Lamentations: Six larmes sur une âme arabe
بكائيات: ست دمعات على نفس عربية
Genres
تزدحم وجوه حولي، ضاعت منها البسمات. يلتف رجال ونساء. يخترق الصف صبي في يده ناي، ينفخ فيه فينبعث الصوت الساحر. أين رأيت الوجه الضامر؟ يتقدم نحو الرجل الضخم، يمد إليه الحافظة وتعزف يده الأخرى فوق الناي. أهتف: أرأيتم؟ حافظة نقودي. خذها، افحصها أنت بنفسك. يتناولها الرجل، يتمتم معتذرا، يخرج منها الأوراق. أنظر في وجه العازف، يطفو الجزع عليه والإشفاق. يفتح الرجل البطاقة، ينظر فيها، ثم يصيح: هل صدقتم؟ تتزاحم حولي الأوجه، تمتد العين وتمتد الأنف، تهتف أصوات: أعجب موقف. لا اسم ولا عنوان، لا صورة، لا توقيع ولا أختام. أحتج وأبكي ، وأدق بقدمي الأرض: هذا سخف سخف! إني ... يتدخل الصبي الساحر، يسحب البطاقة بلطف: أنا أعرفه، قد كلفني به. ويميل على رأس الرجل ويهمس، يتراجع للخلف وينصرف الناس. يتقدم مني الرجل، ويحني قامته ويهتف: لم لم تذكر هذا من قبل؟ هذا الفندق تحت الأمر، ماذا تطلب؟ ماذا يرضيك؟ تفضل!
يسحبني الصبي من ذراعي بعد أن ينفخ في الناي نغمة بارعة، ويضع يده تحت إبطي، ويقول: سامحهم، من لا يعرف يجهل. أنا منذ الآن رفيقك، ودليلك، خادمك وأكثر، ويخلص ذراعه ويمد كفيه. ترتعش أصابعه على الناي. أسأله ما هذا اللحن؟ يبتسم ببراءة ويقول: الصعود إلى الهاوية!
نتجول من رواق إلى رواق، نصعد درجات ونهبط درجات، نترك ردهة لامعة لندخل ردهة ناصعة. الجدران يفيض منها الضوء كسطوح زجاج شفاف، ووجوه الخدم تبتسم وتطرق إلى الأرض، كأنها تعتذر أو تخفي سرا. ندلف إلى قاعة كبيرة تذكرني رائحتها الحادة بعنابر المستشفيات: نظيفة، بيضاء، ناعمة الأسرة والجدران، ولكنها مخدرة كجسد أبيض ممدود على مائدة الجراح. أنظر فأرى سريرين في القاعة، أسدلت بينهما ستارة سوداء، يعزف الصبي لحنا عابثا كصفير عصفور نزق ويشير إلى السرير الأول ويقول: هذه أول سلمة، اذهب إلى هناك، إنها تنتظرك. اهبط بعدها سلمة أخرى، وستجد الأخرى تنتظرك. أسأله: من تعني؟ يرمقني بطرف عينه: أنت الأدرى، راجع صفحات كتابك. يرن بأذني صوت نبهني في قاعة العرش: قدم كشف حسابك! أطرق في صمت، أسأله: ماذا تفعل أنت؟ يبتسم ويعبث بالناي: ما أفعله دوما، أسمعك اللحن؟ أكرر السؤال، وأنا أضع ذراعي على كتفه: أي لحن؟ يرفع حاجبه ويقول: كيف نسيت؟ لحن سقوطك في الآبار! يشير إلي فأتقدم. يرتفع العزف ورائي، يرتفع أمامي يشبه خطوة طفل عاري القدمين، يتحول أثناء النوم ويبحث عن أبويه.
ممدودة على الفراش كحورية خرجت من الماء، الشعر الكستنائي منسدل حول رأسها بغير نظام. والوجه الناصع البياض، المشوب ببقع حمراء خفيفة، يشبه وجه ملاك. وجه صغير شاحب كالهلال النائم فوق السحاب، تشع منه براءة طفل عليل مسحوب إلى أسفل شبه مثلث حاد ، تشعر من نظرتك الأولى إليه أنك مدعو لحماية يتيم. والعينان ضيقتان، خاليتان من التعبير ، والجفنان بلا رموش، تنظران في بلاهة لا تعرف إن كانت مكرا أو سذاجة أو غباء. توشك أن تهتف حين تنظر في بحيرتها الآسنة: هل خلق الله ملائكة عميان؟ ما ضر لو اتسعت هاتان العينان، لو ينعكس بمرآتهما ظل خيال أو وجدان؟ لكنك تغفر وتسامح، فالفم مفتوح ذابل، والفجر يطل من الأسنان، فيغسل كل سؤال.
