La Joie de Tewfik dans l'histoire du fondateur de la famille khédiviale

Mohammed Farid Bey d. 1338 AH

La Joie de Tewfik dans l'histoire du fondateur de la famille khédiviale

البهجة التوفيقية لمحمد فريد بك

Chercheur

د .أحمد زكريا الشلق

Maison d'édition

دارالكتب والوثائق القومية

Numéro d'édition

الثانية

Année de publication

1426هـ /2005 م

Lieu d'édition

القاهرة / مصر

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم المؤلف

الحمد لله الذي جعل فن التاريخ عبرة لمن اعتبر وتبصرة لمن تأمل وادكر | والصلاة والسلام من الملك السلام على نبينا محمد سيد ولد عدنان القائل حب | الوطن من الإيمان صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وعترته وحزبه ، من خاضوا | الفيافي والقفار حتى جاء تاريخهم من أحسن الآثار .

( أما بعد ) فأقول وأنا المتوكل على مولاى المبدئ المعيد عبده محمد فريد | غفر الله له ولوالديه ولأرباب الحقوق عليه : لما كان لفن التاريخ فوائد جمة | وثمرات مهمة تعرب عما مضى من كوارث الأزمان والأوقات وتكشف عن | وجوه الحوادث قناع الشبهات فلكثرة نفعه وعظم وقعه كان له في الكتاب | المبين أصل قوى متين . قال الله تعالى : ' يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما | أنزلت التوارة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ' استدل على بطلان دعوى | اليهود في إبراهيم أنه يهودى وبطلان دعوى النصارى أنه نصراني بأن التوراة | والإنجيل إنما نزلا من بعده ، ولله الحجة البالغة والحكمة الدامغة إذ لولا التاريخ | لجهلت الدول ومات في الأيام الأخر ذكر الأول ، عن لى مع قلة بضاعتي | وكساد صناعتي أن أؤلف في وطني العزيز مختصر تاريخ وجيز يدل على فضل | جنتمكان محمد علي باشا الكبير على الشأن من هو أكبر مؤسس لديارنا المصرية | وأشهر مهندس لخططها النيلية على أحسن الوجوه كما يشهد له بذلك الوجوه ، | برد الله مضجعه ، وجعل في رياض النعيم مرتعه .

Page 29

وحيث كنت ممن تربى في المدارس الخديوية ذات الشهرة المرضية رأيت أن | أعتني بتأليف هذا الكتاب قياما للوطن بواجب أداء الخدمة وشكرا لما للحضرة | التوفيقية على جميعنا من النعمة ، حملني على ذلك انتشار المعارف والعلوم التي | | أصبحنا نتسابق في مضمار حلبتها يوما عن يوم ، وانتزع ما كان اعترى هممنا | من الفتور وخرجنا من الظلمات إلى النور بعناية خديو مصر الأعظم وعزيزها | الأكرم ذي العلم الآصفى والحلم الأحنفى والذكاء الأياسي والرأي الذي هو | لداء الأعداء الألداء ، وإن أعضل أعظم آسى ، الشهم القوي الجنان والسهم | النافذ في أكباد أهل العناد وإن كان مجبولا على الرأفة والحنان ، من تغنت بلابل | الأفكار من أمداحه بفنون ، وترنمت سواجع الأطيار من الثناء عليه بما أرقص | معاطف الغصون ، المتحلى بآداب السنة والكتاب ، المتخلى عن الميل مع الهوى | وهو في ريعان الشباب ، ذى الفضل الجم والبيان الذي أفحم بلغاء عصره وألجم | من سكنت هيبته ومحبته قلوب الخاص والعام وأغدق على أرباب دولته | بالتشاريف والانعام ، فكان قبولها دليل إقبالها وتلقيها بحول الله وقوته أصل | استقبالها ، فكانت على الدوام هي أولى له وهو أولى بها ألا هو سيد ولاة | الأمصار ، المعطر ذكره الذي ذاع في سائر الأقطار ، الجدير بالمدح على التحقيق ، | أفندينا خديو مصر ( محمد باشا توفيق ) حفظ الله دولته وأنجاله وحرس بعينه | التي لا تنام نظاره الكرام ورجال دولته الفخام والله المرجو لبلوغ كل مرام ومنه | جلت قدرته الإعانة في المبدأ وعليه حسن الختام . | |

Page 30

(المقدمة) 1 - مجيء محمد علي إلى مصر وتوليته

ولد ممدن مصر المغفور له محمد على باشا في مدينة قولة سنة 1182 | هجرية الموافقة سنة 1769 ميلادية وتوفي والده وهو في حداثة سنه وقام بتربيته | بعده عمه طوسون أغا ، كافل أمر ضبط هذه المدينة إلى أن قضى نحبه فقيض الله | له أحد أصدقاء والده للقيام بكفالته وكان ضابطا بجيش الإنكشارية ومقيما | بفرقته في مدينة ( براوستا ) بالقرب من قوله بصفة حاكم وجاب للخراج ، فرباه | مع ولده إلى أن بلغ أشده وصار يمرنه على قضاء بعض مهماته التي تتعلق | بوظيفته ، فوجد منه عضدا ومعينا فيها في بعض القرى التي لا تؤدي ما عليها إلا | بالتهديد الشديد أو استعمال القوى العسكرية ، فلم يزل كذلك حتى بلغ من | العمر ثمان عشرة سنة وذلك يوافق ( 1787 ) فزوجه بإحدى قريباته ليربطه | بعائلته ، وكانت زوجته ذات يسار فاشتعل بتجارة الدخان حيث كان يزرع في | هذه الجهة كثيرا ، وساعده على ذلك ما كان بينه وبين أحد التجار الفرنساويين | من العلائق الودية فبرع فيها حتى ربح منها كثيرا ونال شهرة جليلة بين تجار | هذا الصنف . | |

Page 31

مجيء محمد على باشا إلى مصر :

لما احتل الفرنساويون مصر تحت قيادة بونابرت في سنة 1798 أرسل | الباب العالي إلى الأقاليم والبلدان جميعها بتجهيز الجند لإخراجهم منها ، وطلب | أيضا من حاكم ( براوستا ) ثلثمائة جندي فجمعهم ، وجعل ولده علي أغا قائدا | لهم والمرحوم محمد علي باشا قائم مقام له .

