La Mer Méditerranée: Destins d'une mer
البحر المتوسط: مصاير بحر
Genres
بيد أن نباتات البحر المتوسط المميزة تزهر بلا ماء على الدوام، كانت تزهر قبل أوميرس وموسى بزمن طويل على ما يحتمل، وهذه النباتات هي القمح والكرمة والزيتون.
وكانت التوراة تفرق حتى بين الحب السقي والحب البعلي، ولا يزال الأغارقة يصنعون خبزهم كما في زمن أوميرس، ويبذر الحب في أثناء أمطار الخريف، ويحصد في أوائل الجفاف، ويدرس في العراء على صلصال
71
مكثف تحت حوافر الخيل وظلوف البقر، ثم ينقل على ظهور الحمير ليخبأ في المطامير، ويصنع جميع ذلك بما هو أقل سهولة وأكثر خطرا في الشمال حيث يجب تطهير الأرض من الحجارة قبل كل شيء وحيث يمكن المطر الشديد أن يفسد الأمر بعد الحصاد. ويجب على المرء في الأمكنة التي يأتيها الجفاف باكرا، كمصر، أن يكسب عيشه اليومي بمعاناته أعمال الري، ويباع الماء في بلرم مثلا موزونا في آنية، وتحجز الأنهار بالأسداد، ويتصرف في القنوات والنواعير كما في بعض أجزاء إسبانية وسورية. والذرة التي تزهو تحت الشمس في المكسيك وكندة، كما بأمطار الصيف، تزهو في شمال إيطالية وهنغارية، لا في الجنوب حيث يجيء الحر والجفاف معا، وتبذر الذرة في شهر مايو، وتحصد صيفا في سهل البو وبعض أقسام البلقان، وهي في هذه البقاع تقوم مقام القمح خبزا وحساء.
وعلى العكس يكون البر في بيئته بمنطقة البحر المتوسط، وهو لا يتطلب تحت درجات العرض هذه غير أمطار الشتاء، ويمكن حصاده عند انقضاء 170 يوما مع أنه يقتضي ثلاثمائة يوم في الشمال؛ ولذا يكون خبز البر الغالي، المتعذر نيله أيام الحرب، في الشمال غذاء الفقير في منطقة البحر المتوسط فيأكله هذا المعوز مع جبنة وزيتون، ولا يبتغي وراء ذلك غير قدح خمر خفيفة، وكل شيء ينضج هنا بأسرع مما في شمال جبال الألب، سواء أكان ذلك حبا أم خمرا أم إنسانا أم حكمة، والحياة هنا أكثر بساطة، والرجل هنا أقل اطلابا، والسياسة هنا لا تزعج الرجل، ويمكن الرجل هنا أن يزدهر حتى بعد هبوط الأمم. ولم تعرف هذه البقاع الجافة غير قليل من البلايا الطبيعية، وذلك مع استثناء الزلازل المشابهة بفجاءتها لنوبة الغرض المباغت الذي إذا ما استحوذ على الإيطالي التواق حطم كل ما حوله.
والاضطرابات الاجتماعية هي التي كانت تقلل زراعة الحبوب في إيطالية أكثر مما تؤدي الموانع الطبيعية إليه. وما كان الرومان ليموتوا جوعا بغير فتح مصر التي صارت نبر
72
بر لهم. أجل، إن شهوة السلطان، في ذلك الحين كما في هذا الزمن، كانت تثار بالفكرة القائلة إن المجاعة تشتد بلا فتوح، غير أن زراعة الحقول في عهد القياصرة من الإمبراطورية الرومانية قد تقهقرت لاحتياج الأباطرة إلى جنود، ولأن الجنود بعد تسريحهم كانوا يزدرون الفلاحة.
وصار يجب في منطقة البحر المتوسط منذ قرون أن تنشأ أرصفة قبل الزراعة، والأرصفة مما ينهار عند عدم العناية، وبما أن الزراعات متنوعة فإنه يتعذر حدوث مجاعات هنا كما في روسية ما لم يوقد ذوو الطموح من الملوك نيران الحروب أو ما لم توزع الحكومات الفاسدة امتيازات جائرة مثيرة لفتنة الشعب الجائع. واليوم لا يحتاج بلد من بلاد البحر المتوسط إلى مستعمرات ليعيش؛ وذلك لسهولة ابتياع كل شيء ونقل كل شيء على هذا البحر المشترك بينها، وهنا، حيث يعمل الرجل منسجما مع الطبيعة، ينال خيرا هو وبلده، وتبلغ مساحة الأرضين المزروعة بإيطالية 85 في المائة (قبل حرب سنة 1914)، وتبلغ الأرضون المزروعة ببلاد اليونان 41 في المائة، ونصف أسباب هذا التفاوت جغرافي ونصفها الآخر اجتماعي.
والكرمة، كالقمح، تزرع اليوم كما في عصر أوليس، ولا تزال بلاد البحر المتوسط محتوية أحسن كروم الأرض، ويأتي أطيب الخمر من فرنسة على ما يحتمل، ومع ذلك نقلت أشجار العنب إليها من الخارج فيما مضى، واليوم لا تزال خمر البحر المتوسط صالحة للمزج، وأخيرا ليست الصفة هي التي يبالى بها هنا، وليس لخمر فالرن التي تأتي من المنحدرات البركانية ولا لخمر مرسالة التي تنضج في بلد بحري، ولا لخمر كيرس الإسبانية، أن تخشى أية مزاحمة، وأكثر ما تنكشف أخلاق البلد بعدم الاكتراث الذي يبدو قبل قطف العنب، وذلك حين الجفاف الذي يتقبل مع تسليم سهل، وذلك من حيث أكثر النماذج اعتيادا على الخصوص. وهكذا تظهر قوة وسعادة أحد الشعوب والرجال والأرضين، ويعيش الراعي الإغريقي الذي لا يعرف حتى القراءة، والذي لا يصنع غير الإنشاد، كأمير إقطاعي إذا ما قيس بفلاح روسي من طبقته، وقل مثل ذلك عن خمر تراسينة، أو خمر كيرس الأندلسية التي لم تمزج ولم تعتق فتنال كما تسيل من العنب، فهي تهيج المهج التي تنفر من خمر موزيل الخفيفة.
Page inconnue