وأما أمه فأجهشت
3
بالبكاء، وأما أبوه فقال في صوت هادئ حزين: ما هكذا تؤخذ اللقمة يا بني ... وأما هو فلم يعرف كيف قضى ليلته.
من ذاك الوقت تقيدت حركاته بشيء من الرزانة والإشفاق والحياء لا حد له، ومن ذلك الوقت عرف لنفسه إرادة قوية، ومن ذلك الوقت حرم على نفسه ألوانا من الطعام لم تبح له إلا بعد أن جاوز الخامسة والعشرين؛ حرم على نفسه الحساء والأرز، وكل الألوان التي تؤكل بالملاعق؛ لأنه كان يعرف أنه لا يحسن اصطناع الملعقة، وكان يكره أن يضحك إخوته، أو تبكي أمه، أو يعلمه أبوه في هدوء حزين.
هذه الحادثة أعانته على أن يفهم حقا ما يتحدث به الرواة عن أبي العلاء من أنه أكل ذات يوم دبسا،
4
فسقط بعضه على صدره وهو لا يدري، فلما خرج إلى الدرس قال له بعض تلاميذه: يا سيدي أكلت دبسا، فأسرع بيده إلى صدره، وقال: نعم، قاتل الله الشره! ثم حرم الدبس على نفسه طوال الحياة.
وأعانته هذه الحادثة على أن يفهم طورا من أطوار أبي العلاء حق الفهم؛ ذلك أن أبا العلاء كان يتستر في أكله حتى على خادمه؛ فقد كان يأكل في نفق
5
تحت الأرض، وكان يأمر خادمه أن يعد له طعامه في هذا النفق ثم يخرج، ويخلو هو إلى طعامه فيأخذ منه ما يشتهي. وقد زعموا أن تلاميذه تذاكروا مرة بطيخ حلب وجودته، فتكلف أبو العلاء وأرسل إلى حلب من اشترى لهم منه شيئا فأكلوا، واحتفظ الخادم لسيده بشيء من البطيخ وضعه في النفق، وكأنه لم يضعه في المكان الذي تعود أن يضع فيه طعام الشيخ، وكره الشيخ أن يسأل عن حظه من البطيخ، فلبث البطيخ في مكانه حتى فسد ولم يذقه الشيخ.
Page inconnue