تمهيد
خلاصة التاريخ السياسي لبغداد
الباب الأول
1 - طور العظمة والازدهار (145-247)
2 - استئثار الجيش بالسلطة (247-334)
3 - العهد الديلمي (334-447)
4 - العهد السلجوقي (447-552)
5 - الطور الأخير (552-656)
الباب الثاني
1 - العهد الهولاكي (656-740)
2 - العهد الجلائري (740-813)
3 - العهد التركماني (813-914)
4 - العهد الصفوي (914-941)
5 - العهد العثماني (941-1335)
الباب الثالث
1 - عهد الاحتلال الإنكليزي وما بعده
الباب الرابع
1 - أشهر المحلات في القديم
2 - المساجد الجامعة
3 - المدارس
4 - المتاحف
5 - خزائن الكتب
6 - القصور
7 - الأنهر
8 - الجسور
9 - الحمامات
الباب الخامس
1 - العلوم الشرعية
2 - العلوم الكونية
3 - العلوم اللسانية
تمهيد
خلاصة التاريخ السياسي لبغداد
الباب الأول
1 - طور العظمة والازدهار (145-247)
2 - استئثار الجيش بالسلطة (247-334)
3 - العهد الديلمي (334-447)
4 - العهد السلجوقي (447-552)
5 - الطور الأخير (552-656)
الباب الثاني
1 - العهد الهولاكي (656-740)
2 - العهد الجلائري (740-813)
3 - العهد التركماني (813-914)
4 - العهد الصفوي (914-941)
5 - العهد العثماني (941-1335)
الباب الثالث
1 - عهد الاحتلال الإنكليزي وما بعده
الباب الرابع
1 - أشهر المحلات في القديم
2 - المساجد الجامعة
3 - المدارس
4 - المتاحف
5 - خزائن الكتب
6 - القصور
7 - الأنهر
8 - الجسور
9 - الحمامات
الباب الخامس
1 - العلوم الشرعية
2 - العلوم الكونية
3 - العلوم اللسانية
بغداد مدينة السلام
بغداد مدينة السلام
تأليف
طه الراوي
تمهيد
بغداد
اتفقت كلمة المؤرخين وأهل اللغة على أن لفظة «بغداد» أعجمية؛ ولذلك اختلفوا اختلافا كبيرا في ضبط حروفها، شأنهم في الكثير من الألفاظ الأعجمية التي لا يهتدون فيها إلى أصل معروف، فقالوا: بغداد، وبغداذ، وبغذاد، وبغذاذ، وبغدان، وبغدين، ومغدين، وبغدام، ومغدام، وبغذان، وبهداد.
وهذا الاختلاف إما ناشئ عن أصل لفظها الأعجمي، أو إنه نشأ بعد ذلك من تحريفات العامة؛ لغرابة هذا الاسم على ألسنتهم.
وكان المتورعون من الأقدمين يكرهون إطلاق هذا الاسم على عاصمة العباسيين؛ لما في أصله من معنى الشرك؛ فزعم بعضهم أن هذا اللفظ مركب من كلمة «بغ» وهو البستان و«داد» وهو اسم صنم للعجم، وجملة المعنى «بستان صنم»، وقال بعضهم: إن «داد» اسم رجل، فيكون المعنى «بستان رجل»، وزعم آخرون أن «بغ» صنم، و«داد» عطية، والمعنى «عطية الصنم» على طريقة العجم في المتضايفين، وزعم آخرون أن «بغ» اسم صنم لبعض العجم كان يعبده و«داد» رجل.
وقال بعض المحققين: إن الاشتقاق الصحيح لهذا الاسم جاء من الكلمتين الفارسيتين القديمتين «بغ»؛ أي «الله»، و«داد»؛ أي تأسست أو «تأسيس»، فيكون جملة المعنى «أسسها الله» أو «مؤسسة الله».
وقال بعض الفضلاء المعاصرين: «إن اسم بغداد إرمي مبنى ومعنى، وهو مؤلف من كلمتين: من «ب» المقتضبة من كلمة «بيت» عندهم، وكثيرا ما تقع في أوائل أسماء المدن مثل بعقوبة ... واللفظة الثانية «كداد» بمعنى غنم أو ضأن ... فيكون مفاد «بكداد» مدينة أو دار أو بيت الغنم أو الضأن، وحيث إنه كانت هناك سوق فمن المحتمل أنهم كانوا يبيعون فيها الغنم والضأن في أول الأمر.»
وبالجملة، فإن القول في أصل اشتقاقها لا يخلو من الشك والتخمين، وليس هناك كبير فائدة في هذا الخلاف.
قال أبو حاتم السجستاني: سألت أبا سعيد الأصمعي كيف يقال بغداد أو بغداذ؟ ... فقال: قل «مدينة السلام».
وهو من أسمائها العربية، وبهذا الاسم كانت تضرب النقود العباسية، ومن أسمائها العربية «دار السلام»، وفيه إشارة إلى الآية الكريمة
لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون ، والذي يتتبع أحوال العباسيين في صدر دولتهم يجد أنهم كانوا مولعين بالتفاؤل الديني ويريدون من مدينتهم هذه أن تكون نموذجا للجنة التي وعد بها المتقون، وقد أنشئوا فيها قصرا أسموه «قصر الخلد» إشارة إلى جنة الخلد، وآخر أسموه «الفردوس» إشارة إلى جنة الفردوس. ومن أسمائها «مدينة المنصور»، و«الزوراء». وكان هذان الاسمان في أول الأمر لا يطلقان إلا على المدينة المدورة التي أنشأها المنصور أول ما أنشأ، ومن أسمائها «دار الخلافة».
وقد صرف العرب كلمة بغداد، فقالوا: تبغدد الرجل إذا انتسب إليها، أو تشبه بأهلها على قياس تمعدد وتعرب إذا تشبه بمعد والعرب أو انتسب إليهما.
وقال المولدون: تبغدد الرجل علينا إذا تكبر وتعاظم، وفيه إشارة إلى ارتفاع مكانة بغداد والبغداديين في تلك العصور. وبغداد في جميع لغاتها هذه تذكر وتؤنث، فيقال هذه بغداد، وهذا بغداد. وقد أخبرني المحقق الفاضل أبو الحسنات - المدرس في جامعة فؤاد الأول - أن في الهند إمارة تحكمها أسرة ترجع بنسبها إلى بني العباس ولا تزال تحافظ على تقاليدهم وعاداتهم، واسم عاصمتهم «بغداد».
خبر بنائها
اتخذ العباسيون الكوفة أول عاصمة لهم، ثم بنوا مدينة على مقربة من الكوفة أسموها الهاشمية، ثم أخذ المنصور يفكر في نقل عاصمته إلى موطن يأمن فيه الفتن ويعصمه من عاديات الزمن، فبعث الرواد أولا، ثم أخذ هو نفسه يرتاد موضعا يقيم فيه مدينته المطلوبة، فوقع اختياره على البقعة الواقعة بين دجلة شرقا ودجيل شمالا، وقطربل غربا والصراة جنوبا، فأقام فيها أياما ليختبر بنفسه حالة جوها وتربتها وما يتصل بذلك من العوارض؛ فأسفر الاختبار عن نتائج حسنة. وكان يقوم على الموضع عدة ضياع، منها ضيعة أو سوق يقال لها بغداد، كان يجتمع فيها رأس كل شهر التجار، وتقوم بها للفرس قبل الإسلام سوق عظيمة، وقد جاء ذكرها في تاريخ الفتوح الإسلامية سنة 13ه، فقد ذكروا أن المثنى بن حارثة أغار على هذه السوق في جمع من أصحابه، فغنموا ما بأيدي أهلها من ذهب وفضة ثم رجعوا إلى الحيرة، ولم يجر لها ذكر في تأريخ الفتوح بعد هذه الحادثة إلى أن بنى المنصور مدينته عندها.
سبب الاختيار
ذكر المؤرخون أسبابا كثيرة لترجيح المنصور هذه البقعة على غيرها، منها اقتصادية، ومنها عسكرية، ومنها صحية؛ فقالوا: «إن المادة تأتيها من الفرات ودجلة وجماعة الأنهار، وتحمل إليها طرائف الهند والسند والصين والبصرة والأهواز وواسط في دجلة، وتجيئها ميرة الموصل وديار بكر وربيعة في دجلة أيضا. وهي بين أنهار لا يصل إليها العدو إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطعت الجسور ونسفت القناطر لم يصل إليها العدو، فهي قريبة من البر والبحر والجبل.» ثم هي في أقرب نقطة بين دجلة والفرات، ووسط بين بلاد العرب والعجم، ثم إن العباسيين الذين قامت دولتهم على سيوف الفرس يحلو لهم أن يجعلوا عاصمتهم على مقربة من المدائن عاصمة العجم القديمة.
البدء بالبناء
قال الشيخ أبو بكر الخطيب: «وبلغني أن المنصور لما عزم على بنائها أحضر المهندسين وأهل المعرفة بالبناء والعلم بالذرع والمساحة وقسمة الأرضين، فمثل لهم صفتها التي في نفسه، ثم أحضر الفعلة والصناع من النجارين والحفارين والحدادين وغيرهم، فأجرى عليهم الأرزاق، وكتب إلى كل بلد في حمل من فيه ممن يفهم شيئا من أمر البناء، ولم يبتدئ في البناء حتى تكامل بحضرته من أهل المهن والصناعات ألوف كثيرة، ثم اختطها وجعلها مدورة ...»
قال محمد بن جرير الطبري في تاريخه:
ذكر أن المنصور لما عزم على بنائها أحب أن ينظر إليها عيانا، فأمر أن تخط بالرماد، ثم أقبل يدخل من كل باب في فصلانها وطاقاتها ورحابها وهي مخطوطة بالرماد ... ثم أمر أن يجعل على تلك الخطوط حب القطن ويصب عليه النفط، فنظر إليها والنار تشتعل ففهمها وعرف رسمها، وأمر أن يحفر أساس ذلك على الرسم.
وعند ذاك ابتدئ بحفر الأساس، وكان ذلك سنة 145ه، فوضع بيده أول آجرة في بنائها، وقال: «بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين.» ثم قال: «ابنوا على بركة الله.»
وأقيم لها في أول الأمر سوران، قطر دائرة السور الداخلي 1200 ذراع، وارتفاعه 35 ذراعا، وعرضه من أسفله 20 ذراعا، أما السور الخارجي فعرضه من أسفله خمسون ذراعا، ومن أعلاه عشرون، وعرض ما بين السورين مائة وستون ذراعا، وفي كل سور أربعة أبواب، بين كل باب وآخر ميل، وعلى كل باب قبة ذاهبة في السماء سمكها خمسون ذراعا، وعلى رأس كل قبة منها تمثال يتجه إلى حيث تأتي الريح، وبين كل قبتين 28 برجا.
وبنى المنصور قصره المعروف بقصر الذهب في وسطها، وأقام في صدر القصر إيوانا شامخا وفوقه إيوانا مثله، وفوقه القبة الشهيرة المعروفة بالقبة الخضراء، وكان ما بين الأرض وأعلى القبة 80 ذراعا. وفي أعلى القبة فارس بيده رمح يتجه إلى حيث تأتي الريح، وهو شبيه بما يسميه المعاصرون «ديك الريح». قالوا: كانت هذه القبة تاج بغداد، وعلم البلد، ومأثرة من مآثر بني العباس عظيمة، بنيت أول ملكهم وبقيت إلى آخر أمر الواثق، فكان ما بين بنائها وسقوطها مائة وثمانون سنة ونيف، وكان سقوطها سنة 329 في ليلة كثر مطرها واشتد برقها ورعدها.
ثم إن المنصور أقام حول مركز المدينة سورا داخليا ثالثا، فيتألف من مجموع الأسوار الثلاثة دوائر ذات مركز واحد وهو قصر الذهب. وكان العمل في بناء بغداد قد توقف قليلا في بادئ الأمر عندما ظهرت ثورة العلويين في مكة ثم في البصرة، فاضطر المنصور إلى توقيف العمل ريثما تمكن من التغلب على الثورتين، ثم استأنف البناء. وفي سنة 146 نزلها مع جنده، ونقل إليها الخزائن وبيوت الأموال والدواوين، ثم استمر العمل في البناء من غير عائق، حتى تجاوز عدد العمال المشتغلين فيها مائة ألف عامل. وفي سنة 149 تم بناؤها وجميع مرافقها، وكان في جملة من يشرف على العمل الإمام أبو حنيفة، فقد كان ينظر في أمر تسلم الآجر. قالوا: وكان يعد اللبن بالذرع بعد أن يأمر برصفه رصفا معينا. قيل: وهو أول من فعل ذلك واستفاده الناس منه.
ثم أمر المنصور بإجراء الماء إليها من قناتين؛ إحداهما: من نهر دجيل الآخذ من دجلة، والثانية: من نهر كرخايا الآخذ من نهر عيسى الآخذ من الفرات. وكانت تلك المياه تجري في مجار من خشب الساج. فعل كل ذلك؛ لئلا تدخل دواب السقائين المدينة فتلوثها.
شذرات من سجايا البغداديين وشمائلهم
امتاز البغداديون بخلال كريمة وسجايا فاضلة، يأتي في الطليعة منها: (1)
الظرف:
كان البغداديون مضرب المثل بالظرف، فكان الناس يقولون: ظرف بغدادي، ولو حاول الكاتب أن يستقصي الظرفاء والظريفات من البغداديين والبغداديات لاجتمع لديه كتاب يعد من الطرافة بمكان، ويكون للحسن بن هانئ المكان الأول في ذلك الكتاب. (2)
الميل للطرب:
عرف البغداديون بهذه الخصلة، وكان الأكابر منهم يأخذون أنفسهم بضروب من اللهو البريء - كما يقول المعاصرون - وقد رويت روايات وبسطت حكايات فيما كان يتعاطاه الناس في بغداد من ضروب المطربات وصنوف الملهيات مما تكون الإفاضة فيه من قبيل وصف النهار بالبياض. وما عليك إلا أن ترجع إلى كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، وكتاب العقد الفريد لابن عبد ربه، والليلة الثامنة والعشرين من كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان؛ فإنك تجد فيها ما يبهرك.
اقرأ ما قاله أبو حيان في عرض الليلة التي أشرنا إليها:
عهدي بهذا الحديث سنة ستين وثلاثمائة «أحصينا - ونحن جماعة في الكرخ - أربعمائة وستين جارية في الجانبين، ومائة وعشرين حرة، وخمسة وتسعين من الصبيان البدور، يجمعون بين الحذق والحسن والظرف والعشرة، هذا سوى من كنا لا نظفر به ولا نصل إليه؛ لعزته وحرسه ورقبائه، وسوى ما كنا نسمعه ممن لا يتظاهر بالغناء وبالضرب إلا إذا نشط في وقت ...»
وهذا الرقم من المطربات والمطربين أوضح دليل على انصباب الناس في عاصمة العباسيين على السماع. والكلام الذي أورده أبو حيان في هذا الباب يشبه أن يكون منقولا بالنص عن حكاية أبي القاسم البغدادي لأبي المطهر محمد بن أحمد الأزدي،
1
أو هي منقولة عنه والرجلان متعاصران، وليس هذا موضع الفصل في أيهما السابق وأيهما السارق. ومن الطبيعي أن تكثر في بغداد وسائل الطرب وبيوت الملاهي؛ لأن هذه من مستلزمات الترف والبذخ اللذين أخذت بغداد منهما أوفر نصيب، والحضارة إذا استبحرت وتحكم سلطانها ظهر معها كل مستلزماتها - حسنة كانت أم سيئة، رفيعة كانت أم وضيعة - وعلى كثرة ما توفر في مدينة السلام من عوامل الترف ومتع الطرب، فإن ذلك لم يكن يحول بين الناس وبين التحلي بأسمى الفضائل وأسنى الشمائل. (3)
العناية بالنظافة:
كان البغداديون مضرب المثل في نظافة الأجسام والثياب والمساكن والطرق والرحاب. ولأمر ما أكثروا في بلدهم من الحمامات والأنهار والسواقي والبرك، وكل وسائل التنظيف والتطهير والأناقة في الملابس والمطاعم والمساكن. (4)
السخاء والأريحية:
والأمثلة في هذا الباب كثيرة، نجتزئ منها بالمثال التالي الذي يدل على كرم العامة: نقل عن ذي النون المصري أنه قال: «من أراد أن يتعلم المروءة والظرف فعليه بسقاة الماء ببغداد. قيل: وكيف ذلك؟ فقال: لما حملت إلى بغداد رمي بي على باب السلطان مقيدا، فمر بي رجل متزر بمنديل مصري، معتم بمنديل دبيقي، بيده كيزان خزف رقاق وزجاج مخروط، فسألت: أهذا ساقي السلطان؟ فقيل: لا! هذا ساقي العامة، فأومأت إليه أن اسقني؛ فتقدم وسقاني، فشممت من الكوز رائحة مسك، فقلت لمن معي: ادفع إليه دينارا. فأعطاه الدينار، فأبى وقال: لست آخذا شيئا، فقلت له: ولم؟ فقال: أنت أسير وليس من المروءة أن آخذ منك شيئا. فقلت: كمل الظرف في هذا.»
أما الخاصة فحدث عن سخائهم ولا حرج. فلم يذكر التاريخ بلدا من بلاد الله تبارى أهله في بذل الجوائز السنية، والهبات الجزيلة، والعطايا السخية للشعراء والأدباء وطلاب الخير مثل بغداد، وأخبار البرامكة في هذا الباب أشهر من أن تذكر، وهم وإن لم يكونوا بغداديي الطينة فإنهم بغداديو المدينة، ولو لم تكن سوق الكرم في بغداد رائجة يومذاك لما أقدم البرامكة وأمثالهم على ما أقدموا عليه من بسط أيديهم كل البسط، والسوق إنما يجلب إليها ما يروج فيها، حتى إن المعاصرين اليوم ليشكون كل الشك في صحة تلك الأخبار التي غصت بها كتب السمر ودواوين التاريخ؛ لما في أرقامها من الضخامة التي لا يكاد يحلم بها المفلسون من المتأخرين. وقد وقع هذا الشك لبعض الأقدمين، فذكروا أن أحد وزراء العباسيين في العصر الرابع قال في مجلسه إن هذه الأرقام من مبالغات الوراقين والأدباء المملقين تعمدوها ليصطادوا بها أموال الأمراء والوزراء، ويستدروا بها أكف أولي الأريحية من الأغنياء، وكان في المجلس أحد الأذكياء، فقال له: يا سيدي، لماذا لا يكذب الناس على مولانا الوزير؟! فلم يحر الوزير جوابا. وإذا كان لا بد من ذكر الأمثلة الجزئية في هذا الباب، فهناك مثال ذكره هلال بن المحسن الصابئ في تاريخ الوزراء، قال: «كان لأبي الحسن بن الفرات مطبخان في داره، فأما مطبخ الخاصة فلا أحصي ما كان يدخله من الغنم والحيوان لكثرته ... وأما مطبخ العامة فكان يستعمل فيه كل يوم تسعون رأسا من الغنم، وثلاثون جديا، ومائتا قطعة دجاجا سمانا وفراريج مصدرة، ومائتا قطعة دراجا، ومائتا قطعة فراخا، وهناك خبازون يخبزون الخبز السميذ ليلا ونهارا، وقوم يعملون الحلواء عملا متصلا، ودار كبيرة للشراب وفيها ماذيان يجعل فيه الماء المبرد، ويطرح فيه الثلج ويسقى منه جميع من يريد الشرب ... ومزملات فيها الماء الشديد البرد، وبرسم خزانة الشراب خدم نظاف، عليهم الثياب الدبيقية السرية، وفي يد كل واحد منهم قدح فيه سكنجبين أو جلاب ومخوض ، وكوز ماء، ومنديل من مناديل الشراب نظيف، فلا يتركون أحدا ممن يحضر الدار إلا عرضوا ذلك عليه ... وفي جانب الدار أدراج كثيرة «من الكاغد» لأصحاب الحوائج والمتظلمين؛ حتى لا يلتزم أحد منهم مئونة لما يبتاعه من ذلك، وأنصاف قراطيس وأثلاث.»
وقال أبو العلاء في بعض رسائله ما معناه: إن معارفه من البغداديين عندما علموا بعزمه على الرجوع إلى المعرة زاروه في مثواه وعرضوا عليه أن يقاسموه أموالهم ويخلطوه بأنفسهم، فأبى عليه البر بالوالدة أن يجيبهم إلى رغبتهم. ومن قوله في هذا الباب:
وكم ماجد في سيف دجلة لم أشم
له بارقا والمرء كالمزن هطال
من الغر تراك الهواجر معرض
عن الجهل قذاف الجواهر مفضال
وأما قول ابن الوردي:
وفي بغداد أقوام كرام
ولكن بالسلام بلا طعام
فما زادوا صديقا عن سلام
لهذا سميت دار السلام
فلم يحمله عليه إلا المجانسة بين السلام والسلام، فإن الرجل كان مولعا بهذه الضروب من البديع يصطادها أينما وجدها، وإلا فإنه لم يزر بغداد ولا خبر شيئا من طبائع أهلها. ومن بديع ما يرتبط بهذه الحكاية قوله:
مر بنا مقرطق
ووجهه يحكي القمر
هذا أبو لؤلؤة
منه خذوا ثار عمر
مع أن الشيخ عمر بن الوردي من أبعد الناس عن الاتصال بالغلمان، وما حمله على هذا الكلام إلا ولعه بالتورية. (5)
الفصاحة:
للبغداديين - ولا سيما الخاصة منهم - المقام الأول في فصاحة الألسن ونصاعة البيان، لا يدانيهم في ذلك إلا أهل نجد وعالية الحجاز، ولله أبو العلاء حيث يقول:
وما الفصحاء الصيد والبدو دارها
بأفصح قولا من إمائكم الوكع
وقال أخو همدان من أبيات:
فلم تر عيني مثل بغداد منزلا
ولم تر عيني مثل دجلة واديا
ولا مثل أهليها أرق شمائلا
وأعذب ألفاظا وأحلى معانيا (6)
حسن المناظرة:
كانت مجالس المناظرة تعقد في بغداد في مختلف الفنون، وكان الناس يهرعون إليها؛ ليطلعوا على ما يدور فيها من حسن الحوار واحتكاك الأفكار بالأفكار. وكان الأدب الرائع يسود تلك المجالس، والدقة في البحث تخيم عليها:
أدرتم مقالا في الجدال بألسن
خلقن فجانبن المضرة للنفع
2 (7)
الجد والجلد في طلب العلوم:
كان البغداديون موصوفين بالجلد والجد في طلب العلم على اختلاف ضروبه وتنوع فروعه، وقد كان سفيان بن عيينة كثير الثناء على شباب البغداديين وشدة رغبتهم في طلب العلم، ويفضلهم على شباب البلاد الأخرى التي عرفها في زمانه. وقال ابن علية: «ما رأيت قوما أحسن رغبة ولا أعقل في طلب الحديث من أهل بغداد.» وقال ابن عائشة: «ما رأيت أحسن من تلقف أصحاب الحديث ببغداد للحديث.» (8)
العصبية الوطنية:
كان البغداديون لا يرون بلدا من بلاد الله يساوي بلدهم أو يدانيه، وكان أحدهم إذا فارق بغداد لا ينفك يحن إليها ويذكر مباهج جانبيها، مما لو جمعنا بعضه لحصل لدينا باب من الأدب طريف، وغرض من أغراض الشعر شريف:
أستودع الله في بغداد لي قمرا
بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي لو يودعني
صفو الحياة وأني لا أودعه
قال ابن جبير في رحلته عند الكلام على بغداد يصف أهلها: «قد تصور كل منهم في معتقده وخلده أن الوجود كله يصغر بالإضافة إلى بلده، فهم لا يستكرمون في معمور البسيطة مثوى غير مثواهم، كأنهم لا يعتقدون أن لله بلادا أو عبادا سواهم.»
شذور من أقوال أهل الفضل فيها نظما ونثرا
لو حاول أديب أن يجمع ما ورد من ثناء أهل الفضل على بغداد نثرا ونظما لحصل بيده مجموع طريف في بابه، وقد رأينا أن نحلي مختصرنا هذا بشذور من ذلك لتكون كالنموذج لما وراءها.
شذور المنثور: قال الإمام الشافعي ليونس بن عبد الأعلى: «يا يونس، أدخلت بغداد؟» قال: لا. قال: «ما رأيت الدنيا ولا رأيت الناس.» وكان الشافعي يقول: «ما دخلت بلدا قط إلا عددته سفرا، إلا بغداد فإني حين دخلتها عددتها وطنا.» وقيل لأحد الفضلاء: كيف رأيت بغداد؟ قال: «الأرض كلها بادية وبغداد حاضرتها.» وكان أبو بكر بن عياش يقول: «الإسلام ببغداد، وإنها لصيادة لعظماء الرجال، ومن لم يرها لم ير الدنيا.» وقال أبو معاوية: «بغداد دار دنيا وآخرة.»
وكان يقال : «من محاسن الإسلام يوم الجمعة ببغداد، وصلاة التراويح بمكة، ويوم العيد بطرسوس.» وكان يقال: «يوم الجمعة ببغداد كيوم العيد في غيرها من البلاد.»
وقال الجاحظ: «الصناعة بالبصرة، والفصاحة بالكوفة، والخير ببغداد، والتجارة بمصر.»
وقال أبو القاسم الديلمي: «سافرت الآفاق ودخلت البلدان من حد سمرقند إلى القيروان، ومن سرنديب إلى بلد الروم، فما وجدت بلدا أفضل ولا أطيب من بغداد.» وقال أبو القاسم عبيد الله بن علي الرقي: «أخذ أبو العلاء المعري وهو ببغداد يوما يدي فغمزها، ثم قال لي: يا أبا القاسم هذا البلد العظيم لا يأتي عليك يوم وأنت به إلا رأيت فيه من أهل الفضل من لم تره فيما تقدم.» وجاء في بعض رسائل أبي العلاء:
العلم في بغداد أكثر من الحصى عند جمرة العقبة، وأرخص من الصيحاني بالجابرة.
