الجزء الأول
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الجزء الثاني
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الجزء الثالث
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الجزء الأول
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الجزء الثاني
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الجزء الثالث
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الأيام
الأيام
تأليف
طه حسين
الجزء الأول
الفصل الأول
لا يذكر لهذا اليوم اسما، ولا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله من الشهر والسنة، بل لا يستطيع أن يذكر من هذا اليوم وقتا بعينه، وإنما يقرب ذلك تقريبا.
وأكبر ظنه أن هذا الوقت كان يقع من ذلك اليوم في فجره أو في عشائه، ويرجح ذلك لأنه يذكر أن وجهه تلقى في ذلك الوقت هواء فيه شيء من البرد الخفيف الذي لم تذهب به حرارة الشمس، ويرجح ذلك لأنه على جهله حقيقة النور والظلمة، يكاد يذكر أنه تلقى حين خرج من البيت نورا هادئا خفيفا لطيفا كأن الظلمة تغشى
1
بعض حواشيه، ثم يرجح ذلك لأنه يكاد يذكر أنه حين تلقى هذا الهواء وهذا الضياء لم يؤنس
2
من حوله حركة يقظة قوية، وإنما آنس حركة مستيقظة من نوم أو مقبلة عليه، وإذا كان قد بقى له من هذا الوقت ذكرى واضحة بينة لا سبيل إلى الشك فيها، فإنما هي ذكرى هذا السياج
3
الذي كان يقوم أمامه من القصب،
4
والذي لم يكن بينه وبين باب الدار إلا خطوات قصار. هو يذكر هذا السياج كأنه رآه أمس، يذكر أن قصب هذا السياج كان أطول من قامته، فكان من العسير عليه أن يتخطاه إلى ما وراءه، ويذكر أن قصب هذا السياج كان مقتربا كأنما كان متلاصقا، فلم يكن يستطيع أن ينسل
5
في ثناياه، ويذكر أن قصب هذا السياج كان يمتد من شماله إلى حيث لا يعلم له نهاية، وكان يمتد عن يمينه إلى آخر الدنيا من هذه الناحية، وكان آخر الدنيا من هذه الناحية قريبا؛ فقد كانت تنتهي إلى قناة عرفها حين تقدمت به السن، وكان لها في حياته - أو قل في خياله - تأثير عظيم.
يذكر هذا كله، ويذكر أنه كان يحسد الأرانب التي كانت تخرج من الدار كما يخرج منها، وتتخطى السياج وثبا من فوقه، أو انسيابا
6
بين قصبه، إلى حيث تقرض
7
ما كان وراءه من نبت أخضر ، يذكر منه الكرنب خاصة.
ثم يذكر أنه كان يحب الخروج من الدار إذا غربت الشمس وتعشى الناس، فيعتمد على قصب هذا السياج مفكرا مغرقا في التفكير، حتى يرده إلى ما حوله صوت الشاعر قد جلس على مسافة من شماله، والتف حوله الناس وأخذ ينشدهم في نغمة عذبة غريبة أخبار أبي زيد وخليفة دياب، وهم سكوت إلا حين يستخفهم
8
الطرب أو تستفزهم الشهوة، فيستعيدون ويتمارون
9
ويختصمون، ويسكت الشاعر حتى يفرغوا من لغطهم
10
بعد وقت قصير أو طويل، ثم يستأنف إنشاده العذب بنغمته التي لا تكاد تتغير.
ثم يذكر أنه لا يخرج ليلة إلى موقفه من السياج إلا وفي نفسه حسرة لاذعة؛
11
لأنه كان يقدر أن سيقطع عليه استماعه لنشيد الشاعر حين تدعوه أخته إلى الدخول فيأبى، فتخرج فتشده من ثوبه فيمتنع عليها، فتحمله بين ذراعيها كأنه الثمامة،
12
وتعدو
13
به إلى حيث تنيمه على الأرض وتضع رأسه على فخذ أمه، ثم تعمد
14
هذه إلى عينيه المظلمتين فتفتحهما واحدة بعد الأخرى، وتقطر فيهما سائلا يؤذيه ولا يجدي عليه خيرا،
15
وهو يألم ولكنه لا يشكو ولا يبكي؛ لأنه كان يكره أن يكون كأخته الصغيرة بكاء شكاء.
