ولما مصرت بغداد كان المسلمون ينقسمون في تقرير أصول عقائدهم إلى فريقين: فريق يعتمد على المنقول من الكتاب والسنة، ويقال لهم الجماعة وأهل الحديث، وفريق يعتمد في تقرير عقائده على المعقول، وإذا تعارض المعقول والمنقول عمد إلى تأويل المنقول، وهؤلاء هم المعتزلة. وكان الصدر الأول من خلفاء بني العباس يؤيدون أهل هذا المذهب، وينصرونهم على أتباع المذهب الأول، وجرت في بغداد خطوب بين الفريقين ذهب ضحيتها بعض رجال الحديث، ولا سيما على عهد المأمون الذي حاول أن يشغل الناس بالمنازعات الدينية عن المنازعات السياسية، فكان له ما أراد، وكان على رأس المعتزلة في عهده القاضي أحمد بن أبي داود الإيادي، وعلى رأس الجماعة الإمام أحمد بن حنبل، فكانت بين الفريقين مناظرات، وكانت منازعات أدت إلى اضطهادات مشينة لا عهد للمسلمين بها من قبل. وكان في مقدمة المسائل التي دار الخلاف حولها مسألة خلق القرآن، فكان المعتزلة يقولون بخلقه تفاديا من تعدد القدماء، وكان الجماعة وأهل الحديث يقولون بقدمه؛ لأنه كلام الله، والكلام قديم بقدم المتكلم.
ولم ينته الجدال حول هذه المسألة إلا في عهد الواثق، عندما أحضر بعض أشياخ الشام للمناظرة، فقال ما معناه: لو كانت هذه المسألة من صميم الدين لأخبرنا بها سيد المرسلين، وحيث إنه لم يثبت عنه شيء في هذا الباب، فلا معنى لجعلها موضوع خلاف وجدال. وظهر في المعتزلة رجال أولو لسن أيدوا مذهبهم بأقلام سيالة وألسنة قوالة؛ مثل عمرو بن بحر الجاحظ وأبي علي الجبائي، وغيرهما من أئمة المتكلمين البصريين الذين لم تسلم بغداد من رشاش مباحثاتهم، حتى ظهر بينهم أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المتوفى في العقد الثالث من القرن الرابع، وكان في أول أمره معتزليا، ثم سلك طريقا وسطا بين المعتزلة ورجال الحديث، وكان إلى رجال الحديث أميل، وألف في تأييد مذهبه كتبا جمة، بسط فيها الكلام بسطا، سهل فهمه على الناس، فكثر أتباعه، وانضوى أكثر المتكلمين من البغداديين إلى لوائه. ومع ذلك فإن بعضهم لم يزل على مذهب المحدثين، وأكثرية هؤلاء من الحنابلة، وبعضهم أصر على الاعتزال، فكان في بغداد في أواخر العهد العباسي مذاهب كلامية كثيرة مرجعها إلى ثلاثة: الأشاعرة وهم الأكثرية، والمحدثون أو السلفيون، والمعتزلة. وهناك جماعة من الإمامية الاثنى عشرية، وآخرون من الزيدية، وقليل من الإسماعيلية. وانشق من الأشاعرة فريق يقال لهم الماتريدية؛ نسبة إلى أبي منصور محمد بن محمد الماتريدي المتوفى سنة 333، أحد تلامذة أبي الحسن الأشعري، وقد خالفه في بضع عشرة مسألة، وكثير من الأحناف في بغداد وغيرها يدينون بهذا المذهب.
أما اليوم فليس لمذهب الاعتزال في بغداد من أثر، والناس إما أشاعرة أو ماتريدية، وليس بين المذهبين كبير فرق. وهناك فريق يميل إلى مذهب السلف، وفريق يدين بمذهب الإمامية الاثنى عشرية.