3
وكان ابن العميد إذا طرأ عليه أحد من منتحلي العلوم والآداب وأراد امتحان عقله سأله عن بغداد، فإن فطن بخواصها وتنبه على محاسنها وأثنى عليها جعل ذلك مقدمة فضله وعنوان عقله، ثم سأله عن الجاحظ فإن وجد أثرا لمطالعة كتبه، والاقتباس من نوره، والاغتراف من بحره، وبعض القيام بمسائله، قضى له بأنه غرة شادخة في أهل العلم والآداب، وإن وجده ذاما لبغداد غفلا عما يجب أن يكون موسوما به من الانتساب إلى المعارف التي يختص بها الجاحظ لم ينفعه بعد ذلك شيء من المحاسن ... ولما رجع الصاحب بن عباد عن بغداد سأله الأستاذ ابن العميد عنها، فقال: «بغداد في البلاد كالأستاذ في العباد.»
4
شذور المنظوم: قال ابن زريق الكاتب:
سافرت أبغي لبغداد وساكنها
مثلا قد اخترت شيئا دونه الياس
هيهات بغداد والدنيا بأجمعها
عندي وسكان بغداد هم الناس
وقال منصور النمري:
ماذا ببغداد من طيب الأفانين؟!
ومن منازه للدنيا وللدين؟!
تحيي الرياح بها المرضى إذا نسمت
وجوست بين أغصان الرياحين
وقال عمارة بن عقيل اليربوعي:
أعاينت في طول من الأرض والعرض
كبغداد دارا؟! إنها جنة الأرض
صفا العيش في بغداد واخضر عوده
وعيش سواها غير صاف ولا غض
تطول بها الأعمار إن غذاءها
مريء وبعض الأرض أمرأ من بعض
قضى ربها ألا يموت خليفة
بها إنه ما شاء في خلقه يقضي
وقال السري الرفاء:
إذا سقى الله منزلا فسقى
بغداد ما حاولت من الديم
يا حبذا صحبة العلوم بها
والعيش بين اليسار والعدم
وقال سعد بن محمد بن علي الهمداني:
فدى لك يا بغداد كل مدينة
من الأرض حتى خطتي ودياريا
فقد طفت في شرق البلاد وغربها
وسيرت خيلي بينها وركابيا
فلم أر فيها مثل بغداد منزلا
ولم أر فيها مثل دجلة واديا
ولا مثل أهليها أرق شمائلا
وأعذب ألفاظا وأحلى معانيا
وقال طاهر بن المظفر الخازن:
سقى الله صوب الغاديات محلة
ببغداد بين الكرخ فالخلد فالجسر
هي البلدة الحسناء خصت لأهلها
بأشياء لم يجمعن مذ كن في مصر
هواء رقيق في اعتدال وصحة
وماء له طعم ألذ من الخمر
5
ودجلتها شطان قد نظما لنا
بتاج إلى تاج وقصر إلى قصر
تراها كمسك والمياه كفضة
وحصباؤها مثل اليواقيت والدر
وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب المالكي:
بغداد دار لأهل المال طيبة
وللصعاليك دار الضنك والضيق
بقيت أمشي مضاعا في أزقتها
كأنني مصحف في بيت زنديق
والناس يرون أن في هذين البيتين حطا من مقام بغداد، وأنا أرى فيهما العكس؛ لأن البلد الذي يضيق على الصعاليك وأهل البطالة هو البلد الذي يملك من الحضارة قسطا وفيرا، وإنما يكثر الصعاليك في البلد الخامل. ويظهر لي أن هذا الفاضل ابتلي بداء الفقر فأعياه علاجه، مع أنه كان يتحلى بأدب رائع وفضل ناصع، فضاقت به مذاهبه وانزوت عنه مطالبه. وهو القائل:
متى يصل العطاش إلى ارتواء
إذا استقت البحار من الركايا؟!
ومن يثن الأصاغر عن مراد
وقد جلس الأكابر في الزوايا؟!
إذا استوت الأسافل والأعالي
فقد طابت منادمة المنايا
وقال الحكمي وهو في مصر يتشوق إلى بغداد:
ذكر الكرخ نازح الأوطان
فصبا صبوة ولات أوان
ليس لي مسعد بمصر على الشو
ق إلى أوجه هناك حسان
نازلات من الصراة فكرخا
يا إلى الشط ذي القصور الدواني
إذ لباب الأمير صدر نهاري
ورواحي إلى بيوت القيان
وقال شاعر العصر الرصافي من قصيدة عنوانها «سوء المنقلب»، نظمها على أثر طغيان المياه في بغداد:
بغداد حسبك رقدة وسبات
أو ما تمضك هذه النكبات
ولعت بك الأحداث حتى أصبحت
أدواء خطبك ما لهن أساة
ومنها:
إن البلاد إذا تخاذل أهلها
كانت منافعها هي الآفات
تلك الرصافة والمياه تحفها
والكرخ قد ماجت به الأزمات
سالت مياه الواديين جوارفا
فطفحن والأسداد مؤتكلات
وقال عندما كانت الحكومة العثمانية ترسل جنودها إلى نجد على عهد الحكم الحميدي:
إليك إليك يا بغداد عني
فإني لست منك ولست مني
ولكني وإن كبر التجني
يعز علي يا بغداد أني
أراك على شفا هول شديد
تتابعت الخطوب عليك تترى
وبدل منك صفو العيش مرا
فهلا تنحبين فتى أغرا؟!
أراك عقمت لا تلدين حرا!
وكنت لمثله أزكى ولود
أقام الجهل فيك له شهودا
وسامك بالهوان له السجودا
متى تبدين منك له جحودا؟!
فهلا عدت ذاكرة عهودا
بهن رشدت أيام الرشيد؟!
زمان نفوذ حكمك مستمر
زمان سحاب فيضك مستدر
زمان العلم أنت له مقر
زمان بناء عزك مشمخر
وبدر علاك في سعد السعود
برحت الأوج ميلا للحضيض
وضقت وكنت ذات علا عريض
وقد أصبحت في جسم مريض
وكنت بأوجه للعز بيض
فصرت بأوجه للذل سود
حكومة شعبنا جارت وصارت
علينا تستبد بما أشارت
فلا أحدا دعته ولا استشارت
وكل حكومة ظلمت وجارت
فبشرها بتمزيق الحدود
وقال الأستاذ الزهاوي - عليه الرحمة - قبل الدستور العثماني من قصيدة عنوانها «أيام بغداد»:
أتعود بعد تصرم ونفاد
أيام بغداد إلى بغداد؟!
كانت محطا للعلوم وأهلها
وقرارة للمجد والأمجاد
اليوم هاتيك العلوم جميعها
مدفونة بمقابر الأجداد
أيام مد الأمن وارف ظله
فيها فكانت جنة المرتاد
أيام بغداد تضيء جميلة
فتلوح مثل الكوكب الوقاد
ولبحتري العصر بمصر الأستاذ علي الجارم بك من قصيدة عصماء، أنشدها عند افتتاح المؤتمر الطبي سنة 1938 ببغداد:
بغداد يا بلد الرشيد
ومنارة المجد التليد
يا بسمة لما تزل
زهراء في ثغر الخلود
يا سطر مجد للعرو
بة خط في لوح الوجود
يا راية الإسلام وال
إسلام خفاق البنود
وهي قصيدة بارعة كل أبياتها غرر.
خلاصة التاريخ السياسي لبغداد
تسهيلا للبحث رأيت أن أقسم التاريخ السياسي لهذه المدينة إلى ثلاثة أبواب:
الباب الأول:
العهد العباسي؛ ويبتدئ بإنشاء بغداد وينتهي بسقوطها بأيدي المغول.
الباب الثاني:
العهد المغولي وما أعقبه من تطورات إلى عهد الاحتلال الإنكليزي.
الباب الثالث:
الاحتلال الإنكليزي وما أعقبه من تطورات.
الباب الأول
العهد العباسي
إن تاريخ بغداد السياسي هو تاريخ الخلافة العباسية، إن لم نقل تاريخ العالم الإسلامي خلال القرون الخمسة من سنة 150ه إلى 656ه، وكل أثر لهذه الدولة في تكييف الأحداث وتوجيهها يمكن أن ينسب إلى هذه المدينة ويتصل بتاريخها. وبما أن تاريخ تلك الدولة ينقسم إلى عدة أطوار تتمايز بخصائص وتصطبغ بأصباغ مختلفة، رأينا أن نوزع هذا الباب إلى خمسة فصول.
الفصل الأول
طور العظمة والازدهار (145-247)
تولى الخلافة في هذا الطور تسعة من الخلفاء، أولهم المنصور وآخرهم المتوكل، ستة منهم اتخذوا بغداد عاصمة لهم، وثلاثة انتقلوا إلى سامراء فاتخذوها مقرا؛ وهم: المعتصم، والواثق، والمتوكل. وقد كان الخلفاء في هذا الطور مصدر السلطات كلها من عسكرية وقضائية وإدارية، فإن المنصور عندما انتقل إلى بغداد كان قد قضى على منافسيه من العباسيين والعلويين، ومن القواد المدلين بخدمتهم المتعاظمين بنفوذهم، وتفرغ بعد هذا للإصلاح الداخلي، فاستتب الأمن في طول البلاد وعرضها، واتسع العمران، وأقبل الناس على طلب العلوم من شرعية ولسانية وكونية، فاتسعت رقعة بغداد وازدحمت بالسكان.
وأهم مناصب الدولة في العاصمة: الوزارة، والحجابة، والكتابة، ورياسة الشرطة، والقضاء.
وهناك منصب كبير له شأنه العظيم في سياسة الدولة وعظمتها؛ ذلك هو قيادة الجيش، وكان هذا المنصب يعتبر في الذروة من مهام الخلافة، وكان الخليفة هو القائد الأعظم للجيش، وهو الذي يصرف أموره وينظم شئونه، وكان إليه أمر عقد الألوية، وتعيين القواد، وتوزيع الجيوش على الثغور والأطراف. وفي الأطراف منصب مهم هو منصب صاحب البريد، ومهمته نقل كل ما يحدث من الأحداث، وما يشيع من الأخبار، وما يقوم به الولاة من الأعمال، وما يصدر من القضايا عن القضاة، وما يحصل من الجبايات وبيان الأسعار، إلى غير ذلك.
وكان المنصور حريصا على اختيار عماله من قدراء الرجال وأهل الكفايات منهم؛ فقد روى المؤرخون أن ابنه المهدي طلب إليه أن يعهد ببعض الولايات إلى رجل من الأشياع، ذكر أنه أخلص الخدمة للبيت العباسي، فسأله أبوه عن الصفات الإدارية التي يتحلى بها هذا الرجل، فقال: ليس له من الصفات إلا إخلاصه لبيتنا، فقال المنصور: يا بني يمكننا أن نقابل إخلاصه لنا بإغداق النعمة عليه من مالنا الخاص، ولا يجوز لنا أن نركبه على أكتاف الرعية.
وقد توفي المنصور محرما في طريق الحج ليلة السبت 6 من ذي الحجة سنة 158ه، ودفن بثنية المعلاة على مقربة من مكة، وبايع الناس في مكة ثم في بغداد محمدا المهدي، فسار بالناس سيرة حسنة. وقد ترك له أبوه في الخزائن أموالا طائلة مكنته من التوسع في العمران والتبسط في العطاء، فمالت إليه القلوب وأكبرته النفوس. ومن أهم الحوادث التي وقعت في زمانه في بغداد الفتك بالزنادقة وأهل الأهواء، وقد ذهب في غمار هذه الفتنة الكثيرون من الأبرياء؛ ذلك لأنها تهمة غامضة المعالم مبهمة الأطراف.
وتوفي المهدي ليلة الخميس لثمان بقين من المحرم سنة 169ه، في قرية يقال لها الروذ من أعمال ماسبذان، وبويع ابنه موسى الهادي، وكان إذ ذاك في جرجان، ولم تطل مدة خلافته فتوفي في الرابع عشر من ربيع الأول سنة 170ه، وبويع الرشيد وكان عمره عند البيعة خمسا وعشرين سنة، وكان عظيم القدر، مهيب الجانب، قد حنكته التجارب؛ لأنه قاد الجيوش إلى بلاد الروم أكثر من مرة، وتولى الكثير من مهام الدولة في حياة أبيه.
نكبة البرامكة
ومن أهم الأحداث التي شهدتها بغداد في عهده نكبته للبرامكة، فإنه أقدم على ذلك عندما أوجس منهم خيفة على سلطانه، وتطاولا على نفوذه، وميلا خفيا إلى مناوئيه من العلويين. وقد أفاض المؤرخون باختراع الأسباب التي لا تخرج عن حدود الظنون، ومن أعرق تلك التقولات في الوهم حكاية اتصال العباسة بنت المهدي بجعفر بن يحيي اتصالا سريا، وهي حكاية رواها محمد بن جرير الطبري عن زاهر بن حرب، وتناقلها المؤرخون فزادوا عليها ونقصوا منها، وقد تولى ابن خلدون تفنيد هذه الحكاية في صدر مقدمته بما لا مزيد عليه.
وعلى الجملة، فإن عهد الرشيد يعتبر في الذروة من عهود بني العباس، وقد وصلت بغداد في هذا العهد إلى قمة مجدها ومنتهى فخارها، وامتدت الأبنية في الجانبين امتدادا عظيما، حتى صارت بغداد كأنها مدن متلاصقة تبلغ الأربعين، وبلغ سكانها نحوا من مليوني نسمة، ودرت عليها الخيرات من جميع الأقاليم الإسلامية، ونمت فيها الثروة نماء لا مزيد عليه، وغصت خزائن الدولة بالذهب والفضة التي كانت تنصب فيها من الأقاليم فائضة عن حاجها.
وتوفي الرشيد ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة سنة 193 في طوس ودفن هناك، فبويع الأمين في طوس أولا وفي بغداد ثانيا، عندما وصل خبر وفاة الرشيد إليها، وهو عباسي الأبوين، أبوه الرشيد وأمه زبيدة بنت جعفر بن المنصور، ولم يتفق ذلك لغيره من خلفاء بني هاشم إلا لعلي بن أبي طالب ولابنه الحسن رضي الله عنهما.
وما كاد يتولى الأمين الخلافة حتى التف حول عبد الله المأمون - وهو وال على خراسان وسائر أقاليم المشرق - طائفة من رجالات الفرس ووعدوه بنقل الخلافة إليه، وكان على رأس هذه الطائفة الفضل بن سهل، فأخذوا يدبرون الأمر سرا، ويدسون الدسائس ويحوكون الشباك في جو من الكتمان شديد، وكان مقصدهم الحقيقي نقل الدولة إلى العلويين، ثم جعلها في آخر الأمر فارسية الصبغة عاصمتها مرو في خراسان. وشعر الأمين وهو في بغداد بدبيب هذه الدسائس وتأكد لديه أمرها، فأخذ كل واحد من الأخوين يعد العدة للفتك بأخيه، واتسعت مسافة الخلاف بينهما، فجهز المأمون جيشا لجبا بقيادة طاهر بن الحسين، ثم عززه بجيش آخر بقيادة هرثمة بن أعين، وحصلت اضطرابات وفتن في عساكر الأمين لم يحصل مثلها في عساكر المأمون، وأحاط جيش طاهر أخيرا بالجانب الغربي من بغداد، وجيش هرثمة بالجانب الشرقي؛ فوقعت بغداد في الحصار وقاست من جرائه أهوالا يطول وصفها، فقد نصبت عليها المجانيق، فكثر فيها التهديم والتحريق وسفك الدماء، وعض الجوع أهلها بأنيابه، وطال عمر الحصار، ولم يبق في قوس الصبر منزع؛ فجمع الأمين مستشاريه، فأشار عليه بعضهم أن يتصل بهرثمة ويطلب منه الأمان لنفسه، وكان يأمن جانبه أكثر مما يأمن جانب طاهر، فكتب إلى هرثمة بذلك فأجابه بالإيجاب. ولما علم طاهر بذلك أبى إلا أن يكون خروجه إليه؛ فعزم الأمين على الخروج إلى هرثمة بنفسه سرا، ولما علم طاهر بذلك أحاط قصر الأمين بكمين، فلما خرج الأمين وركب الحراقة للذهاب إلى هرثمة وسارت به قليلا خرج ذلك الكمين وأخذ يرشق تلك الحراقة بالسهام والحجارة؛ فانقلبت. وحاول الأمين الرجوع إلى الجانب الغربي عوما، فتلقاه أصحاب طاهر فأسروه، ثم قتلوه بأمر من طاهر، وكان ذلك ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم سنة 198، وكانت مدة الحصار نحوا من ثمانية عشر شهرا.
بويع المأمون على أثر قتل أخيه ولكنه لم يبرح خراسان، وبقيت بغداد تئن تحت كابوس الحكم العسكري، على ما بها من أوصاب الحصار وآثار الحجارة والنار. والذي يظهر للناقد البصير أن بطانة المأمون من الفرس كانت تحاول في طي الكتمان أن تنقل عاصمة الخلافة إلى خراسان؛ ليتم لهم في ذلك التغلب على شئون الدولة. وأول تدبير قام به الفضل بن سهل أن حصل من المأمون على عهد بتولية أخيه الحسن العراق والحجاز واليمن، ووجه طاهرا إلى الرقة لمحاربة أحد الخوارج هناك، وولاه الموصل والجزيرة والشام والمغرب، وأمر هرثمة بالعودة إلى خراسان. وشاع في بغداد أن الفضل بن سهل قد استبد بالأمر وأخذ يبرم الأمور على هواه بعد أن أنزل المأمون قصرا حجبه فيه عن أهل بيته ووجوه قواده فأصبح فيه كالحبيس؛ فاستفزت هذه الشائعة نخوة بني هاشم وأكابر الناس في العراق وأنفوا من ذلك واستخفوا بالحسن بن سهل؛ فاضطرب حبل الأمن ودب دبيب الفتن هنا وهناك، وبرز الكثير من الشطار وأهل الدعارة وعاثوا في بغداد فسادا، وليس لدى السلطان قوة تقدر على توطيد الأمن وإعادة الطمأنينة إلى النفوس. رأى الناس شدة هذا البلاء واستشراء هذا الداء؛ فاجتمع وجوه بغداد وصلحاؤها فقرروا أن يتولى أهل كل محلة توطيد الأمن فيها والضرب على أيدي سفهائها وشطارها، كل ذلك والمأمون في قبضة الفضل بن سهل بخراسان لا يصل إليه من أمر بغداد صغيرة ولا كبيرة. ثم إن الفضل بن سهل ومن لف لفه طلبوا إلى المأمون أن ينقل البيعة إلى العلويين، فاختاروا لولاية عهده عليا الرضا بن موسى الكاظم، وأمر باستعمال اللون الأخضر شعارا لدولته بدل اللون الأسود، الذي هو شعار الهاشميين إلى عهده؛ فأرجف أعداء المأمون بأن اللون الأخضر يرمز إلى لون النار، وإنما اختاره الفضل بن سهل؛ تقربا إلى المجوسية التي كان يدين بها من قبل وهو حديث عهد بالإسلام. بلغ خبر ذلك أهل بغداد؛ فغضب بعضهم ورضي آخرون، واشتد الأمر على رجالات الأسرة العباسية، فاجتمعوا وقر رأيهم على خلع المأمون ومبايعة عمه إبراهيم بن المهدي، وكان ذلك غرة المحرم سنة 202ه.
حصل كل هذا والمأمون في قبضة الفضل بن سهل لا يصل إليه شيء منه، فاتصل الإمام علي الرضا بالمأمون سرا وأخبره بكل الواقع، وبين له أن مخرقة ابن سهل أدت إلى كل هذه الاضطرابات؛ فعزم المأمون على المسير إلى بغداد، فلما وصل إلى سرخس أحكم تدبير الحيلة للتخلص من الفضل، فدس له من قتله وهو في الحمام، وكان ذلك في الثاني من شعبان سنة 202ه، وتظاهر بالحزن عليه، وكتب إلى الحسن أخيه بتعزية حارة وأخبره أنه صيره مكان أخيه، وما كاد يصل مدينة طوس حتى أبلغ بوفاة الإمام علي الرضا؛ فشاع بين الناس أنه مات مسموما، وأن المأمون هو الذي سعى في ذلك. فلما قرب المأمون من بغداد وزال ما كان ينقمه الناس عليه من أمر الفضل، وما كان ينقمه البيت العباسي من نقل الخلافة إلى العلويين؛ اجتمع القواد والأمراء وأعلنوا خلع إبراهيم بن المهدي؛ فاختفى، وكان ذلك ليلة الأربعاء 17 من ذي الحجة سنة 203. وفي يوم السبت 16 من صفر سنة 204 دخل المأمون مدينة السلام ولا تزال الخضرة شعار دولته، ثم بعد بضعة أيام أمر بإعادة السواد شعار الهاشمية الأول، وبوصوله إلى بغداد بعد تخلصه من ربقة ابن سهل أصبح خليفة حقا، وعاد إلى بغداد شيء من نضرتها وروائها.
وقرت قلوب كان جما وجيبها
ونامت عيون كان نزرا هجوعها
واتخذ مقره في الجانب الشرقي، ومنذ ذلك الحين استقر الخلفاء في هذا الجانب، وكان قد سافر إلى الشام ومصر ثم عاد إلى غزو الروم.
وأدركته منيته غازيا في 18 من رجب سنة 218، فدفن في طرسوس، وعهد بالخلافة من بعده إلى أخيه المعتصم، وكتب له في عهده وصايا تعد من أنبل ما يوصي به الحكماء الإخوان والأبناء، وكرر له العناية في أمر الرعية وأمر العامة منهم قبل الخاصة، بأن ينصف مظلومهم، ويضرب على يد ظالمهم، ويسعى جهده لنشر العدل وإفاضة الرفاهية عليهم.
ولم يكن المعتصم رجلا بعيد النظر فسيح رقعة التفكير، وكل ما فيه من المزايا أنه كان شجاعا يحب الشجعان ويعتز بهم، وقد أكثر من الغرباء - ولا سيما الترك - في جنده، وتمرد عليه بعض جيشه منذ أول الأمر؛ فاضطر إلى التخلص منهم بالتبعيد والتشريد وبالقتل أحيانا، كما فعل بحيدر المعروف بالأفشين، فإنه اضطر إلى إحراقه مصلوبا، وهذا الجيش الذي ألفه وإن كان قد أذل الأعداء خارج الدولة، إلا أنه قد أذل مع ذلك الرعية في داخل البلاد.
وفي يوم الخميس لثمان مضين من شهر ربيع الأول سنة 227 توفي المعتصم في سامراء، وكان قد عهد بالخلافة إلى ولده هارون الذي لقب بالواثق بالله. •••
تولى الواثق بالله الخلافة وحالة الجند - على ما علمنا - وقد توطدت أقدام القواد الغرباء الذين اصطنعهم المعتصم، وصاروا أصحاب نفوذ عظيم في الدولة، وكانوا - على ما بهم من غطرسة وخشونة - قدراء على توطيد الأمن في الداخل، كما كانوا قدراء على بعث الخوف في قلوب الدول المجاورة المناوئة للمملكة الإسلامية في الخارج.
مات الواثق يوم السبت لست ليال مضين من ذي الحجة سنة 232، ولم يعهد بالخلافة لأحد من بعده؛ فاختار كبراء الدولة وفيهم أحمد بن أبي داود القاضي - وهو من سراوات العرب وكبار علمائها - جعفر بن المعتصم ولقبوه بالمتوكل على الله، وكان شابا بعيد الهمة، ماضي العزيمة، قوي الشكيمة. نظر ما حوله من الأجناد فرأى أن أكثريتهم من الأعجام الذين لا يوثق بإخلاصهم ولا يؤمن جانبهم في الملمات؛ فالتفت إلى العرب من حوله، فلم يجد منهم العدد الوفير الذي يحتاج إليه؛ لأن الحروب قد أكلت أكثرهم، والفتن قد اصطلمت زهرتهم؛ ففكر أن ينقل عاصمته إلى الشام، فيصطفي من أبناء الشام ومن أبناء الأعاريب هنالك جيشا يفل به غرب هؤلاء المماليك المتغطرسين والجفاة المتغلبين، فشخص إلى دمشق سنة 243 ونقل إليها دواوين الملك، ففطن رؤساء الأجناد من الأتراك إلى مقصده، فدفعوا الجند إلى الشغب؛ فاندفعوا يطالبون بأرزاقهم وأعطياتهم فأجابهم إلى ذلك. ورأى أنه إن استمر على الإقامة في دمشق استمروا على إحداث الاضطرابات والإكثار من المشاغبات؛ فأظهر أن هواء البلد وماءه لا يوافقان مزاجه، وأن الأطباء أشاروا عليه بالنقلة؛ فرجع إلى سامراء. ولا شك عندنا بأن الأجناد من الأتراك هم الذين حملوه على العودة إلى سامراء للحيلولة بينه وبين تنفيذ ما عزم عليه من إنشاء الجند العربي، وإلا فدمشق من أعذب بلاد الله ماء وأرقها هواء.
وكان المتوكل يكثر من شرب النبيذ، فتفلت منه بعض الأسرار، فظن المنتصر أنه يريد تأخيره وتقديم أخيه المعتز عليه، فتمالأ مع بعض الناقمين من الأتراك واتفقوا على اغتياله، فأعدوا لذلك قوما دخلوا عليه وهو على شرابه فقتلوه، وحاول الفتح بن خاقان الدفاع عنه فقتلوه أيضا، وكان في المجلس أبو عبادة البحتري ويزيد المهلبي - الشاعران المعروفان - فاختبأ أحدهما خلف الباب والثاني في الشاذروان. وفي ذلك يقول البحتري قصيدته المشهورة التي جاء فيها:
لنعم الدم المسفوح ليلة جعفر
هريق وجنح الليل سود دياجره
صريع تقاضاه السيوف حشاشة
يجود بها والموت حمر أظافره
وفيها يقول:
ولو كان سيفي ساعة الفتك في يدي
درى الفاتك العجلان كيف أساوره
وفيها يشير إلى غدر المنتصر:
أكان ولي العهد أضمر غدرة؟!