فسارت هذه الكتيبة مع الدونانمة العثمانية إلى سواحل مصر حيث نزل | الجيش بأبي قير في يوم 14 يوليو سنة 1799 . وكان الجيش العثماني مؤلفا من | ثمانية عشر ألف مقاتل ومعه مدافع كثيرة من الطراز الجديد يتولاها ضباط من | الإنكليز ، وبعد قليل انتشب الحرب بين بونابرت والجيوش العثمانية واستمر | بينهما عدة أيام سجالا ، لثبات العثمانيين بموازة الدونانمة لهم ولعدم يأس | الفرنساويين من الإنتصار وبعد أن قتل عدد عظيم من الجانبين التجأ العثمانيون | إلى مراكبهم ، وكان ذلك في 2 أغسطس سنة 1799 ، ولبثوا فيها إلى أن تمكن | الباب العالي والإنكليز من إخراج الفرنساويين من مصر بتقدم جيش تركي | مركب من ثلاثين ألف مقاتل من جهة العريش فالصالحية فالقاهرة تحت قيادة | الصدر الأعظم يوسف باشا ونزول الإنكليز إلى الإسكندرية ( أول مارث سنة | 1801 ) ورشيد وصعودهم النيل إلى القاهرة على مراكب صغيرة أتوا بها من | بلادهم لهذا الغرض .

Page 32

وفي أثناء ذلك عاد على أغا قائد الكتيبة المقدونية ، فخلفه محمد علي باشا في | رياستها ثم بعد أن أخلى الفرنساويون القاهرة بمقتضى الإتفاق الذي أبرم بين | | الجنرال ( منو ) قائد الفرنساوية ، الذي ينسب مؤرخوهم خروجهم من مصر | لسوء إدارته وعدم كفاءته ، وبين الصدر الأعظم والأميرال كيث الإنكليزي في | 25 يونية سنة 1801 . وسافروا إلى بلادهم في أوائل سبتمبر من هذه السنة | وتبعهم الإنكليز ، وعادت بذلك سلطة الباب العالي إلى ما كانت عليه قبل | دخول الفرنساوية ، وعينت الدولة العلية خسرو باشا واليا من قبلها على | الحكومة المصرية في ثاني عشر جمادى الأولى سنة 1216 وكان بها إذ ذاك | من الجنود أربعة آلاف من الأرنؤد ، منهم فرقة تحت قيادة محمد علي باشا ، فلما | توسم فيه الإستعداد لمهمات الأمور وجه إليه التفاته ورقاه تدريجيا حتى وصل في | وقت قريب إلى رتبة ( سرششمه ) أي رئيس فرقة مؤلفة من ثلاثة أو أربعة آلاف | جندي ، ومن ذلك العهد أخذ في استعمال الجند واستمالة قلوبهم إليه للإستعانة | بهم عند سنوح الفرصة .

أما المماليك فكانوا لا يزالون يجادلون ويحاولون الإستقلال ، ويرغبون في | عدم رجوع مصر إلى الباب العالي وصيرورتها كغيرها من الولايات ، فلما بلغ | الدولة هذا الخبر أصدرت أوامرها إلى خسرو باشا بأن يقاتلهم حتى يفنوا عن | آخرهم ، وكانت قوتهم قد ضعفت لوقوع الشحناء بين رئيسيهم ، وهما عثمان | بك البرديسي ومحمد بك الألفي ، اللذان كانا يتنازعان السلطة ويود كل منهما | لو انفرد بها بدون مشارك أو منازع ، فوجه خسرو باشا جماعة من الأرنؤد | ومعهم فرقة محمد علي باشا لمحاربة المماليك بالقرب من الجيزة وكانت الدائرة | فيها على الأرنؤد قبل وصول محمد علي مع فرقته .

Page 33

فلما حصل ذلك حنق قائد هذه الحملة غيظا ، وعزم على نسبة عدم انتصاره | إلى تأخر محمد علي ، وأنه اتفق مع المماليك ، فسعى بذلك عند خسرو باشا فسر | بهذه التهمة الباطلة ومع اعتقاده بطلانها أرسل للمرحوم محمد علي يطلبه ليلا | إلى سرايه بالقلعة محتجا بأنه وردت إليه أوامر مهمة من دار الخلافة وأنه لابد أن | | يعلمه بها في الحال وأصر على قتله وأمر خدمة بذلك حين دخوله من الباب . | فلما وصل الطلب إلى محمد علي جزم بداهة بأن هذا الإستدعاء لم يكن إلا | للإيقاع به ، فتحير في أمره وعلم أنه إن لم يجب طلب الوالى عد ذلك عصيانا | وإن امتثل وذهب كان في ذهابه ذهاب حياته ، فبعد التروى في ذلك ظهر له | أرجحية عدم التوجه وآثر نسبة العصيان إليه على قتله وبات ليلته يترقب ما | يبدو له وقت الصباح .

فساعده الحظ الأوفر بقيام الجند على خسرو باشا ومأمور ماليته ( خزنة دار ) | لعدم صرف مرتباتهم وكان هذا ناشئا عن عدم تحصيل الخراج لإستيلاء المماليك | على الوجه القبلي وجزء عظيم من الوجه البحري بحيث لم يكن في حوزة الوالي | إلا القاهرة وثغر الإسكندرية وما بينهما من القرى والبلدان .