16
ثم ينقل إلى زاوية في حجرة صغيرة فتنيمه أخته على حصيرة قد بسط عليها لحاف، وتلقي عليه لحافا آخر، وتذره وإن في نفسه لحسرات، وإنه ليمد سمعه مدا يكاد يخترق به الحائط لعله يستطيع أن يصله بهذه النغمات الحلوة التي يرددها الشاعر في الهواء الطلق تحت السماء. ثم يأخذه النوم، فما يحس إلا وقد استيقظ والناس نيام، ومن حوله إخوته وأخواته يغطون
17
فيسرفون في الغطيط، فيلقي اللحاف عن وجهه في خفية وتردد؛ لأنه كان يكره أن ينام مكشوف الوجه، وكان واثقا أنه إن كشف وجهه أثناء الليل أو أخرج أحد أطرافه من اللحاف، فلا بد من أن يعبث به عفريت من العفاريت الكثيرة التي كانت تعمر أقطار البيت
18
وتملأ أرجاءه ونواحيه، والتي كانت تهبط تحت الأرض ما أضاءت الشمس واضطرب الناس. فإذا أوت الشمس إلى كهفها، والناس إلى مضاجعهم، وأطفئت السرج، وهدأت الأصوات، صعدت هذه العفاريت من تحت الأرض وملأت الفضاء حركة واضطرابا وتهامسا وصياحا.
وكان كثيرا ما يستيقظ فيسمع تجاوب الديكة وتصايح الدجاج، ويجتهد في أن يميز بين هذه الأصوات المختلفة، فأما بعضها فكانت أصوات ديكة حقا، وأما بعضها الآخر فكانت أصوات عفاريت تتشكل بأشكال الديكة وتقلدها عبثا وكيدا، ولم يكن يحفل بهذه الأصوات ولا يهابها؛ لأنها كانت تصل إليه من بعيد، إنما كان يخاف الخوف كله أصواتا أخرى لم يكن يتبينها إلا بمشقة وجهد، كانت تنبعث من زوايا الحجرة نحيفة ضئيلة، يمثل بعضها أزيز المرجل
19
يغلي على النار، ويمثل بعضها الآخر حركة متاع خفيف ينقل من مكان إلى مكان، ويمثل بعضها خشبا ينقصم أو عودا ينحطم.
20
وكان يخاف أشد الخوف أشخاصا يتمثلها قد وقفت على باب الحجرة فسدته سدا وأخذت تأتي بحركات مختلفة أشبه شيء بحركات المتصوفة في حلقات الذكر. وكان يعتقد أن ليس له حصن من كل هذه الأشباح المخوفة والأصوات المنكرة؛ إلا أن يلتف في لحافه من الرأس إلى القدم، دون أن يدع بينه وبين الهواء منفذا أو ثغرة، وكان واثقا أنه إن ترك ثغرة في لحافه فلا بد من أن تمتد منها يد عفريت إلى جسمه فتناله بالغمز والعبث.
لذلك كان يقضي ليله خائفا مضطربا إلا حين يغلبه النوم، وما كان يغلبه النوم إلا قليلا. كان يستيقظ مبكرا، أو قل: كان يستيقظ في السحر، ويقضي شطرا طويلا من الليل في هذه الأهوال والأوجال
21
والخوف من العفاريت؛ حتى إذا وصلت إلى سمعه أصوات النساء يعدن إلى بيوتهن وقد ملأن جرارهن من القناة وهن يتغنين: «الله يا ليل الله ...» عرف أن قد بزغ الفجر، وأن قد هبطت العفاريت إلى مستقرها من الأرض السفلى، فاستحال هو عفريتا، وأخذ يتحدث إلى نفسه بصوت عال، ويتغنى بما حفظ من نشيد الشاعر، ويغمز من حوله من إخوته وأخواته، حتى يوقظهم واحدا واحدا. فإذا تم له ذلك، فهناك الصياح والغناء، وهناك الضجيج والعجيج،
22
وهناك الضوضاء التي لم يكن يضع لها حدا إلا نهوض الشيخ من سريره، ودعاؤه بالإبريق ليتوضأ.
حينئذ تخفت
23
الأصوات وتهدأ الحركة، حتى يتوضأ الشيخ ويصلي ويقرأ ورده ويشرب قهوته ويمضي إلى عمله، فإذا أغلق الباب من دونه نهضت الجماعة كلها من الفراش، وانسابت
24
في البيت صائحة لاعبة، حتى تختلط بما في البيت من طير وماشية.
الفصل الثاني
كان مطمئنا إلى أن الدنيا تنتهي عن يمينه بهذه القناة التي لم يكن بينه وبينها إلا خطوات معدودة ... ولم لا وهو لم يكن يرى عرض هذه القناة، ولم يكن يقدر أن هذا العرض ضئيل بحيث يستطيع الشاب النشيط أن يثب من إحدى الحافتين فيبلغ الأخرى؟! ولم يكن يقدر أن حياة الناس والحيوان والنبات تتصل من وراء هذه القناة على نحو ما هي من دونها، ولم يكن يقدر أن الرجل يستطيع أن يعبر هذه القناة ممتلئة دون أن يبلغ الماء إبطيه، ولم يكن يقدر أن الماء ينقطع من حين إلى حين عن هذه القناة، فإذا هي حفرة مستطيلة يعبث فيها الصبيان، ويبحثون في أرضها الرخوة عما تخلف من صغار السمك فمات لانقطاع الماء عنه.