فمن عجب أن ولي العهد غادره!
فلا ملي الباقي تراث الذي مضى
ولا حملت ذاك الدعاء منابره
وقال يزيد المهلبي من قصيدة يرثي بها المتوكل، وينعى بها على بني العباس نبذهم العرب واصطفاءهم مماليك الترك:
لما اعتقدتم أناسا لا حلوم لهم
ضعتم وضيعتم من كان يعتقد
ولو جعلتم على الأحرار نعمتكم
حمتكم السادة المذكورة الحشد
قوم هم الجذم والأنساب تجمعهم
والمجد والدين والأرحام والبلد
إذا قريش أرادوا شد ملكهم
بغير قحطان لم يبرح به أود
وباغتيال المتوكل ختم هذا الطور وطويت آخر صفحة من صفحات العظمة، التي كانت تظلل خلائف بني العباس.
الفصل الثاني
استئثار الجيش بالسلطة (247-334)
اختلف على كرسي الخلافة في هذا الطور ثلاثة عشر خليفة، وفي هذا الطور تفاقم تحكم الجنود في سياسة الدولة، واستهانوا بما للخلافة من حرمة، فراحوا يبايعون ويخلعون، وينصبون ويعزلون، تبعا لأهوائهم وحسب ما توحي إليهم مصالحهم الخاصة، أما مصالح الشعب فإنها لا تكاد تخطر لهم على بال، وإذا تضاربت مصالحهم وتصادمت مطامعهم فزعوا إلى سيوفهم فحكموها في حل مشاكلهم.
ولما رأى الخليفة المستعين أن القوم لا ينتهون من فتنة إلا إلى أخرى، انتقل بالفريق المخلص من جنده إلى مدينة السلام، وأمر بإقامة الأسوار على الجانبين، وقصده أجناد سامراء فحاصروا بغداد، فامتنعت عليهم في أول الأمر، ولكن الخليفة المستعين لم يلبث أن استكان بعد مرور سنة على الحصار، فخرج من الرصافة بقصد الفرار، فوقع أسيرا بيد أعدائه، وبعد أن استنزلوه عن الخلافة قتلوه وبايعوا المعتز بن المتوكل، وبذلك عاد كرسي الخلافة إلى سامراء ثانية، وعاد الأجناد إلى شغبهم وهراشهم، فلما طال ذلك بينهم وخشي عقلاؤهم أن يتفانوا عن آخرهم قر رأيهم أن يكون على رأسهم أحد أقرباء الخليفة ليكف بأس بعضهم عن بعض، فرأى المعتمد أن يعهد بهذا المنصب إلى أخيه طلحة الموفق، فعهد إليه بذلك، وولاه معظم الأقاليم التابعة للدولة حتى أصبح الخليفة الحقيقي، وكانت كلمته هي العليا، ولم يبق بيد المعتمد إلا الخطبة والسكة والاسم.
وفي هذا الطور استخف أمراء الأطراف بأمر الخلافة في المركز، فاستبدوا بما تحت أيديهم من ولايات واستقلوا بها، ولم يبق للخلافة فيها إلا العلاقات المعنوية، وفي هذا الطور أيضا كثرت الفتن الداخلية، فكانت ثورة الزنج في البصرة وما يليها من أرض السواد، ولم يتم القضاء عليها إلا بعد خطوب وحروب أسفرت عن خراب البلاد وانطماس أعلام الحضارة فيها، وكذلك اضطرمت بلاد العرب بفتنة القرامطة التي استشرى شرها وتطاير شررها، فأتت على معالم العمران في الجزيرة العربية وما يليها من أطراف العراق والشام. ومن أهم الأحداث أيضا نقل الخليفة المعتضد مقر الخلافة من سامراء إلى بغداد، فعاد لبغداد مركزها السياسي الأول.
وفي هذا الطور اضطرمت فتنة ذهب ضحيتها أكبر أديب عباسي؛ ذلك أن بعض أهل الحل والعقد رأوا أن يخلعوا المقتدر لصغر سنه ويبايعوا عبد الله بن المعتز لمكانته في الأدب وحصافة الرأي؛ فثار عليه خدم المقتدر وحشمه واضطروه إلى الفرار والاختفاء، وانتهى الأمر بالقبض عليه وحبسه وتعذيبه حتى مات، وكذلك قتل معه جميع أعوانه وبطانته.
وفي عهد الخليفة الراضي أحدث منصب أمير الأمراء، وهو منصب مهم يخطب لصاحبه على المنابر، وإليه المرجع في كبير أمور الدولة وصغيرها، وأول من تولاه محمد بن رائق، وصارت أموال الدولة تحمل إلى خزائنه، فيتصرف بها كما يريد وينفذ للخليفة ما يريد، وكان هذا المنصب السبب في كثرة النزاع بين الطامعين من رجال الدولة، من ذلك أن رجلا يقال له البريدي - أحد عمال الأقاليم - جهز جيشا، فغزا به بغداد في دجلة واحتلها في 12 من رمضان سنة 329، فاضطر الخليفة إلى أن ينتقل إلى الموصل وفيها بنو حمدان، وعلى رأسهم ناصر الدولة، فاستنجده لطرد البريدي من بغداد ففعل، وعلى أثر ذلك قلده إمارة الأمراء، وكانت مدة احتلال البريدي ثلاثة أشهر وعشرين يوما، ذاقت بغداد خلالها ألوانا من العسف والنهب والتدمير وهتك الحرمات مما يطول وصفه.
الفصل الثالث
العهد الديلمي (334-447)
أصل بني بويه من بلاد الديلم الواقعة في الجنوب الغربي من شاطئ بحر الخزر، وكانوا على المجوسية إلى أن اتصل بهم الحسن بن علي الزيدي العلوي الملقب بالأطروش، فأسلم منهم على يده خلق كثير وتمذهبوا بالمذهب الزيدي، وبلاد الديلم وإن كانت تعد في جملة الولايات الفارسية قبل الإسلام إلا أن أهلها ليسوا من الفرس في الصميم، وإنما هم جيل لهم مميزاتهم الخاصة. وقد بسط بنو بويه سلطانهم على إيران كلها. وفي خلافة المستكفي كان يتوزع الحكم في مملكتهم ثلاثة إخوة: علي وهو أكبرهم، والحسن وهو أوسطهم، وأحمد وهو أصغرهم.
وفي 11 من جمادى الأولى سنة 334 وصل أحمد بن بويه مدينة السلام إجابة لدعوة تلقاها من قواد بغداد، ومثل بين يدي الخليفة فاحتفى به، فبايعه أحمد وحلف له يمين الطاعة، وحلف الخليفة لأحمد يمين الإقرار له على السلطنة.
فأنعم الخليفة عليه بلقب «معز الدولة»، وعلى أخيه الكبير بلقب «عماد الدولة»، وعلى الأوسط بلقب «ركن الدولة»، ولم يثبت معز الدولة على وفائه بيمينه للمستكفي سوى أربعين يوما، فخلعه وبايع المطيع لله. وبمعز الدولة هذا ابتدأ العهد البويهي، فتعاقب على الحكم في بغداد من ملوكهم أحد عشر ملكا، آخرهم خسرو فيروز الذي لقب نفسه بالملك الرحيم.
وفي عهد بني بويه وصل العلم والأدب في بغداد إلى القمة العليا، فنشأ أكابر المفسرين والمحدثين والفقهاء والمتكلمين والمؤرخين والكتاب والشعراء وأساطين علوم العربية والحذاق في المعارف الكونية. وبالجملة، فإن المعارف التي تم غرسها في عهد المنصور والرشيد والمأمون أزهرت في هذا العصر وآتت أكلها يانعا شهيا، وكان لبعض ملوكهم آثار في العمران وحسنات على أهل الفضل وأقمار الأدب؛ ففي عهدهم تولى الوزارة في إيران أبو الفضل بن العميد وابنه أبو الفتح والصاحب بن عباد، وفي بغداد أبو محمد المهلبي الذي أفاض على رجالات العلم والأدب سيبا من حسناته وفيضا من نعمه، على أنه لا ينكر أن القوم أيقظوا الفتن المذهبية ونفخوا في نارها، حتى أخذ بعض المسلمين يستحل دم بعض.
وفي زمن حكمهم امتحنت بغداد بشتى المحن التي منها: طغيان المياه عليها، واختلال الأمن داخلها وخارجها، وتفاقم أمر المجاعات فيها، واستيلاء رجال الجند على الضياع والقرى، والتضييق على الفلاحين مما لا عهد لهم به في صدر الخلافة العباسية، وفي آخر عهدهم أمر الخليفة القضاة والفقهاء بترك الفتيا؛ محتجا بذلك على جرائم اقترفها أجناد الديلم وعجز ملكهم عن معاقبتهم بسببها.
الفصل الرابع
العهد السلجوقي (447-552)
السلاجقة ينتسبون إلى جدهم سلجوق، وهو ينتمي إلى قبيلة كريمة كانت تقطن تركستان، وسلجوق هو أول من آمن من رجالها. وأول من استولى على بغداد من هذه الأسرة طغرلبك بن ميكائيل بن سلجوق على أثر اختلال حكم البويهيين فيها؛ وذلك أن مملوكا تركيا من مماليك الديلم يقال له أبو الحارث أرسلان البساسيري عاث في العراق فسادا وكاتب الفاطميين في مصر؛ فالتجأ الخليفة القائم إلى مهارش بن المجلي أمير العرب، فحمله إلى عانة، فبقي فيها حولا كاملا.
وفي ذلك العهد دخل طغرلبك بغداد، وقتل البساسيري، وأعاد القائم إليها، ولم يتخذ ملوكهم بغداد مقرا لهم، وكانوا يكتفون بإرسال من ينوب عنهم.
وقد عانت بغداد في عهدهم هذا حصارين؛ الأول: سنة 530 في عهد الخليفة الراشد بأمر الله، دام نحو شهرين، وانتهى بفرار الخليفة إلى الموصل، وكان القائم بهذا الحصار السلطان مسعود السلجوقي. والثاني: في خلافة المقتفي سنة 551، والقائم به محمد بن أخي السلطان مسعود، ودام أكثر من ثلاثة أشهر، وفي هذا الحصار أبلى البغداديون بلاء حسنا، فردوا السلطان ومن معه بغيظهم لم ينالوا خيرا.
ومن أعظم ملوك السلاجقة الذين زاروا بغداد ملكشاه بن ألب أرسلان، زارها مع وزيره الأعظم الحسن بن علي الملقب بنظام الملك، الذي حاول أن يصل البيت العباسي بالبيت السلجوقي بأواصر المصاهرة، فعقد للخليفة المقتدي على ابنة السلطان ملكشاه.
ولهذه المصاهرة مثل سابق، فإن السلطان طغرلبك زوج ابنته للخليفة القائم، وحاول أن يتزوج هو نفسه من ابنة الخليفة، فكان له ما أراد بعد ممانعات ومراجعات كادت تؤدي إلى مخاصمات لا يعلم مدى أثرها إلا الله.
الفصل الخامس
الطور الأخير (552-656)
لم يبق في يد الخلفاء من تلك المملكة المترامية الأطراف في هذا العهد إلا بغداد وأعمالها وقليل مما يتصل بها.
وقد طالت مدة خلافة بعض الخلفاء حتى ضربت الرقم القياسي على حد تعبير كتاب العصر؛ فقد كانت مدة خلافة الناصر لدين الله 46 سنة وعشرة أشهر و28 يوما، وهي أطول مدة حكم فيها خليفة عباسي، وما ذلك إلا لخلو بغداد من الأجناد الأتراك والديلم وغيرهم من أهل الشغب ورواد الفتن، ثم لم يبق في يد الخلفاء ما يحسدون عليه.
وكان الخلفاء في هذا العهد ميالين إلى نشر العدل والترفيه على الرعية برفع كثير من المكوس والضرائب، كما كانوا ميالين إلى إقامة دور العلم والمساجد والملاجئ الخيرية.
وفي هذا العهد استفحل أمر المغول في ديار فارس وغيرها، كما اشتدت قبل ذلك وطأة الصليبيين في ديار مصر والشام، فأصبحت ديار الإسلام بين قوتين هائلتين، كأنهما كانتا على ميعاد.
وكانت خاتمة هذا العهد الكارثة التي أودت بالخلافة وبالمدنية والحضارة على ما سيأتي في الباب التالي.
الباب الثاني
العهد المغولي وما أعقبه من تطورات إلى الاحتلال الإنكليزي (656-1335)
ينقسم هذا الباب إلى خمسة فصول.
الفصل الأول
العهد الهولاكي (656-740)
المغول جيل من الترك يقطنون في بلاد تركستان، وقد نشأت بينهم وبين التتر - وهم من الترك أيضا - حروب طاحنة، فنشأ في ظل هذه الحروب رجل من المغول يقال له تموجين، عرف بعد ذلك باسم جنكيزخان، فنظم تموجين أمر المغول وأعدهم للفتح والتغلب، ولما حضرته الوفاة سنة 624 أوصى بتقسيم مملكته بين أبنائه الأربعة؛ وهم: جوجي، وجغطاي، وأوكداي، وتولي. وكان يقدر لهم أن يملكوا الدنيا، فكانت من حصة ولده تولي خراسان وما يؤمل الاستيلاء عليه من ديار بكر والعراقيين إلى منتهى حوافر خيول المغول، وكانت حدود مملكته تتاخم العراق. ولما توفي سنة 654 خلفه في مملكته ابنه هولاكو خان الملقب بإيلخان؛ ولذلك تسمى دولته بالإيلخانية.
وفي سنة 656 نزل هولاكو على بغداد وحاصرها، فكانت حروب، وكانت خطوب، اندلعت في أثنائها نيران فتن داخلية، انتهت باستيلاء التتر عليها وبقتل الخليفة المستعصم وأولاده ورجال حاشيته وأهل بطانته، وباستباحة بغداد مدة طويلة، ولم يسلم من الناس إلا من قدر على الاختفاء بمواطن لم تصل إليها عيون المغول، وكانت بغداد حين حاصرها القوم غاصة بأهل الأطراف من الذين أجفلوا أمام الجيش المغولي ظنا منهم أن العاصمة تعصمهم، فكانوا فيها لحما لسيوف المغول الذين لم يرحموا شيخا ولا طفلا ولا امرأة، وبهذا أفلت شمس الخلافة العباسية في بغداد بعد أن أشرقت عليها أكثر من خمسة قرون، وكان أفولها كارثة على الأمم الإسلامية كافة والعرب خاصة، بل على الشرق كله، بل على المدنية والحضارة؛ لأن المغول لم يكونوا يحملون يومذاك قلوبا تنبض بالرحمة ولا رءوسا تعقل للمدنية معنى، وكان كل ما يتميز به أولوهم أنهم لا يفرقون بين دين ودين ولا بين مذهب ومذهب؛ فكل الأديان والمذاهب لديهم متساوية، وقد نجم عن ذلك أنهم سلطوا بعض رجال الأقليات المتميزين ببعض المواهب على حكم الأكثريات مما لا عهد للبغداديين به من قبل، وأبقى هولاكو في أول الأمر الأوضاع الإدارية في بغداد على النمط العباسي تقريبا مع اختصار في بعضها، وأبقى أكثر المناصب الإدارية بيد الموظفين السابقين من العراقيين؛ ليستفيد من خبرتهم وسابق تجاربهم في جباية الضرائب والمكوس وتنظيم الأعمال، ورتب من قبله جماعة من الرقباء والأمناء ليشرفوا على كل شيء، وبذلك أصبحت حكومة بغداد مدنية تحت إشراف حكومة عسكرية. على أن هولاكو لم يلبث أن حول نظره عن الموظفين العراقيين إلى موظفين من الإيرانيين، فعهد بمنصب الوزارة في بغداد إلى علاء الدين الجويني سنة 657، وكذلك عهد بكثير من المناصب الأخرى ببغداد إلى رجال من أهل فارس، وبذلك خسر العراقيون مكانتهم التي كانوا يحتلونها في الدولة، كما خسروا عزتهم وحريتهم، ولكن بغداد لم تخرج عن كونها حاضرة لمدن العراق العربي. وتعاقب على الحكم فيها من رجال الدولة الإيلخانية ثلاثة عشر ملكا وملكة واحدة هي «صاتي خان» التي حكمت بغداد سنة 739.
وأول من أسلم من ملوك هذه الأسرة أحمد بن هولاكو، وكان اسمه قبل إسلامه «توكدار». وقد تمرد عليه ابن أخيه أرغون، واستولى على بغداد، فأرهق أهلها عسرا وأوسعهم ظلما، ثم تمكن من التغلب على عمه والاستيلاء على ملكه. وفي عهدهم ضربت الأوراق النقدية المعروفة ب «جاو»، فحدثت في بلادهم أزمة نقدية اهتزت لها أركان الحالة الاقتصادية، ولكن بغداد سلمت من شر هذه الأزمة. وفي سنة 694 أسلم غازان بن أرغون أحد أحفاد هولاكو، وكان لإسلامه رنة استحسان في بلاد الإسلام ولا سيما في بلاد فارس، وكان متزوجا بعدد من نساء أبيه على طريقة المغول، وكان شديد الحب لواحدة منهن يقال لها «بلغان خاتون»، فقيل له: إن الإسلام يحرم نكاح زوجات الأب. فهم بالردة، ولكن أحد العلماء أفتاه بصحة ذلك، وقال له: «إن أباك كان على الكفر ولم يكن زواجه شرعيا؛ فلا يمنعك مانع من أن تعقد أنت عليها الآن.» فسكن قلب غازان إلى هذه الفتوى وبقي على الإسلام، ومنذ ذلك الحين فشا الإسلام في المغول. وزار غازان هذا بغداد عدة مرات، فشمل أهلها بلطف لا عهد لهم به من أسلافه، وهو الذي أمر بضرب الدراهم والدنانير على مقاييس معينة ليتعامل الناس بها عدا لا وزنا، وأمر بتوحيد المكاييل والموازين والأطوال. ويقرن بعض المؤرخين اسم غازان باسم محمود، ولعله اختار لنفسه هذا الاسم بعد إسلامه.
وفي 718 حدث غلاء في بغداد، اضطر معه الناس إلى أكل الجيف، وباع الفقراء أولادهم ليسدوا رمقهم بأثمانهم. وفي سنة 739 استولت الأميرة «صاتي» بنت خدابنده على الملك، وهي أول مرة تكون فيها بغداد خاضعة لمملكة تملكها امرأة، وخطب لها على المنابر في بغداد وغيرها.
الفصل الثاني
العهد الجلائري (740-813)
وجلائر إحدى قبائل المغول الكبرى، نشأ فيها قواد معروفون، اتصل بعضهم بآل جنكيزخان، ومن أشهر الذين ارتقوا مكانا عليا على عهد الدولة الإيلخانية الشيخ حسن بن الأمير حسين الذي انتهز فرصة الضعف في الدولة الإيلخانية؛ فوثب على ملكها واستولى على بغداد سنة 740.
ومن أشهر ولاة بغداد على عهد هذه الأسرة أمين الدين مرجان بن عبد الله مملوك أويس، وأصله من بلاد الروم، وهو منشئ المدرسة والجامع المعروف اليوم بجامع مرجان.
وعلى عهد هذه الأسرة غزا تيمورلنك بغداد أكثر من مرة، أولاها سنة 795، وكانت وطأته عليها هذه المرة خفيفة على خلاف ما عهد فيه من القسوة والغلظة، قيل: إنما فعل ذلك ليستميل إليه البغداديين الذين ضجروا من عسف الشيخ أحمد الجلائري، بل زعم بعض المؤرخين أن البغداديين هم الذين راسلوا تيمور وطلبوا إليه القدوم ليخلصهم من جور السلطان أحمد. ثم عاد إليها السلطان أحمد بعد ابتعاد تيمور عنها، فغزاها تيمور ثانية سنة 803، وفتحها عنوة، وفتك بأهلها هذه المرة فتكا ذريعا، واستحل جنده المدينة أسبوعا كاملا اقترفوا فيه من المنكرات ما يقشعر له جلد الإنسانية.
ولما توفي تيمورلنك سنة 807 عاد السلطان أحمد الجلائري إلى بغداد فملكها سنة 808، وكانت بين السلطان أحمد وبين السلطان قره يوسف التركماني في أول الأمر ألفة انقلبت بعد ذلك إلى وحشة، انتهت بقتل السلطان أحمد واستيلاء قره يوسف على ملكه سنة 813، فأرسل السلطان يوسف ابنه محمدا للاستيلاء على بغداد، فسدت أبوابها في وجهه، وكان يدبر أمرها دوندي خاتون بنت السلطان حسين بن أويس الجلائرية، فلما علمت أن لا قبل لها بمحمد شاه احتالت للخروج من بغداد خلسة، ولما علم البغداديون بذلك فتحوا أبواب المدينة للفاتح الجديد سنة 814.
الفصل الثالث
العهد التركماني (813-914)
القبائل التركمانية تتشعب عن القبائل التركية الكثيرة العدد، ومواطنهم الأصلية بين بلخ وبحر الخزر وديار الروس وإيران، وأكثرهم في الأصل أهل خيام يعيشون عيشة البداوة، وكانت بعض بطونهم تقتني الشياه السود فلقبوه بذلك، فأطلق عليهم اسم «قره قوينلو»، وبعضهم يظن أن شارة الشاة السوداء التي كانت على أعلامهم في قديم الدهر هي السبب في هذا اللقب.
وممن اشتهر من رجال هذه القبيلة السلطان قره يوسف المذكور الذي استولى على ملك السلطان أحمد الجلائري كما مر آنفا، وفي سنة 823 توفي الأمير قره يوسف، ولما شاع موته طمع الناس بابنه محمد شاه صاحب بغداد. وفي سنة 836 تمكن قائد يقال له إسبان من الاستيلاء على بغداد خلسة، وفر منها السلطان محمد شاه، ثم كانت بينهما حروب انتهت بقتل السلطان محمد شاه سنة 837 في بلدة الشيخان، وكانت سيرته في صدر المدة التي حكم فيها بغداد محمودة، ولكنه في السنين الأخيرة من حكمه ضعف واستكان، واختلت الأمور عليه، وفي يوم الثلاثاء 28 من ذي القعدة سنة 848 توفي الأمير إسبان في بغداد ، وكان له ولد صغير اسمه فولاذ، استقر رأي الأمراء والحاشية على توليته وحكم بغداد باسمه، ولم يكن إسبان يمت إلى قره قوينلو بنسب، وكان شديد الوطأة على الناس، ملحا في جمع المال، وبعضهم ينطقه أصبهان. ولعل الأصل كذلك فحرفته العامة، وانتقل أمر بغداد بعده إلى شبه الفوضى، ولم يزل التنازع قائما بين المتغلبة، وبغداد تتحمل أثقل أعباء هذا النزاع إلى أن تسلط عليها جهانشاه ابن السلطان قره يوسف سنة 850، وولى عليها ولده محمدي ميرزا، وكان صغيرا فعهد بتدبير المملكة إلى الأمير عبد الله، وفي 11 من رمضان سنة 852 عزل السلطان جهانشاه ابنه محمدي ميرزا، وعهد بولاية بغداد إلى ابنه بيير بوداق، فأقام بها مدة ثم سافر إلى تبريز، ثم عاد إليها مراغما لأبيه جهانشاه؛ فجهز أبوه جيشا كثيفا وحاصره فيها سنة 869، فدام الحصار نحوا من سبعة عشر شهرا، أخرج في أثنائها بيير بوداق أكثر سكان بغداد إلى خارج السور بعد أن صادرهم ونهب ما عندهم، وانتهى الأمر بتسليم المدينة إلى جهانشاه وقتل ولده بيير بوداق سنة 870، فولى على بغداد بيير محمد الطواشي ورجع إلى تبريز، فحصلت بينه وبين السلطان حسن الطويل من قبيلة آق قوينلو - تركمانية أيضا - وقائع انتهت بقتل جهانشاه سنة 872، فسار حسن الطويل نحو بغداد وحاصرها في 20 رجب سنة 872، وكان فيها بيير محمد الطواشي الذي ولاه جهانشاه. وفي 15 من رمضان ترك حصار بغداد وذهب إلى تبريز، وفي 2 من رجب سنة 873 توفي بيير محمد الطواشي والي بغداد، وأوصى بالولاية إلى حسين بن علي بن زينل، وكان من أهل السيرة الحسنة والأخلاق الفاضلة. وفي 2 من ربيع الآخر سنة 874 توفي حسين بن علي وخلفه أخوه منصور بن زينل، وتوفي في العام نفسه، وفي 14 من جمادى الآخرة سنة 874 استولى جيش السلطان حسن الطويل على بغداد بقيادة ابنه مقصود، وبذلك ابتدأ حكم الدولة التركمانية الثانية المعروفة بآق قوينلو، وكانت تحكم بغداد بواسطة ولاة تعينهم، وكان أكثرهم من أبناء السلطنة، وكانت بغداد تدار على وجه يشبه الاستقلال، أو ما يسميه أبناء هذا العصر «اللامركزية»، ويقال في سبب تسميتها «آق قوينلو» ما قيل في قره قوينلو، وكانت تقيم في جهة ديار بكر.
