وقد أخذ هذا العدد يتضاءل بتضاؤل أمر هذه المدينة إلى عهدنا هذا؛ ففي الجانب الغربي اليوم ثلاثة حمامات للرجال ومثلها للنساء، وفي الجانب الشرقي نحو ضعفي هذا العدد، وليست من الإتقان والنظافة بالمكانة التي عرفت بها حمامات بغداد في عصور ازدهارها. على أن أوساط الناس ووجهاءهم أخذوا يستغنون اليوم عن ارتياد الحمامات العامة بما ينشئونه في منازلهم من حمامات خاصة، ولا يكاد يخلو منزل من أوساط المنازل من حمام على طراز شرقي أو غربي أو على الطرازين معا، وبقيت الحمامات العامة لفقراء الناس وغربائهم. ونحن لا نشك في أن تلك الأرقام التي ذكرها الأقدمون في عدد حمامات بغداد مبالغ فيها، ولكنها - على كل حال - تدل على كثرة وسائل النظافة ومعدات الترف؛ مما لفت إليها أنظار الناس في القديم والحديث، فتساءلوا عنها وهم بين مصدق ومكذب. وقد وقفنا على بعض أوصاف تلك الحمامات في رحلة ابن بطوطة، فآثرنا نقلها بالنص، قال:
وفي كل حمام منها خلوات كثيرة، كل خلوة منها مفروشة بالقار، مطلي نصف حائطها مما يلي الأرض به، والنصف الأعلى مطلي بالجص الأبيض الناصع، فالضدان بها مجتمعان متقابل حسنهما، وفي داخل كل خلوة حوض من الرخام، فيه أنبوبان أحدهما يجري بالماء الحار والآخر بالماء البارد، فيدخل الإنسان الخلوة منها منفردا لا يشاركه أحد إلا إذا أراد ذلك، وفي زاوية كل خلوة أيضا حوض آخر للاغتسال، فيه أيضا أنبوبان يجريان بالحار والبارد، وكل داخل يعطى ثلاثا من الفوط، إحداها يتزر بها عند دخوله، والأخرى يتزر بها عند خروجه، والأخرى ينشف بها الماء عن جسده. ولم أر هذا الإتقان كله في مدينة سوى بغداد.
الباب الخامس
الحياة العقلية
كان المسلمون في أواسط القرن الثاني الهجري يتدارسون علوما كثيرة، منها: الشرعية ومنها اللسانية ومنها الكونية، وكان جل اعتمادهم في مدارساتهم على المواجهة والمشافهة، وكان الطلبة يقيدون مروياتهم بالكتابة ؛ لتكون تذكرة لهم عند طغيان النسيان، وكانت الحافظة عندهم هي المرجع الأول وعليها المعول ، وكانوا يقولون في مقام الذم: هل هو إلا لحانة صحفي؟! لمن يأخذ العلم من الصحف دون المشايخ، ومن هذه المادة اشتقوا كلمة التصحيف، وهو الخطأ في قراءة اللفظ، ولا يقع هذا عادة إلا إذا اعتمد القارئ على الصحيفة دون المشافهة، فلما أنشئت بغداد وأصبحت مقر الخلافة الإسلامية؛ أقبل أهل الفضل إليها، وأمها العلماء من كل صوب، وجعلوها دار إقامتهم، فأصبحت بذلك مباءة العلوم الإسلامية ومجتمع الفنون الأدبية، وملتقى العلوم الكونية من شرقية وغربية، فزخرت بالنور وازدهرت بالفضائل، وأينعت فيها ثمار العقول، وصارت لحواضر المعمورة منارا، ولأعاظم الفضلاء مزارا.
ثم إن العلوم التي كان يتدارسها المسلمون ترجع إلى ثلاث مجموعات: (1)
العلوم الشرعية. (2)
العلوم الكونية. (3)
العلوم اللسانية.
الفصل الأول
Page inconnue