لم يكن يقدر هذا كله، وإنما كان يعلم يقينا لا يخالطه الظن، أن هذه القناة عالم آخر مستقل عن العالم الذي كان يعيش فيه، تعمره كائنات غريبة مختلفة لا تكاد تحصى؛ منها: التماسيح التي تزدرد
1
الناس ازدرادا، ومنها المسحورون الذين يعيشون تحت الماء بياض النهار وسواد الليل، حتى إذا أشرقت الشمس أو غربت طفوا يتنسمون الهواء،
2
وهم حين يطفون خطر على الأطفال وفتنة للرجال والنساء. ومنها: هذه الأسماك الطوال العراض التي لا تكاد تظفر بطفل حتى تزدرده ازدرادا، والتي قد يتاح
3
لبعض الأطفال أن يظفروا في بطونها بخاتم الملك؛ ذلك الخاتم الذي لا يكاد الإنسان يديره في إصبعه حتى يسعى إليه دون لمح البصر خادمان من الجن يقضيان له ما يشاء، ذلك الخاتم الذي كان يتختمه سليمان فيسخر له الجن والريح وما شاء من قوى الطبيعة. وما كان أحب إليه أن يهبط في هذه القناة لعل سمكة من هذه الأسماك تزدرده فيظفر في بطنها بهذا الخاتم؛ فقد كانت حاجته إليه شديدة ... ألم يكن يطمع على أقل تقدير في أن يحمله أحد هذين الخادمين إلى ما وراء هذه القناة ليرى بعض ما هناك من الأعاجيب! ولكنه كان يخشى كثيرا من الأهوال قبل أن يصل إلى هذه السمكة المباركة.
على أنه لم يكن يستطيع أن يبلو
4
من شاطئ هذه القناة مسافة بعيدة؛ فقد كان هذا الشاطئ محفوفا عن يمينه وعن شماله بالخطر، فأما عن يمينه فقد كان هناك العدويون، وهم قوم من الصعيد يقيمون في دار لهم كبيرة يقوم على بابها دائما كلبان عظيمان لا ينقطع نباحهما، ولا تنقطع أحاديث الناس عنهما، ولا ينجو المار منهما إلا بعد عناء ومشقة، وأما عن شماله فقد كانت هناك خيام يقيم فيها «سعيد الأعرابي» الذي كان الناس يتحدثون بشره ومكره وحرصه على سفك الدماء، وامرأته «كوابس» التي كانت قد اتخذت في أنفها حلقة من الذهب كبيرة، والتي كانت تختلف
5
إلى الدار وتقبل صاحبنا من حين إلى حين، فيؤذيه خزامها ويروعه.
6
وكان أخوف الأشياء إليه أن يتقدم عن يمينه فيتعرض لكلبي العدويين، أو يتقدم عن شماله فيتعرض لشر «سعيد» وامرأته «كوابس».
على أنه كان يجد في هذه الدنيا الضيقة القصيرة المحدودة من كل ناحية ضروبا من اللهو والعبث تملأ نهاره كله.
ولكن ذاكرة الأطفال غريبة، أو قل: إن ذاكرة الإنسان غريبة حين تحاول استعراض حوادث الطفولة؛ فهي تتمثل بعض هذه الحوادث واضحا جليا كأن لم يمض بينها وبينه من الوقت شيء، ثم يمحي منها بعضها الآخر كأن لم يكن بينها وبينه عهد.
يذكر صاحبنا السياج، والمزرعة التي كانت تنبسط من ورائه، والقناة التي كانت تنتهي إليها الدنيا، و«سعيدا» و«كوابس» وكلاب العدويين، ولكنه يحاول أن يتذكر مصير هذا كله فلا يظفر من ذلك بشيء، وكأنه قد نام ذات ليلة ثم أفاق من نومه فلم ير سياجا ولا مزرعة ولا سعيدا ولا كوابس، وإنما رأى مكان السياج والمزرعة بيوتا قائمة وشوارع منظمة، تنحدر كلها من جسر القناة ممتدة امتدادا قصيرا من الشمال إلى الجنوب، وهو يذكر كثيرا من الذين كانوا يسكنون هذه البيوت رجالا ونساء، ومن الأطفال الذين كانوا يعبثون في هذه الشوارع.
وهو يذكر أنه كان يستطيع أن يتقدم يمينا وشمالا على شاطئ القناة دون أن يخشى كلاب العدويين أو مكر سعيد وامرأته. وهو يذكر أنه كان يقضي ساعات من نهاره على شاطئ القناة سعيدا مبتهجا بما سمع من نغمات «حسن» الشاعر يتغنى بشعره في أبي زيد وخليفة ودياب، حين يرفع الماء بشادوفه ليسقي به زرعه على الشاطئ الآخر للقناة. وهو يذكر أنه استطاع غير مرة أن يعبر هذه القناة على كتف أحد إخوته دون أن يحتاج إلى خاتم الملك، وأنه ذهب غير مرة إلى حيث كانت تقوم وراء القناة شجرات من التوت فأكل من توتها ثمرات لذيذة. وهو يذكر أنه تقدم غير مرة عن يمينه على شاطئ القناة حتى وصل إلى حديقة المعلم وأكل فيها غير مرة تفاحا، وقطف له فيها غير مرة نعناع وريحان، ولكنه عاجز كل العجز أن يتذكر كيف استحالت الحال وتغير وجه الأرض من طوره الأول إلى هذا الطور الجديد.