وأول من اشتهر من رجالها في التاريخ السياسي أحمد بك وبيير علي بك وقره عثمان، وهو من مشاهير الشجعان، ثم حفيده حسن الطويل بن علي، الذي استولى على بغداد وكان مشهورا بالعدل والشهامة وشدة البأس في الحروب، وباستيلائه على بغداد استولى على العراق كله، كما كان قد استولى على الكثير من بلاد إيران، واستقر الأمن وسادت الطمأنينة في بغداد وما حولها. وفي 27 رمضان سنة 882 توفي السلطان حسن الطويل، وخلفه على الملك ولده الأكبر خليل، وفي سنة 883 قتل السلطان خليل وخلفه على الملك أخوه يعقوب بك، وكان على بغداد وال اسمه «كلابي» فعزله السلطان يعقوب في 15 من ذي الحجة سنة 883، وفي 11 من صفر سنة 896 توفي السلطان يعقوب وخلفه على الملك ابنه بايسنقر، وفي سنة 898 قتل بايسنقر واستولى على الملك رستم بك، وتوفي رستم في شهر ذي القعدة سنة 902 وتولى مكانه أحمد بادشاه، وكان رستم هذا شديد الميل إلى النساء، فاستولين على عقله وعبثن بإدارة ملكه. ولم يزل أمراء آق قوينلو يقتتلون فيما بينهم حتى ظهرت الدولة الصفوية عليهم وغلبتهم على أمرهم.
الفصل الرابع
العهد الصفوي (914-941)
غزا الشاه إسماعيل بغداد سنة 914 وفتحها عنوة، والشيخ إسماعيل الصفوي مؤسس الدولة الصفوية ورجلها الأول يمت بنسبة إلى الشجرة العلوية، وكان آباؤه من أهل التصوف والإرشاد وكذلك كان هو. ومن هذا الطريق تمكن من جذب الأعوان وجمع الجيوش، فأسس دولة كان لها الأثر البارز في سياسة الشرق عامة وإيران خاصة.
وفي سنة 906، استولى على تبريز وصار ملكا عليها، وبعد فتحه بغداد على يد قائده «لالا حسين»، أظهر فيها من التعصب المذهبي ما لا يليق بسيد علوي، وبعد زيارة العتبات المقدسة، رجع إلى عاصمة ملكه في إيران، وبذلك التهبت نار الأحقاد المذهبية، وانقسم الناس شيعا، منهم من يؤيد الشاه إسماعيل، ومنهم من يؤيد خصومه في المذهب، فكانت بينه وبين الأتراك العثمانيين وقائع كثيرة وملاحم ذهب ضحيتها عشرات الألوف من المسلمين، يستحل بعضهم دم بعض، ويسبي بعضهم حرم الآخرين. وفي سنة 920، وقعت بين الفريقين ملحمة تعد الفاصلة في بابها تعرف بوقعة «جلدران»، كان النصر فيها حليف السلطان العثماني والخذلان قرين الصفوي، وفي سنة 930 توفي الشاه إسماعيل، وكانت بغداد قد استقلت عنه في حياته عندما شعر الناس بضعفه وخوره أمام الجيش العثماني في وقعة جلدران، استقل بها قائد يقال له ذو الفقار، وساس أهلها سياسة حسنة، وذو الفقار من أمراء الدولة الصفوية انشق عليها، وخلفه على حكم بغداد «محمد خان تكلو»، واستمر هذا في الحكم حتى 24 من جمادى الأولى سنة 941 حين وصل جيش السلطان سليمان العثماني بغداد وفتحها.
الفصل الخامس
العهد العثماني (941-1335)
عندما انتزع العثمانيون بغداد من يد بقايا الصفويين عمدوا إلى رم الأضرحة المهدمة فيها وإصلاح الكثير من شئون المدينة، ومنذ ذلك الحين صار العثمانيون يرسلون الولاة لإدارة شئونها. وفي سنة 1033 عاد الصفويون فامتلكوا بغداد ثانية، وبقيت بأيديهم إلى سنة 1048، فاستعادها السلطان مراد الرابع بجيش قاده هو بنفسه، وأعاد ترميم جامع الحضرة الكيلانية وجامع الإمام أبي حنيفة وغيرهما من المعابد والأضرحة التي امتدت إليها يد الهدم والتدمير من قبل عمال الشاه عباس. وقد هبطت بغداد تحت ضغط تلك الفتن المتوالية والحروب المتعاقبة إلى الدرك الأسفل من الانحطاط، حتى زعم بعضهم أن تعدادها كان في بعض الأحيان لا يتجاوز 14 ألف نسمة، ثم أخذت بالانتعاش حتى بلغ تعدادها في أوائل العصر الثالث عشر الهجري 150 ألف نسمة، ولكن طاعونا أعقبته هيضة ورافقهما طغيان دجلة والفرات انتابت بغداد، فهلك فيها نحو من أربعة أخماس سكانها. وكان العثمانيون يعهدون بإداراتها إلى ولاة ينصبونهم من قبلهم، وقد كانت البصرة على الأغلب تابعة لبغداد، بل كانت ولاية بغداد تشمل جزءا من كردستان وخورستان والجزيرة والعراق العربي طولها 890 كيلومترا وعرضها 550 كيلومترا، وعدد سكان هذه الولاية نحو من المليونين.
ومعنى هذا أن بغداد في كل عهودها لم تزل حاضرة العراق وأم مدنه، وتعداد الولاة الذين تولوا حكمها وشرح أعمالهم وبيان مدة حكم كل واحد منهم أمور يطول شرحها ولا يتسع لها هذا المختصر، على أنه لا يفوتنا أن نذكر بعض الولاة الذين لهم فيها آثار مهمة لا تزال شاخصة إلى عهدنا هذا، ويأتي في مقدمتهم سليمان باشا وداود باشا ومدحة باشا. أما سليمان باشا فأكثر إصلاحاته كانت تتصل بالمعابد والمراقد والمدارس، وأما داود باشا (1232-1242) فيرجع إليه الكثير من الإصلاحات في المعاهد العلمية والمعابد وشق بعض الأنهار وبعث النهضة العلمية من مرقدها وإغداق النعم على رجالات العلم والأدب، وله الوقوف الكثيرة في هذه السبيل. وقد ألف الشيخ عثمان بن سند البصري العنزي المتوفى سنة 1250 كتابا حافلا بأخبار داود باشا، بدأ فيه بسنة ولادته وما أعقبها من السنين، وما حدث من الأحداث المهمة في تلك المدة، وأسماه «مطالع السعود في أخبار الوزير داود»، وكذلك فعل الشاعر المعروف الشيخ صالح التميمي، فجمع كتابا حافلا في أخبار هذا الوزير ومدائحه أسماه «وشاح الرود والجواهر والعقود»، أما الوالي مدحة باشا (1285-1288) فقد كان عهد ولايته مشحونا بالأعمال الجسام، فإنه تمكن في خلال مدة ولايته القصيرة على بغداد من فرض التجنيد الإجباري، وإنشاء دائرة النفوس ودائرة الطابو، وإنشاء مطبعة الولاية وجريدة الزوراء، تكتب بالعربية والتركية، وإنشاء مصنع للنسيج تابع للجيش أسماه: «عباخانة»، ومد خط التلغراف، وأنشأ ترامواي الكاظمية، ومدرسة للأيتام أسماها مدرسة الصنائع، ومدارس أخرى حديثة، وأنشأ الكثير من مباني الدولة، كما أنشأ دائرة المواصلات النهرية، وضم إليها الكثير من البواخر في دجلة والفرات، وأحدث كثيرا من الأوضاع العصرية في دواوين الحكومة. وفي زمنه قدم ناصر الدين شاه إيران لزيارة العتبات المقدسة، فاحتفى به مدحة باشا احتفاء رائعا، وأظهر مدينة بغداد وما حولها بمظهر مشرق جذاب. ولا يزال أشياخ البغداديين الذين شهدوا تلك الزيارة يذكرون مدحة بالإعجاب والإكبار، ولم يأت بعده من ولاة الأتراك من حذا حذوه، أو قارب خطوه، وآخر ولاة الأتراك على بغداد هو القائد خليل باشا الذي سقطت بغداد في عهده بيد الإنكليز.
1
الباب الثالث
الفصل الأول
عهد الاحتلال الإنكليزي وما بعده
في اليوم الحادي عشر من شهر آذار سنة 1917 الموافق 15 جمادى الأولى سنة 1335ه دخل الجيش الإنكليزي مدينة السلام، ونشر القائد العام بلاغا جاء فيه ما معناه أن الجيش الإنكليزي لم يدخل العراق غازيا قاهرا وإنما جاء محررا، ولا غرض له إلا إبعاد الجيش التركي عن البلاد، وإن الإنكليز يرغبون كل الرغبة في مساعدة العرب على إحياء مجدهم وإنشاء دولتهم. ومنذ ذلك التاريخ صارت بغداد تدار إدارة خاصة، وفي 30 تشرين الأول سنة 1918 عقدت الهدنة بين الإنكليز والعثمانيين وفي 30 تشرين الثاني سنة 1918 طلب الإنكليز إلى العراقيين أن يجيبوا عن الأسئلة الثلاثة التالية بواسطة منتدبين اختيروا لهذا الغرض، والأسئلة هي: (1)
هل ترغبون بحكومة عربية مستقلة تحت الوصاية الإنكليزية يمتد نفوذها من أعالي شمال الموصل إلى خليج فارس؟ (2)
هل ترغبون أن يرأس هذه الحكومة أمير عربي؟ (3)
من يكون ذلك الأمير الذي تختارونه؟
فكان الجواب في بغداد والكثير من أصقاع القطر إبداء الرغبة في إنشاء حكومة عربية مستقلة يرأسها أحد أنجال الملك حسين بن علي. وفي أواخر حزيران سنة 1920 اندلعت نار الثورة العراقية المعروفة، فعرف الإنكليز حينئذ أن العراق لا يمكن إخضاعه بالقوة، فقرروا إنشاء دولة عربية يرأسها رجل عربي يختاره العراقيون.
وفي 25 نيسان سنة 1920 انتزع الإنكليز من مجلس عصبة الأمم صك الانتداب الذي جاء فيه: «الاعتراف بالعراق دولة مستقلة بشرط قبولها المشورة الإدارية والمساعدة من قبل دولة منتدبة إلى أن تصبح قادرة على القيام بنفسها ...» فعهد إلى السيد عبد الرحمن نقيب الأشراف في بغداد أن يؤلف حكومة مؤقتة لإشراك العراقيين بإدارة المملكة من جهة، وللإشراف على تمهيد الطريق التي يتوصل بها الشعب العراقي إلى إبداء رأيه في شكل الحكومة التي يرغب فيها.
وقد كتبت في الثورة كتب خاصة، وأفرد لها فصول في كتب لا يتسع هذا المختصر لشرح تفاصيلها.
ووقع اختيار العراقيين على سمو الأمير فيصل بن الملك حسين بن علي، فكتبوا إلى والده جلالة الملك حسين يطلبون إليه أن يسمح له بالسفر إلى العراق؛ فأجاب رغبتهم وسافر الأمير فيصل فوصل البصرة في 20 حريزان سنة 1921، ثم قصد بغداد فاستقبل استقبالا حافلا لم تشهد مدينة السلام نظيره منذ أجيال ، وجرى استفتاء عام في العراق؛ فأسفرت النتيجة عن اختياره ملكا دستوريا على المملكة العراقية، وأعلن ذلك باحتفال رائع في 23 آب من السنة المذكورة.
وفي 10 تشرين الأول سنة 1922 تم الاتفاق بين الفريقين على المعاهدة على ألا تكون نافذة إلا بعد موافقة المجلس التأسيسي عليها.
ولم تزل تستقيل وزارة وتتألف أخرى إلى أن تم جمع المجلس التأسيسي في 27 آذار سنة 1924، فنظر في لائحة القانون الأساسي وفي لائحة قانون الانتخابات فأقرهما، كما نظر في المعاهدة العراقية الإنكليزية فأقرها بأكثرية ضئيلة، ودخل على القانون الأساسي تعديلان: الأول بعد وضعه موضع العمل بسنة، والثاني سنة 1943.
ولم تزل المدة التي تضمنتها المعاهدة المذكورة بين المد والجزر، والعراقيون يلحفون في طلب الاستقلال التام الذي لا تشوبه شائبة، حتى تم عقد المعاهدة العراقية الإنكليزية في 30 حزيران سنة 1930 التي عليها العمل الآن، والتي خرج العراق بمقتضاها من ربقة الانتداب الذي لم يعترف به في وقت ما إلى حظيرة الاستقلال، وبمقتضاها دخل العراق عصبة الأمم بعد أن اعترف باستقلاله ست وخمسون دولة.
ومن أهم الأحداث التي اهتزت لها عاصمة الهاشميين وفاة المغفور له فيصل الأول في 8 أيلول سنة 1933، فبويع ولي عهده نجله الملك غازي الأول، وكانت وفاة جلالة الملك فيصل الأول في برن من بلاد سويسرة، فنقل جثمانه إلى بغداد بطيارة خاصة ودفن في مقبرة آل البيت، التي كانت قد أعدت من قبل، وأهم حادث شهدته المملكة بعد ذلك وفاة الملك الشاب المغفور له غازي الأول بحادث اصطدام سيارته الخاصة سنة 1939، فبويع بالملك ولي عهده ابنه الفرد فيصل الثاني. ولما كان دون السن القانونية فقد عهد مجلس الأمة بالوصاية عليه إلى سمو الأمير عبد الإله بن الملك علي بن الملك حسين، ولم يزل قائما بأعباء مهمته هذه على خير ما يرام متخذا من سياسة المغفور له عمه فيصل الأول - عليه الرحمة - منارا يأتم به.
الباب الرابع
الخطط والآثار
لم تكد الدولة العباسية تتخذ بغداد عاصمة لها حتى أقبل الناس إليها من كل صوب وحدب، وتكاثف فيها رجال المال والأعمال، فأكثروا من إنشاء الدور والقصور، وكانت الدولة تشجع على ذلك وتمد أهل النشاط من التجار والصناع برعايتها وفضل عنايتها. وفي الحق أنه لم تصل مدينة من مدن الإسلام في العصور الخالية إلى ما وصلت إليه بغداد من سعة العمران ونبالة الآثار، كما أنه لم تصب مدينة منها بما أصيبت به بغداد من الكوارث والجوائح.
فكما تضافرت الأيدي على عمرانها ورفعة شأنها، تضافرت الخطوب والكوارث على تمزيق أديمها ومحو قديمها. فقد تعاونت أيدي الغرباء من الأجناد والفاتحين من المغول ومن لف لفهم، ودجلة والفرات والأمراض الوافدة، على تدميرها وطمس معالمها، حتى لم يبق من رسومها اليوم أثر يمكن أن يهتدي به الباحث المنقب إلى تعيين المواضع التي كانت تقوم عليها تلك القصور الشاهقة والمباني الشامخة والمساجد الجامعة والمدارس العظيمة التي كانت تملأ سمع الزمان وبصره، اللهم إلا بعض طلول لا تزال ماثلة؛ مثل: المدرسة المستنصرية وباب الطلسم الذي ينسب بناؤه إلى الخليفة الناصر، وبعض المآذن وبقايا خرائب قصر على دجلة من الجانب الشرقي أطلقت عليه دائرة الآثار اسم القصر العباسي ...
أين موضع المدينة المدورة؟ أين موضع قصور الخلفاء؟ أين موضع البيمارستان العضدي؟ أين مجاري الأنهار التي كانت تجري خلال الجانبين؟ أين موضع المدرسة النظامية؟ أين مواضع المحلات الكبيرة في الجانبين؟ أين مدافن الخلفاء العباسيين؟ ...
لا جواب على هذه الأسئلة إلا من قبيل الحدس والتخمين، أما الجواب المبني على استنطاق الآثار واستجلاء المعالم فلا سبيل إليه؛ ولذلك فإن الباحثين في خطط بغداد اليوم لا يخرجون في تدقيقاتهم واستنتاجاتهم عن حدود الظنون. ونحن نرجو من دائرة الآثار أن تقوم بالحفر والتنقيب في أطراف المدينة اليوم؛ لعلها تهتدي إلى ما ينير السبيل أمام المحققين من المؤرخين.
وقد رأينا تسهيلا على القارئ أن نوزع هذا الباب إلى فصول ينفرد كل فصل منها بنوع من الآثار.
الفصل الأول
أشهر المحلات في القديم
محلات الجانب الغربي
في الجانب الغربي محلات كثيرة من أشهرها محلة باب التبن، وعندها يقع مشهد الإمام موسى بن جعفر، ويقرب منها محلة كان يطلق عليها اسم قطيعة أم جعفر، وإلى جنوبها الشرقي تقع محلة الحربية، سميت بذلك لأنها كانت معسكرا لقائد من قواد المنصور يقال له: حرب، وكان يضاف إليه أحد أبواب الجانب الغربي من المدينة المدورة، فيقال له: «باب حرب»، وإلى جنوبي الحربية تقع محلة الشارع، وإلى الغرب منها تقع محلة العتابية، وإلى الجنوب من العتابية تقع محلة البيمارستان - وهي على دجلة - وإلى الجنوب الغربي منها تقع محلة الكرخ وهي أعظم محلات الجانب الغربي وأشهرها، وتشتمل على كثير من القطائع والأرباض، وإلى الجنوب من محلة البيمارستان محلة باب البصرة، وإلى الغرب منها محلة باب المحول، ويتاخم محلة باب البصرة محلة الشرقية بين باب الحراني ودجلة.
ويتاخم الشرقية أو يبعد عنها قليلا ربض القرية، وأقصى محلات الجانب الغربي من جهة الجنوب محلة قصر عيسى، وتقع على الضفة اليمنى من نهر عيسى عند مصبه في دجلة، وكان الكثير من المحلات الكبيرة في هذا الجانب محاطا بأسوار خاصة حتى تظهر كل محلة منها بمظهر بلد قائم بنفسه.
محلات الجانب الشرقي
من أشهر محلات الجانب الشرقي المحلة التي فيها مشهد الإمام أبي حنيفة، وإلى جوارها من جهة الجنوب محلة الرصافة، وبينهما مقابر الخلفاء العباسيين، ويلي الرصافة إلى الجنوب والشرق محلة الشماسية فمحلة المخرم.
وفي الجانبين كثير من الأرباض والقطائع اشتهرت بأسماء أصحابها، وهي مبثوثة في كتب الجغرافية والتاريخ، وليس في الإمكان الاهتداء إلى مواضعها اليوم بالضبط المبني على اليقين.
محلات بغداد اليوم
أما اليوم فتبلغ محلات بغداد حسب التقسيم الإداري الأخير زهاء 120 محلة، عدا محلات بلدة الكاظمية، منها في الجانب الغربي 25 محلة. والمحلات التي استحدثت بعد إنشاء الحكم الوطني كثيرة؛ منها: ثلاثة محلات في الجانب الغربي، وعشرة محلات في الجهة الجنوبية من الجانب الشرقي، وخمسة في الجهة الشمالية منه.
أبواب بغداد اليوم
في الجانب الشرقي:
باب المعظم: يقع في الجهة الشمالية من هذا الجانب على الطريق الممتد بين بغداد وبلدة الأعظمية، وكان يسمى في القديم باب السلطان، وقد انمحى رسم هذا الباب اليوم ولم يبق إلا اسمه .
الباب الوسطاني:
ويقع إلى الشرق من هذا الجانب، وكان في القديم يسمى باب الظفرية - باب الطلسم - وكان يسمى في القديم باب الحلبة، وهو الباب الوحيد الذي عليه كتابة عباسية بقيت إلى عهد قريب.
الباب الشرقي:
ويقع في أقصى الجنوب، وكان يسمى في القديم باب البصلية، ويطلق عليه بعض القدماء من المؤرخين اسم باب كلواذي؛ لأن السالك إلى قرية كلواذي يمر بهذا الباب. وبعد أن اندثر أكثر سور الجانب الشرقي على عهد مدحة باشا لم يبق لهذه الأبواب كبير شأن.
في الجانب الغربي:
أما الجانب الغربي فلا يظهر فيه أثر لسور قديم اليوم، ولكن أهل بغداد يلهجون بأسماء أبواب ليس لها من أثر محسوس، أحدها في الجنوب ويعرف باسم باب السيف، ويفضي إلى أنبار واسع على سيف دجلة يسمى السيف، وهو في محلة تعرف بمحلة باب السيف، والباب الآخر من الجهة الغربية من هذا الجانب، ويعرف باسم باب الشيخ معروف، وهو يؤدي إلى مشهد الشيخ معروف الكرخي، والباب الثالث في الجهة الشمالية ويعرف باسم باب الكاظم يمر فيه الذاهب إلى بلدة الكاظمية، ومن المحتمل أن تكون لهذه الأسماء معان في السور القديم لهذا الجانب، أما اليوم فليس هناك أي أمارة تدل على مواضع هذه الأبواب.
الفصل الثاني
المساجد الجامعة
في مقدمة المباني العامة التي عني بها القوم الإكثار من إقامة المعابد، وأول مسجد جامع أقيم في مدينة المنصور هو المسجد الذي أنشأه المنصور لنفسه ملاصقا لقصره الكبير المعروف بقصر الذهب؛ جريا على عادة أهل ذلك الزمان في جعل المساجد ملاصقة لدور الإمارة، وكانت مساحته مائتي ذراع في مائتين على نمط مساجد الكوفة والبصرة وواسط. وكان في أول الأمر مبنيا باللبن والطين إلى أن كان عهد الرشيد؛ فأمر بنقضه وإعادة بنائه بالآجر والجص مع زيادة في مساحته. وقد تم ذلك سنة 192 ثم ألحق به ديوان المنصور سنة 261، ثم أضاف إليه المعتضد بالله قصر المنصور، وبقي هذا المسجد عامرا إلى العصر الثامن الهجري. فقد ذكر ابن بطوطة في سنة 727 أن هذا المسجد لا يزال قائما تقام فيه الجمع، ثم لم يرد له ذكر بعد ذلك ولا أثر له اليوم؛ مما يظهر أنه اندثر على عهد الحكومات التي توالت على بغداد بعد حكومة المغول.
مسجد الرصافة:
ولما أنشأ المنصور قصر الرصافة في الجانب الشرقي ألحق به مسجدا جامعا، وفي خلافة المهدي صارت تقام فيه الجمع، ولم تكن تقام الجمع في بغداد يومذاك إلا في مسجد المنصور ومسجد الرصافة إلى وقت خلافة المعتضد.
مسجد دار الخلافة:
عندما انتقل الخليفة المعتضد إلى القصر الحسني (الذي عرف بقصر الخلافة على ما سيأتي) أذن للناس بإقامة الجمعة داخل هذا القصر، فكان يؤذن للمصلين في الدخول وقت الصلاة ويخرجون عند انقضائها، فلما استخلف المكتفي سنة 289 ترك القصر وأمر أن يقام فيه مسجد جامع يصلي فيه الناس، وكان الناس يبكرون إلى المسجد الجامع في الدار أيام الجمع، فلا يمنعون من دخوله ويقيمون فيه إلى آخر النهار، واستقرت صلاة الجمعة ببغداد في المساجد الثلاثة إلى وقت خلافة المتقي.
مسجد براثا:
كان في براثا مسجد تقام فيه الصلاة، ولما كانت خلافة المقتدر أمر بهدمه عندما بلغه أن ناسا يجتمعون فيه للخروج عن الطاعة، وبقي خرابا إلى سنة 328، فأمر الأمير بإعادة بنائه وتوسعته وإحكامه، ووسع فيه ببعض مما ابتيع له من أملاك الناس، وكتب في صدره اسم الراضي بالله، وكان الناس ينتابونه للصلاة فيه والتبرك به؛ لأنهم يرون أنه أقيم على موضع صلى فيه الإمام علي - رضي الله عنه - عند منصرفه من حرب الخوارج، ثم أمر المتقي بالله بنصب منبر فيه، وأول جمعة أقيمت فيه كانت في جمادى الأولى سنة 329، ثم توالت صلاة الجمعة فيه، وصار أحد مساجد الحضرة.
مسجد قطيعة أم جعفر:
هو مسجد أقيم بناء على رؤيا رأتها امرأة وثق الناس بصدقها يومئذ، وشك بعض الفقهاء في صحة إقامة الجمعة فيه لقربه من المسجد الجامع في دار الخلافة بناء على القول بأن الجمعة لا تقام بأكثر من موضع واحد في البلد الواحد، ولكن الخليفة الطائع أذن أن تقام به الجمعة بناء على كونه منفصلا عن المدينة بخندق، فكأنه واقع في بلد آخر.
مسجد الحربية:
هو مسجد أنشأه أبو بكر بن عبد العزيز الهاشمي في أيام المطيع لله ليكون جامعا يخطب فيه، فمنع المطيع من ذلك للسبب الذي ذكر في مسجد قطيعة أم جعفر، ومكث المسجد على تلك الحال حتى استخلف القادر بالله، فاستفتى الفقهاء في أمره فأفتوا بجواز إقامة الجمعة فيه، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة 383. قال الخطيب البغدادي: «أدركت صلاة الجمعة وهي تقام ببغداد في مسجد المدينة ومسجد الرصافة، ومسجد دار الخلافة ومسجد براثا، ومسجد قطيعة أم جعفر ومسجد الحربية، ولم تزل على هذا إلى أن خرجت بغداد سنة 451، ثم تعطلت في مسجد براثا فلم تكن تصلى فيه.» ا.ه.
أما المساجد غير الجامعة فلا تكاد تحصى عدا، وقد بالغ الأقدمون في التقدير، فذكروا أنها تبلغ عدة مئات من الألوف مما لا يكاد يصدق. وقال ابن بطوطة: «وببغداد من المساجد التي يخطب فيها، وتقام فيها الجمعة أحد عشر مسجدا، منها بالجانب الغربي ثمانية، وبالجانب الشرقي ثلاثة، والمساجد سواها كثيرة جدا.» ولم يبق من المساجد التي ذكرها الخطيب اليوم عين ولا أثر، اللهم إلا مسجد دار الخلافة، فالظن يغلب على أنه كان في الموضع الذي تقوم فيه منارة سوق الغزل، ولا يزال على مقربة منها مسجد جامع يقال له جامع الخلفاء.
