La Mer Méditerranée: Destins d'une mer
البحر المتوسط: مصاير بحر
Genres
80
وشدة الزوابع التي لا تكاد تقلعها. وتجد شجرة الزيتون للعمر علاجا لا يستطيع أمهر الناس أن يقلده، وذلك أن ساقها إذا ما تجوفت انقسمت إلى شجرتين أو ثلاث شجرات فينمو القشر من الداخل إلى الخارج في محل الانفتاق حتى يكسو الأجزاء المتجردة ويلحمها.
وزيتون البحر المتوسط، كابن هذا البحر، لا يحتاج إلى غير نصف زراعة حتى ينمو ويثمر، وما كان الإغريقي ذو الحضارة الرفيعة، سياسيا كان أو بستانيا، ليطالب فلاحيه وأشجار زيتونه بسوى أقصى الضروري؛ أي بشيء لا يذكر تقريبا، وكل ما سنه سولون في الأمر هو أنه لا يجوز غرس أشجار الزيتون على مساوف تبعد بها الزيتونة عن الأخرى أقل من ثلاثة أمتار، وهذه هي القاعدة المتبعة الآن في البروفنس تقريبا، وتكون المساوف بين الزيتونة والأخرى خمسة وعشرين مترا في صفاقس وفي جنوب تونس حيث ينضج أطيب الزيتون. ويسقى الزيتون هنا سقيا خفيفا عندما تقضي الضرورة بذلك، وتسمد الأرض هنا في الغالب، ولا يكون التسميد في غير هذا المكان إلا في كل خمس سنين. وينبت الزيتون في جبال درن، وفي جنوب إسبانية، حتى على ارتفاع 1500 متر، ولا يزيد محل نمو الزيتون على أربعمائة متر علوا عند بحيرة كوم، حيث حده الشمالي، ومما يحدث في سني البرد الشديد داخل البلاد أن تجمد مزارع زيتون بأسرها، مع أنك لا ترى شيئا يهدد مثل هذه المزارع على ساحل البحر حيث اعتدال الشتاء يدل على بيئتها الحقيقية.
ولم يقتصر ثمر هذا الشجر الجليل وطراز اقتطافه على عدم التغير في ألوف السنين فقط، بل ترى في بعض جهات سورية بقاء معصرة الزيت على ما كانت عليه في زمن الفنيقيين أيضا، فمتى حل وقت القطف بسط نساء الوقت الحاضر ملاحف كبيرة وجلسن تحت الشجر الذي يختبطه الرجال ويهزونه، فيكون بذلك منظر رمزي عميق، ولم يلبث اللحاف أن يمتلئ بثمار يترجح حجمها بين الكرزة والمشمشة على حسب الشجرة ونوعها. وقد تحمل الشجرة نفسها زيتونا أخضر وأحمر وأسود، وقد يكون الزيتون أبيض في سورية أحيانا، وأكثر الزيتون قدرا هو ما يتحول من الأحمر إلى الأسود، ولكن من النادر أن تخرج الأشجار المثقلة ثمارا جيدة جدا، شأن النساء الولد. وتدار المعصرة في الوقت الحاضر، كما في زمن أوميرس، بحيوانات تسير على بيدر مدور، فتسيل العصارة السوداء في حوض حجري واقع تحت ذلك، وتصنع المعصرة في الغالب من ساق زيتونة قديمة ثخينة، فيقال والدة تربي صغارها بقسوة حتى إنها تخنقهم.
وتختلف قيمة الحدائق باختلاف الأزمان، واليوم تبلغ أربعة آلاف فرنك ذهبي عن كل هكتار من الأرض الجيدة، وقد تعطي الشجرة الحسنة المحصول أربعة عشر كيلوغراما من الزيت، وفي فرنسة تعيش اثنتا عشرة مديرية من زيتونها كما تعيش قورسقة وكورفو. غير أن زمن الإصدار الأكبر قد انقضى، وذلك بفعل رجل واحد، بفعل أمريكي أبطل وحده سبب ذلك الإصدار، فقد أطفأ إديسن مصباح الزيت إلى الأبد، حتى في الأمكنة التي لم يعتمد فيها على الغاز بعد. وحتى زمن أجدادنا كان عالم الظلام يغوص في دجنة مدلهمة لو جف زيتون البحر المتوسط. وكانت إيطالية في القرون الوسطى ترسل زيتها إلى الفلاندر، وإلى الصين أيضا.
واليوم عاد الزيت لا يضيء شيئا، واليوم لا يكاد الزيت يغذي من ينتجه. وكانت جميع المنازل القائمة على طول البحر المتوسط تشتمل في قرون كثيرة على جرار زيت كبيرة كالتي ترى في بونبي أمام حانوت التاجر.
واليوم عاد الزيت لا يعيش أحدا تقريبا، واليوم يقضم الأمريكي المتدلل زيتونا في أثناء عشائه، وما يصدر الآن من زيتون البحر المتوسط يتدحرج ضمن براميل في المصانع التي تستعمل الزيت الصافي في صنع الصابون والعطور والأدوية. بيد أن فلاح البحر المتوسط يجلس دوما تحت زيتونته القديمة ويتغذى بما كان آباؤه يتعهدونه من زيتونه وخمره وبره، فإذا لم تنطو ملامحه على خداع تمتعت نفسه بسكون متزن.
ولا يجوز قياس الزمن وفق المعارك، ولا قياس الأمم وفق القياصرة، فبين زوابع البحر وحروب الشعوب، وفي غضون تاريخ دام، وفي أثناء هزات الأرض وتلاطم الأمواج وغرق المراكب يحافظ ابن البحر المتوسط على صفائه، وابن البحر المتوسط هذا، إذا كان سليما خليا مقيما بالأرياف، عاش بما تنتجه الأرض ولاءم إقليما يناسبه.
حتى في المدن يقنع بلحم قليل وبعرق، فيقضي حياة طليقة، واليوم لا يزال المعمل هو المستثنى، والمعمل يدعه حرا يومين في كل أسبوع، وما يبدو به المنزل مع شرفه المكشوفة والكانون في الشتاء والمسكن في طرف الميدان حيث يتردد بلا عمل أو يدخن أو يقرأ جريدته أو يجلس أمام قهوته كما كان أجداده يصنعون في الساحة العامة أيام بركلس، أمور تمن عليه بحياة فعالة مشمسة مروح
81
Page inconnue