الفصل الثالث
كان سابع ثلاثة عشر من أبناء أبيه، وخامس أحد عشر من أشقته، وكان يشعر بأن له بين هذا العدد الضخم من الشباب والأطفال مكانا خاصا يمتاز من مكان إخوته وأخواته. أكان هذا المكان يرضيه؟ أكان يؤذيه؟ الحق أنه لا يتبين ذلك إلا في غموض وإبهام، والحق أنه لا يستطيع الآن أن يحكم في ذلك حكما صادقا. كان يحس من أمه رحمة ورأفة، وكان يجد من أبيه لينا ورفقا، وكان يشعر من أخوته بشيء من الاحتياط في تحدثهم إليه ومعاملتهم له. ولكنه كان يجد إلى جانب هذه الرحمة والرأفة من جانب أمه شيئا من الإهمال أحيانا، ومن الغلظة أحيانا أخرى. وكان يجد إلى جانب هذا اللين والرفق من أبيه شيئا من الإهمال أيضا، والازورار
1
من وقت إلى وقت، وكان احتياط إخوته وأخواته يؤذيه؛ لأنه كان يجد فيه شيئا من الإشفاق مشوبا بشيء من الازدراء.
على أنه لم يلبث أن تبين سبب هذا كله، فقد أحس أن لغيره من الناس عليه فضلا، وأن إخوته وأخواته يستطيعون ما لا يستطيع، وينهضون من الأمر لما لا ينهض له، وأحس أن أمه تأذن لإخوته وأخواته في أشياء تحظرها عليه،
2
وكان ذلك يحفظه، ولكن لم تلبث هذه الحفيظة أن استحالت إلى حزن صامت عميق؛ ذلك أنه سمع إخوته يصفون ما لا علم له به، فعلم أنهم يرون ما لا يرى.
الفصل الرابع
كان من أول أمره طلعة
1
لا يحفل بما يلقى من الأمر في سبيل أن يستكشف ما لا يعلم، وكان ذلك يكلفه كثيرا من الألم والعناء. ولكن حادثة واحدة حدت ميله إلى الاستطلاع، وملأت قلبه حياء لم يفارقه إلى الآن، كان جالسا إلى العشاء بين إخوته وأبيه، وكانت أمه كعادتها تشرف على حفلة الطعام، ترشد الخادم وترشد أخواته اللائي كن يشاركن الخادم في القيام بما يحتاج إليه الطاعمون، وكان يأكل كما يأكل الناس، ولكن لأمر ما خطر له خاطر غريب! ما الذي يقع لو أنه أخذ اللقمة بكلتا يديه بدل أن يأخذها كعادته بيد واحدة؟ وما الذي يمنعه من هذه التجربة؟ لا شيء. وإذن فقد أخذ اللقمة بكلتا يديه وغمسها من الطبق المشترك ثم رفعها إلى فمه؛ فأما إخوته فأغرقوا في الضحك.
2
وأما أمه فأجهشت
3
بالبكاء، وأما أبوه فقال في صوت هادئ حزين: ما هكذا تؤخذ اللقمة يا بني ... وأما هو فلم يعرف كيف قضى ليلته.
من ذاك الوقت تقيدت حركاته بشيء من الرزانة والإشفاق والحياء لا حد له، ومن ذلك الوقت عرف لنفسه إرادة قوية، ومن ذلك الوقت حرم على نفسه ألوانا من الطعام لم تبح له إلا بعد أن جاوز الخامسة والعشرين؛ حرم على نفسه الحساء والأرز، وكل الألوان التي تؤكل بالملاعق؛ لأنه كان يعرف أنه لا يحسن اصطناع الملعقة، وكان يكره أن يضحك إخوته، أو تبكي أمه، أو يعلمه أبوه في هدوء حزين.
هذه الحادثة أعانته على أن يفهم حقا ما يتحدث به الرواة عن أبي العلاء من أنه أكل ذات يوم دبسا،
4
فسقط بعضه على صدره وهو لا يدري، فلما خرج إلى الدرس قال له بعض تلاميذه: يا سيدي أكلت دبسا، فأسرع بيده إلى صدره، وقال: نعم، قاتل الله الشره! ثم حرم الدبس على نفسه طوال الحياة.
