لكل مقال يا بثين جواب
وإنما حاشا أن يكون دعاؤك علي سبابا، وحاشا أن يكون له جواب عندي من مثله، فإني لم أقابله إلا بالضحك والحلم الذي ركب في غريزتي.
لماذا يا مي تدعين علي بالعذاب المعنوي؟ ألا إن العذاب البدني أخف منه وطأة وأعفى أثرا. على أني جربت كليهما وذقت الأمرين منهما معا. تقولين «لأنه النار المقدسة»، نعم لقد أعطاني من القداسة مقدارا أكثر مما يجب لمثلي حتى جعل البون بعيدا جدا بيني وبين هذا العالم غير القديس.
تقولين «إنه النار التي تطهر»، حقيقة إنه تلقى وجداني بالتطهير منذ أن كان لي وجدان حتى صيره شفافا يظهر كل شيء ويتأثر لأقل شيء وهذا فيه من الضنى والخطر ما فيه.
تقررين «أنه النار التي تحيي»، نعم يا مي. إنه أحيا روحي حتى أحرقها؛ لأنه كان كمصباح سيال كهربائه شديد ولكن فتيلته ضعيفة لا تحتمل.
هو «النار التي تلين»، هذا ما أبديت. ولكن ألا تعتقدين أن اللين قد يؤذي ولا يفيد، خصوصا في هذه الدنيا التي كلها صدام وعراك، وأنه لا يفل الحديد إلا الحديد. إنه ألانني حتى صيرني ماء. وما أشد عبث الطبيعة والناس بالماء مع أنه أصل الحياة!
يصبونه فينصب ويريقونه فيختفي في الأرض ويضعونه في كل آنية معوجة وملونة فيأخذ كل شكل ويصطبغ بما يراد به من الألوان. تبخره الطبيعة زارية هازئة، فتارة ترفعه إلى السحاب وطورا تقذف به إلى الأرض، وآونة تعاكسه بصقيعها فيتحول بردا، وآونة تحمي عليها براكينها فيخرج ملتهبا، وحينا تخبث رائحته بكبريتها وزرنيخها فيلعنه الناس إذا أحسوا منه غير ما يريدون وهو بريء. ثم أليس هو رمز الطاعة والامتثال؛ يضعون فيه سكرا فيحلو، ويذيبون به الحنظل فيمر. وهم مع ذلك لا يقيمون له وزنا ولا يعترفون له بالجميل. وهو بلا ثمن في أكثر بقاع الأرض، وأرخص الأشياء في أقلها. إنه مثلي يا مي، يذهب ضياعا.
وختمت حسن تعليلك لعذابي بقولك: «إنه النار التي ترفع النفس على أجنحة اللهيب إلى سماء المعاني ...» إلخ.
نعم يا مي، إنني الآن على أجنحة اللهيب، ولكني لم أصل بعد إلى السماء، وإذا وصلتها فلن يعود العالم يراني، فهل يا ترى ستعجبني السماء؟ إني أشك في ذلك. إني أول ما حفظت من الشعر حفظت المراثي وأولها رثاء الأندلس. وكنت في حداثتي أقرأ كثيرا ديوان المتنبي وأعجب بروحه العالية وبنفسه الكبيرة، وأظنه هو الذي عداني في ذلك وسمم آرائي، رحمه الله، إني ألذ كثيرا بهذه العدوى.
وقد قال لي أخي مرة بعد حديث كنت أشتكي له فيه الدنيا وأهلها وأقول: «لعل الله يجزيني على هذا في آخرتي بالجنة.»
Page inconnue