واطردت حياته في ذلك العام متشابهة لا جديد فيها إلا ما كان يفيده الصبي من العلم كلما أمعن في الدرس، وما كان يشعر به من الغرور إذا كان بين زملائه، وما كان يرد إليه من التواضع إذا كان بين أولئك الطلاب الكبار في الربع، وإلا ما كان يفيده من العلم بشئون الأساتذة والطلاب في الأزهر لما كان يسمع من حديث زملائه وأصدقاء أخيه عن أولئك وهؤلاء.
فلم يكن شيء من هذه الأحاديث ليحسن ظنه بأولئك أو هؤلاء، وإنما كان ظنه يزداد بهم سوءا كلما مر عليه الوقت، فقد كان يسمع بين وحين ثناء بالذكاء والبراعة على هذا الشيخ أو ذاك من صغار العلماء وكبارهم، ولكنه كان يسمع دائما عيبا لأولئك وهؤلاء بألوان من النقائص التي تتصل بالخلق أو تتصل بالسيرة أو تتصل بصناعة العلم نفسها، والتي كانت تثير في نفسه كثيرا من الغضب والازدراء وخيبة الأمل.
ولم يكن يسلم من هذه العيوب أحد، فأما هذا الشيخ فقد كان شديد الحقد على زملائه وأقرانه، شديد المكر بهم والكيد لهم، يلقاهم مبتسما فلا يكاد يفارقهم حتى يقول فيهم أشنع القول ويسعى بهم أقبح السعي. وأما هذا الشيخ الآخر فقد كان رقيق الدين، يظهر التقوى إذا كان في الأزهر أو بين أقرانه، فإذا خلا إلى نفسه وإلى شياطينه أغرق في إثم عظيم.
وكان هؤلاء العائبون ربما سموا أولئك الشياطين الذين كان الشيخ يخلو إليهم ويشاركهم في الإثم. وكان كبار الطلاب يتندرون على هذا الشيخ أو ذاك؛ لأنه كان يعنى عناية خاصة بهذا الفتى أو ذاك، ويلقي نظرات خاصة على هذا الفتى أو ذاك، ولا يستقر على كرسيه إذا حضر من طلابه هذا الفتى أو ذاك.
وكانت الغيبة والنميمة أشيع وأشنع ما كان يذكر من عيب الشيوخ، فكان الطلاب يذكرون سعي ذلك الشيخ بصديقه الحميم عند شيخ الأزهر أو عند الشيخ المفتي، وكانوا يذكرون أن شيخ الأزهر كان أذنا للنمامين، وأن الشيخ المفتي كان يترفع عن الاستماع لهم ويلقاهم بالزجر القاسي العنيف.
وقد تحدث الطلاب الكبار ذات يوم بقصة عن جماعة من كبار الشيوخ سموهم يومئذ، فزعموا أن هؤلاء الشيوخ لاحظوا أنهم قد أسرفوا على أنفسهم في الغيبة، فأستعظموا ذلك وذكروا قول الله عز وجل:
ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ، فتناهوا عن هذه الخطيئة الكبيرة، وتعاهدوا على أن من أخذ منهم في الغيبة فعليه أن يؤدي إلى أصحابه عشرين قرشا.
وقد كفوا عن الغيبة يوما أو بعض يوم ضنا بهذا المبلغ من النقد. وإنهم لفي بعض حديثهم، وإذا شيخ يمر بهم فيلقي عليهم تحية، ويمضي في طريقه، ولكنه لا يكاد يمضي حتى يخرج أحدهم قطعة من الفضة فيدفعها إلى أصحابه ويأخذ في اغتياب هذا الشيخ.
فأما تحدث الطلاب كبارا وصغارا بجهل شيوخهم وتورطهم في ألوان الخطأ المضحك الذي كان بعضه يتصل بالفهم وبعضه يتصل بالقراءة، فقد كان أكثر من أن يحصى وأعظم من أن يقدر، ومن أجل هذا كان صاحبنا سيئ الرأي في العلماء والطلاب جميعا، وكان يرى أن الخير كل الخير في أن يجد ويجتهد ويحصل ما استطاع من العلم معرضا عن مصادره التي كان يستقيه منها.
وازداد رأيه سوءا حين استقبل السنة الثالثة من حياته في الأزهر، فالتمس لنفسه أستاذا يقرأ في الفقه شرح ملا مسكين على الكنز، فدل على أستاذ معروف بعيد الذكر ظاهر المكانة في القضاء، فذهب إليه وجلس في حلقته، ولكنه لم يكد ينفق دقائق حتى أحس حرجا عظيما، رأى نفسه مضطرا إلى أن يبذل جهدا شديدا لمقاومة الضحك؛ وذلك أن الشيخ رحمه الله قد كانت له لازمة غريبة، كما كان يقول الأزهريون، فلم يكن يقرأ جملة في الكتاب أو يفسرها من عند نفسه إلا قال هذه الجملة مرتين: «قال قال، ثم قال إيه.»
Page inconnue