وأعانته هذه الحادثة على أن يفهم طورا من أطوار أبي العلاء حق الفهم؛ ذلك أن أبا العلاء كان يتستر في أكله حتى على خادمه؛ فقد كان يأكل في نفق
5
تحت الأرض، وكان يأمر خادمه أن يعد له طعامه في هذا النفق ثم يخرج، ويخلو هو إلى طعامه فيأخذ منه ما يشتهي. وقد زعموا أن تلاميذه تذاكروا مرة بطيخ حلب وجودته، فتكلف أبو العلاء وأرسل إلى حلب من اشترى لهم منه شيئا فأكلوا، واحتفظ الخادم لسيده بشيء من البطيخ وضعه في النفق، وكأنه لم يضعه في المكان الذي تعود أن يضع فيه طعام الشيخ، وكره الشيخ أن يسأل عن حظه من البطيخ، فلبث البطيخ في مكانه حتى فسد ولم يذقه الشيخ.
فهم صاحبنا هذه الأطوار من حياة أبي العلاء حق الفهم؛ لأنه رأى نفسه فيها، فكم كان يتمنى طفلا لو استطاع أن يخلو إلى طعامه، ولكنه لم يكن يجرؤ على أن يعلن إلى أهله هذه الرغبة. على أنه خلا إلى بعض الطعام أحيانا كثيرة، ذلك في شهر رمضان وفي أيام المواسم الحافلة، حين كان أهله يتخذون ألوانا من الطعام حلوة، ولكنها تؤكل بالملاعق؛ فكان يأبى أن يصيب منها على المائدة، وكانت أمه تكره له هذا الحرمان، فكانت تفرد له طبقا خاصا وتخلي بينه وبينه في حجرة خاصة، يغلقها هو من دونه حتى لا يستطيع أحد أن يشرف عليه وهو يأكل.
على أنه عندما استطاع أن يملك أمر نفسه اتخذ هذه الخطة له نظاما، بدأ بذلك حين سافر إلى أوروبا لأول مرة، فتكلف التعب وأبى أن يذهب إلى مائدة السفينة، فكان يحمل إليه الطعام في غرفته. ثم وصل إلى فرنسا فكانت قاعدته إذا نزل في فندق أو في أسرة أن يحمل إليه الطعام في غرفته دون أن يتكلف الذهاب إلى المائدة العامة، ولم يترك هذه العادة إلا حين خطب قرينته، فأخرجته من عادات كثيرة كان قد ألفها.
هذه الحادثة أخذته بألوان من الشدة في حياته، جعلته مضرب المثل في الأسرة وبين الذين عرفوه حين تجاوز حياة الأسرة إلى الحياة الاجتماعية؛ كان قليل الأكل، لا لأنه كان قليل الميل إلى الطعام؛ بل لأنه كان يخشى أن يوصف بالشره أو أن يتغامز عليه إخوته، وقد آلمه ذلك أول الأمر، ولكنه لم يلبث أن تعوده حتى أصبح من العسير عليه أن يأكل كما يأكل الناس. كان يسرف في تصغير اللقمة، وكان له عم يغيظه منه كلما رآه فيغضب وينهره
6
ويلح عليه في تكبير اللقمة، فيضحك إخوته، وكان ذلك سببا في أن كره عمه كرها شديدا. كان يستحي أن يشرب على المائدة مخافة أن يضطرب القدح من يده، أو ألا يحسن تناوله حين يقدم إليه، فكان طعامه جافا ما جلس على المائدة، حتى إذا نهض عنها ليغسل يديه من حنفية كانت هناك، شرب من مائها ما شاء الله أن يشرب، ولم يكن هذا الماء نقيا دائما، ولم يكن هذا النوع من ري الظمأ ملائما للصحة، فانتهى به الأمر إلى أن أصبح ممعودا،
7
وما استطاع أحد أن يعرف لذلك سببا.
ثم حرم على نفسه من ألوان اللعب والعبث كل شيء، إلا ما لا يكلفه عناء ولا يعرضه للضحك أو الإشفاق، فكان أحب اللعب إليه أن يجمع طائفة من الحديد وينتحي
8
بها زاوية من البيت، فيجمعها ويفرقها ويقرع بعضها ببعض، ينفق في ذلك ساعات، حتى إذ سئمه وقف على إخوته أو أترابه وهم يلعبون، فشاركهم في اللعب بعقله لا بيده، وكذلك عرف أكثر ألوان اللعب دون أن يأخذ منها بحظ، وانصرافه هذا عن العبث حبب إليه لونا من ألوان اللهو؛ هو الاستماع إلى القصص والأحاديث؛ فكان أحب شيء إليه أن يسمع إنشاد الشاعر، أو حديث الرجال إلى أبيه، والنساء إلى أمه، ومن هنا تعلم حسن الاستماع. وكان أبوه وطائفة من أصحابه يحبون القصص حبا جما، فإذا صلوا العصر اجتمعوا إلى واحد منهم يتلو عليهم قصص الغزوات والفتوح، وأخبار عنترة والظاهر بيبرس، وأخبار الأنبياء والنساك والصالحين، وكتبا في الوعظ والسنن. وكان صاحبنا يقعد منهم مزجر
9
الكلب وهم عنه غافلون، ولكنه لم يكن غافلا عما يسمع، بل لم يكن غافلا عما يتركه هذا القصص في نفوس السامعين من الأثر. فإذا غربت الشمس تفرق القوم إلى طعامهم، حتى إذا صلوا العشاء اجتمعوا فتحدثوا طرفا من الليل، وأقبل الشاعر فأخذ ينشدهم أخبار الهلاليين والزناتيين، وصاحبنا جالس يسمع في أول الليل كما كان يسمع في آخر النهار.