Page 34

ثم إن خسرو باشا أمر بإطلاق المدافع على الثائرين حتى خرب جزأ عظيما | من القاهرة ، ولما علم أركان حرب الوالي المدعو طاهر باشا بذلك نزل من | القلعة ليتوسط بين الفريقين ، فاتهمه الوالي بالإتحاد مع العصاة فاغتاظ طاهر باشا | ومال مع الجند وحارب الوالي إلى أن ألزمه بالفرار إلى المنصورة ثم انتقل إلى | دمياط وتحصن بها فاتخذ طاهر باشا هربه فرصة للحصول على الولاية ، وجمع | أعيان البلد وعلماءها وطلب منها أن يختاروه واليا على مصر حتى يعين الباب | العالي خلفا لخسرو باشا ، فأقره المجلس على ذلك ، لكنه لم يلبث الجند أن عصاه | خصوصا الإنكشارية لعدم صرفه مرتباتهم وصرف مرتبات الأرنؤد ليس إلا ، | فحاصروه في سرايه في يوم 25 مايو سنة 1803 وأرسلو إليه اثنين من أغواتهم | ليرفعا إليه شكواهم فلم يستعمل السياسة معهما ، بل نهرهما على عصيانهما | وطلب منهما أن يكونا مطيعين لأوامره فلم يرضيا بذلك واشتد الأمر بينه | وبينهما إلى أن جرد أحدهما سيفه وحز رأسه وألقاها من النافذة وكانت مدة | ولايته ستا وعشرين يوما . | | وبعد قتله رغب الإنكشارية في تولية أحمد باشا أحد أمراء الدولة وكان | موجودا بمصر أثناء توجهة للمدينة المنورة حيث عين واليا ، فلم يقبل محمد علي | باشا هذا التعيين بل صعد إلى القلعة ومعه آلاف من الأرنؤد وأراد أن | يقاوم الإنكشارية ولكنه لما علم أنه لا يقدر على المقاومة كاتب عثمان بيك | البرديسي المقيم بالصعيد وغيره من أمراء المماليك بأن يساعدوه على طرد | الإنكشارية ويرد مصر إلى حكمهم المطلق كما كانت عليه ، فاغتروا بوعده | وصاروا يأتون القاهرة أفواجا ، حتى استجمع محمد علي ياشا من القوة ما يقاوم | بها الإنكشارية وزيادة فنزل من القلعة وانضم معهم ثم تفرقوا في أنحاء القاهرة | وأحدقوا بمنزل أحمد باشا المذكور وهددوه وخيروه بين أمرين : الخروج من مصر | أو القتل ، فامتثل وخرج ثم نهبت العساكر داره .

ثم حول محمد على فكرته إلى الفتك بالإنكشارية خيفة أن يثوروا عليه كما | فعلوا مع طاهر باشا فأوعز إلى الأرنؤد بذلك فانقضوا عليهم كالسيل المنهمر | وسلبوا أموالهم وقتلوا أعيانهم ، فاجتمع الباقون منهم بمصر القديمة وعزموا على | التوجه إلى الشام من طريق الصحراء فهجم عليهم الأرنؤد وأعلموا فيهم | السيف حتى لم يبق إلا من اختفى منهم ، ففتشوا عليهم بالبيوت وغيرها ثم أطالوا | أيديهم إلى الأهالي وتعدوا عليهم بالأذى وتفرقوا في النواحي وأكثروا من النهب | خصوصا في الوجه البحري .

وكان إذ ذاك محمد خسرو باشا مقيما بثغر دمياط يقرر على أهلها ومن | جاورهم الأموال الباهظة ويسومهم سوء العذاب ألوانا فتوجه محمد علي باشا | وعثمان بك البرديسي لمقاتلته ، فحارباه وأسراه بعد أن هزما من معه في 14 | ربيع الأول سنة 1218 وأرسلاه إلى مصر في سجن القلعة .

Page 35

أما الأرنؤد فارتكبوا من أنواع السلب والنهب وغير ذلك ما يعجز عن | وصفه الواصفون ، ويكل عن إحاطته العالمون ، ثم عاد محمد علي باشا إلى مصر | | وتوجه البرديسي إلى رشيد لمحاربة من فيها من العثمانيين فهزمهم وأسر علي | باشا القبطان ، وحصل برشيد ما حصل بدمياط وكان الأرنؤد كلما مروا بقرية | نهبوا أموالها وقتلوا رجالها وسبوا نساءها وآذوا مردانها ولما وصل خبر هذه | الفوضى إلى دار الخلافة وعلم الباب العالي فوضوية مصر وأن لا والي لها يؤيد | سلطته ، أرسل إليها علي باشا الجزايرلي واليا عليها لإخماد هذه الثورة ومعاقبة | أمراء المماليك وكل من كان سببا في عزل خسرو باشا .

فلما وصل إلى الإسكندرية اشتغل بتدريب من أتى معه من الجند على النظام | الأوربي ، وأظهر له أمراء المماليك الميل والطاعة والإمتثال لأوامر الدولة ودعوه | للحضور إلى القاهرة فاغتر بذلك الوعد وخرج من الإسكندرية قاصدا العاصمة | فخرج عليه الأرنؤد في الطريق وقتلوا من كان معه من الجنود العثمانية وأسروا | الباشا وأتوا به إلى مصر أسيرا لا أميرا ، ومحكوما لا حاكما ، ثم أخرجه الأمراء | بقصد إرساله إلى الشام من طريق الصحراء وأمروا من رافقه من الجند بقلته في | الطريق فقتلوه قبل أن يصلوا إلى الصالحية .

Page 36

وفي أثناء هذه المدة عاد محمد بك الألفي من انكلترا ، التي كان قد ذهب | إليها ليطلب منها مساعدته على الإستقلال بمصر وإبادة الباقي من الأمراء | العاملين على معاكسته ويقال أنه وعدها بتسليمها بعض الثغور لو نال مرغوبه | بمساعدتها . ولما علم محمد علي باشا بقدوم الألفي خشى من اتحاده مع البرديسي | فيضيع عمله سدى ، فعمد إلى توغير صدر البرديسي علي محمد بك الألفي | فنجح في مسعاه حتى هم بالفتك به غدرا ولولا هرب الألفي إلى الصعيد لقتل | بدسيسة البرديسي ومحمد علي وبعد هرب الألفي إلى مصر العليا هاج الأرنؤد | علي البرديسي لطلب مرتباتهم ( وربما كان ذلك بإيعاز من محمد علي ) فأمر | البرديسي بضرب الضرائب الشديدة على أهالي العاصمة وخصوصا الأغنياء من | بينهم لإرضاء الجند فتذمرت الأهالي من هذا الظلم الدائم وشكوا أمرهم إلى | محمد علي باشا ، لما كانوا يرونه فيه من الميل إليهم والحنو عليهم فتلقاهم بالبشر | | والإيناس ووعدهم بالمساعدة على دفع المظالم ، ثم بعد قليل اتحد الأهالي مع | الأرنؤد وهاج الكل على البرديسي وحاصره بمنزله وأرادوا قتله لكنه تمكن من | الفرار وحارب مماليكه الجند وقاوموهم مقاومة عنيفة ، فصعد محمد علي باشا إلى | القلعة وأحكم مدافعه على الجهة التي بها منزل البرديسي فخرب أكثر منازلها | وانجلت هذه المعركة عن خروج كافة أمراء المماليك من القاهرة فنهبت بيوتهم | وسبيت نساؤهم ويتمت أطفالهم .

