Balagha moderne et la langue arabe
البلاغة العصرية واللغة العربية
Genres
س. م
تمهيد
أعظم المؤسسات في أية أمة هو لغتها؛ لأنها وسيلة تفكيرها، ومستودع تراثها من القيم الاجتماعية، والعادات الذهنية.
واللغات تتفاوت؛ فهي: مجموعة صغيرة من الكلمات قد لا تزيد على ثلاثمائة كلمة عند إحدى القبائل البدائية، وهي قد تبلغ مائة ألف كلمة عند أمة متمدنة قد ارتفعت فيها الفنون والعلوم.
واللغة الراقية هي: علم، وفن، وفلسفة بمعنى أنه يمكننا أن ننظر إليها النظر العلمي، فنبحث أصولها، ونميز بين معانيها، بل نضع الكلمات الجديدة لتأدية المعنى الجديد، ويمكننا أن ننظر إليها النظر الفني؛ فننشد بالكلمات، والجمل رفاهية ذهنية لا تؤديها الدقة العلمية، وكذلك يمكننا أن ننظر إليها النظر الفلسفي؛ فنضع الكلمات الجديدة، أو نكسب الكلمات القديمة معاني جديدة تؤدي بعد ألفتها في المجتمع إلى حال منشودة من الخير.
وغاية اللغة قبل كل شيء هي الفهم، ولم نصل بعد إلى اللغة المثلى، بل نحن لا نكاد نعرف كيف تكون؛ إذا جعلنا الفهم أول غاياتها، فقد وصلنا في العدد إلى الأرقام الهندية؛ فكانت أعظم خطوة لغوية في الحساب والعلوم، فهل نستطيع يوما أن نصل في سائر الموضوعات إلى لغة تنقل إلينا الفكرة الفنية أو العلمية أو الفلسفية بمثل الدقة والسهولة اللتين ننقل بهما إلى أذهاننا عدد الألف، أو المليون؟
وإلى أن نصل إلى هذه الغاية ستبقى اللغة عاجزة عن التعبير الدقيق؛ إذ يجب أن نذكر من الآن أننا لا نعرف الدقة التامة في أي علم من العلوم؛ إلا إذا استطعنا أن ننزل بحقائقه إلى الأرقام، ولذلك لا مفر من أن نقول: إن الرقي في اللغة يعني الدقة، وهو يقاس بها، فما دامت الكلمة مسيبة في المعنى، تحتمل هذا المعنى ونصفه، فضلا عن معنيين مشتبهين؛ فإنها تضر التفكير كالآلة التي لم يحكم بناؤها؛ فلا يمكن التكهن بمنتجاتها.
والإنسان حيوان لغوي يرى ويسمع، ويفكر باللغة، ولكل كلمة إيحاء معين في أذهاننا ففي مصر نقول: «وزير» وفي الولايات المتحدة الأمريكية يقولون: «سكرتير»، والعمل الذي يؤديه الوزير، والسكرتير واحدا، ولكن إيحاء الكلمة الأولى أرستقراطي، وإيحاء الكلمة الثانية ديمقراطي، ولهذا أثره البالغ في الشعب الذي يلوك إحدى الكلمتين، كما له أيضا أثره البالغ في نفس الموظف الذي يصف نفسه بأنه سكرتير أو وزير، فهو متواضع في الحال الأولى، منتفخ في الحالة الثانية.
وللكلمات توجيه اجتماعي بعيد الأثر في المجتمع فإن كلمة «البر» من أشرف الكلمات الموحية التي تربي الأبناء، وتبعث على التعاون، والإخاء في حين أن كلمة «الدم» تحدث في كل عام في بعض مديريات الوجه القبلي نحو ثلاثمائة قتيل؛ لأنها تحمل شحنة عاطفية تجعل كثيرا من الرجال يقتلون بلا روية.
والكاتب المتنبه الذي يحس الوجدان الاجتماعي يجب أن يؤكد المعاني البارة للأمة، وأن يضع الكلمات الجديدة؛ كي توجه التوجيه الفلسفي أو الاجتماعي وبذلك تنمو اللغة وتتطور ولا تركد.
Page inconnue