والنساء في قرى مصر لا يحببن الصمت ولا يملن إليه؛ فإذا خلت إحداهن إلى نفسها ولم تجد من تتحدث إليه، تحدثت إلى نفسها ألوانا من الحديث، فغنت إن كانت فرحة، وعددت
10
إن كانت محزونة، وكل امرأة في مصر محزونة حين تريد. وأحب شيء إلى نساء القرى إذا خلون إلى أنفسهن أن يذكرن آلامهن وموتاهن فيعددن، وكثيرا ما ينتهي هذا التعديد إلى البكاء حقا. وكان صاحبنا أسعد الناس بالاستماع إلى أخواته وهن يتغنين، وأمه وهي تعدد، وكان غناء أخواته يغيظه ولا يترك في نفسه أثرا؛ لأنه كان يجده سخيفا لا يدل على شيء، في حين كان تعديد أمه يهزه هزا عنيفا، وكثيرا ما كان يبكيه. وعلى هذا النحو حفظ صاحبنا كثيرا من الأغانى، وكثيرا من التعديد، وكثيرا من جد القصص وهزله، وحفظ شيئا آخر لم تكن بينه وبين هذا كله صلة؛ وهي الأوراد التي كان يتلوها جده الشيخ الضرير إذا أصبح أو أمسى.
كان جده هذا ثقيل الظل بغيضا إليه، وكان يقضي في البيت فصل الشتاء من كل سنة، وكان قد صلح ونسك حين اضطرته الحياة إلى الصلاح والنسك، فكان يصلي الخمس لأوقاتها، ولم يكن لسانه يفتر عن ذكر الله، وكان يستيقظ آخر الليل ليقرأ «ورد السحر»، وكان ينام في ساعة متأخرة بعد أن يصلي العشاء ويقرأ ألوانا من الأوراد والأدعية. وكان صاحبنا ينام في حجرة مجاورة لحجرة هذا الشيخ، فكان يسمعه وهو يتلو، حتى حفظ من هذه الأوراد والأدعية شيئا كثيرا. وكان أهل القرية يحبون التصوف ويقيمون الأذكار، وكان صاحبنا يحب منهم ذلك؛ لأنه كان يلهو بهذا الذكر، وبما ينشده المنشدون أثناءه. ولم يبلغ التاسعة من عمره حتى كان قد وعى من الأغاني والتعديد والقصص وشعر الهلاليين والزناتيين والأوراد والأدعية وأناشيد الصوفية جملة صالحة، وحفظ إلى ذلك كله القرآن.
الفصل الخامس
ولكنه لا يعرف كيف حفظ القرآن، ولا يذكر كيف بدأه ولا كيف أعاده، وإن كان يذكر من حياته في الكتاب مواقف كثيرة، منها ما يضحكه الآن، ومنها ما يحزنه؛ يذكر أوقاتا كان يذهب فيها إلى الكتاب محمولا على كتف أحد أخويه؛ لأن الكتاب كان بعيدا، ولأنه كان أضعف من أن يقطع ماشيا تلك المسافة، ثم لا يذكر متى بدأ يسعى إلى الكتاب. ويرى نفسه في ضحى يوم جالسا على الأرض بين يدي «سيدنا» ومن حوله طائفة من النعال كان يعبث ببعضها، وهو يذكر ما كان قد ألصق بها من الرقع، وكان «سيدنا» جالسا على دكة
1
من الخشب صغيرة ليست بالعالية ولا بالمنخفضة؛ قد وضعت على يمين الداخل من باب الكتاب بحيث يمر كل داخل «بسيدنا»، وكان «سيدنا» قد تعود متى دخل الكتاب أن يخلع عباءته، أو بعبارة أدق «دفيته» ويلفها لفا يجعلها في شكل المخدة، ويضعها عن يمينه، ثم يخلع نعله ويتربع على دكته، ويشعل سيجارته، ويبدأ في نداء الأسماء، وكان «سيدنا» لا يعفي نعليه إلا إذا لم يجد من ذلك بدا، كان يرقعهما من اليمين ومن الشمال ومن فوق ومن تحت. وكان إذا أخلت به إحدى نعليه دعا أحد صبيان الكتاب وأخذ النعل بيده، وقال له: تذهب إلى «الحزين» وهو هنا قريب، فتقول له: «يقول لك سيدنا: إن هذه النعل في حاجة إلى لوزة من الناحية اليمنى.» انظر أترى؟ هنا حيث أضع أصبعي، فيقول لك «الحزين»: «نعم سأضع هذه اللوزة.» فتقول له: «يقول لك سيدنا: يجب أن تتخير الجلد متينا غليظا جديدا، وأن تحسن الرقع بحيث لا يظهر، أو بحيث لا يكاد يظهر.» فيقول لك: «نعم سأفعل هذا.» فتقول له: «ويقول لك سيدنا: إنه عميلك منذ زمن طويل، فاستوص بالأجر خيرا!» ومهما يقل لك فلا تقبل منه أكثر من قرش، ثم عد إلي مسافة ما أغمض عيني ثم أفتحها، وينطلق الصبي ويلهو عنه سيدنا، ثم يعود وقد أغمض سيدنا عينه وفتحها مرة ومرة ومرات.