فصفا الجو لمحمد علي باشا ، لكن لحسن سياسته لم يرغب إظهار ما يكنه | صدره من الإنفراد بالحكم والإستقلال بولاية مصر بل تربص حتى تساعده | الفرص فينال مرغوبه بلا عناء ولا نصب . |

تعيين محمد علي باشا واليا على مصر :

Page 37

لما خرج عثمان بك البرديسي وكافة الأمراء من القاهرة ، دعا المرحوم محمد | علي باشا أعيان البلد وعلماءها وقال لهم أنه لا يليق بقاء مصر بدون وال | يواليها ولا سائس يسوسها ولا راع يراعيها ، وأن الأولى إخراج خسرو باشا من | سجنه بالقلعة وجعله واليا فأقر المجلس على ذلك وأخرج الباشا من السجن . | لكن بعد يوم ونصف ثار عليه رؤساء الأرنؤد وطلبوا من محمد علي إخراجه من | مصر وطرده منها فأذعن لطلبهم وأرسله تحت الحفظ إلى رشيد ومنها إلى | إسلامبول ، ثم طلب محمد علي من الأرنؤد أن يعين أحمد باشا خورشيد واليا | على مصر فرضي الكل بذلك بشرط تولية محمد علي قائم مقام له وبذلك | انحسم النزاع وحرر بذلك محضر وأرسل للباب العالي للتصديق عليه فصدق | على ما حصل وأرسل بذلك فرمانا مع مخصوص من طرفه فقام خورشيد باشا | من الإسكندرية وانتقل إلى القاهرة وحصل بعد ذلك وقائع لها وقع بين الجند | والمماليك الذين كانت سلطتهم مبسوطة على الصعيد إلى الجيزة . وبينما محمد | | على مشتعل بمحاربتهم استحضر خورشيد باشا طائفة من الدلاة ليجعلهم | حرسا لنفسه وذلك لتوجسه خيفة من محمد علي وجنوده الأرنؤد وعدم ثقته | بهم ، لا سيما وكان الأهالي يميلون كل الميل إلى محمد علي لإستعماله اللطف | واللين معهم خصوصا مع العلماء والأعيان .

فلما علم محمد علي بحضور هؤلاء الدلاة عاد بسرعة إلى القاهرة واشتغل بمقابلة علمائها وصار يشنع لهم على الدلاة وما ارتكبوه وكانوا قد انتشروا في | البلد كالجراد ينهبون وفي العالم يقتلون وفي النساء يهتكون ويأخذون أموال | الناس ظلما وبهتانا وصار محمد علي يحرض الناس على رفع شكواهم إلى الوالي | فاتبعوه وتظلموا لخورشيد باشا ، فكان يعدهم بالنظر بالنظر في شكواهم والتأمل في | بلواهم ولا يمكنه الوفاء بوعده مراعاة للجند حتى مل الأهالي من إزدياد الجور | والتعدي وانتشر الهياج في كافة أنحاء البلد وخاف كل فريق من الآخر .

Page 38

وبينما هم على ذلك إذ ورد فرمان بتولية محمد علي باشا جدة فأظهر | الإمتثال وأخذ يتأهب للسفر فاضطرب العسكر والأهالي لعدم رضا الأهالي | بمفارقته ، وفي أثناء ذلك صادف أن طلب الجند صرف مرتباتهم فأحالهم محمد | علي باشا على الوالي ولما لم يكن بيده ما يسد به عوزهم ، صرح لهم بنهب | القليوبية فتفرقوا فيها شذر مذر ونهبوها وسبوا النساء وباعوا الأولاد فتغيرت | قلوب الأهالي وأبغضوا الوالي ومالوا إلى محمد علي لما كانوا يرونه فيه من الحزم | والمساعدة فألح العلماء والأعيان ، ولجوا على محمد علي باشا بعدم السفر إلى | جدة وانتخبوه واليا عليهم ثم أرسلوا إلى خورشيد باشا بذلك فقال لهم إنى مولى | من طرف السلطان فلا أعزل إلا بأمره ، وتحصن في القلعة ، أما جميع القوى | العسكرية من أرنؤد ودلاة وغيرهم فانحازت إلى محمد علي إلا القليل وكتبوا | | باشتراكهم مع العلماء إلى الباب العالي يطلبون تولية محمد علي على مصر | فأجاب الباب العالي طلبهم أملا في حسم النزاع وأصدر بذلك فرمانا وصل إلى | القاهرة في 9 يوليه سنة 1805 .

لكن لم يقبله خورشيد باشا بل ظنه إفكا افتراه أعداؤه فحاصره محمد علي في | القلعة ورتب على أبوابها الخفر من الأرنؤد إلا أنهم لم يفعلوا ما أمروا به لعدم | صرف مرتباتهم فتركوه وتفرقوا في البلد ينهبون ويسلبون ، إلا أن ذلك لم يؤثر | في عزيمته بل رتب بدلهم خفراء من الأهالي وقلدهم بالسلاح .

وبعد قليل حضر قبطان باشا من قبل الدولة العلية ومعه أوامر مشددة | بإخراج خورشيد باشا ، فامتثل وخرج مع بعض الدلاة إلى الجهات البحرية يعثو | في الأرض فسادا فأرسل خلفهم محمد علي بعضا من جنده فلحقوهم وأجلوهم | عن مصر ، فذهبوا إلى الشام واستقل محمد علي بولاية مصر ولم يكن له فيها | منازع إلا من بقي من المماليك بعد هذه المناوشات والحروب .

