Balaghat Gharb
بلاغة الغرب: أحسن المحاسن وغرر الدرر من قريض الغرب ونثره
Genres
ولما انتهى الدرس ابتدأنا في الكتابة، وهيأ لنا أستاذنا نموذجا جميل الخط كتب عليه: فرنسا. ألزاس. فرنسا. ألزاس. وقد عمل منه جملة صور فرقها علينا.
فكانت أمامنا أشبه بأعلام تخفق، نبهت منا القلوب، وأثارت الشعور، وأهاجت العواطف، وهزت الأفئدة؛ حتى عم السكوت، فكنت لا أسمع إلا صرير الأقلام على الطروس.
وبينما نحن سكوت إذ حط على سقف المدرسة سرب من بنات الهديل، وأنشأ يغني فقلت في نفسي: ليت شعري أيلزمون يوما ما هذه الحمائم بأن تغني باللغة الألمانية أيضا؟
كنت من وقت لآخر ألمح خفية المسيو هامل، فكان جالسا لا يبدي حراكا، كاسف البال، مرددا طرفه في بيته الصغير بالمدرسة، تعاوده الذكرى القديمة من تمضية أربعين سنة في هذا البيت، وأمامه قاعات الدروس، وبفناء داره شجر الجوز الذي زرعه صغيرا من هذا العهد؛ حتى شمخ وملأ فضاء المدرسة، وبجانبه حشيشة الدينار وقد تسلقت على الحائط وزينت النوافذ، ثم تسربت إلى العرش، وبينما هو على هذه الحالة من أسف لفراق معاهد شابت فيها نواصيه إذ نادته أخته ليساعدها في تجهيز الأمتعة والحقائب ليسافرا في الغد.
ولقد تشجع وأعطانا الدرس إلى نهاية الوقت، ثم دقت ساعة الكنيسة مؤذنة بالظهر، وأعقبتها موسيقى الجرامانيين وهم قادمون من التمرين؛ فوقف أستاذنا وقد علاه الاصفرار وظهر بمظهر العظمة والهيبة قائلا:
أيها الأحباب الأعزاء إني ...
ثم اختنق صوته من شدة انفعاله، ولم يقو على إتمام حديثه، فأخذ قطعة من الطباشير واتجه نحو اللوح الأسود وكتب بحروف متناهية في الكبر:
لتحي فرنسا!
ثم مكث في موضعه ورأسه مسند إلى الحائط، وقد كاد أن يغشى عليه، ثم أشار إلينا بيده دون أن ينبس ببنت شفة بإشارة تؤذن بالانصراف.
تييوفيل جوتييه1
Page inconnue