179

La Mer Méditerranée: Destins d'une mer

البحر المتوسط: مصاير بحر

Genres

ويدخل محمد، القائد لجيوشه بشخصه أيضا، تلك العاصمة التي أولع بها أجداده أيما إيلاع، ويقف في الميدان، ويرغب في إبداء قوته للجمهور المتجمع فيكسر بفأسه أحد الثعابين البرونزية الثلاثة التي كانت تدعم قوائم دلف المثلثة منذ ألفي سنة والتي كانت تزين ذلك الميدان العام منذ ألف عام، ويمسك جواده عند باب القصر الذي كان يقيم به الإمبراطور عشية ذلك اليوم وينشد قول الشاعر الفارسي الفردوسي: «ألا إن العنكبوت صارت حارسة قصر كسرى وصار البوم ينعق في منزل أفراسياب.»

وكانت روح هذا العاهل الشرقي جامعة للحضارة التقليدية وللطبائع البربرية فلم يتردد في كسر أثر فني إظهارا لقوة عضله.

وفي الغد يقيم السلطان مهرجانا عظيما تمجيدا لإلهه، شاكرا لله في كنيسة أيا صوفية محولا إياها إلى مسجد، وتتغلب عليه روح البرابرة حينما دخل الكنيسة راكبا حصانه راكضا حتى الهيكل، وما انفكت بزنطة تسمى استانبول منذ ذلك اليوم من سنة 1453؛ أي منذ نحو خمسة قرون.

11

عد سقوط بزنطة كارثة في أوروبة، ولا عجب، فالبرابرة الكافرون يقيمون إمبراطورية عالمية ثانية! وكان من الممكن في ذلك الحين أن يصبح الترك سادة إيطالية، وسادة البحر المتوسط أيضا، ولكن الترك لم يصيروا ملاحين حقيقيين قط، ولم يجد إنشاء محمد دور صناعة وسفنا نفعا، فقد ظل البحر غريبا عن قومه، وقد اقتحمت بزنطة برا أكثر من اقتحامها بحرا.

ولم تكن البندقية من القوة ما تحارب به تركية، وكل ما كانت تفكر فيه هو أن تحمي مستعمراتها غير مكترثة للدفاع عن الحضارة الغربية. وكان البندقيون قد غلبوا دولة بزنطة العالمية منذ قرنين ونصف قرن، ولكن ورثة هذه الدولة الذين حولوها إلى دويلة ظاهروا على تركية مظاهرة واهية، فلما تم ذلك الفتح لمحمد أرسلوا إليه عريضة التمسوا فيها العفو، مع الخشوع، عن سابق مساعدتهم لعدوه، وقد أرسلوا في الوقت نفسه أعظم مصوريهم إلى استانبول ليصور الطاغية الجديد، فترانا مدينين لهذه المناسبة بلوح بليني الرائع الذي عرض به لمحمد صورة نصفية، جانبية تقريبا، مرسومة تحت قوس عربية، فبدا محمد في هذه الصورة طويل الأنف شاحبه أسود اللحية ضيق الفم لابسا عمامة كبيرة بيضاء؛ أي مجموعة أجزاء شغلت عين المصور أكثر من أن تشغله تلك الدولة العالمية التي قامت حديثا.

ومن المحتمل أن كان محمد يفتح إيطالية على الرغم من ذلك كله، وقد استولى محمد على جميع شبه جزيرة البلقان بسرعة، وهو لم يلبث أن صار يهدد البندقية في شواطئها الخاصة، وهنالك تركت البندقية له أقساما من ألبانية كما تركت له أوبه وأملاكا بالقرب من إسبارطة، وقد وعدته بإعطائه جزية ومكوسا إذا ما تفضل فسمح لها بالتجارة في الشرق الأدنى، ولم يتحرك البابا، ولا الإمبراطور، حينما حاول الكافر الأول محمد الثاني ذلك الغزو مجاوزا البحر الأدرياتي نازلا إلى أوترانت، ولم تنقذ إيطالية إلا بوفاة محمد التي وقعت فور هذا النزول إلى البر.

ويرجع أعظم حقد أوروبي على الإسلام إلى ذلك الدور؛ أي إلى ما حول سنة 1500، وتجد أساس المثالب، التي دامت ضد الترك حتى الحرب العالمية الأولى، في أقاصيص الفظائع التي عزي اقترافها إلى الترك حين سقوط بزنطة وفيما كان السلاطين يتخذونه من وضع ازدرائي تجاه سفراء الدول الغربية، ومع ذلك لم يستفد الغرب من ارتباك الترك ونكدهم في آسية الصغرى بسبب أبناء دينهم المماليك، والغرب، على العكس، ظل موائما لهم، ولا غرو، فشيخ الإسلام، الذي هو بابا المسلمين، أذن لبطرك الروم أن يقيم صلواته كما أذن لشعوب البلقان المقهورة في عبادة العذراء وفق عادتها.

ومع ذلك وجد اختلاف النصارى والمسلمين له سببا في روح النهضة وفي انتقال أماكنه المقدسة من القدس إلى أثينة.

ومن يلق نظرة إلى تاريخ مجمل لليونان بين سنة 1000 وسنة 1500 يجد له صورة ملونة على الخصوص، كما يجد له منظرا مملوءا سخرية فيما هو خاص بالقوى التي كانت تنعش البحر المتوسط في أواخر القرون الوسطى، والأمر كحصن للآلهة القديمة اجتذب من يستخفون بها من فرسان النصارى، وكان نور الحكمة والجمال الساطع لا يزال يضيء بسنائه الممتد وجوه أبعد حفدتهم بعد تواري الحصن.

Page inconnue