Page 39

ثم إن الإنكليز طلبت من الباب العالي عزل محمد علي أو نقله إلى ولاية | أخرى لأمر بدا لها في ذلك ، سنأتي على تفصيله قريب ، فسمع الباب العالي | مقالها وأرسل إلى مصر دونانمة تحت إمرة قبطان باشا ومعه فرمان بتولية محمد | علي باشا سلانيك وتعيين من يدعى موسى باشا مكانه ، فأتى الإسكندرية ومعه | فرقة من العساكر المنتظمة وأمر بإعادة أمراء المماليك إلى ولاية الأقاليم . ولما بلغ | هذا الفرمان إلى محمد علي باشا لم يظهر عدم الإمتثال بل استعد للسفر فاجتمع | عليه العلماء والقواد والجنود وأخبروه أنهم لا يرضون بخروجه ، وأنهم يحررون | خطابا للباب العالي ويرسلونه مع ولده إبراهيم بك ويكون مضمونه إظهار | رغبتهم في بقائه عليهم واليا لما رأوه منه من مراعاة جانب الأهالي ومنع مظالم | الجنود عنهم واتباعه مشورة العلماء في الأمور المهمة ، ولما وصل إبراهيم بك إلى | الإسكندرية رجع معه قبطان باشا بمراكبه ومعه موسى باشا الذي أتى ليكون | واليا فلما وصلوا إلى إسلانبول وعرض الأمر على الباب العالي ، قبل السلطان | | ما طلبه المصريون وأرسل إلى مصر فرمانا بتثبيت محمد علي باشا على ولايته | فوصلها الفرمان في أواخر شعبان شنة 1221 ( 7 نوفمبر سنة 1806 ) .

لكن لم ينقطع أذى الجند عن الأهالي بل كان الخلاف عاما في جميع الأنحاء | والشغب ضاربا أطنابه بين صفوف العساكر ، فالأرنؤد تخالف الإنكشارية | وتقاتلها ، والدلاة تعادى كل فرقة وتنازعها ، والكل معاد للأهالي عاص للوالي | يعيثون ويعربدون في أنحاء القاهرة وينهبون الأهالي ويطردونهم من منازلهم | ويسكنونها واستعملوا في النهب والسلب أنواع الحيل فيما لم يجدوا إليه سبيلا | فربما جلس العسكري على حانوت رجل بدعوى الإستراحة أو اشتراء شيء ثم | يقوم ويعود ثانيا قائلا إني نسيت وتركت هنا كيسا ، ويجعل ذلك سبيلا لإهانة | صاحب الحانوت ونهب ما عنده وربما زاد على ذلك ما لا يخطر بالبال ولم يحصل | مثله عند الممم الجائلة في ظلمات التوحش وفيافي الهمجية . فشاركوا الباعة في | عروضهم وساهموهم فيما يربحون من أموالهم ، هذا والأهالي يتحملون كل هذه | الشدائد ولا يهمون بمنعها بل يتجلدون بالصبر والتضرع إلى الله في أن يخلصهم | مما نزل بهم من شرور هذه الفئة الباغية فكانوا متقلبين على جمرات البلايا في | بحار الرزايا تضيق صدورهم ولا تنطلق ألسنتهم .

Page 40

ولما أتى إلى محمد علي باشا الفرمان المؤذن ببقائه في ولاية مصر أخذ في | استعمال الوسائط لإراحة البلاد من شر هؤلاء الطغاة تارة بالملاينة وأخرى | بالمحاربة ، حتى أذعن له أمراء المماليك فأقطعهم البلدان والأقاليم وأعطى لشاهين | بك إقليم القيوم وثلاثين بلدا من أقاليم البهنسا وعشرة من الجيزة - ومما ساعد | على استتباب الأمن موت محمد بك الألفي الذي كان من أكبر أمرائهم جسارة | وإقداما ، وعقب موته مات عثمان بك البرديسي فكانت وفاة الأول في ديسمبر | سنة 1806 والثاني في يناير سنة 1807 ، ثم حضر إليه نعمان بك من أمرائهم | فأكرمه وزوجه إحدى جواريه وأعطاه بيت المهدي بدرب الدليل . وهكذا صار | يكرم كل من أتى إليه منهم كعمر بك وغيره ثم أتى إليه إبراهيم بك الكبير | | فولاه إقليم جرجا وبهذه الحالة لم يعد لمحمد علي باشا شاغل من جهة الأمراء ولا | أتباعهم ، لكنه لم يزل يخشى غدرهم وخيانتهم عند حصول أقل أمر يغضبهم | وتيقن أن لا راحة له إلا بعد استئصال جرثومتهم الخبيثة وتطهير القطر المصري | من دنس وجودهم ، ولقد ساعده الحظ على تتميم ذلك وتمكن من إبادتهم كما | سيجيء . | | صفحة فارغة | |

Page 42

2 - دخول الإنكليز مصر

لما علم الإنكليز بتثبيت محمد علي باشا على ولاية مصر يئسوا من نوال | مرغوبهم بالطرق السلمية وعمدوا إلى استعمال القوة وأرسلوا إلى الأسكندرية | إسطولا بحريا مركبا من سبعة عشر مركبا حربيا يقل جيشا مؤلفا من خمسة | آلاف جندي تحت قيادة الجنرال ( فريزر ) لإحتلالها فوصلت إلى الثغر في أول | المحرم سننة 1222 ( 10 مارث سنة 1807 ) وأرسل قائد الجيش إلى حاكم | المدينة أن يأذن لهم بالنزول إلى البر ، لأنهم يريدون احتلال الثغر محافظة على | مصر من الفرنساويين خوفا من أن يعيدوا الكرة عليها فأجابهم الحاكم بأنه لا يأذن لهم بذلك إلا إذا كان معهم أمر من الدولة العلية ، فلما وجد الإتكليز أنه | لابد من النزول إلى البر عنوة تأهبوا للقتال وأمهلوا المدينة أربعا وعشرين ساعة ، | وقبل انقضاء هذا الميعاد سلم حاكم المدينة ، المدعو أمين أغا من ضباط الإستانة ، | المدينة بدون أن يتعرض لمنع خروج العساكر إلى البر ولا لمنع تقدمهم نحو | المدينة ، بل قبل العار وسلم نفسه ومن معه من العساكر من غير أن يرمي شيئا | من المقذوفات عليهم وبهذه الكيفية تمكن الجنرال الإنكليزي من أخذ هذه | المدينة الشهيرة بدون أن يفقد أحدا من عساكره فاحتلها الإنكليز في صبيحة | يوم الجمعة 10 محرم سنة 1222 .

