ثم تمضي الأيام في إثر الأيام ، وإذا هو قد نسي ما كتب، وشغل عنه بأشياء أخرى، ولكن الناس لم ينسوه وإنما حفظوه له، وقيدوه عليه، وأخذوه به حين سنحت الفرصة. وطول اللسان هو الذي قطع الصلة قطعا حاسما بين صاحبنا وبين الأزهر، ودفعه دفعا إلى حياته التي أتيحت له، وعرضه لسخط أي سخط، وحزن أي حزن، وعناء أي عناء. والغريب أنه قد تلقى السخط والحزن والعناء باسما موفور الرضا، طيب النفس، فلم تتعلق نفسه قط بالجلوس إلى عمود من أعمدة الأزهر، ولا بإلقاء الدرس في حلقة من حلقاته.
لم يأس إذن على انقطاع الصلة بينه وبين الأزهر، وإنما ملأ قلبه الحزن والأسى حين عرف سخط أبيه الشيخ، وحزن أمه التي كان يختصها بالحب والبر والحنان.
كان ذلك حين أنشأ الشيخ رشيد رضا رحمه الله شيئا سماه مدرسة الدعوة والإرشاد، وأعلن أن هذه المدرسة ستعد طلابها من الأزهريين لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام، ولإرشاد المسلمين أنفسهم إلى دينهم الصحيح المبرأ من أوهام القرون وأباطيلها. وقد ضاق المجددون من أبناء الأزهر بهذه المدرسة أشد الضيق، وسخطوا عليها أعظم السخط. رأوا فيما أحاط بإنشائها من الظروف انحرافا عن الوفاء للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده من رجل كان يرى نفسه أقرب تلاميذ الشيخ إليه، وأخصهم به وأوفاهم له، فقد عطف الخديو على هذه المدرسة وأعانها وأغرى شيوخ الأزهر بتأييدها. ورأى تلاميذ الأستاذ الإمام أن في عطف الخديو على هذه المدرسة وإعانته لها ما أثار في نفوسهم الريب فنفروا الناس منها، وأطلقوا ألسنتهم فيها، وعابوا على الشيخ رشيد أنه ثاب إلى من أخرج الأستاذ الإمام من الأزهر وعرضه لكثير من الشر والأذى وأغرى به الشيوخ، حتى أذاعوا عن الشيخ ما أذاعوا من السوء، ونالوه بما نالوه من المكروه.
وفي ذات يوم أقام الشيخ رشيد وأصحابه حفلا بهذه المدرسة، واجتمعوا حول مائدة العشاء في فندق من فنادق القاهرة يقال له: فندق «سافوي»، ونشرت بعض الصحف أنباء زعمت فيها أن أكواب الشمبانيا أديرت حول هذه المائدة، وكان جماعة من شيوخ الأزهر يتقدمهم شيخهم الأكبر قد شهدوا هذا العشاء، ورأوا ما أدير فيه من الأكواب فلم ينكروا بالعمل ولا بالقول.
هنالك ثارت ثائرة المخلصين للأزهر، فلهجوا بالشيوخ وقالوا فيهم فأكثروا القول. ودافع المدافعون عن الشيوخ بأن زجاجات فتحت في ذلك العشاء وكان لفتحها فرقعة، ولكنها لم تكن زجاجات الشمبانيا، وإنما كانت زجاجات الكازوزة! ولكن خصوم الشيوخ من أبناء الأزهر لم يقبلوا هذا الدفاع، ولم يصدقوه، وإنما مضوا يلهجون ويقولون في الشيوخ فيكثرون القول، وكان صاحبنا الفتى أطولهم لسانا، وأجرأهم قلما، وأجرحهم لفظا. عاب الشيوخ شعرا ونثرا، ونشر عبد العزيز جاويش له ذلك في صحيفة «العلم» فرضي المجددون وأغرقوا في الرضا، وسخط المحافظون وأسرفوا في السخط، وتناقل أولئك وهؤلاء هذه الأبيات الثلاثة من شعر الفتى الذي لم ينسبه إلى نفسه، وإنما زعم أنه تلقاه في البريد:
رعى الله المشايخ إذ توافوا
إلى سافواي في يوم الخميس
وإذ شهدوا كؤوس الخمر صرفا
تدور به السقاة على الجلوس
رئيس المسلمين عداك ذم
Page inconnue