176

وانقضى الصيف ثقيلا طويلا يضطرب فيه الزوجان بين السعة في أول الشهر والضيق في آخره، ولكنهما يستعينان على السعة والضيق جميعا بتنشيء أمينة من جهة، والجد في إعداد الرسالة ودرس اليونانية من جهة أخرى، ولم يقبل شهر سبتمبر حتى عاد الزوجان ومعهما جوهرتهما إلى باريس.

وكان صاحبنا يقدر أنه سيفرغ الفراغ كله لرسالته إذا استقر في باريس، ليلقى أستاذه من أول العام الجامعي مستعدا للتحدث إليه بما قرأ وما فهم وما يريد أن يفعل، وليتلقى منه ما يمنحه من التوجيه والإرشاد.

ولكنه لا يكاد يبلغ باريس حتى يصرف عن الرسالة صرفا عنيفا، ويشغل عنها شغلا متصلا أكثر من شهرين؛ فهذا رفيق مصري من رفاقه في الدرس، وصديق من أصدقائه قبل البعثة وبعدها، قد ألم به مرض عصبي خطير، وليس له في باريس من يرعاه أو يهتم لشأنه. وقد انتقلت إدارة البعثة الجامعية من باريس إلى لندن فلم يكن بد للفتى من أن يعنى بصديقه وزميله في الدرس، ويقوم منه مقام مدير البعثة. وهو يعرضه على الطبيب بعد الطبيب، ويكتب في شأنه إلى مدير البعثة مرة وإلى الجامعة في القاهرة مرة أخرى. وينفذ أمر الأطباء، فينقل صديقه من باريس إلى حيث يستطيع أن يعيش خارج المدينة في الهواء الطلق والحياة الهادئة التي لا عجيج فيها ولا ضجيج. وهو مضطر إلى أن يزوره بين حين وحين، وقد يدعوه فجأة صاحب الفندق الذي يقيم فيه المريض فيسرع إليه، ويسمع من أنباء صديقه ما يملأ قلبه لوعة وحزنا، ويثير أمامه من المشكلات ما لا يعرف إلى النفوذ منه طريقا. وهو في أثناء هذا كله يتلقى الرسائل المتناقضة من الجامعة ومن مدير البعثات، ويتلقى المال القليل لينفق منه على المريض الذي كان يسرف في الإنفاق، ولم تكن حاجاته تنقضي، ويتلقى في الوقت نفسه من الجامعة مطالبته بتأدية الحساب الدقيق عما أنفق، ولا تنجلي عنه هذه الغمرة حتى يتلقى أمر الجامعة بإعادة الصديق المريض إلى القاهرة.

وفي أثناء هذا كله تضع الحرب أوزارها، وتعلن الهدنة، ويبتهج الفرنسيون ونزلاء فرنسا بمقدم السلم، ولا يكاد صاحبنا يمضي فيما عاد إليه من الدرس بعد تلك المحنة في صديقه الكريم عليه، الأثير عنده، حتى تأتي الأنباء من مصر فتصرفه مرة أخرى عن رسالته وإعدادها صرفا عنيفا، ولكنه لم يكن حزينا ولا مروعا، وإنما كان سعيدا يملأ القلب غبطة والضمير رضا والنفس ثقة وإعجابا، فقد جاءت الأنباء بأن مصر تطلب استقلالها إلى المحتلين المنتصرين.

ثم جاءت الأنباء بأن مصر تلقى من المحتلين عنتا أي عنت وجحودا أي جحود، وبأن بعض المصريين قد أخرجوا عنوة من وطنهم، واتخذوا رهائن في مالطة، وبأن مصر قد غضبت لأبنائها وثارت بأعدائها.

فتقع هذه الأنباء كلها من قلب الفتى ومن قلوب زملائه الطلاب المصريين موقع الماء من ذي الغلة الصادي. ليس الأوروبيون وحدهم إذن هم الذين يثورون غضبا للكرامة الوطنية وطموحا إلى استقلال الوطن، بل إن مصر الأفريقية تثور هي أيضا كما ثار الإنجليز والفرنسيون والأمريكيون وأمم غربية أخرى.

ما أوسع الآمال التي ملأت قلوب أولئك الطلاب الغرباء! وما أعظم الكبرياء التي ملأت نفوسهم! وما أكثر ما أضاعوا من الوقت في أحاديث لا تنقضي عن هذا كله! وما أكثر ما أعرضوا عن الدروس ليفرغوا لحديث الثورة والثائرين!

وكان صاحبنا مؤثرا للعزلة لا يلقى رفاقه المصريين إلا قليلا، فقد كثر لقاؤه لهم وخوضه معهم في أحاديث الثورة والثائرين منذ جعلت الصحف الفرنسية تنشر أنباء مصر وما يجري فيها من الأحداث.

ولكنه على هذا كله لم يهمل الرسالة ولم يعرض عن درس أستاذه المشرف عليها، وإنما مضى في عمله حفيا به حريصا على الجلد فيه، كأن أنباء مصر قد زادته إقداما على إقدام وجدا على جد، وهي على كل حال قد شوقته أشد التشويق إلى أن يتم درسه ويعود إلى مصر ليشهد الأحداث عن كثب؛ ومن يدري لعله يستطيع أن يشارك في بعضها مما يتاح له أن يشارك فيه.

ولم ينس صاحبنا قط كيف كان يتلقى قارئته مع الصبح، فيغرق معها في قراءة الفقه المدني والفقه الجنائي والمدني الروماني في كتابي المؤرخ الألماني العظيم ممش. ولم يكن الفتى يصدق - بعد أن مضت على ذلك السنون - أنه قرأ هذه المجلدات الأحد عشر في وقت قصير على ما في قراءتها من العسر وكثرة ما في هذه المجلدات من التعليقات ومن النصوص اللاتينية.

Page inconnue