Page 43

وذكر الجبرتي أنهم شرطوا مع الأهالي أنهم لا يسكنون البيوت قهرا عن | أصحابها بل بالمؤاجرة والتراضي ، ولا يمتهنون المساجد ولا يعطلون الشعائر | الإسلامية وأعطوا أمين أغا نظير خيانته أمانا على نفسه ومن معه من العساكر | وأذنوا لهم بالذهاب إلى أي محل أرادوه ومن كان له دين على الديوان يأخذ | | نصفه حالا ونصفه الثاني مؤجلا ومن أراد السفر في البحر من التجار وغيرهم | يسافر في خفارتهم إلى أي جهة أراد ما عدا إسلامبول ، وأما الغرب والشام | وتونس وطرابلس ونحوها فطلق السراح ذهابا وإيابا وأن محكمة الإسلام تكون | مفتحة الأبواب للمتقاضين تحكم بشريعتها الإسلامية ولم يكلفوا أهل الإسلام | بإقامة دعوة عند الإنكليز بغير رضاهم . اه بتصرف . |

واقعة رشيد :

أما الجنرال الإنكليزي ، فمن بعد أن استراح بضعة أيام وجهز ما يلزم ، أمر | بتوجيه بعض عساكره إلى رشيد ليكون له في القطر موقع آخر وكان عدد من | أرسل من الجند إلى ثغر رشيد ألفى جندي منهم مائتان من البحرية ، ولم تكن | حامية رشيد مؤلفة إلا من بضع مئين يرأسهم شخص ذو صداقة وشجاعة يسمى | علي بك ، فلم يقلد أمين أغا حاكم الإسكندرية في تسليمه المدينة بل صمم على | المدافعة والمكافحة عن المدينة بكتيبة قليلة العدد والعدد على قدر الإستطاعة ، ثم | أمر عسكره وشدد عليهم بأن لا يطلقوا بنادقهم مطلقا حتى يشير إليهم ولما | شاهد عساكر الإنكليز ما شاهدوه من هذه الحالة ظنوا أنهم لا يجدون مدافعة بل | يدخلونه ثغر رشيد كما دخلوا الإسكندرية وكانوا في تعب من السير فدخلوا | البلد بدون احتراس وانتشروا في أسواقها حيث وجدوها خالية خاوية ، ثم بحثوا | عن أمكنة يلتجأون إليها ويستريحون فيها وأغلبهم رموا أسلحتهم وناموا في | الطرق ، فلما رأى ذلك على بك وتحقق التمكن منهم ، خرج عليهم بقليل من | العسكر وأطلق النار على كل جهة كانوا موجودين فيها ، فنالهم من ذلك دهشة | عظيمة كأنما بعثوا من القبور وأخذ الفشل فيهم ومما زاد في ارتباكهم إطلاق | العسكر بنادقهم عليهم من الأبواب والشبابيك وأسطحة البيوت فبعد قليل من | الزمن فرت الجنود الإنكليزية هاربة بدون انتظام إلى جهة الإسكندرية بعد أن | هلك اللواء القائد لها وكثير أيضا من الضباط ومائة جندي وأخذ منهم مائة | وعشرون أسيرا ومدفعان ، أما الهاربون فلم يزالوا يتحملون عناء السفر حتى | وصلوا إلى الإسكندرية . |

Page 44

وذكر الجبرتي أنه في يوم الأحد السادس والعشرين من محرم سنة 1222 | أشيع بالقاهرة خبر وصول رؤس القتلى ومن معهم من الأسرى إلى بولاق فهرع | الناس بالذهاب للفرجة ووصل الكثير منهم إلى ساحل بولاق وركب أيضا كبار | العسكر ومعهم طوائفهم لملاقاتهم وطلعوا بهم إلى البر ومعهم جماعة العسكر | المتسفرين ، فأتوا بهم من خارج مصر ودخلوا بهم من باب النصر وشقوا بهم من | وسط المدينة وفيهم ضابطان وهما راكبان على حمارين والباقي مشاة في وسط | العسكر روؤس القتلى معهم على نبابيت وقد تغيرت وأنتنت رائحتها وكانت | عدة الرؤس أربعة عشر والأحياء خمسة وعشرين ولم يزالوا سائرين بهم إلى بركة | الأزبكية ، وضربوا عند وصولهم شنكا وطلعوا بهم إلى القلعة وفي اليوم التالي | وصل أيضا إلى القاهرة عدة من الرؤس وثلاثة عشر أسيرا من الإنكليز وساروا | بهم إلى القلعة بمثل ما حصل بهم في اليوم الذي قبله .

ولما وصل إلى محمد علي باشا خبر وصول الإنكليز إلى الإسكندرية وكان | بالصعيد يحارب المماليك كتب إليهم بالصلح وأرسل إليهم المشايخ ، يحثونهم | على الإتفاق معه لمحاربة الإنكليز فلم يقبلوا الصلح بل قالوا : لو تحققنا الأمن | والصدق من مرسلكم لما حصل منا خلاف ولا حاربناه ولا قاتلناه ولكنه كثيرا | ما يعدنا بمثل هذه المواعيد عند الإحتياج إلينا ثم لا يفي بما وعد ، وحيث أنه قد | تهدمت دورنا وتفرق شملنا ولم يبق لنا ما نأسف عليه ونتحمل المذلة من أجله | وقد ماتت إخواننا ومماليكنا فنستمر على ما نحن عليه حتى نفنى عن آخرنا | ويستريح باله من جهتنا ، فلاطفهم المشايخ وأقنعوا بالصلح وقالوا لهم أنه أولى | من تداخل الأجانب بينكم فقبل الكل وساروا إلى القاهرة .