ممددة على السرير اللامع، تجري يدها الباردة على أزرار الفستان. لاحظت تبلدها وبرود أناملها وشحوب الكف. قلت لنفسك: إن اليد والعين مرايا النفس. والنفس المتبلدة تناسبها عين باردة أو كف متجمدة الحس (كل الأرواح تنال الأجسام التي تستحقها، درس من علم الفراشة). لكنك كفنت الخاطر في أكفان النسيان، فاليتم الآسر فجر فيك ينابيع حنان. - أنت؟ (قالتها وأشاحت بوجهها الذابل المستطيل.) - أتذكرين؟ (وقفت بعيدا أنظر في استحياء، نفس الخجل ونفس الطيبة والتسليم.) - أنا الآن أم أولاد، لم جئت؟ - جئتك من صومعة الزاهد المنحوس، جئت كما يأتي الطيف أو الكابوس. جئت، كما قلت، بوجه السكير وقلب الصوفي الشاعر، ويقول العابر في عرض الشارع ضعة وخنوعا، يذهب في بيت الصمت فيهتف من هب ودب: «فصام.» يكتب عن قدر العالم والإنسان، فيسرع أرباب الحكمة: مجنون خائب. يبني سجنا هو فيه سجين، والسجان يحنو كالأم، فلا يقبل منه حنان، ذلك أليق بالزهاد أو الكهان. لا تك قديسا وسط كلاب وذئاب. من لا يأكل يؤكل، والسمك الصالح تبلعه الحيتان. - أف! عدت لنفس الموال، أأنت كتاب مفتوح؟ - عفوا. كم حدثتك عن كتبي، عن أحلام الغد، كم قلت وكررت عليك: هي عندي لقمة عيش أو صنعة، وهي كذلك متعة، أما الحب ... - الحب؟ شبت في الجسد البارد شعلة نار، عض الشفتين سعار، هب الإعصار على النهدين وثار، أصاب العينين دوار. - أجل ... الحب. - لم تعرف أبدا. - تذكرين يوم سألتك عنه؟ - أذكر. ذنبي أني أكتم سري، أسرف في الكتمان. كان الشفق الشاحب يكسو الأشجار، أدركت أنك أسدلت على المأساة ستارا بعد ستار. - حدقت بوجهك، بالشعر الأبيض في الرأس، أطرقت وخاطبت النفس. أنا بنت اليوم وأنت الذاهل وابن الأمس. يطفر من عينيك الحزن، ويكسو وجهك لون اليأس، أي دواء يشفي داء الميت في الرمس؟ - قلت الحق، لكنك ما قلت الصدق. أحببت سواي، وما كذب علي القلب. حدق في عينيك، فشاهد غيري يسخر من بلوري، مرت تلك الأيام، تداعى برج الأحلام. - حقا أحببت سواك. - ولماذا مثلت الدور؟ - كان عنيدا مغرورا، فأخذت بثأري منه. - أغرقتك بحنان الأب؛ فلماذا أنكرت الحب؟ - حقا كنت كأب. هل تذكر ما أفضيت إليك، عند لقائي الأول بك. - أذكر، أذكر. لا أنسى، لكن أغفر. - كنت كأب، وبهذا حدثني القلب، لكني أفتقد بجانبك الحب. أفتقد شباب القلب، حزنك قد سد علي الدرب. - حزني؟! ما أنا حجر أو صخر، حزني قدر العمر، وهو الميراث المر. في بلدي يولد كل الأطفال شيوخا، يقتل حتى الزهر. حزني؟ من مسئول عنه؟ وطني، أرضي، بذرة أبوي وأجدادي، أم هذا العصر؟ سأم الأيام المرة والشرطي الحارس ولي الأمر؟ الشاعر يا ... يحمل ميزان العالم بين يديه، إن ثقلت كفته بالأحزان، فما ذنب الشعر؟ أسرع وأطمئنك فلست بشاعر، لكني أحيا الشعر، أتحسس جرح العالم، وأفتش عن وجه الفجر، وأعود كأني الحصاد العائد بحصاد مر؛ ولهذا أصمت كالقبر، أكتم سري، يوم أموت سيدفن معي السر.
