Lamentations: Six larmes sur une âme arabe
بكائيات: ست دمعات على نفس عربية
Genres
H. Bergson » (1859-1941م)، ثم إلى أقطاب «مدرسة فرانكفورت» في ألمانيا، مع غيرهم من أصحاب النزعة المثالية والميول الصوفية، مثل «شتروفه»، الذي تتلمذ عليه «مكاوي» في ألمانيا، ونقل إلى العربية في سبعينيات القرن الماضي كتابه الشيق العميق: «فلسفة العلو-الترانسندنس»، وهو الكتاب الذي أعادت طبعه الهيئة العامة للكتاب العام الماضي.
أما لو وقفنا عند ما قدمه «مكاوي» من دراسات وترجمات شعرية وأدبية، فلن نجده أقل أهمية، فهو يضارع كما وكيفا ما قدمه في مجال الفلسفة الخالصة، بل ويتسع أيضا زمانيا ومكانيا، كما كان الحال في النتاج الفلسفي، فمن الشاعرة اليونانية «سافو»، إلى «جوته» و«بوشنر» و«بريخت» والرمزيين من أعلام «ثورة الشعر الحديث».
رحم الله عبد الغفار مكاوي؛ لقد كان نسيج وحده في حياتنا الثقافية، لا بنتاجه الفلسفي والأدبي الغزير والأصيل فحسب، وإنما أيضا بإبداعاته القصصية والمسرحية، وبروحه السمحة وتواضعه الجم، وما أحرانا - نحن تلامذته ومحبيه - أن نعي الدرس الذي لقننا إياه بجده وصبره، وصمته وبعده عن الأضواء، وأن نعيد تقديم تراثه للأجيال الجديدة؛ لتجد فيه المثال الحي على الدقة والعمق والصدق، في زمن عزت فيه هذه القيم.
الدمعة الأولى: دموع على حائط مبكاي
قلت للصوت الصديق الذي دعاني للمشاركة في العيد الفضي ل «الآداب»: أنت توقظني من نومة أهل الكهف، منذ سنين وأنا غارق في بحر السواد والاكتئاب، منذ سنين وأنا جثة تأكل وتمشي وتنام وتضحك أحيانا، وتثرثر بالحكمة، تنكر الصوت الخارج منها، وتضيع في المتاهات بحثا عن هويتها. طمأنني وألح علي. قلت سأكتب بكائية، وسأرثي نفسي وشبابي! سأفعل ما فعل الشاعر العربي الذي نعى نفسه (ذكرت اسمه ونسيته الآن) قال: افعل. قلت: أليست قلة ذوق أن أنصب مأتما وسط أفراح العرش؟ هل كتب علينا أن نبكي طوال العمر؟ ثم فكرت أن أقيم حائط مبكى عربيا أدعو إليه الأحباب. فكرت أن أهتف بالقراء: دعونا نبكي، فنحن أولى من أعدائنا بالبكاء، فدموعنا على الأقل ليست دموع التماسيح، وذنوبنا في حق أنفسنا أثقل من ذنوبهم عبر التاريخ، لكنني وجدت من الغرور أن أدعو غيري للبكاء، ولن يغفر لي أحد أن أسقط ذنوبي عليه، أو أعمم اتهام الذات - وهو في حد نفسه لا يخلو من الزهو والتبرير - على عشرات من جيلي أنا أول من يحبهم ويقدرهم، ولا يقارن نفسه حتى بالتراب الذي تدوسه أقدامهم. فلأذرف وحدي دمع العين على حائط مبكاي. وليغفر ثرثرتي القراء، وليتسع الصدر لاعتراف جاء بعد خمسة وعشرين عاما، هي في النهاية عمري المسفوح في دم القلم. وهل كانت «الآداب» طوال هذه السنين إلا حائط مبكانا الذي تلقى بالحنان دموعنا، وفتح صدره لصراخنا واحتجاجنا وتجاربنا الساذجة، التي ضاقت بها بلادنا؟ هل كانت إلا المهجر والملجأ للثائر والمتعب والباكي؟
في دمك «صوات» الندابة القديمة، شجن المغني الأعمى على القيثار، أحزان إيزيس الثكلى وأحفادها الذين تترنم بهم الرباب والمواويل ، أهو القبر والتابوت الفرعوني الذي لم تستطع الفكاك منه (من عجب أنه يتسع للنكات والضحكات، إن السياح يقصدون طيبة، وقاعة المومياآت في المتحف المصري، ويغفلون عن القبور والتوابيت والمومياءات الحية!) أهو سجن العمر الموروث؟ وهل كانت كل كتاباتك لطما في مأتمك الأزلي نصبته «دمعات» الربة، لكن نسيته؟ ها أنت ذا بعد آلاف الصفحات وآلاف الليالي الوحيدة، تدرك فجأة أنك لم تخرج من التابوت، ولم تستطع أن تزحزحه؛ لأن الأجداد صنعوه من ضلوعك.
تفتح عينيك فجأة - بعد فوات العمر - فترى الكتب تحيط بك، سورا شائكا غرسته بنفسك، فحرم عليك بستان الحياة. صور لك الوهم أن الحياة كتاب، وأن الكتاب حياة، لم تدر إلا وقد أصبحت مجلدا يمشي على قدمين، ينطح صخر الواقع بأحلام ليست هي أحلامه، عند أول ريح تطايرت الأوراق. عند أول صدمة غرقت كما غرق تراث أجدادك في مياه دجلة والبحر الأبيض. فتشت عن طوق النجاة. آه لو كنت كتبته! كتابك أنت لا ما نقلته عن الآخرين. لربما كان أغاثك، أو خف إليك كقارب نجدة.
يا نوح العجوز! لا عاصم اليوم من الطوفان. يا نوح، لم لم تصنع سفينتك؟ دموعك الآن هي الطوفان. فالجأ قبل فوات الوقت إلى حائط مبكاك، لكن حاول أن تبكي بدموعك أنت، أن تتعرى في الريح أمام المكتبة المحترقة، أقم الحائط وابك عليه، فلعلك يوما تتطهر. ••• «الناس جميعا فرحون، كأنهم يشاركون في وليمة، كأنهم ذاهبون إلى مهرجان الربيع. أنا وحدي أرقد في سكون، أشبه بطفل صغير، لم يبتسم مرة في حياته. أنا وحدي متعب، حزين القلب، مضيع كأني بلا هدف، أنا وحدي غير الآخرين.» سطور من كتاب ترجمته منذ سنين.
1
أهناك شيء يصدق عليك مثلها؟ الاكتئاب كان قدرك. أمك المسكينة كانت تسميك مالك الحزين، كنت لا تبكي وتنشج إلا في الأفراح. أيها السم الأسود، من الذي خلطك بدمي؟ أهذا هو الذي قربك من الشعر؟ عرفت مبكرا أنك أفلست فيه. أهذا هو الذي جعله يلازمك كظلك فأخذت تنقله إلى لغتك؟ سودت عنه مئات الصفحات. تجولت في جزره البعيدة والقريبة (في العام الماضي منحوك الجائزة - فضلا منهم وكرما - فأغرقتك في مزيد من الاكتئاب). يا أوديسيوس الخائب، سدى كانت مغامراتك، الحوريات كذبت عليك. الرحلة كانت مضيعة للعمر. وعزفت على قيثار لم تصنع أوتاره، لا لم يصنع لك، هل تعجب بعد وصولك إيتاكا أن تتنكر «بنيلوبة» لك؟ أن تهتف بك: «لا لست الزوج! والثوب الواعد لم يغزل لك. لم أنفق فيه العمر لكي أنتظرك.»
Page inconnue