على أن الرجل كان يستطيع أن يغمض عينه ويفتحها دون أن يرى أو يكاد يرى شيئا، فقد كان ضريرا إلا بصيصا ضئيلا جدا من النور في إحدى عينيه، يمثل له الأشباح دون أن يمكنه أن يتميزها، وكان الرجل سعيدا بهذا البصيص الضئيل ... وكان يخدع نفسه ويظن أنه من المبصرين ... ولكن ذلك لم يكن يمنعه من أن يعتمد في طريقه إلى الكتاب وإلى البيت على اثنين من تلاميذه، يبسط ذراعيه على كتفي كل واحد منهما، ويمشي الثلاثة في الطريق هكذا! قد أخذوها على المارة، حتى إنهم ليتنحون لهم عنها.
وكان منظر سيدنا عجبا في طريقه إلى الكتاب وإلى البيت صباحا ومساء، كان ضخما بادنا وكانت دفيته تزيد في ضخامته، وكان كما قدمنا يبسط ذراعيه على كتفي رفيقيه، وكانوا ثلاثتهم يمشون وإنهم ليضربون الأرض بأقدامهم ضربا. وكان سيدنا يتخير من تلاميذه لهذه المهمة أنجبهم وأحسنهم صوتا؛ ذلك أنه كان يحب الغناء، وكان يحب أن يعلم تلاميذه الغناء، وكان يتخير الطريق لهذا الدرس، فكان يغني ويأخذ رفيقيه بمصاحبته حينا، والاستماع له حينا آخر، أو يأخذ واحدا منهما بالغناء على أن يصاحبه هو والرفيق الآخر. وكان سيدنا لا يغني بصوته ولسانه وحدهما، وإنما يغني برأسه وبدنه أيضا؛ فكان رأسه يهبط ويصعد، وكان رأسه يلتفت يمينا وشمالا، وكان سيدنا يغني بيديه أيضا، فكان يوقع الأنغام على صدر رفيقه بأصابعه. وكان سيدنا يعجبه «الدور» أحيانا؛ ويرى أن المشي لا يلائمه فيقف حتى يتمه، وأبدع من هذا كله أن سيدنا كان يرى صوته جميلا، وما يظن صاحبنا أن الله خلق صوتا أقبح من صوته، وما قرأ صاحبنا قول الله عز وجل:
إن أنكر الأصوات لصوت الحمير
إلا ذكر سيدنا وهو يوقع أبياتا من «البردة» في طريقه إلى الجامع منطلقا لصلاة الظهر، أو في طريقه إلى البيت منصرفا من الكتاب.
يرى صاحبنا نفسه، كما قدمنا، جالسا على الأرض يعبث بالنعال من حوله، وسيدنا يقرئه سورة الرحمن، ولكنه لا يذكر أكان يقرؤها بادئا أم معيدا.