أذكر يوم ذهبنا للبستان، نأكل ونثرثر، نستعرض أشكال الحيوان. كنت سعيدا كالطفل الأرعن، كالفنان. مشينا على الممشى، تفرح عيني بالخضرة، وتمرح في عرس الورد وأفراح الطير. أكلمك عن أمنا الأرض، عن ثوب الطبيعة الحي، عن الأبدي الفعال الذي ينسج النول الأزلي، نحن أيضا طبيعة، نولد ونأكل ونتناسل ونشيخ ونموت كما تموت الأفراد. لكن يبدو أن الفرد يموت ليحيا النوع. ماذا يمنعنا أن نصبح طبيعية خالصة؟ هل فكرت في هذه المسألة؟ إنه العقل، الفكر. نحن حيوانات، ولكنا حيوانات بائسة مفكرة. نصفنا طين ونصفنا سماء، نصنع أنفسنا بإرادتنا، بإرادتنا نبني التاريخ، كل الموجودات بلا تاريخ، إلا الإنسان. لا يذكر أحد أن النملة والقرد أو الخنزير يسجل تاريخ النملة والقرد أو الخنزير. نعبر بالعقل حدود الكون، نحاول أن ننفذ خلف السطح، ونكشف لب الأشياء ، بل نقفز خلف مجرتنا، نكتشف عوالم أخرى. لا تنس اللغة كذلك؛ عند الحيوانات إشارات وعلامات، والبعض تطور بإشاراته، لكن الرمز الحافل بالمعنى لم يعرفه سوى الإنسان، واللغة أيضا. لكن لماذا لا تتكلمين؟ هل أكلم نفسي؟ أمد يدي لأمسك يدك. هل خطر ببالك معنى أن تنزع كف من كف؟ أكتم، أعتذر، وأغفر، وأبرز، وأنبهك لألوان الورد وأشكال الشجر، وصور العرس الرباني. أتكون الجنة أجمل من هذا؟ لم لا ندخلها، نسبح في النهر ونغرق فيه القلب؟ يمكننا أن نفعل هذا، أقسم لك؛ فالخلد قريب منا، والأبدية تدعونا بلسان جميع الأشياء: «ذوقوا طعم الجنة قبل الموت!» كذب القائل إن العالم حلم زائل، أو إن الدنيا جسر عبور. خالدة كل الأشياء تشع خلودا، حتى النبتة في الحقل، حتى الشوكة في الصحراء، حتى النظرة في العين، لكنا ضيعنا الدهشة، وغرقنا في العادات الهشة، تجرفنا فوق بحار العالم كالقشة، وتقاتلنا وتخاصمنا وخلقنا في الأرض جحيما، أتكون جهنم أسوأ من هذا العالم، أتكلم وأثرثر، وجبال الصمت عليك ترين؟ ماذا في صدرك تخفين؟ ندخل مطعم الجزيرة، نأكل ونتطلع للبط الوديع، أعود أحدثك عن سلام الروح، ترمقنا الأعين، وتباركنا عين عجوز طيب، جرب ما جربه حتى تعب القلب. ويشير إلينا طفل يتأملنا عن بعد. هل يرقب منذ اللحظة سر تفتح قلب الورد؟ تسألينني هل أنت متصوف؟ أضحك، وأقول: لم أبلغ هذا الشرف العالي بعد. تنقصني الخبرة والفن. - لكن لا ينقصك الحزن؟ - وجد الصوفية جهد، رؤيا يكسبها الله لقلب العبد، فتطيب النفس، وتسكر من خمر الوعد، ويفيض عليها النور، وتترك سجن الجسد الصلد، هذا شيء لم أعرفه بعد. - ماذا يمنع من بذل الجهد؟ - يمنعني حبي ذلك.
أضحك وأحاول أن ألمس يدك وخديك، فتبتعدين، وتعودين إلى الصمت. أشعر لحظتها أن كيانك يتلفت ناحية أخرى. - تسألين لمجرد السؤال: ومن هو المتصوف؟
أربت ظهرك بيدي وأهتف: أنسيت دروس الأمس؟ وتجيبين بسخط: هل أذكر شيئا دخل الأذن، وما دخل القلب ولا الرأس؟ - معك الحق. من علمك الفلسفة بعيد عنها بعد الأرض عن الشمس. لن يدخل من باب الحكمة من لا يحمل معه الدهشة والشوق.
تغرقين في سكوتك من جديد. أتذكر أنني لم أجب على سؤالك، أغالط إحساسي، أضحك وأقول: المتصوف من لا يملك شيئا، أو بالأحرى من لا يملكه شيء. تهللين كطفل نزق مكار، وتصيحين بملء الصوت: هذا أنت! يغرقني الصمت، يدثر رأسي ليل الحزن. ما أغرب هذا؟ هل يمكن أن ينسدل الليل نهارا في عز الشمس؟ أدرك أنك أبعد مما فكرت. يقطع صمتي رجل عال كالنخلة. فوق الرأس عمامة كبيرة، تعلوها ريشة طاووس أو ديك. أضحك في نفسي: ديك الجن؟ ما أغرب حال العشاق، يكتب بالإبر على الآفاق. أرد عليه سلامه، يجلس دون استئذان. - هل أنت هندي؟ - أكل عيش يا بيه. - أنا لست بيه من فضلك. أنا مثلك آكل عيش. - تحت الأمر، أكشف طالعك وطالع هذا القمر. - أسأل: كم من فضلك؟ - العين بصيرة، واليد قصيرة. ما تدفعه يا بيه. - أصيح بغضب: قلت لك لست بيه ولا باشا. أنا مثلك إنسان وفقير مثلك، والشرط على رأيك نور. - نور والله ونور.
ويمد يديه، فيأخذ كفك. يبتسم ويشرق وجهه. وينظر نحوي يصطنع الخبث. يهتف باستغراب مغشوش: بنتان وولد. أيام هناء والاسم سيبدأ بالهاء. أموال، سفريات أعمال تسند لك؛ فحياتك عمل لا يهدأ. والغد طالعه سعد.
Page inconnue