الفصل الثاني
العلوم الكونية
ويراد بها علوم الأوائل من المنطق والطبيعيات والرياضيات والإلهيات. وتنقسم الطبيعيات إلى علوم: الفيزياء والكيمياء والمواليد الثلاثة، والطب والصيدلة والفلاحة. وتنقسم العلوم الرياضية إلى: علم الحساب، وعلم الجبر، وعلم الهندسة، وعلم الآلات، وعلم الحيل (الميكانيكا)، وعلم الفلك. ومن متعلقاته علم الجغرافيا الرياضية.
وتشمل الإلهيات علم ما وراء الطبيعة من الروحانيات والمدركات العقلية، كالبحث عن الخالق وصفاته والقوى النفسية والملائكة والجن وما إلى ذلك.
ومن علوم الأوائل: علم تدبير المنزل، وعلم تدبير المملكة؛ وهو علم السياسة، وعلم المال، وعلم الأخلاق، وعلم الموسيقى.
كانت هذه العلوم شائعة بين الأمم المتحضرة، فلما افتتح العرب بلاد العراق والشام ومصر وغيرها وجدوا الكثيرين من أهلها يتدارسون هذه العلوم ويتناقلونها بلغات شتى، وفي العصر الأموي ترجمت بعض هذه العلوم إلى اللغة العربية، ولا سيما علم الطب والسياسة. ولما دالت الدولة لبني العباس واستقر خلفاؤهم في بغداد؛ قربوا إليهم الكثير من حملة هذه العلوم، وطلبوا منهم نقلها إلى اللغة العربية. وفي مقدمة الخلفاء الذين عناهم هذا الشأن أبو جعفر المنصور، فإنه استقدم كثيرا من الأطباء والمترجمين، فترجموا له عن اليونانية والفارسية والهندية كتبا كثيرة في الطب والفلك والسياسة. ومن أشهر أولئك التراجمة جورجس بن جبريل الذي ترجم للمنصور كتبا كثيرة عن اليونانية، ونوبخت المنجم وابنه أبو سهل. ومن أشهر من ترجم للمنصور من الفارسية إلى العربية عبد الله بن المقفع، وممن ترجم له عن الهندية محمد بن إبراهيم الفزاري، ترجم له كتابا في النجوم. ثم لما كان زمن الرشيد أمر بإعادة النظر في الكتب المترجمة، كما أمر بترجمة كتب أخري، وعهد بذلك إلى جماعة من حكماء زمانه، منهم: طبيبه يوحنا بن ماسويه، والحجاج بن مطر، وأبو حسان، وسلم صاحب بيت الحكمة.
ولما كان عهد المأمون اشتدت الرغبة في نقل علوم الأوائل إلى اللغة العربية، فألف لذلك لجنة برياسة حنين بن إسحاق العبادي، وكان يتقن العربية والسريانية والفارسية واليونانية، وكان من أعضاء اللجنة: الحجاج بن مطر، وابن البطريق، وسلم صاحب بيت الحكمة. وأغدق المأمون على رئيس اللجنة وأعضائها العطاء، حتى إنه كان يعطيهم عدل ما ينقلونه من الكتب ذهبا، فكانوا يكتبون على ورق غليظ وبحروف كبيرة وأسطر متباعدة، وكان أكثر الكتب التي نقلت في عهد المنصور والرشيد في الطب والسياسة والنجوم. أما في عهد المأمون، فقد أقبل المترجمون على ترجمة كتب الفلسفة والرياضيات وعلوم الطبيعة، وأرسل المأمون جماعة من المترجمين إلى بلاد الروم، فاختاروا كتبا حملوها إلى بغداد وترجمت وتعلمها الناس، واقتدى بالخلفاء غيرهم من الأمراء والوزراء وأهل اليسار من العقلاء، فأغدقوا على المترجمين العطاء لنقل ما يرغبون فيه من كتب الأوائل إلى العربية؛ فنفقت أسواق هذه العلوم وزخرت بها بغداد.
Page inconnue