Page 45

وفي اليوم الثاني من شهر صفر سنة 1222 عاد محمد علي باشا وأخذ في | تحصين القاهرة بمساعدة قنصل فرانسا واستمر الأهالي في قلق واضطراب والجند | | في تأهب وسفر إلى يوم 14 منه ، فوردت الأخبار بانتصار المصريين على | الإنكليز في ضواحي رشيد وقد عادوا إلى مهاجمتها بعد انهزامهم أول مرة . وفي | يوم 15 منه وصل إلى القاهرة من أسر في هذه الواقعة ورؤس بعض القتلى | فأطلقت المدافع من الأزبكية والقلعة استبشارا ثم أمر الباشا بإرسال الأطباء إلى | القلعة لمعالجة الجرحى من أسراء الإنكليز والإعتناء بهم وتمييز الضباط عنهم في | المأكل والمشرب ورتبت لهم المرتبات وقضوا مدة أسرهم في مصر بغاية الإكرام .

Page 46

وإليك تفصيل هجوم الإنكليز على رشيد نقلا عن جريدة أركان حرب | الجيش المصري وذلك أنه لما وصل الإنكليز إلى الإسكندرية وجرى ما أسلفناه | اغتاظ الجنرال ( فريزر ) مما حصل لجنده في رشيد فشكل سرية أخرى وأرسلها | إليها وكانت مركبة من ثلاث آلاف نفر وستة مدافع وأربعة قطع من الهوان | تحت رياسة الجنرال ( استيوارت ) فلما وصلت تلك السرية إلى رشيد في 18 | إبريل سنة 1807 وضع الجنرال المذكور بطريتين في القطعة المرتفعة من ناحية | أبي مندور وتمكن من قرية الحماد ووضع فيها خمس بلوكات لأجل محافظة | ووقاية الخلف ، ثم ابتداء المحاصرون ، أي الإنكليز ، في ضرب النار فكلما تذكر | المحصورون الظفر الذي نالوه في الواقعة الأولى صبروا وتجلدوا وكانوا يرهبون | الحاصرين في غالب الأحيان بخروجهم إلى خارج البلدة وهجومهم عليهم | فمكث ضرب النار أسبوعين بلا ثمرة وفي آخر تلك المدة أي في 21 إبريل | تعجب الفريقان من الإمدادية التي أتت على حين غفلة من طرف محمد علي | باشا فاستبشر المحصورون بذلك ، وكان مقدار الإمدادية المذكورة ألفا وخمسمائة | سوارى وأربعة آلاف بيادة ، وفي الحال انقسمت تلك العساكر إلى فرقتين | إحداهما صغيرة واتخذت موقعها أمام الحماد والثانية كبيرة تحت رئاسة الكيخيا | واتخذت موقعها في برنبال وكان عساكر الفرقتين يشاهد بعضهم بعضا . | | وعند فلق صباح اليوم التالي هجمت الفرقة الصغيرة على مدافع الإنكليز | الذي كان بالحماد بعساكر البيادة والسوارى لكنها تقهقرت فتبعها أحد | بلوكات الإنكليز إلى مسافة بعيدة حتى انفصل البلك المذكور عن بقية الجيش | وحينئذ رجع سوارى المصريين بالهجوم على ذلك البلك ففرقته وقتلت منه | عشرين نفرا وأسرت خمسة عشر ، وفي الليلة التالية اقتحم الكيخيا بعساكره | نيران الإنكليز واجتمع مع قائد الفرقة الأخرى وفي هذه الليلة أخذ الجنرال | ( استيوارت ) عساكر قره قول الحماد بخمس بلوكات فصار جميع القول 850 | نفرا تحت قيادة الأميرالاي ( مكليود ) وكان الأميرالاي المذكور يظن حينئذ أنه لم | يكن أمامه خلاف الفرقة الصغيرة لكنه لما رأى في الصباح أن جميع الجيش | اجتمع أمامه وأخذلإي السير لمهاجمته أمر بالتقهقهر ، إلا أنه غلط في تقهقرهبسبب | تجزئة قوته إلى سريات فجعل أولاها مركبة من ثلاث بلوكات تحت رئاسة | البيكباشي ( مور ) وثانيتها من بلوكين تحت رئاسته والثالثة من خمس بلوكات | ومدفعين تحت رئاسة البيكباشي ( وجلستر ) ثم لم يسير أيضا تلك السريات مع | بعضها بل جعلها منفصلة عن بعضها بمسافات بعيدة ، فعند ذلك انتظرت | السوارى المصرية سرية البيكباشي ( مور ) حتى انفصلت من السريتين الأخريين | وأحاطت بها من كل جانب ومكان حتى لم ينج من القتل إلا من أسر وهو | البيكباشي ( مور ) وقليل من الأنفار ، ولما بعد الأميرالاي ( مكليود ) مسافة نصف | ميل أراد الرجوع والإجتماع مع سرية البيكباشي ( وجلستر ) لكن كان ذلك | صعب المنال لأن السواري المصرية لم تمهله بل أحاطت به فالتزم بأن يشكل | سريته بهيئة قلعة وتمكن بذلك من صد السواري المصرية إلى أن عساكر البيادة | أطلقت عليه نارا مدرارا وقتلته وكثيرا من الجند ، فأخذ اليوزباشي ( ماكي ) | مكانه من الرئاسة وصمم على اقتحام وسط المصريين كي يلحق بإخوانه لكن لم | تزل نيران بنادق المصريين تنهال عليه كالسيل ، حتى لم يصل إلى البيكباشي | ( وجلستر ) إلا بنفر قليل مقداره سبعة أشخاص ، وأما البيكباشي ( وجلستر ) | | فدافع بعد وصول الميرألاي ( مكليود ) بشجاعة وإقدام ، لكنه التزم في آخر أمره | أن يسلم نفسه ومن معه .

