لم يمل الحفيدان شهاب وفائق زيارة جديهما حتى بعد أن أصبحا شابين يستميلهما ما يستميل الشباب من متع وانطلاق؛ فقد كان يجدان عند جديهما وجدتهما نوعا من الرعاية والحب لا يجدانه في ظل أبيهما، وإن وجداه من أمهما.
دخل شهاب كلية الهندسة، ودخل فائق كلية التجارة، وكانا جادين في الدراسة جدا يمكنهما دائما أن يحصلا على درجة مشرفة. وكان سعار المال يزداد تحكما في والدهما يوما بعد يوم، فالأرقام لا نهاية لها، وجمع المال عند بعض الناس غريزة في ذاته، قد يدعي المسعور منهم أنه إنما يجمع الأموال لأولاده أو يجمعه ليتقي فجاءات الحياة. كذب هذا جميعه وأشباهه؛ فهارون قد أصبح من الغنى بمكان يندر أن يصل إليه أحد، وأصبح واثقا أنه يستطيع أن يواجه الحياة حتى آخر الحياة، بل إن ابنيه وزوجته أصبحوا في مأمن من ريب الفقر، بل إنهم من بعده سيصبحون من أعظم الأغنياء، وكذلك الأحفاد حين يأتي الأحفاد. ولكن هارون لا يكتفي ولا يهدأ أو يستريح؛ فجمع المال في ذاته هو حياته وكل ما يسعى له. أما ولداه فقليلا ما يراهما، ونادرا ما يعلم ماذا هما صانعان بحياتهما، وإنما يعرف خبر نجاحهما ضمن سائر الأخبار التي تلقيها إليه حميدة فيما تلقي إليه من أخبار حين يجمعه بها الليل بعد يوم طويل هو فيه دائما ملهوف على زيادة ثروته.
والذي لا يعنى بولده ليس عجيبا ألا يعنى بوالديه. قد يتذكرهما فجأة فيطلبهما في التليفون، وما داما لا يطلبان مالا في المكالمات فإنه يطمئن نفسه، بل هو لا يريد أن يسأل نفسه من أين لهما بالمال. فإن سمحت نفسه وكان في حالة نفسية مرحة أرسل إليهما بعض المال، متصورا أن فيما يرسل من حين إلى حين غاية الكفاية ليعيش والداه. في يوم من الأيام النادرة في حياة هارون جلس إلى أسرته على مائدة الغداء، وفجأة قال شهاب: أبي لماذا لا يأتي جدي وجدتي ليعيشا معنا؟
وكأنما كان السؤال لكمة أصابت رأس هارون، فصمت حينا، ثم قال: جدك له أصدقاؤه في البلدة ولا يجد السعادة في البعد عنهم، كما أنه لا يحب أن يغير بيته لا هو ولا جدتك، وقد علت بهما السن ومن الصعب أن يغيرا مكان الإقامة في سنهما هذه. وانقض عليه فائق: ولماذا لا تذهب أنت إليهما؟
وأطرق هارون حائرا في غير خجل؛ فمثله لا يعرف الخجل: يا فائق أنا لا أراكما إلا في القليل النادر، فكيف تطلب مني أن أذهب إليهما؟ - لا يمكن أن يتركا هكذا. - أنا أطلبهما بالتليفون كلما وجدت فرصة.
ويقول شهاب: لا تستطيع أن تتصور كم يفرحان حين نذهب إليهما مع جدي سعدون كل أسبوع، أو حتى حين يتخلف جدي عن الذهاب ونذهب أنا وفائق إليهما. - هذا طبيعي.
ويقول فائق: ولكني يا أبي أجد سحابة حزن تغشى وجهيهما كلما سألانا عنك.
وصمت، ثم قال في محاولة لإقفال الموضوع: الحقيقة أنا مقصر. - هل تذهب معنا يوم الجمعة القادم؟ - لا أستطيع أن أعدك الآن؛ فأنا لا أعرف مواعيدي.
وأطرق الشابان وقالت حميدة: لماذا لا تذهب يا هارون؟ إن هذا سيفرح ولديك وأبويك، بل ويفرحني أيضا فأنا مشوقة إليهما. سنوات طويلة لم نرهما. - لا أستطيع أن أعرف مواعيدي وأنا معكم في البيت. سأرى مواعيدي.
ورأى مواعيده ولم يذهب. أتراه كان يخشى اللقاء بعد هذا الجحود الطويل منه؟ ربما وإن كان هذا بعيدا عن خلقه.
Page inconnue