واليوم لا يكاد المنقب المدقق يهتدي إلى مواضع المحلات القديمة من بغداد؛ لذهاب أطلالها ورسومها، وانطماس آثارها ومعالمها، ولم يبق لذوي البصائر بصيص ينير لهم الطريق للاهتداء إلى مواضع تلك المساجد العظيمة، التي عمرت بالمصلين حينا من الدهر، إلا مضاجع الأقدمين التي أسموها بالأضرحة ومن أشهرها اليوم في الجانب الشرقي:
جامع أبي حنيفة:
المعروف اليوم بجامع الإمام الأعظم، وبلدة الأعظمية، وإن كانت منفصلة عن بغداد حينا من الدهر، فإنها أصبحت اليوم متصلة بها معدودة جزءا منها، كما كانت في صدر الدولة العباسية. وإلى يسار المحراب من هذا المسجد قبر الإمام أبي حنيفة المتوفى سنة 150، وقد ذكر المقدسي أنه زار هذا القبر سنة 375، وذكر أنه كان فيه صفة من إنشاء أحد العلماء المعاصرين له.
وفي سنة 459، أقام أبو سعد الخوارزمي أحد عمال ملكشاه السلجوقي على هذا القبر قبة شامخة، وبنى إلى جوارها مدرسة للحنفية، ثم اقتطع من تلك المدرسة مسجدا جامعا. وفي سنة 479 زار هذا القبر السلطان ملكشاه السلجوقي ووزيره نظام الملك، كما مر في الباب السابق، وزاره ابن جبير سنة 580 فذكر «أنه مشهد حفيل البنيان، له قبة بيضاء سامية في الهواء.» وقال ابن بطوطة: «وبقرب الرصافة قبر الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - وعليه قبة عظيمة وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر ...»
ولما استولى الصفويون على بغداد امتدت يد التخريب إلى هذا المسجد، ولكن خلفاء بني عثمان أعادوه إلى أحسن مما كان، فذكر المؤرخون أن السلطان مرادا الرابع صلى في هذا المسجد عدة أوقات للتبرك، وشارك القراء بقراءة ما تيسر من القرآن الكريم. ولا يزال هذا المسجد قائما إلى عهدنا هذا، وهو من أرسخ الآثار التاريخية التي يستعان بها على فهم الوضع الجغرافي للجانب الشرقي من بغداد، فقد ذهبت آثار محلة الرصافة والشماسية ومحلة المخرم، ولم يبق من أثر يستدل به على مواضعها إلا هذا المسجد.
جامع الخلفاء:
وهو جامع صغير أنشأه والي بغداد سليمان باشا سنة 1193 على زاوية من أنقاض جامع عظيم طمست آثاره ولم يبق منه إلا منارته التاريخية العجيبة، ويغلب على الظن أن هذه المنارة كانت قائمة في مسجد دار الخلافة. وأما القول بأن هذه المنارة من آثار مسجد الرصافة، فإنه وهم لا يخفى؛ لأن رصافة المهدي وجامعها على مقربة من قبر الإمام أبي حنيفة، ولا يعقل أن تمتد إلى الجهة التي فيها منارة سوق الغزل.
مسجد الشيخ عبد القادر الجيلي:
ذكروا أن الشيخ عبد القادر الجيلي - رضي الله عنه - قد خلف شيخه أبا سعيد المخرمي في مدرسته التي كانت تقع على باب الأزج، فأضاف إليها وعمرها؛ فأعانه الأغنياء بمالهم والفقراء بعملهم. ولما توفي سنة 561 دفن في رواقها، وبعد وفاته بزمن اتخذت هذه المدرسة مسجدا، ولا يزال هذا المسجد قائما، وهو من أوسع مساجد بغداد اليوم، وعلى مصلاه قبة تعد أعظم قبة في مساجد بغداد، والمحلة التي تحيط بهذا المسجد تعرف اليوم بمحلة «باب الشيخ»، والمراد بالشيخ: الشيخ عبد القادر.
جامع الشيخ عمر السهروردي:
وهو من أقدم جوامع بغداد، وإلى جواره قبة مخروطية الشكل تظلل قبر الشيخ السهروردي المتوفى سنة 632، والشيخ عمر هذا من أكابر فقهاء الشافعية، ومن مشاهير الصوفية، وهو صاحب كتاب «عوارف المعارف» في التصوف، وقبته هذه تعتبر من أقدم الآثار التاريخية في بغداد، ولها شبه تام بالقبة المعروفة اليوم بقبة الست زبيدة،
1
وأهل بغداد اليوم يزورون هذا القبر ويتبركون به.
جامع مرجان:
هو في الأصل مدرسة شادها الخواجة مرجان مملوك السلطان أويس الجلائري سنة 758، وجعل ضمنها مسجدا تقام فيه الجمع، ووقف عليها الأوقاف الطائلة، وقد نقش بالآجر على جدران هذه المدرسة جميع ما وقف عليها مع شروط الوقف، ولا تزال هذه المبرة قائمة إلى اليوم على الجانب الشرقي من شارع الرشيد، وفيها من ضروب الريازة وبديع الصناعة المعمارية ما جعلها محج رواد الآثار العتيقة، وطلاب الفنون الجميلة. وفي هذه المدرسة دفن مرجان سنة 774، ولا يزال قبره ظاهرا إلى الآن.
هذه أظهر المساجد الجامعة في الجانب الشرقي، أما في الجانب الغربي فأشهر المساجد القديمة مسجد الكاظمين، وهو المسجد المشتمل على ضريح الإمام موسى الكاظم بن جعفر الصادق وحفيده محمد الجواد عليهم الرضوان، وهو مسجد واسع الأكناف واقع في وسط بلدة الكاظمين التي تقابل بلدة الأعظمية، ويربط بينهما جسر عائم على دجلة، وبينها وبين الجانب الغربي من بغداد اليوم نحو ثلاثة أميال، ولا يعلم بالضبط التاريخ الذي أقيم فيه هذا المسجد، غير أن المؤرخين يذكرون أن الخليفة الطائع (363-381) صلى الجمعة إماما في هذا المسجد أكثر من مرة. وقد ذكر ابن جبير هذا المسجد في جملة المشاهد التي زارها، وقد ذكر المؤرخون أن النار قد التهمت هذا المسجد سنة 622 في خلافة الظاهر بالله فأسرع الخليفة إلى إعادة بنائه ولكن المنية عاجلته، فأتمه ابنه المستنصر. وعند حصار المغول لبغداد سنة 656، أصيب هذا المسجد بتدمير كبير ولكن هولاكو أمر بعد ذلك بإصلاح ما دمر، وقد أصيب بالغرق عدة مرات ولكنه استمر ثابتا، ويقوم اليوم على هذين الضريحين مسجد واسع الأكناف، رفعت قبابه في السماء، وزينت بضروب من الزينة، وأحيطت بأربع مآذن شوامخ. وقد غشي كل ذلك بصفائح من النحاس مطلية بالذهب تظهر للناظر على مسافة أميال من بغداد يكاد لمعانها يأخذ بالأبصار، وزين سائر جدران المسجد بالقاشاني الجميل، أما داخل المسجد فيقصر الوصف عما فيه من ضروب الزينة وصنوف الفن:
مسجد الشيخ معروف:
وهذا أيضا من المساجد القديمة في الجانب الغربي وفيه قبر معروف الكرخي، وهو في سرداب عميق، وكان الشيخ معروف في الأصل مسيحيا أسلم على يد علي بن موسى الرضا، فعد من مواليه، وله عند أهل التصوف مقام رفيع، وعند أهل العلم حرمة كبيرة، وتوفي سنة 200. ويظهر أن مسجده هذا قديم العهد، فقد ذكره أكثر المؤرخين، والقبة القائمة عليه اليوم مزينة بضروب القاشاني الجميل، ويقصده الناس للزيارة في أيام معلومة.
جامع القمرية:
وهو من مساجد الجانب الغربي القديمة الذي تكرر ذكره في بعض التواريخ، ولم يعرف بانيه بالضبط، وقد نسب إليه جماعة من أهل العلم الذين درسوا فيه. ويغلب على الظن أن هذا المسجد من المساجد التي بنيت في أواخر العهد العباسي، وهو من أصح مساجد بغداد قبلة، ومن المساجد القليلة التي ليس فيها قبر لأحد.
جامع الشيخ صندل:
ذكر بعض المؤرخين أن صندلا هذا كان أستاذ الدار في خلافة المقتفي لأمر الله، وكان يلقب بعماد الدين، وأنه توفي سنة 593، ودفن في تربته الخاصة التي أعدها لنفسه من قبل في الجانب الغربي. والجامع المعروف اليوم بجامع الشيخ صندل قائم على هذه التربة، وقد جددت عمارته سنة 1311 ثم في سنة 1360.
هذه المساجد من أشهر مساجد بغداد اليوم، وفي بغداد اليوم نحو من ستين مسجدا جامعا بما فيها المساجد الجامعة في الأعظمية والكاظمية، استقصاها المحقق السيد محمود شكري الألوسي - عليه الرحمة - في كتابه الذي أسماه: «تأريخ مساجد بغداد وآثارها » وهو مطبوع
2
متداول، فمن شاء التوسع فليرجع إليه،
3
ولم يخرج عنه إلا مسجد سمو الأمير عبد الإله الذي أمر سموه ببنائه في محلة العيواضية في الجانب الشرقي من بغداد، ومسجد المرحوم فتاح باشا الذي أقيم في الجانب الغربي على مقربة من رأس الجسر الذي يصل بين بلدتي الأعظمية والكاظمية.
الفصل الثالث
المدارس
كانت المساجد - والمساجد الجامعة على الأخص - مباءة لأشياخ العلم، ومرادا لتلاميذهم، فكان الشيخ يجلس إلى سارية من سواري المسجد، ويحلق أمامه الطلبة، فيقول وهم يسمعون أو يقرأ أحدهم وهو يسمع ويشرح ويوضح، فكان كل مسجد بمثابة جامعة تتألف من عدة كليات، فإن المسجد الجامع الواحد قد يضم من حلقات العلم العدد العديد. فهناك حلقات لتدريس علم الكلام، وهناك لتعليم الفقه، وأخرى لرواة الحديث. وهكذا تجد المسجد الواحد يشتمل على حلقات كثيرة لعلوم كثيرة ما بين شرعية ولسانية وكونية، وفي جنب هذه المؤسسات مدارس لا تكاد تحصى عدا، ويقصر التعليم فيها على مبادئ القراءة والكتابة وبسائط علم اللغة والحساب، ويعنى فيها عناية خاصة بتدريس القرآن الكريم، يطلق عليها اسم الكتاتيب - الواحد منها كتاب - وهي بمثابة المدارس الأولية اليوم. وهذه الكتاتيب قد تكون في المساجد وقد تكون في البيوت الخاصة، والقائمون على التعليم فيها يقال لهم المعلمون، ومن هنا يفهم أن التعليم ينقسم في تلك العصور إلى قسمين: أولي، وعال. أما التعليم الذي نسميه اليوم بالتعليم الثانوي فإنه يندمج في التعليم العالي اندماجا تاما.
وهنالك مدارس كثيرة لتأديب الجواري وتثقيفهن، والجارية التي تتأدب وتتهذب تغلو قيمتها وتعلو مكانتها.
وأول من نعلمه أمر ببناء مدرسة مستقلة عن الجوامع في بغداد أحمد بن طلحة الموفق الملقب بالمعتضد (المتوفى سنة 289)، فإنه عندما وضع الخطة لإنشاء قصره في الشماسية استزاد المهندسين في الذرع، فسئل عن ذلك فذكر «أنه يريد أن يبني فيه دورا ومساكن ومقاصير يرتب في كل موضع رؤساء كل صناعة ومذهب من مذاهب العلوم النظرية والعملية، ويجري عليهم الأرزاق السنية ليقصد كل من اختار علما أو صناعة رئيسا ما يختاره فيأخذ عنه .»
1
النظامية:
ثم بنى الحسن بن علي الملقب بنظام الملك وزير ملكشاه السلجوقي مدرسته المعروفة بالنظامية، وأتم بناءها سنة 459، وكانت في الجانب الشرقي. ذكر المؤرخون أنها افتتحت في يوم السبت عاشر ذي الحجة من السنة المذكورة، وكان يوم افتتاحها يوما مشهودا، حضره رجال الدولة والعلماء والأعيان وغيرهم ... ورتبت فيها جرايات ومعاليم للمدرسين وللطلبة.
وقد تخرج فيها من أساطين العلم وأساتيذ الفضل جماعة كبيرة، وكفاها فخرا أن يكون من أساتذتها أبو إسحاق الشيرازي كبير فقهاء الشافعية والإمام أبو حامد الغزالي وأبو بكر محمد بن أحمد الشاشي كبير فقهاء الحنفية وغيرهم وغيرهم.
قال المحقق السيد محمود شكري الألوسي في كتابه «تأريخ مساجد بغداد»:
لم ندرك نحن ولا آباؤنا أثرا من آثارها ... ولم يبق منها سوى بقايا مئذنة بقيت تشكو بلسان حالها ...
وقد نظم شاعر العصر الأستاذ الرصافي قصيدة على لسان هذه المدرسة جاء في مطلعها:
2
قوض الدهر بالخراب عمادي
ورمتني يداه بالأنكاد
ومنها:
طالما رفرفت من العلم رايا
ت فخار مني على بغداد
أهل بغداد ما لأعينكم تغ
مض عني كأنكم في رقاد؟!
أهل بغداد هل ترق قلوب
منكم راعها انقضاض عمادي؟
رق حتى قلب الجماد لفقدي
فلتكونن قلوبكم من جماد
البيمارستان:
في أواخر العصر الثالث وأوائل الرابع أنشئ معهد للطب أطلق عليه اسم البيمارستان، وكان الطبيب الكبير أبو بكر الرازي المتوفى سنة 320 يدرس فيه الطب. وقد أنشأ عضد الدولة بن بويه بيمارستانا آخر على أنقاض قصر الخلد، أطلق الناس عليه اسم البيمارستان العضدي، وأطلقوا على الذي قبله اسم البيمارستان العتيق، والبيمارستان العتيق يعتبر أول مدرسة طبية نظرية وعملية أنشئت في بغداد، وكلا البيمارستانين في الجانب الغربي. قال ابن جبير: «وبين الشارع ومحلة باب البصرة سوق المارستان، وهي مدينة صغيرة فيها المارستان الشهير ببغداد وهو على دجلة، ويتفقده الأطباء كل يوم اثنين وخميس ويطالعون أحوال المرضى به، ويرتبون لهم أخذ ما يحتاجون إليه، وبين أيديهم قومة يتولون طبخ الأدوية والأغذية، وهو قصر كبير فيه المقاصير والبيوت وجميع مرافق المساكن الملوكية ...» ا.ه. والظاهر أن هذا البيمارستان عاش إلى ما بعد سقوط بغداد بيد المغول، فقد ذكره ابن بطوطة في سنة 727 قائلا: «وهو قصر كبير خرب بقيت منه الآثار.» ولم يبق اليوم لهذا البناء أثر يهتدى به إلى مكانه.
المستنصرية:
هي المدرسة العباسية الوحيدة التي بقيت إلى يوم ماثلة للعيان، محتفظة بالكثير من الكتابات التي سطرها بناتها على جدرانها. وقد أطنب المؤرخون في وصفها، وكتب المعاصرون الرسائل الخاصة بها، وحبروا المقالات الطويلة في مبتدأ خبرها ومنتهى أمرها. وعلى الجملة، فإنها آخر مدرسة بناها خلائف بني العباس، وقد بقيت تعجمها الكوارث وتزحمها الحوادث، وتمر بها القرون مرور الريح فوق الجبل الأشم. تم بناؤها وفتحت للتدريس أبوابها سنة 631، وكان يوم افتتاحها يوما مشهودا حضره الخليفة والوزير وكبار رجال الدولة والعلماء والأدباء والأعيان وسائر الوجوه في بغداد، وأنشد الشعراء قصائد التهنئة والثناء في ذلك اليوم، وحمل إليها من قصور الخلافة في ذلك اليوم مائة وستون حملا من الكتب، سوى ما نقل إليها بعد ذلك وما أحضره أرباب الدولة والمتمولون من كتبهم تقربا إلى قلب الخليفة، ورتب فيها مدرسون على المذاهب الأربعة لكل مدرس أربعة معيدون، ورتب لخزانة كتبها خازن ومساعدون، وأجري على كل طالب في المدرسة في كل يوم أربعة أرطال من الخبز وكمية معينة من الطبيخ، ورتب لكل طالب أيضا ديناران في الشهر، إضافة إلى ما رتب لهم من الحلوى، والفاكهة، والصابون، والزيت.
وعين فيها مدرسون لإقراء القرآن وللحديث وللنحو وللطب، وأجري على المدرسين والمعيدين وسائر الموظفين ما يكفيهم من الأرزاق اليومية والشهرية، وقد بلغ ريع ما وقف عليها من العقارات والمسقفات أكثر من سبعين ألف مثقال سنويا. وقد زار ابن بطوطة هذه المدرسة وحضر التدريس فيها.
ولما دخل المغول بغداد لم تسلم هذه المدرسة من يد الاعتداء، فقد عصفت بكتبها وأثاثها عاصفة النهب والتبديد، ثم أعيدت إلى سابق عهدها، وأعيدت إليها أوقافها، ولم تزل على ذلك إلى العهد العثماني، وهناك جردها المتغلبون من أوقافها ، فبقيت تعالج السكرات إلى أن عهد بولاية بغداد إلى سليمان باشا المتوفى سنة 1217، فجعل المستنصرية مستغلا لمدرسته «السليمانية»، ومنذ ذلك الحين صارت المستنصرية خانا تخزن فيه السلع، ثم إن المجلس العسكري استأجرها من دائرة الوقف لعدة سنوات بمبلغ زهيد، ولم تلبث الدوائر العسكرية أن ادعت ملكيتها وباعتها لدائرة الرسومات سنة 1311، وهنا وصلت بها الحال إلى أدنى دركات الهوان، فرثاها الشعراء المعاصرون رثاء أبكى العيون، فمن ذلك قول جميل صدقي الزهاوي - عليه الرحمة:
وقفت على المستنصرية باكيا
ربوعا بها للعلم أمست خواليا
وقفت بها أبكي قديم حياتها
وأبكي بها الحسنى وأبكي المعاليا
وقفت بها أبكي بشعري بناتها
وأنعى سجاياهم وأنعى المساعيا
بكيت بها المدفون في حجراتها
من العلم حتى بل دمعي ردائيا
وقد جد بعض الأحرار الغير، فأثبتوا أمام المحاكم أنها المدرسة المستنصرية، فأعادوها إلى دائرة الأوقاف على الرغم من أنوف الجاهلين، وفي النية رمها وإصلاحها وجعلها معهدا علميا يلتئم مع حاجة العصر الحاضر.
ويظهر أن البغداديين قد جدوا بعد إنشاء المدرسة النظامية بإنشاء المدارس على نمطها، حتى صارت تعد المدارس الكبيرة في بغداد بالعشرات. قال ابن جبير: «والمدارس بها نحو الثلاثين، وهي كلها بالشرقية، وما منها مدرسة إلا وهي يقصر القصر البديع عنها، وأعظمها وأشهرها النظامية ...»
مدرسة مرجان:
ذكرنا سالفا أن مرجان كان مملوكا روميا للسلطان أويس الجلائري، وأنه أنشأ هذه المدرسة ورصد لها الأوقاف الكثيرة، وألحق بها مسجدا أصبح اليوم مسجدا جامعا، وقد غلب اسم المسجد الجامع على هذه المدرسة، فالناس اليوم يعرفون «جامع مرجان» أكثر مما يعرفون «مدرسة مرجان» مع أن المدرسة كانت هي الأصل.
والمدارس القديمة اليوم في بغداد كلها متصلة بالمساجد، وهي كثيرة تدرس فيها العلوم الشرعية واللسانية وبعض العلوم الكونية، وقد يكون للمدرسة الواحدة منها أكثر من مدرس واحد. وكل المدارس القديمة ببغداد دينية ومناهجها تابعة للتقاليد القديمة، عدا دار العلوم الدينية والعربية، فإنها مؤسسة على النمط الحديث، وتتألف من قسم ثانوي وقسم عال، وتدرس فيها مع العلوم الدينية والعلوم اللسانية علوم أخرى لا يمكن أن يستغني عنها علماء الدين في هذا العصر؛ مثل: علم الاجتماع ، وعلم النفس، وأصول التعليم، وغيرها. وأكثر طلابها يعيشون على نفقة مديرية الأوقاف العامة. وهذه المدرسة واقعة إلى جوار مشهد الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه.
أما المدارس الحديثة فقد بدئ بإنشائها في بغداد على عهد الوالي مدحة باشا، ولكنها كانت قليلة، ولغة التدريس فيها هي اللغة التركية. ولما أنشئت الحكومة الوطنية وجهت جل عنايتها إلى الإكثار من هذه المدارس على اختلاف مراحلها من ابتدائية وثانوية وعالية. ففي سنة 1942-1943 الدراسية بلغت مدارس الأحداث في بغداد 25 مدرسة يقوم بالتعليم فيها 166 معلمة، وهذه المدارس تجمع بين جدرانها البنات والبنين. وبلغت المدارس الابتدائية في السنة نفسها عدا مدارس الأحدث 95 مدرسة منها 31 مدرسة للإناث يقوم بالتعليم فيها 707 من المعلمين والمعلمات، وبلغت المدارس المتوسطة والإعدادية عشرين مدرسة، ثمان منها للإناث، يقوم بالتدريس فيها 200 مدرس ومدرسة. وفي العاصمة سبع من دور المعلمين والمعلمات، منها ثلاث للمعلمات وواحدة عالية، يتألف طلابها من الجنسين، وهناك مدرسة للصنائع وأخرى للزراعة وأخرى للفنون البيتية. وفي بغداد من المدارس العالية - عدا دار المعلمين العالية - كلية للحقوق وكلية للطب وكلية للصيدلة وكلية للهندسة وكلية لتخريج الضباط تابعة للجيش، وقد وضع تصميم لإنشاء كلية عالية لتخريج ضباط الشرطة.
هذه هي المدارس التابعة لوزارة المعارف مباشرة، أما المدارس الأهلية الابتدائية فتبلغ 42 مدرسة منها 19 للإناث يقوم على التعليم فيها 344 معلما ومعلمة، وبلغت المدارس المتوسطة والإعدادية الأهلية 16 مدرسة منها 3 للإناث يقوم على التدريس فيها 107 من المدرسين والمدرسات، وفي بغداد مدرستان ابتدائيتان أجنبيتان وسبع متوسطات وإعداديات يقوم على التدريس فيها 57 مدرسا ومدرسة.
ومجموع طلاب المدارس في العاصمة يبلغ زهاء 30 ألف طالب وطالبة، ومجموع طلاب المدارس الرسمية في العراق لسنة 942-943 زهاء 105 آلاف، ومجموع المدارس الرسمية 863 مدرسة يقوم بالتدريس فيها 4647 مدرسا.
وبلغت حصة المعارف في ميزانية الدولة لسنة 943-944 و110 و1204 و2 من الدنانير وهي أكثر من عشر ميزانية الدولة.
الفصل الرابع
المتاحف
لم يكن للآثار العتيقة في بغداد دور خاصة إلا بعد انفصال العراق عن الدولة العثمانية، وبغداد اليوم تحتوي على خمس دور لهذه الآثار: (1)
المتحف المركزي:
ويشتمل على آثار الأقدمين من سومريين وبابليين وآشوريين وغيرهم ممن قطن العراق قبل الإسلام. (2)
دار الآثار العربية:
وتشتمل على الآثار الإسلامية في سامراء وواسط والكوفة وغيرها. وتنقسم إلى قسمين: قسم يقوم في بناية قديمة قرب جامع مرجان تسمى «خان الأرتمة»، وقسم يقوم في القصر العباسي الواقع في القلعة على دجلة. (3)
متحف الأزياء:
ويضم الأزياء العراقية قديمها وحديثها، وأهم ما فيه مخلفات الملك فيصل الأول عليه الرحمة. (4)
متحف السلاح:
ويقوم على باب من أبواب السور القديم في الجانب الشرقي يعرف اليوم بالباب الوسطاني.
