فعل ورقة كما رأت القهرمانة شاكرا فضل الأسقف وبرها، وفيما هو يسألها عن مكان يرقد فيه تابعه رؤبة، ويشير إلى مصطبة هناك بجوار الباب ويستحسنها مرقدا للغلام سمع صوتا يناديه ويحييه من كوة في علية: عم صباحا يا ورقة. اصعد إلي، ولقد كان الصوت ضعيفا فيه شيء من أنين المرضى فلم يتبينه ورقة، ولم يعلم أنه الأسقف يناديه ويحييه، لولا أن نبهته القهرمانة إلى ذلك فجهر يرد التحية معاجلا؛ ليستدرك لحظات تأخره عن الرد على الأسقف الكبير، وتقدمته القهرمانة إلى السلم لتصعد به، ولكنها سمعت الأسقف يقول لها: أرسلي الشمامسة إلي. قالت سمعا يا سيدي. ثم التفتت إلى ورقة وأشارت إلى غرفة الأسقف، وقالت: اصعد أنت وحدك. ها هي ذي غرفته. لعلك لم تنسها. قال: أهي على عهدها منذ زرته فيها أنا والحارث وأهله؟ قالت: نعم، وهو على عهده، ثم استأذنت منه في أن ترسل الغلام رؤبة؛ ليوقظ ميكال من مرقده في مذود الحمار. ولكن رؤبة لم يمهلها حتى يطلبا إليه ذلك، فقد كان مرهف الأذن بما عودته صحراء القرضاب، وكان عند باب الكنيسة ساعة نطقت باسمه واسم ميكال. فقال: سأنهضه على الفور وآتيكما به من غير عنان! ثم اختفى ذاهبا إليه.
صعد ورقة للقاء الأسقف، وعادت القهرمانة لتوقظ السكارى، وهي لا تدري كيف توقظ أمواتا. ولكنها استطاعت على كل حال أن تأتي بجريس وحنا ليقفا تحت الكوة حين كان رؤبة قد أتى بميكال من الإسطبل مبلل الوجه واللحية من أثر ما صب على رأسه من الماء لينعشه، ولكنهم كانوا متعبين فارتكن حنا إلى جدار البيت تحت الكوة وارتكن جريس عليه. أما ميكال فوقف فاتحا رجليه بغير سبب. فلما رأتهم بربارة على هذه الصورة لم تتمالك نفسها من الضحك، وعلا صوتها فتنبه الأسقف لها، وقال: ما خطبك يا بربارة؟ قالت: حضر الشمامسة يا مولاي. فقال لهم في صوته الضعيف: اذهبوا إلى سلمان فادعوه إلي على الفور، وأوصوا أبناءنا من حداة الكنيسة وجمالتها أن يؤجلوا الرحيل بالقافلة إلى الغد. قال الأسقف ما قال ولكن الشمامسة لم يسمعوا منه شيئا كثيرا وإن كانوا قد أرهفوا سمعهم وحولوا آذانهم نحو الكوة، وإذ كانوا قد فهموا جملة الغرض من إيقاظهم ولم يستطيعوا أن يستعيدوه أجابوا الأسقف بالسمع والطاعة، ومالوا للخروج إلى القافلة وهم كارهون. وكان حنا أشدهم امتعاضا؛ لأنه كان أشدهم سكرا، فقال لرفيقيه، وقد تحولوا نحو الباب بجوار مرقد الغلام: لماذا نذهب كلنا في أمر كهذا؟ دعوني هنا للحراسة واذهبا أنتما. قال ميكال: بل أبقى أنا وتذهب أنت؛ لأني يقظ أما أنت فسكران والمشي نافع لك والهواء ينعشك، وإذ أخذ جريس يقترح أن يكون هو الذي يبقى دونهما ولا يبدي سببا لذلك، تدخل رؤبة بينهم فقال: أما ورب يعوق لئن لم تنتهوا وتدعوا هذا الكلام الفارغ لأعلمن مولاكم بسكركم ورقصكم وسرقتكم سقاء سيدي، وحديث الجارية التي كانت مع أحدكم، و ... فلم يمهلوه حتى يتم وعيده، وخرجوا يقفزون عن عتبة الباب قفز التيوس في سبيلهم إلى القافلة؛ ليبلغوا سلمان ما بقي في آذانهم من كلام القهرمانة.
الفصل الثامن
ابن العفيفة
نترك ورقة يصعد إلى الأسقف ويلقاه، ونتركهما يتحادثان حتى يعود الشمامسة بسلمان. فلن يستطيع القارئ تتبعهما ولا تبين ما هما بصدده، ولا معرفة من سيأتي ذكره في الحديث من رجال ونساء، وحوادث وشئون، حتى يكون قد سبق له العلم بهؤلاء الناس، والوقوف على تلك الحوادث، وما كان لورقة بن صليح، بل ورقة ابن العفيفة بكل منهم ومنهن من صلة وعلاقة.
من أجل ذلك نستميح القارئ عذرا من انصرافنا به من نجران ودار الأسقف في ليلة الربيع من سنة 616 هذه، إلى مكة ودار خديجة بنت خويلد قبل أن يسعدها الله بتزوج خير الخلق محمد بن عبد الله؛ لنعرض عليه حوادث عشرين سنة أو حوالي ذلك، كان لها أثر في ورقة حتى جاءت به إلى نجران وغير نجران من بلاد العرب السعيدة.
سنعرضها عرض الحافظة مختزنها على المخيلة في المنام، فإذا عدنا به إلى نجران، وأدخلناه على الأسقف يسمع حديثه مع ورقة، تفهم الحديث بلا عناء، وتعرف إلى الناس بلا استئذان. •••
كان ورقة مكيا ولكنه لم يكن قرشيا. لم يولد من أشراف العرب، ولكنه كان عنوان الشرف. نشأ في ظلمة الفقر، ولكنه عاش في نور العلم والفضل. كانت أمه سبية تدعى تماضر من سبايا رجل من أعيان مكة يدعى عبد الله بن جدعان،
1
جيء بها إليه من تخوم بني لحيان،
Page inconnue