قوله: "ومن نرجس" يعني البهار، وصفته على ذلك دالة، وياقوته السامي لو أمكنه أن يذكر لونه فيقول: المصفر أو نحوه لكان أتم إذ ألوان اليواقيت كثيرة لكنه اكتفى بشهرة الموصوف. وهذا للشعراء كثير. ومن اللباب في هذا الباب رسالة كتب بها الوزير أبو حفص أحمد بن محمد بن برد إلى الوزير أبي الوزير بن جهور وصف فيها نواوير خمسة، وغرضه تفصيل الورد بينها وتقديمه عليها بصفات كلها حر الألفاظ، وتشبيهات جميعها حور الألحاظ، والرسالة: "أما بعد يا سيدي ومن أفديه بنفسي، فإنه ذكر بعض أهل الأدب المتقدمين فيه، وذوي الظرف المعتنين بملح معانيه؛ أن صنوفا من الرياحين وأجناسا من أنوار البساتين جمعها في بعض الأزمنة خاطر خطر بنفوسها، وهاجس هجس في ضمائرها، لم يكن بد من التفاوض فيه والتحاور، والتحاكم من أجله والتناصف، وأجمعت على أن ما ثبت في ذلك من العهد ونفذ من الحلف، ماض على من غاب شخصه، ولم يأت منها وقته. فتخيرت من البلاد أطيبها بقعة، وأخصبها نجعة، وأظلها شجرا، وأغضرها زهرا، وأعطرها نفس ريح، وأرقها دمع ندى، ثم أخذت مجالسها وانبرت على مراتبها وقام قائمها فقال: يا معشر الشجر وعامة الزهر، إن اللطيف الخبير الذي خلق المخلوقات، وذرأ البريات باين بين أشكالها وصفاتها، وباعد بين منحها وأعطياتها، فجعل عبدا وملكا وخلق قبيحا وحسنا. فضل بعض على بعضا حتى اعتدل بعدله الكل، واتسق على لطيف قدرته الجميع، وأن لكل واحد منا جمالا في صورته، ورقة في محاسنه، واعتدالا في قده، وعبقا في نسيمه ومائية في ديباجته قد عطفت علينا الأعين، وثنت إلينا الأنفس وأصبت بنا الأكف، وأزهت بمحضرنا المجالس حتى سفرنا بين الأحبة، ووصلنا أسباب القلوب، وتحملنا لطائف الرسائل، وحيينا اللهو، واحتضنا السرور، وأخذنا جعالة البشرى، وأكرمنا بنزل الرفادة، وأسنيت لنا صلة الزيادة، وصيغ فينا القريض، وركبت على محاسننا الأعاريض، فطمح بنا العجب، وازدهانا الكبر، وحملنا تفضيل من فضلنا، وإيثار من آثرنا على نسينا الفكرة في أمرنا، والتمهيد لعواقبنا، والتطييب لأخبارنا، وادعينا الفضل بأسره، والكمال بأجمعه، ولم نعلم أن فينا من له المزية علينا، ومن هو أولى بالرياسة منا، ومن يجب له علينا التحرج ومد اليد بالمبايعة، وإعطاء مجهود المحبة، وبذل ذات النفس، وهو الورد الذي إن بذلنا الإنصاف من أنفسنا، ولم نرتكض في بحر عمانا، ولم نمل مع نزع هوانا، دنا له، ودعونا إليه، واعترفنا بفضله، وقلنا برياسته، واعتقدنا إمرته، وأصفينا محبته، فمن لقينا منا حياه بالملك ووفاه حق الإمامة، ومن لم يدرك زمن سلطانه، ولم يأت على عدان دولته، اعتقد ما عقد عليه، ولبى إلى ما دعي إليه، فهو الأكرم حسبا، والأشرف زمنا، والأتم خصالا، والذي إذا فقدت عينه لم يفقد أثره، وغاب شخصه ولم يغب عرفه، والطيب إليه كله محتاج، وهو عن كيفه مستغن، وهو أحمر والحمرة لون الدم، والدم صديق الروح، وصيغة الحياة، وهو كالياقوت المنضد في أطباق الزبرجد عليها فرائد العسجد.
وأما الأشعار فبمحاسنه حسنت، وباعتدال جماله وزنت، وإننا ما نعتقد إلهامنا إلى هذه المخمدة، واستنظافنا من دنس تلك المذمة إلا من أجل النعم المقسومة لنا والأيادي المتصلة بنا.
مكان ممن حضر هذا المجلس، وشهد هذا المشهد من مشاهير الأزهار، ورؤساء الأنوار النرجس الأصفر، والبنفسج والبهار والخيري النمام.
فقال النرجس الأصفر: والذي مهد لي حجر الثرى، وأرضعني ثدي الحيا، لقد جئت بها أوضح من لبة الصباح، وأسطع من لسان المصباح، ولقد كنت أسر من التعبد له، والشغف به، والأسف على تعاقب الموت، والرجعة دون لقائه ما أنحل جسمي، ومكن سقمي، وإذ قد أمكن البوح بالشكوى فقد خف ثقل البلوى. ثم قام البنفسج فقال: "على الخبير سقطت" أنا والله المتعبد له، الداعي إليه، المشغوف به كلفا، المغضوض بيد النأي عنه أسفا، وكفى ما بوجهي من ندب وبجسمي من عدم نهوض، ولكن في التأسي بك أنس، وفي الاستواء معك وجدان سلو.
ثم قام البهار فقال: [الخفيف]
ثم قالوا: تحبها؟ قلت: بهرا ... عدد النجم والحصى والتراب
لا تنظرن إلى غضارة منبتي، ونضارة ورقي، وانظر إلي وقد صرت حدقة باهتة تشير إليه، وعينا شاخصة تندى بكاء عليه: [الوافر]
1 / 15