الفصل الخامس
خزائن الكتب
كان خلفاء بني العباس والأثرياء من رجال دولتهم يبذلون جهودا مشكورة في جمع الكتب النادرة، ويسهلون على أهل العلم الانتفاع بها، فكانت قصور الخلفاء والكبراء تتزين بخزائن تشتمل على العدد الكثير من الكتب، وقد أنشأ الرشيد بناية خاصة في قصره جمع إليها الكثير من الكتب العربية وغير العربية، ثم جاء المأمون من بعده فزاد في ثروة هذه الخزانة، وأطلق على البناية التي تضمنتها اسم «بيت الحكمة»، فكانت تشتمل على الكتب الشرعية واللسانية وما ترجم عن اليونانية والفارسية والسنسكريتية والكلدانية والقبطية. وتحول بيت الحكمة في زمنه إلى مدرسة عظيمة تضم جماعة من المترجمين عن اللغات الأعجمية على اختلاف ضروبها، والمؤلفين من علماء العربية ورجال الدين والفلسفة، كما تضم جماعة من الوراقين الذين عهد إليهم بنسخ الكتب، ولهذا البيت قيم يقال له صاحب بيت الحكمة. ثم اقتدى الكبراء بالخلفاء وأنشئوا دورا للكتب خاصة وعامة، ومن أشهر الدور العامة «دار سابور بن أردشير» في الجانب الغربي، وقد أودعها ألوفا من المجلدات النادرة الثمينة، وقد كان يتردد إليها أبو العلاء مدة مكثه في بغداد، وإليها يشير بقوله:
وغنت لنا في دار سابور قينة
من الورق مطراب الأصائل ميهال
رأت زهرا غضا فهاجت بمزهر
مثانيه أحشاء لطفن وأوصال
واحترقت هذه الخزانة في فاتحة استيلاء السلاجقة على بغداد، ولما أنشئت النظامية أنشئت فيها خزانة عظيمة احتوت على كتب كثيرة في علوم كثيرة ، ثم كلما أنشئت مدرسة ضمت إليها خزانة كما مر ذلك في الكلام على مدرسة المستنصر. وأعظم كارثة أصيبت بها خزائن الكتب في بغداد هي كارثة المغول؛ فقد أتلفوا منها الشيء الكثير. ولم تزل بعد ذلك خزائن الكتب موضع الرعاية من رجال الحكومات المتعاقبة إلى أن فشا الطاعون في بغداد على عهد الوالي داود باشا، ورافقه طغيان دجلة وحريق هائل، أودى كل ذلك بكثير من خزائن الكتب. ولما اشتدت المجاعة في القرن الثالث عشر الهجري أخذ الناس يبيعون الكتب القيمة بأبخس الأثمان، وأقبل جماعة من تجار الفرنج وعملائهم على شرائها. وقد حدثني بعض الأشياخ المعمرين أنه كان يرى بعينه سفنا تنحدر إلى البصرة لا تحمل إلا الكتب، ومن هناك تشحن في السفن البخارية إلى ديار الفرنجة، وقال إنه رأى بأم عينه صحاح الجوهري بخط امرأة بغدادية ذكرت في آخره أنها كتبته وهي إلى جنب ولدها، وكثيرا ما كانت تحرك المهد برجلها وهي تكتب.
أما اليوم فلا تكاد تخلو مدرسة من المدارس التابعة للأوقاف في بغداد من خزانة كتب تكثر فيها المخطوطات، وقد جمعت وزارة الأوقاف سنة 1928 الكثير من تلك الكتب في بناية خاصة، واتخذت وزارة المعارف من هذه البناية خزانة لكتبها، وأطلقت عليها اسم «المكتبة العامة»، وتشتمل هذه الخزانة على زهاء 15000 كتاب، أما مكتبة الأوقاف التي أشرنا إليها فتحتوي على 11000 كتاب. وللمتحف خزانة خاصة تضم الكثير من الكتب التاريخية الثمينة تحتوي على زهاء 10000 كتاب، وفي البلاط الملكي خزانة تشتمل على كثير من الكتب القيمة، وفي مجلس الأمة خزانتان إحداهما في مجلس الأعيان، وثانيتهما في مجلس النواب، وتحتوي الخزانتان على زهاء 7000 مجلد، وفي الكليات العالية خزانات كتب تشتمل على ما يهم أساتذتها وطلابها من المؤلفات، وأوسع هذه الخزانات خزانة دار المعلمين العالية، فإنها تشتمل على زهاء 6000 كتاب.
وفي بغداد خزانات كتب خاصة تحتوي كتبا نادرة من أشهرها خزانة دير الكرمليين التي أنشأها اللغوي المحقق أنستاس ماري الكرملي، وخزانة المحامي الفاضل عباس العزاوي، وخزانة الوجيه البحاثة يعقوب سركيس، وفي بغداد خزانات أخرى كثيرة ليس هذا موضع استقصائها.
الفصل السادس
القصور
قلنا سابقا: إن المنصور لما أتم بناء مدينته المدورة، أنشأ في وسطها قصرا عظيما، أطلق الناس عليه اسم «قصر الذهب»، وأقام بصدره القبة الخضراء الشهيرة، وبنى بعض مواليه وصنائعه قصورا خارج السور، ثم أمر بإنشاء قصر عظيم وراء باب خراسان على ضفة دجلة اليمنى عند النهاية الغربية للجسر الكبير، وسماه قصر الخلد تبركا باسم الجنة، وتفاؤلا بأن يكون دار النعيم «بما يحويه من كل منظر رائق ومطلب فائق، وغرض غريب ومراد عجيب.» أتم بناءه سنة 158.
قصر الرصافة:
أمر المنصور بإنشائه على شرقي دجلة سنة 151، وهو أول بناء أنشئ في الجانب الشرقي، وقد أنشأ المنصور له سورا وخندقا، واتخذه المهدي مقاما له عند قدومه من الري بعسكره سنة 151، وجعل ما حوله معسكرا لجنده، فأنشأ كبار القواد منازل لهم حول القصر، ثم زيد في القصر، وأضيف إليه الكثير مما يجاوره من الأبنية، ثم تكاثرت الأبنية حول القصر فتألف من مجموع ذلك محلة كبيرة عرفت بمحلة الرصافة، وهي واقعة إلى جوار مشهد الإمام أبي حنيفة من الجهة الجنوبية، ولم يبق منها اليوم رسم ولا طلل.
قصر عيسى:
هو قصر بناه أو أقام فيه عيسى بن علي عم المنصور، قالوا: وهو أول قصر بناه الهاشميون في أيام المنصور ببغداد. قال ياقوت في معجمه:
وكان «قصر عيسى» على شاطئ نهر الرفيل عند مصبه في دجلة، وهو اليوم في وسط العمارة من الجانب الغربي، وليس للقصر أثر الآن، إنما هناك محلة كبيرة ذات سوق تسمى محلة قصر عيسى.
وقد بالغوا في سعة هذا القصر، حتى قالوا: إنه كان يضم زهاء أربعة آلاف نسمة من الأمراء والحرم والحشم والخدم.
قصر الوضاح:
هو قصر بناه الوضاح بن شبا عندما ولاه المنصور أمر الشرقية من محلة الكرخ، والشرقية محلة تقع إلى جنوب نهر الصراة، وقد ألحق بهذا القصر مسجدا يقال له مسجد الوضاح، وفيه يقول علي بن الجهم:
سقى الله باب الكرخ من متنزه
إلى قصر وضاح فبركة زلزل
منازل لا يستتبع الغيث أهلها
ولا أوجه اللذات عنها بمعزل
منازل لو أن امرأ القيس حلها
لأقصر عن ذكر الدخول فحومل
وبركة زلزل هي بركة أنشأها زلزل الموسىيقي المشهور في الجانب الغربي، ثم وقفها للناس يستقون منها ويتنزهون حولها.
قصر السلام:
هو قصر بناه محمد المهدي سنة 164 في موضع يقال له: عيسى باذ، وفي إطلاق هذا الاسم عليه تفاؤل بالسلامة لا يخفى، وإشارة إلى ما يشتمل عليه هذا القصر من النعيم المقيم، قالوا: وقد بلغت نفقات إنشاء هذا القصر 50 مليون درهم، وهو رقم لا يخلو من مبالغة، ولكنه كذلك لا يخلو من الدلالة على ضخامة ما أنفق على ذلك القصر.
القصر الحسني:
أنشأ جعفر بن يحيى البرمكي قصرا عظيما على دجلة في الجانب الشرقي، وكان من الضخامة بحيث زعم بعض الرواة أنه أنفق عليه زهاء عشرين مليون درهم، وهذا الرقم أيضا لا يخلو من مبالغات الأعاجم. وكان هذا القصر واقعا تحت محلة المخرم، وكان يعرف في أول عهده بالقصر الجعفري، ثم أهداه صاحبه للمأمون، فصار يعرف بالقصر المأموني، ولكنه بقي تحت تصرف جعفر بن يحيى إلى حين مقتله، وحينئذ تصرف المأمون فيه تصرفا فعليا، وكان من أعز القصور عليه؛ لما كان يشتمل من وسائل البهجة ومعالم السرور؛ ولذلك أضاف إليه ما يزيد في معالم بهجته. من ذلك ميدان واسع للعب الكرة والصولجان، كما أضاف إليه حير الوحوش، وهو موضع يشبه ما نسميه اليوم بحديقة الحيوانات، ومد إليه فرعا من النهر المعروف بالمعلى، ثم أهداه المأمون للحسن بن سهل على أثر زواجه من بوران ابنته، فسمي القصر الحسني، فزاد فيه الحسن زيادات مهمة، ثم أهداه إلى ابنته بوران زوج المأمون، ثم انتقل هذا القصر إلى حوزة الخلفاء في خلافة المعتمد على الله أو المعتضد بالله، فوسعه وأضاف إليه المباني التي أنشأها على الميدان الذي كان منذ عهد المأمون، وعمل على مجموع مبانيه سورا، واستحدث ميدانا جديدا من الشرق، فهدم الدور المجاورة بعد أن اشتراها من أهلها لتوسيع ذلك الميدان.
قصر الفردوس:
شيده المعتضد إلى جوار القصر الحسني، وقد غلب اسم هذا القصر على مجموعة القصور التي أنشأها الخلفاء حول القصر الحسني وهي كثيرة، منها:
قصر الثريا:
وهو من بناء المعتضد أيضا على بعد نحو الميلين من القصر الحسني، وقد وصل الخليفة بينهما بطريق معقودة تحت الأرض. وذكر المسعودي أن نفقة قصر الثريا بلغت 400 ألف دينار، وأن مساحته المربعة بلغت ثلاثة فراسخ.
قصر التاج:
وهو قصر وضع أساسه المعتضد أيضا، وأتمه ابنه المكتفي من بعده، وهو على دجلة تحت القصر الحسني، وأقيمت عند أساساته مسناة عظيمة؛ لتصد عنها تيار دجلة. وأنشأ المكتفي وراءه من القباب والمجالس ما تناهى في توسعته وتعليته. وذكر المسعودي أن إصطبلات هذا القصر كانت تشتمل على تسعة آلاف من الخيل والبغال والجمال.
وقد تبارى الخلفاء والأمراء في إنشاء القصور وبالغوا في توسيعها وتأنقوا في زخرفتها حتى استبد مجموعها بنحو ثلث الرقعة التي قام عليها الجانب الشرقي من بغداد. ولو حاول مؤرخ أن يستقصي القصور التي أقامها الخلفاء والأمراء وكبراء رجال الدولة وذوو اليسار من البغداديين لاحتاج في وصف ذلك إلى أكثر من مجلد.
وحسب القارئ أن ننقل له الحكاية التالية؛ ليتبين له مبلغ ما وصلت إليه تلك القصور من السعة، وما اشتملت عليه من عجائب؛ ذكر الخطيب البغدادي وغيره نقلا عن شاهد عيان ما ملخصه: إنه ورد رسول لصاحب الروم في أيام المقتدر بالله، ففرشت قصور الخلافة بالفرش الجميلة، وزينت بالآلات الجليلة، ورتب الحجاب وخلفاؤهم والحواشي على طبقاتهم على أبوابها ودهاليزها وممراتها، وكان في قصر الخليفة إذ ذاك سبعة آلاف خادم، منهم أربعة آلاف من البيض، وثلاثة آلاف من السود، وعدد الحجاب سبعمائة، وعدد الغلمان السودان غير الخدم أربعة آلاف غلام. ووقف الجند صفين بالثياب الحسنة، وتحتهم الدواب بمراكب الذهب والفضة، وبين أيديهم الجنائب على مثل هذه الصورة، وقد أظهروا العدد الكثير من الأسلحة المختلفة، وكان عددهم مائة وستين ألف فارس، اصطفوا من أعلى باب الشماسية إلى قريب من قصر الخلافة. وبعدهم الغلمان الحجرية والخدم الخواص الدارية والبرانية إلى حضرة الخليفة ، بالبزة الرائعة والسيوف والمناطق المحلاة، وأسواق الجانب الشرقي وشوارعه وسطوحه ومسالكه مملوءة بالعامة النظارة ، وقد استؤجر كل دكان وغرفة مشرفة بمبالغ كثيرة، وفي دجلة عبئت ضروب السفن المزينة بأفضل زينة مرتبة على أحسن ترتيب، وسار الرسول ومن معه من المواكب إلى أن وصلوا إلى الدار، ودخل الرسول فمر به على دار نصر الحاجب، ورأى ضففا
1
كثيرا ومنظرا عظيما، فظن أنه الخليفة وتداخلته له هيبة وروعة، حتى قيل له إنه الحاجب، وحمل من بعد ذلك إلى الدار التي كانت برسم الوزير، وفيها مجلس أبي الحسن علي بن الفرات يومئذ، فرأى أكثر مما رآه لنصر الحاجب، ولم يشك في أنه الخليفة حتى قيل له: هذا الوزير. وأجلس بين دجلة والبساتين في مجلس، قد علقت ستوره واختيرت فرشه ونصبت فيه الدسوق وأحاط به الخدم بالأعمدة والسيوف، ثم استدعي إلى حضرة المقتدر بالله، بعد أن طيف به في الدار، وشاهد دار الشجرة «وكانت شجرة من الفضة وزنها 500 ألف درهم قائمة في وسط بركة عليها أطيار مصوغة من الفضة والذهب، تصفر بحركات قد جعلت لها، وللشجرة ورق بأشكال وألوان مختلفة، وكان إلى جانبيها تماثيل ثلاثين فارسا في كل جهة خمسة عشر، ألبسوا الديباج وغيره، وفي أيديهم مطارد يدورون على خط واحد خببا وتقريبا،
2
فيظن أن كل واحد منهم إلى صاحبه قاصد.» فتعجب الرسول من ذلك أكثر من تعجبه من جميع ما شاهده.
وأحصى شاهد عيان الستور الحريرية المطرزة بأنواع الزينة، فكانت ثمانية وثلاثين ألف ستر، وكانت البسط التي فرشت في الممرات اثنتين وعشرين ألف قطعة، هذا عدا ما في المقاصير والمجالس، وما علق على الجدران من فاخر البسط ونادرها.
ومما شاهده الرسول حير الوحوش، وكان فيها قطعان تقرب من الناس وتشمهم وتأكل من أيديهم، وشاهد فيها أربعة من الفيلة مزينة بالديباج والوشي على كل فيل ثمانية نفر من السند والزراقين بالنار، وشاهد فيها موضعا فيه مائة سبع - خمسون يمنة وخمسون يسرة - كل سبع منها في يد سباع، وفي رءوسها وأعناقها السلاسل.
ومما شاهده الجوسق المحدث ، وهو دار في وسطها بركة رصاص قلعي، وحولها نهر من الرصاص أيضا، والرصاص القلعي يحاكي الفضة المجلوة لونا، وطول البركة ثلاثون ذراعا في عشرين، فيها أربعة زوارق لطاف.
ومروا بالرسول على الفردوس، فكان فيه من الفرش والآلات ما يبهر الناظر ويهيج الخاطر، وفي دهاليزه عشرة آلاف جوشن مذهبة معلقة، وفي بعض ممراته نحو عشرة آلاف درقة وخوذة وبيضة ودرع وزردية وجعبة محلاة وقسي معلقة على الجانبين.
وعلى الجملة، فإنه قد طيف به على ثلاثة وعشرين قصرا، وكان آخر المطاف الصحن التسعيني، ومنه وصلوا إلى حضرة المقتدر بالله وهو جالس في قصر التاج.
وقد أقام بنو بويه بعض القصور على آثار قصور الخلفاء القدماء أو ما يقرب منها، أما السلاجقة فإنهم لم ينشئوا شيئا من القصور، وإذا قدم بعضهم إلى بغداد أقام في بعض قصور القديمة بعد إصلاحها وتأثيثها، ولم يبق اليوم لتلك القصور من عين ولا أثر، سوى أطلال قصر في القلعة أطلقت عليه دائرة الآثار اسم القصر العباسي، وهذا القصر كان يتصل بمحلة المخرم، وليس فيه من الكتابة ما يهدي إلى بانيه أو ساكنيه.
وفي بغداد اليوم قليل من المباني المهمة يأتي في طليعتها «قصر الزهور»، أمر بإنشائه المغفور له الملك فيصل الأول في الحارثية على يمين الداخل بغداد من الجانب الغربي، وقصر الرحاب وهو على مقربة من قصر الزهور في الحارثية أيضا على يسار الداخل إلى بغداد من الجانب الغربي، أمر بإنشائه صاحب السمو الأمير عبد الإله ولي العهد والوصي على عرش العراق. والقصران يعتبران أفخم ما بني في مدينة السلام في هذه الأيام.
ومن المباني التي أنشئت في العهد الأخير «قاعة الملك فيصل الثاني، وبهو أمانة العاصمة» في باب المعظم، وهما من إنشاء أمانة العاصمة. ومنها البناء القائم على أضرحة الملوك الهاشميين وأمرائهم، وهو على مقربة من مشهد الإمام الأعظم، ويشبه أن يكون على البقعة التي كانت عليها قبور خلفاء بني العباس أو على مقربة منها، ويمكن أن يلحق بهذه الآثار التماثيل التي أقيمت في العهد الأخير ؛ وهي ثلاثة: (1)
تمثال الملك فيصل الأول:
وهو في الجانب الغربي في وسط شارع يعرف بشارع الملك فيصل، على مقربة من رأس الجسر المعروف اليوم بجسر الملك فيصل أيضا. (2)
تمثال مود:
وهو يمثل القائد مود الذي احتل بغداد سنة 1917، وهو قائم في الجانب الغربي أيضا أمام دار السفارة البريطانية على مقربة من تمثال الملك فيصل. (3)
تمثال عبد المحسن السعدون:
وهو في الجانب الشرقي في الشارع الذي يعرف بشارع السعدون على مقربة من الباب الشرقي.
الفصل السابع
الأنهر
كانت تنساب في جانبي بغداد أنهار كثيرة، منها الواسعة التي تتسع لسير السفن الصغيرة والزوارق، ومنها الضيقة التي هي بالسواقي أشبه منها بالأنهار.
أنهر الجانب الغربي:
الجانب الغربي أكثر أنهرا من الجانب الشرقي، ومرجع كل أنهره إلى نهرين كبيرين؛ أحدهما يأخذ ماءه من دجلة وهو دجيل إلى الشمال من بغداد، والثاني يأخذ من الفرات وهو نهر عيسى، ومنبعه إلى الغرب من بغداد ويصب جنوبيها في دجلة.
أما النهر الأول فيتفرع عنه بطاطيا، وعلى جانبي هذا النهر ضياع وبساتين كثيرة، حتى إذا قرب من بغداد انشعب منه نهر يدخل في مدينة المنصور المدورة، وكان مجراه داخل المدينة معمولا من خشب الساج، ثم ينشعب من نهر بطاطيا نهر آخر ينساب في مدينة بغداد خارج مدينة المنصور، وفي المدينة يتشعب إلى أنهار عديدة. وينشعب من نهر بطاطيا نهر ثالث يجيء نحو بغداد خارج المدينة المدورة أيضا. قال الخطيب: وهذه الأنهار كلها كانت مكشوفة إلا التي تمر منها في الحربية فإنها كانت تجري في قنوات تحت الأرض.
أما نهر عيسى فكان يجري من الفرات على مقربة من الأنبار حتى يصب في دجلة، وكان على جانبيه كثير من القرى والضياع والبساتين، ومنه تنشعب أكثر الأنهار التي كانت تنساب في بغداد الغربية. وأول نهر ينشعب منه نهر الصراة، وهو من أشهر أنهار بغداد ومنه يتفرع كثير من أنهار الجانب الغربي، وهو الطريق الأوسع للسفن التي تأتي من الفرات إلى دجلة أو تذهب منها إليه. والنهر الثاني الذي يتفرع من نهر عيسى هو نهر المحول، ومنه تتفرع أنهار كثيرة تخترق بغداد، وإنما سمي المحول؛ لأن السفن التي تنحدر في نهر عيسى من الفرات كانت تحول حمولتها في صدر هذا النهر إلى سفن أصغر منها أو إلى البر كي تحمل على الدواب؛ لأن نهر عيسى وما يتفرع عنه يضيق عن حمل السفن التي تجري فيه بعد انشعاب نهر الصراة والمحول، وكذلك تفعل السفن الصغيرة التي تأتي من دجلة، فإنها تحول حمولتها إلى سفن أخرى أكبر منها لتصعد في نهر عيسى إلى الفرات.
والنهر الثالث الذي يتفرع من نهر عيسى هو نهر كرخايا، يتفرع منه تحت نهر المحول، ومنه تتفرع أنهار تسقي ضياعا وبساتين على جانبيه إلى أن يدخل بغداد ويمر بعدة قناطر، ومنه تتشعب كل أنهار محلة الكرخ التي من أشهرها: نهر رزين، ونهر العمود، ونهر البزازين، ونهر الدجاج، ونهر القلائين، ونهر طابق. وبعض هذه الفروع يصب في دجلة وبعضها في الصراة، ومن نهر كرخايا يتفرع نهر يدخل مدينة المنصور في مجار من خشب الساج، فكان أهل المدينة المدورة يشربون من ماء دجلة وماء الفرات.
أنهر الجانب الشرقي:
لم يكن في الإمكان عند إنشاء الجانب الشرقي أن تشق أنهاره من دجلة لانخفاضها وارتفاع أرضه؛ لذلك اضطر العباسيون أن يشقوا أنهاره من نهرين؛ أحدهما يقال له: نهر بين، ويتفرع من النهروان. والثاني: نهر الخالص، ويتفرع من نهر ديالى. أما الأول فيتفرع عنه نهر يقال له نهر موسى ويمر بقصور الخلافة، حتى إذا تجاوز قصر الثريا، تنشعب منه عدة أنهار من أشهرها نهر المعلى، أما النهر الثاني فينشعب منه نهر يقال له نهر الفضل ومنه ينشعب نهر المهدي. وكان معظم المحلات الشمالية من الجانب الشرقي تستقي من الأنهار المتشعبة من نهر الفضل المتشعب من نهر الخالص، ومعظم المحلات الجنوبية تستقي من الأنهر المتفرعة من نهر موسى المتفرع من نهر بين المتفرع من النهروان.
ولم يبق في الجانبين من هذه الأنهر اليوم أثر ولا عين، كما لم يبق شيء من الأمارات التي تهدي إلى مواضعها . وإذا حاول المنقبون الحصول على أثارة من علمها فعليهم أن يثيروا الأرض؛ لعلهم يعثرون على بعض القناطر التي كانت تقوم عليها.
الفصل الثامن
الجسور
وصل المنصور بين جانبي بغداد بجسر من السفن، ثم أقام لنفسه ولحشمه جسرين، وللناس ثلاثة جسور، أحدها للنساء خاصة. وفي زمن الرشيد أقيم جسران على دجلة، وكذلك فعل الأمين، فمد جسرين أحدهما للذاهبين إلى الجانب الشرقي والآخر للذاهبين إلى الجانب الغربي، وبقيت هذه الجسور كلها إلى أن قتل الأمين فعطل بعضها، وكان على دجلة في زمن المأمون ثلاثة جسور فقط، عطل واحد منها في آخر عهده.
وكانت تلك الجسور زينة دجلة وحليتها، فكانت الشعراء تتبارى في وصفها. قال علي بن الفرج الفقيه:
أيا حبذا جسر على متن دجلة
بإتقان تأسيس وحسن ورونق
جمال وفخر للعراق ونزهة
وسلوة من أضناه فرط التشوق
ولم يزل أمر الجسور على دجلة بين المد والجزر إلى عهدنا هذا، وقد أدركنا في بغداد جسرا واحدا يصل بين جانبيها مصنوعا من السفن، يقطع عند فيضان دجلة وعند اشتداد الريح، فيلجأ الناس إلى استخدام القفف والقوراب، وكذلك يقطع لمرور السفن. وقد احترق هذا الجسر الليلة التي غادر فيها الجيش العثماني بغداد، وبعد عدة شهور أقامت حكومة الاحتلال جسرا من السفن الحديدية، ثم أقامت آخر إلى الجنوب منه أكثر إتقانا من الأول، فصار لبغداد جسران: شمالي، وجنوبي. وفي النهاية أقيم مقام هذين الجسرين جسران ثابتان قائمان على دعائم من الأسمنت المسلح، ونقل أحد الجسرين السابقين إلى جنوبي بغداد، وإذا نحن حسبنا الجسر الموصل بين الأعظمية والكاظمية في عداد جسور بغداد، يصبح في بغداد اليوم أربعة جسور؛ اثنان ثابتان واثنان عائمان.
الفصل التاسع
الحمامات
اشتهر البغداديون بالنظافة؛ ولهذا أكثروا من بناء الحمامات، وتفننوا في إتقان صنعها ونظافتها. فقد ذكر الخطيب البغدادي في تاريخه أن عدد الحمامات في عهد الرشيد والأمين بلغ ستين ألفا، قالوا: وأحصيت في زمن المقتدر فكانت سبعة وعشرين ألفا، ونزلت في آخر دولتهم إلى خمسة آلاف، ثم إلى ثلاثة آلاف. قال ابن جبير : «ذكر لنا أحد أشياخ البلد أنها بين الشرقية والغربية نحو ألفي حمام، وأكثرها مطلية بالقار، مسطحة به، فيخيل للناظر أنه رخام أسود صقيل.» ا.ه.
