إذا مرضت فيها الأصائل عادها
على شعب الأغصان نوح الحمائم
يذكرنا دهرا تقضى نعيمه
وعيشا تولى مثل أضغاث حالم
ولعلك تذكرين أيضا أني منذ جمع بيننا العهد في ذلك العهد ما أورثتك شيئا من الكدر عمدا ولا خالفت لك أمرا، ولا ألوت في طاعتك جهدا بل راعيت ودك، وحفظت عهدك، وما برحت أقيم الأدلة على تولهي فيك غراما حتى جعلت الموت في حبك لأدلتي ختاما، وكنت قد عاهدتك على ذلك فما نكثت، وحلفت فيه وما حنثت.
فأجابت وكان صوتها ضعيفا لا يكاد يسمع : نعم، نعم، أذكر كل هذا، وإني كنت سعيدة مليحة فتانة غضة الشباب، محببة إلى الأنفس، جذابة للقلوب، لا أجد من حولي إلا محبا أتيمه بابتسامة، أو عاشقا أذيب فؤاده بالتفاتة، إذ الأيام قريبة الأمنية دانية الأرب، والحياة كلها صفو، والعيش كله طرب، وقد سمحت بكل ذلك يا «ڤكتور» ولست نادمة عليه؛ لأنك أحببتني حبا صادقا ...
وحينئذ ضعف نور القنديل، وآذن خفقانه بالانطفاء ، فقالت «أليس»: لست أدري ما الذي اعتراني، إني لا أكاد أبصر، فكأنما على عيني غشاوة. - عما قليل لا تبصر شيئا، فهذا لسان الضوء الضعيف ينذرنا بأنه ميت وأنا تابعان له. - أواه، لا أريد أن أموت في الظلمة يا «ڤكتور»، بل أروم أن تحدق عيناي بعينيك إلى آخر نسمة من الحياة، ثم أريد أن أرى هذه الأزهار، وأنظر إلي يدي وإلى محاسني في هذه المرآة فأوقد القنديل وارفع نوره جعلت فداك. - لا فائدة من ذلك، فما بقي في القنديل زيت، ولكن ما للقمر لا يضيء علينا وهو الليلة في تمه؟! - إني ألقيت على زجاج الشبابيك ستائر كثيفة حتى لا يدخل الغرفة شيء من الهواء، فاحتجب عنها لذلك نور القمر فلسنا نراه، ولا نرى شيئا مما بظاهر هذا المكان.
ثم تنهدت تنهد الآسف الضعيف، فقال «ڤكتور»: هل كتبت إلى أمك يا «أليس»؟ - نعم، كتبت إليها وإلى زوجي وإخوتي، وجعلت الكتب على مكتبي في غرفتي. - وهل يعرفون مكانك الآن؟ - يحسبون أني سرت إلى «لوسيان» لأصرف النهار، ثم أبيت عند شقيقتي الكبيرة.
فأمسك هنيهة عن الجواب، واقترن حاجباه، وانقبض جبينه تفكيرا، ثم قال: وهل أخبرتهم في تلك الكتب بما كنت عازمة عليه من الانتحار؟ - أخبرتهم بذلك إلماعا وتلميحا. - ولم هذا؟ - لم يكن لي فيه قصد.
وكان الألم قد اشتد عليها نهاية الاشتداد، فقالت: «ڤكتور» ... إني ظمآنة ظمأ شديدا.
Page inconnue