما كسبناه، فإنما للمرء ما سعى، وإن سعيه سوف يجزأه. - صدقت، لقد كان ما فعلناه جنونا، فقد كنا نستطيع الصبر على ما قضى به علينا من الفراق، ثم نتأسى فنسلو، فينفتح لكل منا باب جديد من الهناء والمسرة، فهي الدنيا نعيمها زائل وبؤسها غير مقيم، وقد رأينا العبرة بأنفسنا، فلنعتبر الآن وعفا الله عما كان. - لا فائدة بالعبرة، فيومنا ليس له من غد. - لا تطل المزاح فيما يزهق الأرواح، واكسر زجاج هذه النافذة ليدخل الهواء، فتعود إلينا الحياة كما عاد إلينا الرشد والهدى. - لا أكسره أبدا. - إذن أنا أفتح النافذة.
فأخذ بيديها أخذ المقتدر، وقال: لن تبرحي من هذا المكان. - عدمتك من لئيم غاشم تستعلي بقوتك الوحشية على الضعيف، دعني؛ فلست أريد أن أموت من أجلك ولا معك، فقد أبغضتك نفسي. - وأنا أبغضك أيضا، فأنت التي أوصلتني إلى هذا الموقف، أنت التي قتلتني وهدمت ما بنيته من السعادة والراحة لمستقبل الأيام، وحملتني على ارتكاب الذنوب العظيمة، ولولاك ولولا دهاؤك السيئ لكنت إلى اليوم سعيدا شريفا في بلدي بين آل بيتي، فلك الخزي، وعليك اللعنة.
فأجابت ونار الألم تحرق أحشاءها، والسم
يتمشى في مفاصلها
كتمشي النار في الحطب - قد كرهتك، قد كرهتك، فأنت أبغض الناس إلي، يا للمرؤة! أسعفوني بقليل من الهواء، إني لا أريد أن أموت. - بل تموتين ... فإني آليت ألا أتساهل معك في شيء، ولقد أبيت إلا أن أترك أحبائي الصادقين من أجلك، فعلت ولكن زالت الغشاوة عن بصري بعد ذلك، فرأيت ما لم أكن أرى، فلست أمنحك شيئا مما تريدين، فإني لا أرضى أن أكون أضحوكة للناس يستهزئون بي ويقولون: هذا هو الذي وطن نفسه على الموت مع خليلته، ثم غلب الجبن عليه فضعفت نفسه ففر من الموت. لا، لن يكون كذلك. - وماذا علينا من استهزاء الناس؟! وهل تترك الحياة من أجل هذا؟! - أليس إن قولهم ألف مرة: «هرب أخزاه الله» خير من قولهم مرة واحدة: «مات رحمه الله»؟ - الحياة الحياة، لا بد لي من الحياة. - لا سبيل إليها ... فقد اخترت الموت، فموتي ... - فتوقدت نار الغيظ في قلب «أليس»، فعاد إليها شيء من قوتها الزائلة، فحاولت النجاة من يد «ڤكتور» لتفتح النافذة، لكنها لم تقو على التملص من يديه، فدانت لقوته وسقطت فاقدة العزم غائبة الرشد، أما هو فلبث يقاوم الألم بقوته الهرقلية،
8
ويدافع حب الحياة بما بقي له من القوة الفكرية هنيهة من الزمن، ثم صاح: «ماري»، «ماري»، صلي علي، ربي أسالك الرحمة والمغفرة.
Page inconnue