وقد أخذ هذا العدد يتضاءل بتضاؤل أمر هذه المدينة إلى عهدنا هذا؛ ففي الجانب الغربي اليوم ثلاثة حمامات للرجال ومثلها للنساء، وفي الجانب الشرقي نحو ضعفي هذا العدد، وليست من الإتقان والنظافة بالمكانة التي عرفت بها حمامات بغداد في عصور ازدهارها. على أن أوساط الناس ووجهاءهم أخذوا يستغنون اليوم عن ارتياد الحمامات العامة بما ينشئونه في منازلهم من حمامات خاصة، ولا يكاد يخلو منزل من أوساط المنازل من حمام على طراز شرقي أو غربي أو على الطرازين معا، وبقيت الحمامات العامة لفقراء الناس وغربائهم. ونحن لا نشك في أن تلك الأرقام التي ذكرها الأقدمون في عدد حمامات بغداد مبالغ فيها، ولكنها - على كل حال - تدل على كثرة وسائل النظافة ومعدات الترف؛ مما لفت إليها أنظار الناس في القديم والحديث، فتساءلوا عنها وهم بين مصدق ومكذب. وقد وقفنا على بعض أوصاف تلك الحمامات في رحلة ابن بطوطة، فآثرنا نقلها بالنص، قال:
وفي كل حمام منها خلوات كثيرة، كل خلوة منها مفروشة بالقار، مطلي نصف حائطها مما يلي الأرض به، والنصف الأعلى مطلي بالجص الأبيض الناصع، فالضدان بها مجتمعان متقابل حسنهما، وفي داخل كل خلوة حوض من الرخام، فيه أنبوبان أحدهما يجري بالماء الحار والآخر بالماء البارد، فيدخل الإنسان الخلوة منها منفردا لا يشاركه أحد إلا إذا أراد ذلك، وفي زاوية كل خلوة أيضا حوض آخر للاغتسال، فيه أيضا أنبوبان يجريان بالحار والبارد، وكل داخل يعطى ثلاثا من الفوط، إحداها يتزر بها عند دخوله، والأخرى يتزر بها عند خروجه، والأخرى ينشف بها الماء عن جسده. ولم أر هذا الإتقان كله في مدينة سوى بغداد.
الباب الخامس
الحياة العقلية
كان المسلمون في أواسط القرن الثاني الهجري يتدارسون علوما كثيرة، منها: الشرعية ومنها اللسانية ومنها الكونية، وكان جل اعتمادهم في مدارساتهم على المواجهة والمشافهة، وكان الطلبة يقيدون مروياتهم بالكتابة ؛ لتكون تذكرة لهم عند طغيان النسيان، وكانت الحافظة عندهم هي المرجع الأول وعليها المعول ، وكانوا يقولون في مقام الذم: هل هو إلا لحانة صحفي؟! لمن يأخذ العلم من الصحف دون المشايخ، ومن هذه المادة اشتقوا كلمة التصحيف، وهو الخطأ في قراءة اللفظ، ولا يقع هذا عادة إلا إذا اعتمد القارئ على الصحيفة دون المشافهة، فلما أنشئت بغداد وأصبحت مقر الخلافة الإسلامية؛ أقبل أهل الفضل إليها، وأمها العلماء من كل صوب، وجعلوها دار إقامتهم، فأصبحت بذلك مباءة العلوم الإسلامية ومجتمع الفنون الأدبية، وملتقى العلوم الكونية من شرقية وغربية، فزخرت بالنور وازدهرت بالفضائل، وأينعت فيها ثمار العقول، وصارت لحواضر المعمورة منارا، ولأعاظم الفضلاء مزارا.
ثم إن العلوم التي كان يتدارسها المسلمون ترجع إلى ثلاث مجموعات: (1)
العلوم الشرعية. (2)
العلوم الكونية. (3)
العلوم اللسانية.
الفصل الأول
العلوم الشرعية
تتألف هذه المجموعة من علوم القرآن ويأتي في مقدمتها التفسير، ومن علوم الحديث ويأتي في مقدمتها تدوينها والتفريق بين صحيحها وسقيمها، ومن الفقه وأصوله، ومن علم الكلام، ويقال له: علم أصول الدين وعلم العقائد.
التفسير:
لم يدون هذا العلم في كتب جامعة تضم جميع سور القرآن إلا في عصر الدولة العباسية، وأول تفسير عظيم صحيح وضع في هذا الباب هو تفسير
1
أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، المتوفى سنة 310، كتب هذا التفسير على ضفاف وادي السلام، وهو من أعظم التفاسير قدرا وأسماها مكانة، حتى قال الإمام أبو حامد الإسفرايني، عظيم فقهاء الشافعية ببغداد: «لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل له تفسير ابن جرير لم يكن ذلك كثيرا.» وقال أبو زكريا النووي، كبير فقهاء الشام: «أجمعت الأمة على أنه لم يصنف مثل تفسير الطبري.»
ويمكن أن يقال إجمالا: إن كل من كتب في التفسير من طريق الرواية بعد ابن جرير هو عيال عليه، وقد كتب البغداديون تفاسير كثيرة تفوت العد، ليس هذا موضع إحصائها واستقصائها، من أتقنها تفسير للشريف الرضي، طبع بعض أجزائه حديثا في النجف الأشرف. وأعظم تفسير كتب في بغداد في أواسط القرن الثالث عشر هو «روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني» لأبي الثناء شهاب الدين السيد محمود الألوسي - عليه الرحمة - المتوفى سنة 1270ه. وتفسيره هذا من أجمع التفاسير وأوسعها وأسماها وأسناها، جامع بين فصاحة التعبير وبراعة التصوير، يستغني به المحقق عن الكثير من كتب التفسير.
فالقارئ يرى أن هذا العلم أورق وأزهر في مدينة السلام وأثمر وأينع فيها.
الحديث:
قل أن ظهر محدث نابه في مشارق البلاد الإسلامية ومغاربها إلا وقد جعل بغداد موضع زيارته أو دار إقامته. فمن أعلام المحدثين الذين زاروا بغداد وأخذ عنهم البغداديون:
محمد بن إسماعيل البخاري المتوفى سنة 256، صاحب الصحيح الشهير، حكوا أنه زار بغداد، فاجتمع عليه أصحاب الحديث من أهلها، فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها ... ثم كلما عرض عليه واحد منها، قال: لا أعرفه، فلما كملت المائة اندفع يعيد كل حديث إلى سنده، وكل سند إلى متنه، فأقر له البغداديون بالحفظ. وكان من عادة البغداديين التلطف باختبار الطارئين عليهم من العلماء، وممن تردد إلى بغداد من كبار المحدثين مسلم بن الحجاج النيسابوري المتوفى سنة 261، ومحمد بن يزيد بن ماجه المتوفى سنة 213، وأبو داود سليمان بن الأشعث المتوفى سنة 275، وأنجبت بغداد من عظماء المحدثين وقدمائهم: الإمام أحمد بن حنبل، وابنه عبد الله، وأبا الحسن علي بن عمر الدارقطني صاحب كتاب السنن المتوفى سنة 385، والخطيب البغدادي. ومن تصفح تاريخه وقف على المئات من أئمة هذا الشأن الذين أنبتتهم بغداد، أو هاجروا إليها وجعلوها دار إقامتهم أو موضع زيارتهم.
ومن الواضح أن رجال الحديث بعد أئمة الحفاظ الأولين قد وجهوا جل عنايتهم إلى كتابة المصنفات الجامعة والمختصرة متوخين حسن التبويب وجمال التفصيل والترتيب، مع التمييز بين صحيح الآثار وسقيمها؛ ولذلك لم يكن المتأخرون في هذا الباب إلا عيالا على المتقدمين.
الفقه:
أنشئت بغداد، وفقهاء الإسلام فريقان: فريق جعل جل اعتماده في استنباط الأحكام الشرعية الفرعية على الكتاب والسنة النبوية والآثار المروية عن الصحابة، وفريق آخر حكم - مع ذلك - الرأي والقياس. وجل فقهاء الحجاز من الفريق الأول، وإمامهم في ذلك مالك بن أنس، وجل فقهاء العراق من الفريق الثاني، وإمامهم في ذلك أبو حنيفة النعمان بن ثابت، وهو وإن كان كوفي المنبت، فإنه اتخذ بغداد دار إقامته الآخرة، فكان عنوان مفاخرها وغرة مآثرها، وكان في جملة حسناته تلميذاه العظيمان قاضي القضاة أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري المتوفى سنة 182 صاحب كتاب «الخراج»، ومحمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة 189، وإليهما يرجع الفضل الأول في تدوين الفقه الحنفي وترصين قواعده. وزار الإمام محمد بن إدريس الشافعي بغداد مرتين إحداهما سنة 195 والثانية سنة 198، واجتمع بعظماء فقهائها، وفيها أملى مذهبه القديم، ولما فارقها تطور مذهبه بعض الشيء بسبب ما اطلع عليه في بغداد من الآراء، ويقال لمذهبه بعد رجوعه من بغداد: «الجديد». وممن لقي الشافعي في بغداد من عظماء الفقهاء الإمام أحمد بن حنبل، وقد تلقحت آراؤه بآرائه، فتطور مذهب ابن حنبل بعض التطور، وكان معظم البغداديين على مذهبه، ثم كثر بينهم الشافعية والحنفية. ومن مشاهير فقهاء الشافعية فيها أبو حامد الإسفرايني المتوفى سنة 406، كانت حلقته في الكرخ تضم زهاء 700 متفقه، وأقضى القضاة علي بن محمد الماوردي المتوفى سنة 450، صاحب الأحكام السلطانية والحاوي، في بضعة عشر مجلدا، وأبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي المتوفى سنة 476، وكانت إليه رياسة المدرسة النظامية، وكتبه في المذهب أشهر من أن تذكر. ومن أكابر فقهاء الحنفية البغداديين: أبو الحسن أحمد بن محمد القدوري المتوفى سنة 428، ومن كتبه التجريد، ويشتمل على الخلاف بين الشافعي وأبي حنيفة وأصحابه، وهو بديع في بابه.
ولما زار ابن جبير بغداد بهره فقهاؤها، فأعجب بكثرتهم وسعة معارفهم، وفي بغداد أزهر الفقه الجعفري الذي يرجع بأصوله إلى الإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر رضي الله عنه.
وبالجملة، فإن للفقه في بغداد المقام الأول من بين سائر العلوم، ولم يزل هذا السر إلى عهدنا هذا؛ فإن أول مدرسة عالية أنشئت في بغداد على النمط الحديث مدرسة الحقوق، التي تعتمد في معظم مادتها على الفقه الإسلامي. وقد أسمى فيلسوف المعرة محلة الكرخ أو بغداد «محلة الفقهاء»:
بمحلة الفقهاء لا يعشو الفتى
ناري ولا تنضي المطي عزائمي
علم الكلام:
ويسمى علم العقائد، وعلم أصول الدين أيضا. كان السلف الصالح من الصحابة والتابعين يستدلون على عقائدهم بظاهر الكتاب والسنة، وإذا تعذر عليهم فهم المتشابهة منهما آمنوا بظاهره، ووكلوا أمر الباطن إلى الله تعالى مع التنزيه الأكمل للذات الإلهية عن كل ما يشم منه رائحة النقص أو التشبيه أو التجسيم، غير أن هذه الطريقة في فهم العقائد لم تقنع الجماعات التي دخلت في الإسلام من أهل الأديان الأخرى التي كانت تعج بالشبه والخلافات، فركنوا في تقرير العقائد ورد الشبه إلى الأقيسة العقلية والأشكال المنطقية.
ولما مصرت بغداد كان المسلمون ينقسمون في تقرير أصول عقائدهم إلى فريقين: فريق يعتمد على المنقول من الكتاب والسنة، ويقال لهم الجماعة وأهل الحديث، وفريق يعتمد في تقرير عقائده على المعقول، وإذا تعارض المعقول والمنقول عمد إلى تأويل المنقول، وهؤلاء هم المعتزلة. وكان الصدر الأول من خلفاء بني العباس يؤيدون أهل هذا المذهب، وينصرونهم على أتباع المذهب الأول، وجرت في بغداد خطوب بين الفريقين ذهب ضحيتها بعض رجال الحديث، ولا سيما على عهد المأمون الذي حاول أن يشغل الناس بالمنازعات الدينية عن المنازعات السياسية، فكان له ما أراد، وكان على رأس المعتزلة في عهده القاضي أحمد بن أبي داود الإيادي، وعلى رأس الجماعة الإمام أحمد بن حنبل، فكانت بين الفريقين مناظرات، وكانت منازعات أدت إلى اضطهادات مشينة لا عهد للمسلمين بها من قبل. وكان في مقدمة المسائل التي دار الخلاف حولها مسألة خلق القرآن، فكان المعتزلة يقولون بخلقه تفاديا من تعدد القدماء، وكان الجماعة وأهل الحديث يقولون بقدمه؛ لأنه كلام الله، والكلام قديم بقدم المتكلم.
ولم ينته الجدال حول هذه المسألة إلا في عهد الواثق، عندما أحضر بعض أشياخ الشام للمناظرة، فقال ما معناه: لو كانت هذه المسألة من صميم الدين لأخبرنا بها سيد المرسلين، وحيث إنه لم يثبت عنه شيء في هذا الباب، فلا معنى لجعلها موضوع خلاف وجدال. وظهر في المعتزلة رجال أولو لسن أيدوا مذهبهم بأقلام سيالة وألسنة قوالة؛ مثل عمرو بن بحر الجاحظ وأبي علي الجبائي، وغيرهما من أئمة المتكلمين البصريين الذين لم تسلم بغداد من رشاش مباحثاتهم، حتى ظهر بينهم أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المتوفى في العقد الثالث من القرن الرابع، وكان في أول أمره معتزليا، ثم سلك طريقا وسطا بين المعتزلة ورجال الحديث، وكان إلى رجال الحديث أميل، وألف في تأييد مذهبه كتبا جمة، بسط فيها الكلام بسطا، سهل فهمه على الناس، فكثر أتباعه، وانضوى أكثر المتكلمين من البغداديين إلى لوائه. ومع ذلك فإن بعضهم لم يزل على مذهب المحدثين، وأكثرية هؤلاء من الحنابلة، وبعضهم أصر على الاعتزال، فكان في بغداد في أواخر العهد العباسي مذاهب كلامية كثيرة مرجعها إلى ثلاثة: الأشاعرة وهم الأكثرية، والمحدثون أو السلفيون، والمعتزلة. وهناك جماعة من الإمامية الاثنى عشرية، وآخرون من الزيدية، وقليل من الإسماعيلية. وانشق من الأشاعرة فريق يقال لهم الماتريدية؛ نسبة إلى أبي منصور محمد بن محمد الماتريدي المتوفى سنة 333، أحد تلامذة أبي الحسن الأشعري، وقد خالفه في بضع عشرة مسألة، وكثير من الأحناف في بغداد وغيرها يدينون بهذا المذهب.
أما اليوم فليس لمذهب الاعتزال في بغداد من أثر، والناس إما أشاعرة أو ماتريدية، وليس بين المذهبين كبير فرق. وهناك فريق يميل إلى مذهب السلف، وفريق يدين بمذهب الإمامية الاثنى عشرية.
الفصل الثاني
العلوم الكونية
ويراد بها علوم الأوائل من المنطق والطبيعيات والرياضيات والإلهيات. وتنقسم الطبيعيات إلى علوم: الفيزياء والكيمياء والمواليد الثلاثة، والطب والصيدلة والفلاحة. وتنقسم العلوم الرياضية إلى: علم الحساب، وعلم الجبر، وعلم الهندسة، وعلم الآلات، وعلم الحيل (الميكانيكا)، وعلم الفلك. ومن متعلقاته علم الجغرافيا الرياضية.
وتشمل الإلهيات علم ما وراء الطبيعة من الروحانيات والمدركات العقلية، كالبحث عن الخالق وصفاته والقوى النفسية والملائكة والجن وما إلى ذلك.
ومن علوم الأوائل: علم تدبير المنزل، وعلم تدبير المملكة؛ وهو علم السياسة، وعلم المال، وعلم الأخلاق، وعلم الموسيقى.
كانت هذه العلوم شائعة بين الأمم المتحضرة، فلما افتتح العرب بلاد العراق والشام ومصر وغيرها وجدوا الكثيرين من أهلها يتدارسون هذه العلوم ويتناقلونها بلغات شتى، وفي العصر الأموي ترجمت بعض هذه العلوم إلى اللغة العربية، ولا سيما علم الطب والسياسة. ولما دالت الدولة لبني العباس واستقر خلفاؤهم في بغداد؛ قربوا إليهم الكثير من حملة هذه العلوم، وطلبوا منهم نقلها إلى اللغة العربية. وفي مقدمة الخلفاء الذين عناهم هذا الشأن أبو جعفر المنصور، فإنه استقدم كثيرا من الأطباء والمترجمين، فترجموا له عن اليونانية والفارسية والهندية كتبا كثيرة في الطب والفلك والسياسة. ومن أشهر أولئك التراجمة جورجس بن جبريل الذي ترجم للمنصور كتبا كثيرة عن اليونانية، ونوبخت المنجم وابنه أبو سهل. ومن أشهر من ترجم للمنصور من الفارسية إلى العربية عبد الله بن المقفع، وممن ترجم له عن الهندية محمد بن إبراهيم الفزاري، ترجم له كتابا في النجوم. ثم لما كان زمن الرشيد أمر بإعادة النظر في الكتب المترجمة، كما أمر بترجمة كتب أخري، وعهد بذلك إلى جماعة من حكماء زمانه، منهم: طبيبه يوحنا بن ماسويه، والحجاج بن مطر، وأبو حسان، وسلم صاحب بيت الحكمة.
ولما كان عهد المأمون اشتدت الرغبة في نقل علوم الأوائل إلى اللغة العربية، فألف لذلك لجنة برياسة حنين بن إسحاق العبادي، وكان يتقن العربية والسريانية والفارسية واليونانية، وكان من أعضاء اللجنة: الحجاج بن مطر، وابن البطريق، وسلم صاحب بيت الحكمة. وأغدق المأمون على رئيس اللجنة وأعضائها العطاء، حتى إنه كان يعطيهم عدل ما ينقلونه من الكتب ذهبا، فكانوا يكتبون على ورق غليظ وبحروف كبيرة وأسطر متباعدة، وكان أكثر الكتب التي نقلت في عهد المنصور والرشيد في الطب والسياسة والنجوم. أما في عهد المأمون، فقد أقبل المترجمون على ترجمة كتب الفلسفة والرياضيات وعلوم الطبيعة، وأرسل المأمون جماعة من المترجمين إلى بلاد الروم، فاختاروا كتبا حملوها إلى بغداد وترجمت وتعلمها الناس، واقتدى بالخلفاء غيرهم من الأمراء والوزراء وأهل اليسار من العقلاء، فأغدقوا على المترجمين العطاء لنقل ما يرغبون فيه من كتب الأوائل إلى العربية؛ فنفقت أسواق هذه العلوم وزخرت بها بغداد.
ولكثرة ما كان يلقاه الحكماء في بغداد من الإكرام والاحترام في قصور الخلفاء والأمراء والوزراء والقادة وأهل اليسار أقبلوا ينسلون إليها من كل حدب، ويتخذونها دار إقامة لهم، فقصدوها من الشام والعراق وفارس والهند، وفيهم النساطرة والهنود والفرس، فتضافرت الهمم على ترجمة كتب الأقدمين والتأليف في مختلف علوم الكون على اختلاف فروعها، فأصبحت بغداد بذلك ينبوعا فياضا بهذه العلوم، يغترف منه الناس في سائر الحواضر الإسلامية. ومن أشهر الأسر التي جعلت بغداد موطنها: آل بختيشوع، نشأ منهم في بغداد عدد كبير، من أشهرهم: جورجس بن جبريل وبختيشوع بن جورجس، وجبرائيل بن بختيشوع وغيرهم، وأصلهم من جنديسابور،
1
انتقل جورجس بن جبرائيل إلى بغداد، وكذلك بختيشوع بن جورجس فتناسلوا فيها وكثروا، وآل حنين بن إسحاق العبادي، أولهم حنين بن إسحاق، وهو من أهل الحيرة وجعل بغداد دار إقامته، واشتهر من سلالته جماعة من أشهرهم ابنه إسحاق، وكان كأبيه في حذق اللغات الكثيرة. وآل شاكر، ويقال لهم: أبناء موسى؛ لأن أباهم موسى بن شاكر، فتارة ينسبون إلى أبيهم وتارة إلى جدهم، وهم ثلاثة: محمد، وأحمد، والحسن. أما محمد، فكان واسع المعرفة بالهندسة والفلك وسائر العلوم الرياضية، وكان أحمد من أمهر الناس في علم الحيل (الميكانيكا)، وكان أبناء شاكر قد عهدوا إلى جماعة من أهل المعرفة باللغات أن يترجموا لهم ما يطلبون من كتب الرياضيات والطبيعيات والفلسفة وغيرها، وكانوا ينفقون على ذلك نحوا من 500 دينار في الشهر، ولهم مؤلفات كثيرة في علوم شتى، ولهم إبداعات كثيرة ولا سيما في العلوم الرياضية، وهم الذين قاسوا محيط الأرض قياسا دقيقا لا يختلف عن قياس المعاصرين إلا قليلا مع دقة الآلات في هذا العصر.
وآل الكرخي أولهم شهدي الكرخي، وكان من أوساط التراجمة، وكذلك كان ابنه إلا انه أتقن هذا الفن في أخريات حياته.
ومن مشاهير حكماء بغداد: يعقوب بن إسحاق الكندي المتوفى سنة 260، فيلسوف العرب، يرجع نسبه إلى ملوك كندة، وكان واسع العلم في الطب والفلسفة والرياضيات والمنطق والموسيقى والنجوم، وله تآليف كثيرة في هذه العلوم تربو على الثلاثمائة ، وترجم كثيرا من كتب الأقدمين ولا سيما كتب الفلسفة، وأوضح فيها المشكل ولخص المستصعب وبسط العويص.
ولم يكد ينقضي القرن الثالث الهجري حتى برع البغداديون في العلوم الكونية كلها، وظهر فيهم الكثيرون من أعاظم الفلاسفة وكبار الأطباء، الذين يعتمدون في معارفهم على التجاريب الشخصية العملية، منهم أبو بكر محمد بن زكريا الرازي المتوفى سنة 311، صاحب البيمارستان العتيق في بغداد، وله في الكيمياء تجارب كثيرة، وقد أحصي له في علوم الطب والفلسفة والكيمياء أكثر من 200 كتاب، ونحن لا نشك في أن للبغداديين حصة كبيرة في رسائل إخوان الصفاء المشهورة. ومن شاء التوسع في الباب فعليه بالرجوع إلى البابين التاسع والعاشر من كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة.
وقد خمدت جذوة هذه العلوم بعد أفول نجم الخلافة العباسية في بغداد، على أن بعض رجال المغول ومن خلفهم من دول الأعاجم حاولوا إحياء بعض هذه المآثر فيها، وكان في المدرسة المستنصرية رواق خاص بالطب وعلوم الأوائل، ويظهر أنه امتدت به الحياة إلى العهد الذي أهملت فيه هذه المدرسة وأدبر أمرها. ولم تزل بعض هذه العلوم تدرس في المدارس القديمة إلى عهدنا هذا، ولا سيما الرياضيات منها، بما فيها علم الهيئة وعلم الحكمة وعلم المنطق. والبغداديون يعتبرون هذا العلم في مقدمة العلوم العقلية، كما أن النحو يعتبر في مقدمات العلوم اللسانية، فالحاجة إلى المنطق في سلامة التفكير كالحاجة للنحو في سلامة التعبير.
الفصل الثالث
العلوم اللسانية
كانت البصرة والكوفة في العهد الأموي ينبوعين فياضين بعلوم اللسان العربي، فلما استقرت الخلافة في بغداد وأقبل الخلفاء والأمراء وكبار رجال الدولة على تنشيط العلوم وبذل الرعاية للعلماء، وفي مقدمتهم علماء اللسان العربي، أقبل علماء المصرين إلى مدينة السلام؛ حيث نالوا من خلفائها وأمرائها كل رعاية وعناية. وكان أئمة الكوفة أسبق إلى ذلك، فكان منهم المؤدبون لأبناء الخلفاء وأكابر رجال الدولة، وكانت العلوم اللسانية التي يتدارسها أهل المصرين يومذاك: الأدب والنحو. وفي ضمنه الصرف واللغة، والإنشاء والخط، والشعر والشعراء، أما البلاغة فلم تكن من النضج بحيث يمكن أن تسمى علما.
الأدب
وكانوا يريدون به كل رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل، وهذه الرياضة تكون بالأقوال الحكيمة التي تتضمنها اللغة، كما تكون بالمحاكاة وحسن النظر في الأمور، والأخير يسمى أدب النفس، كما أن الأول يسمى أدب الدرس، وهو موضوع بحثنا هذا.
وأحسن مثال لهذا العلم، وأوله كتاب البيان والتبيين للجاحظ، وأول كتاب وضع في بغداد على هذا النمط هو كتاب المنظوم والمنثور لأحمد بن طيفور المتوفى سنة 280، صاحب تاريخ بغداد، قالوا: إنه بلغ أربعة عشر جزءا، ولم يبق منه اليوم إلا أجزاء قليلة مفرقة في مكاتب شتى. وكتب أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، المتوفى سنة 276، كتبا كثيرة في الأدب، يأتي في مقدمتها كتاب «عيون الأخبار»، ويعد من أقدم كتب الأدب التي أخرجتها بغداد بعد كتاب ابن طيفور، وكتاب أدب الكاتب، والكتابان مطبوعان متداولان.
ثم جاء محمد بن يزيد المبرد المتوفى سنة 285، وأملى في بغداد كتبه الكثيرة في الأدب في طليعتها كتابه «الكامل» الذي «يجمع ضروبا من الآداب بين منثور ومنظوم»، وهو من الكتب الممتعة في بابه، ولقدامة بن جعفر المتوفى 310 كتب قيمة في هذا الباب، منها كتاباه نقد الشعر ونقد النثر، وهما من أقدم الكتب في بابها، وأبو علي البغدادي القالي المتوفى سنة 356 كان من خير رسل الثقافة بين بغداد في الشرق وقرطبة في الغرب، وأماليه التي أملاها في جامع الزهراء بقرطبة لم تكن إلا ثمرة دراسته في بغداد نحوا من ربع قرن.
ثم جاء أبو الفرج الأصفهاني المتوفى سنة 356، فأخرج للناس كتاب الأغاني في عشرين مجلدا ونيف، وقد وقع الاتفاق على أنه لم يصنف مثله في بابه، وهو مطبوع متداول فلا حاجة لإطالة وصفه.