هذا وأما الجنرال ( استيوارت ) فأسرع في تسمير المدافع الكبيرة وحرق | الذخيرة ثم قفل راجعا إلى الإسكندرية مع ألفي نفر بقيت ممن كان معه من الجند | وبعد الهزيمة الثانية التي حصلت للإنكليز أمام رشيد لم ير الجنرال ( فريزر ) من | الحكمة أن يهاجم رشيد مرة أخرى حتى يحضر له إمداد من انكلترا ، وخاف من | هجوم عساكر الوالي عليه فأخذ في تحصين المدينة . اه بتصرف .

ولما رجع الإنكليز إلى الإسكندرية بعد هزيمتهم ثاني مرة أمام مدينة رشيد | قطعوا جسر أبي قير الحائل بين مياه البحر المالح وأرض البحيرة لقطع المواصلات | بين الإسكندرية وداخل القطر فعم الماء أغلب جهات البحيرة وخرب بلادها | وأتلف أرضها ومزروعاتها وأعدم منها نحو مائة وأربعين بلدا بقي أغلبها إلى الآن | وهي ما تراه بين إتكو وبحيرة المعدية إلى المحمودية وما جاور بحيرة مريوط ممتدا | بالقرب من دمنهور . |

خروج الإنكليز من مصر

وفي وسط جمادى الثانية سنة 1222 ( 1807 م ) سافر الباشا بنفسه إلى | دمنهور وتكررت بينه وبين الإنكليز المكاتبات في شأن إخلاء الإسكندرية وتم | بينهما الإتفاق على إخلائها وتعهد محمد علي باشا بتسليم ما أخذ من | عساكرهم أسرى في أثناء الحرب . وفي 5 رجب أتت أوامر الباشا إلى العاصمة | بإرسال الأسرى فأرسلوا إلى الإسكندرية ، وبمجرد وصولهم نزل الإنكليز | مراكبهم ورجعوا إلى بلادهم وكان ذلك في 10 رجب سنة 1222 ( 4 سبتمبر | سنة 1807 ) ولما وصل إلى القاهرة خبر زوال الخطر من احتلال الإنكليز الثغر | الإسكندري ودخول محمد علي باشا بها ، أطلقت المدافع من القلعة ثلاثة أيام | متوالية في الأوقات الخمس . | |

Page 48

3 - حرب الحجاز

وفي شهر ديسمبر من السنة المذكورة أتى فرمان لمحمد علي باشا من | الدولة العلية يؤيده على ولاية مصر ويأمره فيه بإرسال تجريدة من مصر إلى | العرب الوهابيين الذين تملكوا بلاد العرب ومدينتي مكة والمدينة المنورة وصاروا | يؤذون حجاج بيت الله الحرام واتسع حكمهم وتفاقم أمرهم حتى خشيت | الدولة العلية بأسهم وجردت الجيوش لهم فعادوا بالخيبة والوبال .

ولقد أردت قبل تفصيل ما جرى بين المصريين وبينهم من الحروب أن أذكر | نبذة من مذهبهم عثرت عليها بالمجلة الفرنساوية المسماة ( جورنال آزياتيك ) | نشرت في هذه المجلة باللغة العربية وها هي بحروفها :

Page 49

إن الوهابيين قوم من العرب تمذهبوا بمذهب عبد الوهاب وهو رجل ولد | بالدرعية ، وهي مدينة بأرض العرب من بلاد الحجاز ، وكان من وقت صغره | تظهر عليه النجابة وعلو الهمة والكرم وشب على ذلك واشتهر بالمكارم عند | كل من يلوذ به وبعد أن تعلم مذهب أبي حنيفة في مدارس بلاده سافر إلى | أصفهان ولاذ بعلمائها وأخذ عنهم حتى اتسعت معلوماته في فروع الشريعة | وخصوصا في تفسير القرآن ثم عاد إلى بلاده في سنة 1171 هجرية ( 1757 م ) | فأخذ يقرر مذهب أبي حنيفة مدة ثم أدته ألمعيته إلى الاجتهاد والإستقلال فأنشأ | مذهبا مستقلا وقرره لتلامذته فاتبعوه وأكبوا عليه ودخل الناس فيه بكثرة | وشاع في نجد والإحساء والقطيف وكثيرا من بلاد العرب مثل عمان وبني عتبة | من أرض اليمن ، ولم يزل أمرهم شائعا ومذهبهم متزايدا إلى أن قيض الله لهم | عزيز مصر محمد علي باشا فأطفأ سراجهم في سنة 1232 ( 1816 م ) وكسر | شوكتهم وأخفى ذكرهم وهالك رسالة من كلامهم تدل على بعض مذهبهم | ومعتقداتهم : | | اعلموا رحمكم الله أن الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام وهي أن تعبد الله | مخلصا له الدين وبذلك أمر الله جميع الناس وخلقهم له كما قال تعالى ' وما | خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فإذا عرفت أن الله سبحانه وتعالى خلق العباد | للعبادة فاعلم أن العبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد كما أن الصلاة لا | تسمى صلاة إلا مع الطهارة فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت كالحدث إذا | دخل في الطهارة كما قال تعالى ' ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله | شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون فمن | دعا غير الله طالبا منه ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه من جلب خير أو دفع ضر | فقد أشرك في العبادة كما قال تعالى ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا | يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم | أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين ' وقال تعالى ^ ( والذين تدعون من دونه ما يملكون | من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم | القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئنك مثل خبير ) ^ فأخبر تبارك وتعالى أن دعاء | غير الله شرك فمن قال يا رسول الله أو يا ابن عباس أو يا عبد القادر زاعما أنه | باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده ووسيلته إليه فهو المشرك الذي يهدر دمه | وماله إلا أن يتوب من ذلك ، وكذلك الذين يحلفون بغير الله أو الذي يتوكل | على غير الله أو يستعين بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فهو أيضا مشرك ، وما | ذكرنا من أنواع الشرك هو الذي قال الله فيه ^ ( إن الله يغفر أن يشرك به | ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) ^ وهو الذي قاتل عليه رسول الله [ & ] | المشركين وأمرهم بإخلاص العبادة كلها لله سبحانه وتعالى .

Page 50