وشخص آخر كان يقيم في الربع، ولكنه لم يكن يسكن فيه غرفة بعينها ولا يستقر منه في مكان بعينه، ولم يكن لقاؤه سهلا ولا التحدث إليه ميسورا، وإنما كان هؤلاء الشباب يتحدثون عنه بين حين وحين حديثا مخطوفا سريعا مهموسا، يتبعه شيء من الضحك السريع الخفيف الذي كان يقطعه التحفظ والحياء.
وكان هذا الشخص يزور ولا يزار، وكان لا يزور وحده إنما يزور ومعه شخص آخر، وكان لا يزور في النهار ولا في أول الليل، ولا يزور في اليقظة وإنما يزور في أوساط الليل وفي أثناء النوم العميق.
وكانت زيارته حلوة البدء مرة العاقبة، وكانت زيارته تكلف الذين يلم بهم عناء ثقيلا، ربما آذاهم في أنفسهم، ولكنه كان يؤذيهم في علمهم وفي أجسامهم دائما، وكان يعرضهم للعلة أحيانا وللزكام في كثير من الوقت ولا سيما في الشتاء.
وكان هذا الشخص يسمى بين هؤلاء الشباب أبا طرطور، ولم يكن هذا الشخص غير الشيطان الذي كان يلم بأحدهم إذا جنه الليل وشمله النوم، فإذا انصرف عنه أفاق الفتى مذعورا ضيق النفس متأثما متحرجا، وانتظر حتى يدنو الفجر، فهب من فراشه عجلا وجلا حريصا على أن يطهر ليدرك درس الفجر. فأما في الصيف فقد كان الأمر يسيرا محتملا، وأي شيء أيسر وأحب من أن يغمس الفتى نفسه في الماء البارد في هذا المغطس أو ذاك من هذا المسجد أو ذاك، أو أن يصب الفتى على جسمه مقدارا من الماء البارد يعم جسمه ويحقق شرائط الغسل كما فرضتها كتب الفقه! ولكن الجهد كل الجهد والعذاب كل العذاب حين يلم أبو طرطور بالفتى في ليلة من ليالي الشتاء، هنالك لا يجد الفتى الوقت لإسخان الماء، ولا يجد الوقت - وقد لا يجد النقد - للذهاب إلى حمام من هذه الحمامات العامة، وحسب أبي طرطور أن يضيع على الفتى وقته فأما أن يضيع عليه نقده فلا.
ولا بد من الذهاب إلى الأزهر ولا بد من الاستماع إلى الدرس، ولا بد من أن يكون الفتى طاهر النفس والجسم معا، وإذن فهو الماء البارد يصب على الجسم في البيت صبا سريعا ثم الخروج إلى الأزهر. والخير أن يغمس الفتى نفسه في مغطس من مغاطس المساجد؛ ذلك لا يكلفه شيئا إلا البرد والرعشة، فالماء في البيت يشترى، وما ينبغي أن يستنفد في غير الشرب إلا أن تقضي بذلك الضرورة، ولا بد من أن تحمل الضرورة نفسها على الاقتصاد.
وكان أبو طرطور ملحا في زياراته على هؤلاء الشباب، كأنما أقام في أعلى سلم الربع مختفيا في تلك الزاوية حيث لا يسمع ما كان الطلاب يدرسونه من العلم ويقرءونه من الكتب. فإذا انصرف الطلاب عن علمهم أو كتبهم وخلوا إلى ذلك الشيخ الذي كان يسكن أقصى الربع من شمال، أو ذلك الكهل الذي كان يسكن أقصى الربع من يمين، وثب أبو طرطور فدخل عليهم غرفتهم من حيث لا يرونه ولا يسمعونه ولا يحسونه، ثم انسل فمضى حتى ركب كتفي الشيخ أو كتفي الكهل أو تقمصه وتحدث بصوته ولسانه إلى هؤلاء الشبان، فأثار في نفوسهم ورءوسهم هذه الخواطر المنكرة التي كانت تصرفهم عنها الكتب. فإذا تفرقوا عن شيخهم أو كهلهم، وأووا إلى مضاجعهم وأغرقوا في نومهم، كان أبو طرطور قد اختار منهم فريسته فزاره زيارته المنكرة الآثمة.
وربما استخفى أبو طرطور في زاويته تلك من أعلى السلم، حتى إذا صعدت تلك الفتاة من الطبقة السفلى إلى الطبقة العليا تحمل إلى أحد هؤلاء الطلاب ثيابه غسيلة نظيفة، أو تأخذ من أحد هؤلاء الطلاب ثيابه لتغسلها وتنظفها، اعترضها أبو طرطور فسايرها لا يرى ولا يسمع ولا يحس، فلا تكاد تدخل على أحد هؤلاء الطلاب، حتى يستحيل أبو طرطور نظرة تلقى من طرف هذه الفتاة، أو كلمة تجرى على لسانها، أو ابتسامة ترتسم على شفتيها أو حركة تنبعث من أحد أعضائها.
ثم تنصرف الفتاة وينصرف معها أبو طرطور لم ير ولم يسمع ولم يحس، ولكنه مع ذلك قد ضرب للفتى موعدا حين يجنه الليل ويشمله النوم. وربما أمعن أبو طرطور في البراعة وغلا في المكر والكيد، فلم يكلف نفسه الصعود إلى أعلى السلم، وإنما اندس في الطبقة السفلى، واختلط بأولئك النساء اللاتي كن يختصمن أحيانا ويتضاحكن أحيانا، ويتحدثن بأصوات مرتفعة يشكلنها أشكالا مختلفة على كل حال؛ فيستحيل أبو طرطور إلى جوهر لطيف يجري في صوت من هذه الأصوات، أو حركة من هذه الحركات، ويرتفع هذا الصوت أو هذه الحركة بأبي طرطور أو يرتفع هو بهذا الصوت أو بهذه الحركة، حتى يبلغ الفتى في الطبقة العليا، وينصرف عنه لوقته وقد ألقى في نفسه شرا خفيا وضرب له موعدا حين يجنه الليل ويشمله النوم.
وكذلك لم تكن حياة هؤلاء الطلاب في ربعهم وفي أزهرهم صفوا كلها، ولا علما كلها، ولم تكن حياة الصبي بين هؤلاء الطلاب صفوا خالصا، ولا علما خالصا، وإنما كان يلم بهم أبو طرطور فيحمل إليهم عذابا حلوا مرا، ويسمع الصبي من أحاديثهم ما كان يدعوه إلى التفكير.
الفصل الثاني عشر
Page inconnue