ولأبي علي المحسن التنوخي المتوفى سنة 384، كتاب أسماه نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة، جمعه من المنقولات اللسانية التي لم تدون في كتاب في زمانه، وقد طبعت بعض أجزائه، وهو جامع بين الإمتاع واللذة.
ولأبي حيان التوحيدي المتوفى في أواخر القرن الرابع كتب قيمة في هذا الباب، من أمتعها كتاب المقابسات وكتاب الإمتاع والمؤانسة، وفيه من ألوان الأدب وضروب الفلسفة ما يبهج النفس ويغذي العقل، وفي ثبت كتبه كتاب اسمه «المحاضرات والمناظرات»، ولعله من قبيل المقابسات لم نقف عليه، ثم جاء الشريف المرتضى علي بن الطاهر المتوفى سنة 436، نقيب الطالبيين في بغداد، فأملى كتابه «الغرر والدرر» المعروف اليوم بأمالي المرتضى، وهي مجالس أملاها تشتمل على فنون من معاني الأدب، تكلم فيها على تفسير بعض الآيات المتشابهات من القرآن الكريم، ثم أعقب ذلك ببعض روائع الشعر والنثر، شارحا ذلك كله ومعرفا بقائله، وفي ضمن ذلك كثير من الدقائق اللغوية والمباحث النحوية والنكات الأدبية. قال ابن خلكان: «وهو كتاب ممتع يدل على فضل كثير وتوسع في الاطلاع على العلوم ...»
هذا، ولا حاجة بنا للإسهاب في هذا الباب؛ لأن الثروة الأدبية التي أنتجتها بغداد أكثر من أن تحصى عدا. وإذا نحن نظرنا إلى ما نقله ابن خلدون عن أشياخه من «أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين؛ وهي: أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي. وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها.» وجدنا أن لبغداد الحظ الأوفر من أصول هذا الفن، ولا سيما إذا أضفنا إلى هذه الأصول الأربعة أصلا خامسا وهو «كتاب الأغاني» للقاضي أبي الفرج الأصفهاني.
ولما أنشئت المدرسة النظامية في بغداد أنشئ فيها كرسي لتدريس الأدب، عهد به إلى أبي زكريا الخطيب التبريزي المتوفى سنة 502، وخلفه على ذلك علي بن أبي زيد الفصيحي، وتلاه أبو منصور الجواليقي شارح أدب الكاتب.
وفي أوائل العصر السادس الهجري اتسع مفهوم الأدب عند العلماء، فأطلقوا على العلوم اللسانية من النحو واللغة وغيرها اسم: علوم الأدب. قال الزمخشري المتوفى سنة 538: «علوم الأدب يحترز بها عن الخلل في كلام العرب لفظا وكتابة.»
وممن أملى مجالس في بغداد يمكن أن تنتظم في هذا الباب أبو السعادات هبة الله بن علي الحسني المعروف بابن الشجري البغدادي نقيب الطالبيين في الكرخ المتوفى سنة 542، فإنه أملى أربعة وثمانين مجلسا اشتملت على فوائد جمة من فنون الأدب.
وكانوا يعتبرون الغناء من فنون الأدب. قال ابن خلدون: «كان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفن - الأدب - وكان الكتاب والفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصا على تحصيل أساليب الشعر وفنونه، فلم يكن انتحاله قادحا في العدالة والمروءة.» ا.ه.
وقد ألف عبيد الله بن طاهر، المتوفى سنة 289، كتابا أسماه «الآداب الرفيعة»، جمع فيه أصول النغم وعلل الأغاني وآداب المنادمة إلى غير ذلك، وهذا الاصطلاح يقرب جدا من الاصطلاح الذي وضعه المعاصرون للنحت والتصوير وما إليهما باسم «الفنون الجميلة».
الشعر والشعراء
لم يؤثر عن أمة من الأمم ما أثر عن العرب من كثرة الشعر والشعراء، حتى إنهم اتخذوه ديوانا لمآثرهم ومفاخرهم وسائر مجرياتهم؛ فهو بحق ديوان أخبارهم، ومستودع أفكارهم، وخزانة آثارهم، وإليه المرجع في تقلب أطوارهم في جاهليتهم وإسلامهم. وكان الشاعر بينهم موضع التجلة والإكبار؛ لأنه مدره العشيرة وحامي ذمارها والمنافح دون أحسابها.
ولما أصبحت بغداد حاضرة الخلافة، تدفق إليها الشعراء من كل فج ليشهدوا منافع لهم، وليعرضوا ما تجود به قرائحهم من الأعلاق النفيسة في قصور خلفائها وأمرائها وكبرائها، فوجدوا مجال القول ذا سعة، فقالوا: وأجزل لهم رجال الدولة وأولو النعمة العطايا فأكثروا وأجادوا، حتى قيل: إنه لم يجتمع بباب خليفة من خلفاء الإسلام من الشعراء ما اجتمع في باب الرشيد، وإذا أنت تصفحت تاريخ بغداد للخطيب ملكك العجب؛ لكثرة ما يمر فيه أمام نظرك من الشعراء الذين أنبتتهم بغداد أو الذين طرءوا عليها من الأطراف، حتى إنك لا تكاد تسمع بشاعر نابه في المشرق إلا وجدت له ذكرا بين شعراء بغداد. ولو حاول مؤرخ أن يستقصيهم ويلم بأخبارهم لأخرج للناس كتابا في عدة مجلدات، وقد حاول بعض المؤرخين الاستقصاء فأعياه. وأحصى الثعالبي في يتيمته العدد العديد من شعراء بغداد الذين عاصروه، وذكر بعض المؤرخين أن بضع مئات من الشعراء تمالئوا على هجو المتنبي عندما قدم بغداد في طريقه إلى خراسان.
فإذا كانت بغداد في أواسط العصر الرابع تضم بضع مئات من الشعراء الذين يعادون المتنبي، فكم كان عدد شعرائها الذين يوالونه أو الذين على الحياد؟ وليس المهم في هذا الباب كثرة الشعراء وكثرة ما نظموا، وإنما المهم الحسنات التي أسدوها على هذا الفن والابتداعات التي ابتدعوها فيه. والناقد البصير مضطر إلى الاعتراف بما لشعراء بغداد النابتين فيها والطارئين عليها من الفضل على الشعر في تنويع أغراضه وابتكار البارع من معانيه وأخيلته، ونشر الآراء الحرة والمذاهب الجديدة والبراعة في رسم الصور المبتكرة في الأوصاف وغيرها، كما أنه عليهم تقع تبعة إذاعة الزندقة والتشكيك في العقائد والاسترسال وراء الأهواء، وهم أول من فتح باب الغزل في المذكر أو - على الأقل - هم أول من وسع هذا الباب، وأغرقوا فيه أيما إغراق. كما أنهم أول من وسع باب المجون، وغالوا فيه غلوا تستنكره الطباع السليمة والنفوس المستقيمة، ولم يكترثوا لما يتقيد به المؤمنون من كرائم الخلال ومحامد الخصال. وأكثر المندفعين في هذه المسالك من الموالي الذين لم يملأ الإيمان صدورهم، ولا ارتاحت إلى الدين عقولهم، من أمثال: بشار بن برد، وحماد عجرد، وحسين بن الضحاك، وأبي دلامة. نعم؛ لا ينكر أن في أبناء العرب فئة شايعت هؤلاء الموالي في ركوب هذه السبل، بل سبقتهم وأربت عليهم، منهم: الحسن بن هانئ الحكمي، ودعبل الخزاعي، وابن سكرة الهاشمي. ويمكن إجمال ما جد في الشعر ببغداد بما يلي: (1)
الركون إلى الأنيس من الألفاظ وهجر الغريب والحوشي منها، فبعد أن كان ابن الجاهلية يستسيغ قول القائل:
وليلة نحس يصطلي القوس ربها
وأقطعه اللاتي بها يتنبل
دعست على غطش وبغش وصحبتي
سعار وإرزير ووجر وأفكل
أصبح ابن بغداد يتغنى بمثل قول الحكمي:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
وداوني بالتي كانت هي الداء (2)
الإكثار من الألفاظ الدخيلة، ولا سيما الدالة على أنواع الخمور وضروب الأزهار وأصناف الأطعمة. (3)
استعمال مصطلحات العلوم التي كثرت في هذا العصر. (4)
الاهتمام بالمحسنات البديعية اللفظية منها والمعنوية؛ كالجناس والتورية ورد العجز على الصدر والطباق. وأكثر الشعراء ولوعا بهذه المحسنات: مسلم بن الوليد، وأبو تمام، وعبد الله بن المعتز. (5)
الميل إلى سلامة التراكيب وانسجامها مع الاحتفاظ بجزالة الأسلوب وظهور المعنى.
هذا مجمل ما جد في ألفاظ الشعر، أما ما جد في معانيه وأخيلته؛ فيتلخص فيما يلي: (1)
اختراع الأخيلة الجميلة، وصبها في قوالب جذابة تبهج النفس وتسر الخاطر. (2)
الإيغال في استعمال الخيال الوهمي الذي لا يمكن تحققه في الخارج؛ كقول الحكمي:
وأخفت أهل الشرك حتى إنه
لتخافك النطف التي لم تخلق
وقول بعضهم:
أسكر بالأمس إن عزمت على الس
كر غدا إن ذا من العجب! (3)
ترتيب الأفكار وتنسيقها على وجه يلتئم مع مناهج المنطق السليم والفكر المستقيم، ولا سيما عند الانتقال من حال إلى حال. (4)
سلوك الطرق الكلامية، ومناهج الحكمة في تأييد المقاصد وتأكيد المطالب؛ مثل قول بعضهم وقد هجاه أحد الأشراف:
لا تضع من عظيم قدر وإن كن
ت مشارا إليه بالتعظيم
فالشريف الكريم ينقص قدرا
بالتعدي على الشريف الكريم
ولع الخمر بالعقول رمى الخم
ر بتنجيسها وبالتحريم (5)
الإكثار من الاستعارات الطريفة والتشبهات البارعة. وأكثر الشعراء ولوعا بذلك عبد الله بن المعتز.
ويمكن تلخيص ما جد في أغراضه وفنونه بما يلي: (1)
الانهماك في غزل المذكر والتوسع في فنونه، حتى غلب على غزل المؤنث الذي كان شعراء الجاهلية وصدر الإسلام يصدرون به قصائدهم ويحلونها به. وأشهر المغرقين في هذا الباب أبو نواس والحسين بن الضحاك. ولم يزل يتفاقم أمر هذا الضرب في الشعر حتى صار جمعة الدواوين يعتقدون له بابا قائما برأسه. (2)
اتخاذ المجون وسيلة من وسائل الملاطفة والإضحاك وبعث السرور في النفوس، ثم الخروج به إلى حدود الإفحاش والهجر. وأول من أفحش فيه بشار وحماد عجرد وحماد الراوية، ثم جاء أبو نواس فأربى عليهم، ثم جاء ابن حجاج وابن سكرة الهاشمي فشرقا فيه وغربا، وأتيا منه بما لم يسبقا إليه ولم يلحقا فيه، مما يستنكره الذوق السليم وتشمئز منه الطباع المستقيمة، ومع ذلك فقد كان البغداديون يعدون الزمان الذي جاد بابن حجاج وابن سكرة زمانا سخيا. (3)
الإقذاع في الهجاء والسب وهتك الحرم بما لا عهد للعرب به في عهد جاهليتهم وصدر إسلامهم، إلا ما كان من جرير وبعض خصومه. وأشد الشعراء اندفاعا في ذلك شعراء الموالي؛ كبشار وابن الرومي. (4)
الإغراق في المديح والفخر والإمعان بالكذب فيهما، وكان الذين يولعون بهذا الضرب من الشعر يقولون: «الشعر أعذبه أكذبه.» وهي فرية تقض مضجع الصدق.
ومن هنا قسم أهل البديع الخروج على المألوف إلى أقسام عديدة؛ أولها: المبالغة، وأرادوا بها ادعاء ما يمكن عقلا وعادة، وإن كان خارجا عن المألوف. وثانيها: الإغراق، وهو ادعاء ما يمكن عقلا لا عادة. وثالثها: الغلو، وهو ادعاء ما لا يمكن عقلا ولا عادة. وهذا التقسيم يشعرك بما انتهوا إليه من الخروج عن الممكنات إلى المستحيلات. (5)
الاندفاع في وصف الخمر والدعوة إلى شربها، والتبسط في وصف السكر والسكارى والمنادمة والندامى، والذهاب في ذلك كل مذهب. ورأس هذه الفئة أبو نواس؛ فقد أتى في هذا الباب بما لم يسبق إليه ولم يلحق فيه. نعم؛ كان بعض شعراء الجاهلية كالأعشى يلمون بهذا الباب إلماما خفيفا، وبعد الإسلام لم يجرؤ على طرق هذا الباب إلا قليل من الشعراء؛ كأبي محجن الثقفي والأخطل وأبي الهندي. أما في هذا العصر فقد جعله الشعراء ديدنهم، وقصروا عليه جل اهتمامهم، والذي ترفع منهم عن احتساء الشمول لم يترفع عن وصف شمائلها، ومن أراد التبسط في هذا الباب فعليه أن يرجع إلى حلبة الكميت للنواجي المتوفى سنة 859.
على أن عشاق الفضيلة وأهل التقوى لم يعدموا من يطربهم ويجتذبهم إليه بشعره ويسترق قلوبهم ببارع سحره، فقد فتح فريق من شعراء بغداد باب الزهد والوعظ والإرشاد وتفننوا فيه، وتطرقوا إلى ترصيعه بالحكم والأمثال، وعلى رأس هذه الفئة أبو العتاهية وأبان بن عبد الحميد اللاحقي، وتبعهما الكثيرون من الشعراء، حتى إن الحسن بن هانئ المعروف بنزعته لم يخل شعره من نفحات زهدية وعظات صوفية؛ كقوله:
ما بال دينك ترضى أن تدنسه
وثوبك الدهر مغسول من الدنس؟!
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينة لا تجري على اليبس !
وكثيرا ما اقتبس الصوفية شعر المجان من الشعراء وحوروا معناه إلى أغراضهم النبيلة؛ فهذا ماجن يشبب بغلام يقول:
إن بيتا أنت ساكنه
غير محتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجتنا
يوم تأتي الناس بالحجج
فانتزعته بعض الصوفية وقلب معناه إلى مناجاة الحق - عز وجل - ووضع كلمة «الميمون» بدل «المأمول» ورمز بالبيت إلى القلب. والكثير مما يتغنى به الصوفية في خلواتهم وجلواتهم من هذا القبيل. على أن للصوفية أنفسهم شعرا يكاد يذوب رقة ولطفا، يرمزون فيه إلى أغراض خاصة بهم، ومقاصد يعسر شرحها على غيرهم، وهذا الضرب من الشعر لا عهد للعرب به إلا بعد أن مصرت بغداد، وكثر فيها العباد والزهاد. وفي بغداد توسع الشعراء في صب المعاني الفلسفية في قوالب شعرية، ومن أشهر المتقدمين في ذلك صالح بن عبد القدوس، وعلى هذه السنة جرى أبو العتاهية في كثير من شعره، ولا سيما في مزدوجته المشهورة التي يقول فيها:
إن الشباب حجة التصابي
روائح الجنة في الشباب
إن الشباب والفراغ والجده
مفسدة للمرء أي مفسده
ومن مشاهير البغداديين الذين سلكوا هذا السبيل الحسين بن عبد الله المعروف بابن شبل
1
البغدادي المتوفى سنة 474، وله في ذلك مطولات ومقطعات بارعة جدا، فمن مطولاته قصيدته التي مطلعها:
بربك أيها الفلك المدار
أقصد ذا المسير أم اضطرار؟!
ومنها قصيدته الهمزية التي يقول فيها:
صحة المرء للسقام طريق
وطريق الفناء هذا البقاء
بالذي نغتذي نموت ونحيا
أقتل الداء للنفوس الدواء
قبح الله لذة لأذانا
نالها الأمهات والآباء
نحن لولا الوجود لم نألم الفق
د فإيجادنا علينا بلاء
وقد جال أبو العلاء المعري في هذا الميدان جولان فارس ماهر، فبز من سبقه وأعجز من لحقه، ولم يركب هذه الطريق ركوبا جديا إلا بعد رجوعه من بغداد، فهل لبغداد أثر في نزعته هذه؟
وآخر من علمناه سلك هذه الطريق من البغداديين في عهد بني العباس عبد الحميد المعروف بابن أبي الحديد المتوفى عام 655، شارح نهج البلاغة، ومما ينسب إليه في هذا الباب قوله:
تاه الأنام بسكرهم
فلذاك صاحي القوم عربد
من أنت يا رسطو ومن
أفلاط قبلك يا مبلد؟!
ما أنتم إلا الفرا
ش رأى السراج وقد توقد
فدنا فأحرق نفسه
ولو اهتدى رشدا لأبعد
وأهم ما حظي به الشعر من التجديد في بغداد انصراف الفحول من الشعراء عن الوقوف على الديار والبكاء على الأطلال إلى وصف الأنهار والأشجار والأزهار والثمار ومجالس اللهو واللعب وضروب الأنس والطرب، وإمام هذه الجماعة الحسن بن هانئ، فإنه كان يرى من النقص أن يفتتح الشاعر شعره - وهو في بغداد بين الأنهار والأشجار - بالوقوف على الطلول المحيلة والآثار الطامسة، ويرى من الواجب على الشاعر أن يكون واقعيا، يصف شعوره وإحساساته وخلجات نفسه ويصورها تصويرا بارعا تهتز له النفوس، فكأنه يسحرها أو يسكرها؛ لأنه يصور لها ما تحن إليه وتحنو عليه، قال:
صفة الطلول بلاغة القدم
فاجعل صفاتك لابنة الكرم
وقال:
عاج الشقي على رسم يسائله
وعجت أسأل عن خمارة البلد
يبكي على طلل الماضين من أسد
لا در درك قل لي من بنو أسد؟
وقد تبعه في مذهبه هذا خلق كثير، فانصرفوا إلى وصف المشاهدات من مظاهر المدنية؛ كالقصور والأنهار والحياض والرياض والسفن ومجالس القصف ... إلخ. وأشهر من جال في هذا الميدان ابن المعتز والصولي وابن الرومي. ونشأ شعراء اتخذوا من الأحداث التافهة موضوعات أطنبوا في شرحها وأسهبوا في وصفها، فعلوا كل ذلك للإضحاك والإيناس، كما فعل أبو دلامة في وصف بغلته الخبيثة الطباع، وكما فعل الحمدوني في وصف طيلسان ابن حرب. وخلاصة القصة أن محمد بن حرب أهدى الحمدوني طيلسانا خلقا؛ فأخذ يصفه ويتندر فيه، حتى قال فيه قرابة مائتي مقطوعة لا تخلو واحدة منها من معنى بديع، منها قوله:
يا ابن حرب كسوتني طيلسانا
أمرضته الأوجاع فهو سقيم
وإذا ما رفوته قال سبحا
نك محيي العظام وهي رميم!
وقال:
يا ابن حرب كسوتني طيلسانا
مل من صحبة الزمان وصدا
طال ترداده إلى الرفو حتى
لو بعثناه وحده لتهدى!
ومن هذا القبيل تندره في شاة سعيد التي بعث بها إليه، فملأ الدنيا شعرا بوصفها.
وشيء آخر طرأ على أغراض الشعر في بغداد، وهو رثاء الأئمة الذين رحلوا إلى جوار ربهم منذ أمد بعيد، وكان الشعراء من قبل يقصرون الرثاء على الأموات في حرارة المصاب ... ومن طريف ما يحكى في هذا الباب أن أحد الأدباء وقف عند بعض الشعراء على قصائد يرثي بها رجالا لا يزالون على قيد الحياة، فقال له: ما هذا؟! قال: إن هؤلاء لا بد أن يموتوا ويريد أهلوهم أن نجيد في رثائهم على البديهة وهو أمر صعب؛ ولذلك أعددت هذه المراثي لهم منذ الآن.
هذا أهم ما جد في بغداد من أغراض الشعر وفنونه، أما في أوزانه وقوافيه فيمكن إجمال ما جد فيهما في بغداد بما يلي: (1)
إحداث المزدوج، وهو جعل كل شطرين على قافية واحدة، وقد أكثر منه أبان بن عبد الحميد اللاحقي وأبو العتاهية الغزي وقد مر مثاله. (2)
الإكثار من النظم في البحور التي كان الأقدمون لا يطرقونها إلا قليلا، كالمضارع والمقتضب، وأكثر من سلك ذلك أبو العتاهية وابن المعتز. (3)
النظم على أوزان ولدها الخليل من أوزان الشعر الأصلية، وزاد عليه فيها بعض العروضيين. (4)
النظم على أوزان اخترعها بعض قدماء الشعراء في بغداد؛ كمسلم بن الوليد وأبي العتاهية وأبي نواس.
وفي بغداد اخترع المواليا، اخترعته بعض فتيات البرامكة على أثر نكبتهم، وتبعها الناس فيه. وكذلك اخترع الناس أوزانا كثيرة، ولكنها كانت تنظم بألفاظ وأساليب هي إلى لغة العامة أقرب منها إلى اللغة المعربة.
أما الموشحات فإنها من مخترعات الأندلسيين، وعنهم أخذها أهل المشرق في أواخر زمن بني العباس.
ولم يزل أمر الشعر في بغداد تقليديا إلى أن ظهر الشعراء المعاصرون، وفي طليعتهم الأستاذان الفاضلان معروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي، فانتقلا بالشعر إلى سننه القويم، واتخذا منه خير أداة لتصوير الأفكار العصرية ودقيق الإحساسات النفسية، كما اتخذا منه وسيلة لتسجيل الأحداث المهمة والكوارث الملمة، فإذا أنت تصفحت ديوان الرصافي اليوم تجده أصدق سجل لما عانته بغداد في زمانه من آلام وما تطلعت إليه من آمال، وما ألم بالعراق خاصة وببلاد العرب عامة من أفراح وأتراح، وما قاسته الأمة من أهوال وما تقلبت فيه من أحوال، يندب ماضيها الداثر، وعزها الغابر، كما يتوجع لما تقاسيه من خيبة الآمال في عصرها الحاضر، ويهيب بأبنائها ألا يقعدوا عن ضيم، ولا يستنيموا لمكروه. وكذلك فعل الأستاذ الزهاوي؛ فإنك إذ تصفحت شعره وجدت أنه يريد أن يدفع بالأمة إلى كل جديد، ويريد منها أن تسلك إلى الحضارة كل طريق.
ولما انبثق فجر النهضة الحديثة وجدت بغداد من هذين اللسانين خير أداتين لإنهاض الهمم، وشحذ العزائم، وإلهاب جذوة الحماسة في النفوس.
هذا ولا يمكن أن تنسى بغداد أولئك الأفاضل الذين رفعوا لواء الشعر على ضفاف الفرات حينا من الدهر، ثم انتقلوا به إلى ضفاف دجلة، فكان لهم فيها قدم صدق. ويأتي في الطليعة منهم الشيخ محمد رضا الشبيبي، وأخوه الشيخ محمد الباقر، والشيخ علي الشرقي، ومحمد المهدي البصير، ومحمد المهدي الجواهري. ولا يفوتنا أن نذكر بالإكبار الشيخ عبد الحسين الأزري الذي آزر النهضة الحديثة بقصائده المأثورة في مواقفه المشهورة، والأستاذ الصافي نزيل دمشق.
سانحة
وللحياة العقلية في مدينة السلام شرح يطول، وتاريخ تزدحم فيه الأبواب والفصول، وما ذكرناه إنما هو من قبيل الإلماع والإيماء، وما هو في واقع الأمر إلا بمثابة زهرات من روض أريض، وجولة قصيرة المدى في مجال طويل عريض. وفي رأينا أن التاريخ العقلي هو التاريخ الحي الخالد الذي يحمل معه الشاهد، وما سواه من التاريخ فأكثره يدور على الاعتزاز بالجيوش، وقتل النفوس، وثل العروش، والتحكم في الرقاب، ومصادرة الحريات، واجتراح الموبقات، واقتراف المخزيات، والتكالب على الحطام، والتغالب على السلطان الزائل، والجاه الزائف. أما ثمار النهى ونتاج الأفكار فإنها الوجه المشرق من التاريخ الذي ينير للإنسانية منهاجها، ويصف لها علاجها، ويسمو بها إلى مثلها العليا ومراتبها القصوى.
ذهبت فتوحات الإسكندر وذهبت معها معالمها وآثارها، وبقي منطق أرسطو حيا على الدهر، ينير العقول ويغذي النفوس، وطمست الأيام معالم مدينة السلام؛ فمحت آثار قصور المنصور والأمين والمأمون، وبقي فقه ابن ثابت وابن حنبل يقتطف منهما العباد زاد المعاد، ويعتمد عليهما الحكام في ديار الإسلام، في ضبط مقاييس الفصل بين الخصوم، وإقامة موازين العدل بين الناس. وطاحت الطوائح بتلك الثروات الطائلة، والرياش الفاخرة، والنعيم الوارف الظلال، أما الثروة العقلية فقد صارعت الأيام، وغالبت الأحداث، وناهضت الكوارث، ودافعت المصائب حتى كتب لها الظفر، وكان الغلب؛ فعاشت على الرغم من أنف الزمن تتلألأ نورا وتتيه جمالا وجلالا؛ فالكثير من آثار أولئك العلماء والأدباء والحكماء من البغداديين لا يزال زينة هذه الحياة وجمالها وزهرتها، وسيبقى خالدا على الزمن ما بقي اللسان المبين غذاء للعقول الراجحة، ودواء للأهواء الجامحة، ورواء للنفوس الظامئة، ومعراجا للعزائم الماضية والهمم العالية والأرواح الصافية.
Page inconnue