La Mer Méditerranée: Destins d'une mer
البحر المتوسط: مصاير بحر
Genres
3
لا في هذا الكتاب. وتختلف العاطفة والنفرة باختلاف إرادة المؤلف وفلسفته وتكوينه، وبما أنني قضيت سنين كثيرة على شواطئ البحر المتوسط التي أحبها وأحب شعوبها فإنني وصفت بحري المتوسط الذي قد ينكره الآخرون، وليس هذا كتاب سياحة، بل هو الطبيعة والتاريخ كما أراهما. وقد كتب أقدر المؤرخين عن وحي باطني غير مصرحين بذلك من المقدمة، والأغارقة هم الذين عينوا رسمي ما دمت مدينا بكل شيء لآلهتهم وفنهم وحكمتهم.
وإذ إن تاريخ البحر المتوسط حتى القرون الوسطى هو تاريخ أوروبة من الناحية العلمية، فإن من الممكن أن أطبق هنا من التاريخ الوصفي ما كانت تفصيلاته غير مألوفة منذ زمن طويل. ولما اخترت في سنة 1919 ذلك الأسلوب العصري في التراجم كان الفكر الأساسي الذي يساورني يقوم على حتمية العوامل البشرية، ومن ثم على ارتباط كل من الحياة الخاصة والحياة العامة في الأخرى وعلى إيضاح كل منهما للأخرى. وكان يلوح لي أن اكتشاف الإنسان خلف أعماله أمتع من أعماله نفسها، وإذا كان تاريخ الملوك قد درس أكثر من دراسة تاريخ العمال فلعدم كفاية ما هو موجود من الوثائق عن العمال لا ريب.
ولا نرى ما يسوغ دراسة التاريخ إذا لم تهدف إلى استخراج ما ينطوي عليه كل حادث من رمز، والرمز وحده هو المهم، وذلك لأنه مرآة لما بين منازع الناس وقوى القدر من تنازع، وذلك لأنه يفرض مقابلة بين زماننا وانتصاراتنا وهزائمنا في حياتنا العامة كما في حياتنا الخاصة، ومن لم يكن في صميم الإنسانية التي نستدعي ظلها فإنه لا يطلع على غير الوقائع ولكن من دون أن يستنبط شيئا خصيبا إنماء لنفسه.
ومتى شعر القارئ بالأهواء التي أثارت «الأبطال» كما تثيره، تمثل رجل التاريخ وفحص نفسه سرا ليعلم كيف يسير لو كان في مكانه، غير أن تغيير المكان هذا يغدو ممكنا بفضل المؤلف الذي يتمثل ذلك الرجل مقدما. وإذا ما استطاع القارئ أن يستفيد من مقادير الرجال والأمم في سلوكه الخاص على ذلك الوجه، أمكنه أن يقابل بين قدره الخاص وأقدار رجال التاريخ، وهنالك يصير التاريخ مستشاره.
وقد حاولت تطبيق هذا البيان، الذي يجعل من العامل الإنساني قطبا للتاريخ، على حياة الأمم مع مراعاة ثلاثة مبادئ، وهي: أن كل حركة روحية ذات معنى، فالأنبياء والمشترعون والمفكرون والمتفننون عوامل جوهرية في التاريخ، وأنه «لا أصل للسياسة بلا تاريخ، ولا ثمرة للتاريخ بلا سياسة.» فهذا هو من الأهمية ما لا يزال مؤثرا في زماننا، وأن من الضروري إنعام النظر في العظماء، فإذا كانت المآثر خاصة بمتحف التاريخ فإن أكابر الرجال، فإن العاملين والمفكرين، قوام أفئدة الناس وعقولهم.
وتبقى آثار الذهن والفن بعد مبدعيها، ويمضي الملوك وأقطاب السياسة والبابوات والرؤساء والقواد، الذين أعاروا أدوار التاريخ من أسمائهم، وما عملوا أو لم يعيشوا بعدها غير زمن قليل، ولم تبق واحدة من الإمبراطوريات الأجنبية التي تتعب حولياتها ذاكرة التلاميذ.
وصارت جميع المعاهدات والمحالفات قصاصة ورق، والروح التي صدرت عنها وحدها، والرمز الذي تمثله وحده، هما اللذان بقيا، ويعد النفوذ الإغريقي والنفوذ النصراني اللذان مارسهما الإسكندر والصليبيون في آسية من الأهمية كنفوذ العرب في أوروبة، ومع ذلك تبدو لنا صورة المعارك الماضية من المهازئ التي لا يستفيد منها حتى الضابط الذي يدرسها، وتدور معاهدات السلم المختومة رسميا حول ولايات أو مرافئ خربت منذ زمن طويل أو غيرت مالكيها.
وما الذي يستحق الذكر إذن؟ ليست معارك البحر المتوسط التي قام بها تمستوكل وأغريبا ومحمد وسليمان ونلسن وغريبالدي، ولا معاهدات السلم التي عقدها تيودوز وغريغوار وفليب وكافور، وإنما الذي يعين أهمية أحد الأدوار هو الذي يتركه هذا الدور كالحكمة والفن ومرآة جيل ساطع أو خلق رجل عظيم، وللأكروبول وحده من الشأن في حياة البحر المتوسط ما هو أعظم من تاريخ مراكش بأسره، وإذا وجد تاريخ آخر غير تاريخ الذهن فإنه يتجلى في تصوير السمات الإنسانية جوهرا وتصوير أخلاق أكابر الرجال.
وفي ذلك سر بلوتارك الذي هو من أعظم مهذبي الإنسانية، ولا ينبغي أن يؤلف تاريخ العالم وفق المباحث العلمية الحاسمة، بل في سبيل فتن ألوف القلوب التي تهزها تلك العوامل، وسيوضع بعض العظماء الأفذاذ المعتزلين الذين وجهوا التاريخ تحت الرصد كما في كتبي السابقة، ولو لم يقتل قيصر وهنري الرابع، ولو مات أتيلا وشارلكن ولويس الرابع عشر قبل تاريخ وفاتهم، لاختلف لون قرون بأجمعها، أولم نر بأعيننا كل ما يتوقف على حياة ثلاثة رجال أو أربعة رجال؟ أجل، إن الاقتصاد السياسي يقدم بأرقامه معطيات مهمة، ولكنه لا يسفر عن نتائج، وتعوزنا الإحصاءات الصحيحة في بدء هذا الكتاب، ولم يبرز اقتصاد البحر المتوسط وتجارته محكمين إلا من القرن التاسع عشر، وذلك إلى أن الأقاليم والأنهار والمنتجات عرضت معينة لأخلاق مختلف الشعوب.
Page inconnue