86

La Porte de la Lune

باب القمر

Genres

الفصل الخامس والعشرون

لم الأطراف

بقي ورقة في صنعاء مع نعيم ينعم بجواره في بيته ودكانه، وينسى همومه في مجاهل اليمن ومعارفه، وسهوله ووديانه، وجباله وأحقافه، وقراه وحلله، ومرابعه ومشاتيه. فقد رأى نعيم والفرصة سانحة بوجود رفيق من أحسن الرفقاء نفسا أن يرتاد بلاد اليمن ومنابت العشب؛ ليستريض ويتعرف، ويعلم ورقة ويبصره، وإن لم يكن ورقة في حاجة إلى ذلك كله، بل ربما كان بقاؤه في الدكانة أعود عليه بالفائدة منه بالترحال، ولكن كان لا بد لورقة لكي ينسى الدنيا الجميلة التي أخرج منها، دنيا لمياء وهرميون - أن تمر عليه الحوادث والوجوه في تناقض واختلاف؛ ليشتغل بها فؤاده حتى لا تكون رتابة المكث في مكان واحد مذكرة إياه بالأحباب والإخوان؛ ولذلك أخذه نعيم في سفرات متقطعة كان قد انتواها من زمن بعيد إلى البلاد المحيطة باليمن على البحر الهندي وخليج فارس وبحر القلزم. فلما أتمها استقر بصنعاء مدة، ثم عاد إلى ارتياد بلاد اليمن نفسها شرقا وغربا وشمالا وجنوبا. كل ذلك باسم ارتياد منابت العشب، حين أن نعيما كان مغرما بالتنقل والاستراضة والسياحة، وكان في نيته يوم تتزوج ابنته أن يتركها بين يدي زوجها، ويذهب إلى العراق أولا ثم إلى الإسكندرية، أو إلى الإسكندرية ثم إلى العراق؛ لأنه كان يسمع المغريات عن الإسكندرية وما فيها من الأعاجيب، وعن مدائن كسرى وما فيها من مظاهر الملك والسلطان، وكان في كل حديث عنهما يغري ورقة ألا يفوت على نفسه زيارتهما.

سرت هذه الزيارات من هموم ورقة، فلم يبق من صلات قلبه بأحبابه إلا حبيس وجد بلمياء، وذكريات محبة خالصة، كانت تمر على مخيلته كل ليلة عندما يرقد لينام أو يفيق في الصباح، أو يخلو لنفسه في مكان، ولا يزال يتأمل وجه لمياء ونظراتها إليه المملوءة بالحب والرضا والعتاب الشديد، ثم يتذكر استحالة أن تكون له، حتى تتسرب الذكريات واحدة بعد أخرى. فإذا انطفأ نورها رقد ونام، أو أفاق لينهض، ولقد أغرم ورقة بالصلاة، فأوجب على نفسه منها ما لم يكن قد أوجبه الله بعد على المسلمين، تلك هي صلاة الصبح والعشاء. كان ورقة يفيق على عادته مبكرا، وإذ هو متوحد في غرفته - كان يذهب من فوره؛ ليتوضأ بماء البئر، ثم يعود إلى غرفته، ويتجه إلى الله ليصلي، فإذا انتهى منها ضاعفها؛ وكان يشعر أن هذه الصلاة الصباحية أفعل في القلب من صلاة الضحى؛ لأن النفس تكون إذ ذاك خالية من مشاغل الحياة. أما صلاة الضحى فكانت تقطع عليه يومه؛ وإذا انصرف لها لم يكن قلبه على سجيته النقية الخالية من مؤثرات الحياة.

وإذا عاد إلى غرفته في الليل؛ لينام، وأحس بالوحدة - استمد الأنس من جوار الله فذهب إلى البئر وتوضأ وصلى، واتجه إلى الله بقلبه، ودعا لأهله ولهرميون ولمياء وإخوانه في مكة بما يدعو به القلب المطهر؛ فرآهما في صلاته ودعائه رؤية رضا وطمأنينة، ثم ذهب إلى فراشه يفكر فيهما تفكيره المعتاد حتى يملكه النوم فينام.

كانت هاتان الصلاتان مما هداه إليه قلبه واحتياج نفسه، ولم يكن يجد في أن يصليهما خروجا، فقد صلى مع زيد صلاة ليلية تقربا إلى الله، وعلم أن الرسول

صلى الله عليه وسلم

كان يصلي كلما أحس حاجة إلى الصلاة، وكان ورقة يؤخر الضحى حتى يجيء وقت الطعام فينهض ويتوضأ ويستريح، فكانت صلاة الضحى في الحقيقة عنده هي صلاة الظهر، فلم يترك مما أمر الله بعدئذ

1

إلا صلاة المغرب، على أنه كان في كل صلواته مستهديا بوحي قلبه، ومن كان قلبه متصلا بالله فالصواب رائده، حتى فيما لم يأته به علم ولا أذان.

Page inconnue