قال الفتى: وما تريد أن أصنع؟
قال الدرعمي: فإني كرهت أن أستقبل الموت في قميص، فحلقت ذقني، واتخذت زينتي لأغرق كريما لا يضحك الناس مني.
ثم اندفع في ضحك يائس وأخذ يتغنى في شعر البردة كما يتغنى فيه بعض أصحاب الطرق:
أمن تذكر جيران بذي سلم
مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
وإنه لفي هذا العبث، وإذا اضطراب الناس يهدأ، فقد عرفوا أن في السفينة من المهندسين والعمال من يستطيعون إصلاح ما أصاب محركها من عطب، وأنها ستستأنف سيرها بعد ساعات، وما أسرع ما استحال الروع إلى ضحك ولعب وابتهاج!
وتستأنف السفينة سيرها وقد سكنت، فهي لا تعصف، وسكن الموج فهو لا يقصف، ومضت السفينة في طريقها هادئة مستأنية، كأن رشدها قد ثاب إليها، وكأنها هي قد ثابت إليه. وتبلغ مارسيليا مساء ذلك اليوم، فيهبط صاحبنا من السلم لا يتعثر في جبته وقفطانه، ولكن نفسه هي التي كانت تتعثر في هذه الحياة الجديدة التي يستقبلها، ولا يعرف كيف يلقاها، ولا كيف يحمل أعباءها، ولا كيف ينفذ من مشكلاتها.
ويبلغ الرفاق مدينة مونبلييه التي أمرتهم الجامعة أن يطلبوا العلم فيها عامهم ذاك، ولا يذهبوا إلى باريس حتى يؤذن لهم في الذهاب إليها، وهم يبلغون تلك المدينة مع الليل، وهم يجهلون من أمرها كل شيء، ولكن رفيقهم ذاك الذي نيف على الأربعين وحلب الدهر أشطره كما كان يقول، وجعل نفسه رئيسا لهم بحكم السن، يقودهم إلى فندق حقير فقير كسفينتهم تلك التي عبرت بهم البحر، فإذا استقروا في هذا الفندق وعبث بهم البرد أقبل الدرعمي متضاحكا وهو يقول للفتى:
أوتل مثل وجه الكلب لكن
لخاطر سلطن اصبر شويه
Page inconnue