وكأنه يرى نفسه مرة أخرى جالسا لا على الأرض ولا بين النعال، بل عن يمين سيدنا على دكة أخرى طويلة، وسيدنا يقرئه:
أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ، وأكبر ظنه أنه كان قد أتم القرآن بدءا وأخذ يعيده. وليس غريبا أن ينسى صاحبنا كيف حفظ القرآن؛ فقد أتم حفظه ولما يتم التاسعة من عمره، وهو يذكر في وضوح وجلاء ذلك اليوم الذي ختم فيه القرآن، ذلك أن سيدنا كان يتحدث إليه قبل هذا اليوم بأيام عن ختم القرآن، وعن أن أباه سيبتهج به، وكان يضع لذلك شروطا ويطالب بحقوقه، ألم يكن قد علم قبل صاحبنا أربعة من إخوته ذهب واحد منهم إلى الأزهر، والآخرون إلى المدارس، وصاحبنا هو الخامس! فكم لسيدنا على الأسرة من حقوق! وحقوق سيدنا على الأسرة كانت تتمثل دائما طعاما وشرابا وثيابا ومالا، فأما الحقوق التي كان يقتضيها إذا ختم صاحبنا القرآن فعشوة دسمة قبل كل شيء، ثم جبة وقفطان، وزوج من الأحذية، وطربوش مغربي، وطاقية من هذا القماش الذي تتخذ منه العمائم، وجنيه أحمر، لا يرضى بشيء دون ذلك ... فإذا لم يؤد إليه هذا كله فهو لا يعرف الأسرة، ولا يقبل منها شيئا، ولا صلة بينه وبينها، وهو يقسم على ذلك بمحرجات الأيمان،
2
وكان هذا اليوم يوم أربعاء، وكان سيدنا قد أنبأ في الصباح بأن صاحبنا سيختم القرآن في هذا اليوم، وأقبلوا في العصر؛ يمشي سيدنا معتمدا على رفيقيه، ويمشي صاحبنا من ورائه يقوده يتيم من أيتام القرية، حتى إذا بلغوا البيت دفع سيدنا الباب دفعا، وصاح صيحته المعتادة: «يا ستار»، واتجه إلى المنظرة، فإذا فيها الشيخ قد انفتل
3
من صلاة العصر وهو يقرأ شيئا من الأدعية كعادته، فاستقبلهم مبتسما مطمئنا، وكان صوته هادئا، وكان صوت سيدنا عاليا، وكان صاحبنا لا يقول شيئا، وكان اليتيم مبتهجا. أجلس الشيخ سيدنا ورفيقيه، ووضع في يد اليتيم قطعة من فضة، ودعا الخادم وأمره أن يأخذ هذا اليتيم إلى حيث يصيب شيئا من الطعام، ومسح على رأس ابنه وقال: «فتح الله عليك! انصرف إلى أمك، وقل لها: إن سيدنا هنا.»
وكانت أمه قد سمعت صوت سيدنا، وكانت قد أعدت له ما لا بد منه في مثل هذا الوقت، وهو كوز ضخم طويل من السكر المذاب لا شيء عليه، أخرج إلى سيدنا هذا الكوز فعبه عبا، وشرب رفيقاه كوبين من السكر المذاب أيضا، ثم أخرجت القهوة فشربها سيدنا مع الشيخ، وكان سيدنا يلح على الشيخ في أن يمتحن الصبي فيما حفظ من القرآن، وكان الشيخ يجيب: «دعه يلعب إنه صغير.» ثم نهض سيدنا لينصرف، فقال له الشيخ: «نصلي المغرب معا إن شاء الله.» وكانت هذه هي الدعوة إلى العشاء، وما أحسب أن سيدنا نال شيئا آخر أجرا على ختم صاحبنا للقرآن؛ فقد كان يعرف الأسرة منذ عشرين سنة، وكان له فيها عادات غير مقطوعة، وكانت الكلفة بينه وبينها مرفوعة، وكان واثقا أن الحظ إن يخطئه معها هذه المرة فلن يخطئه مرة أخرى.
الفصل السادس
منذ هذا اليوم أصبح صبينا شيخا وإن لم يتجاوز التاسعة؛ لأنه حفظ القرآن، ومن حفظ القرآن فهو شيخ مهما تكن سنه، دعاه أبوه شيخا، ودعته أمه شيخا، وتعود سيدنا أن يدعوه شيخا أمام أبويه، أو حين يرضى عنه، أو حين يريد أن يترضاه لأمر من الأمور، فأما فيما عدا ذلك فقد كان يدعوه باسمه، وربما دعاه «بالواد»، وكان شيخنا الصبي قصيرا نحيفا شاحبا زري الهيئة
1
على نحو ما، ليس له من وقار الشيوخ ولا من حسن طلعتهم حظ قليل أو كثير، وكان أبواه يكتفيان من تمجيده وتكبيره بهذا اللفظ الذي أضافاه إلى اسمه كبرا منهما وعجبا لا تلطفا به ولا تحببا إليه. أما هو فقد أعجبه هذا اللفظ في أول الأمر، ولكنه كان ينتظر شيئا آخر من مظاهر المكافأة والتشجيع؛ كان ينتظر أن يكون شيخا حقا، فيتخذ العمة ويلبس الجبة والقفطان، وكان من العسير إقناعه بأنه أصغر من أن يحمل العمة، ومن أن يدخل في القفطان ... وكيف السبيل إلى إقناعه بذلك وهو شيخ قد حفظ القرآن! وكيف يكون الصغير شيخا! وكيف يكون من حفظ القرآن صغيرا! هو إذن مظلوم، وأي ظلم أشد من أن يحال بينه وبين حقه في العمة والجبة والقفطان!
وما هي إلا أيام حتى سئم لقب الشيخ، وكره أن يدعى به، وأحس أن الحياة مملوءة بالظلم والكذب، وأن الإنسان يظلمه حتى أبوه، وأن الأبوة والأمومة لا تعصم الأب والأم من الكذب والعبث والخداع.
ثم لم يلبث شعوره هذا أن استحال إلى ازدراء
2
للقب الشيخ، وإحساس بما كان يملأ نفس أبيه وأمه من الغرور والعجب، ثم لم يلبث أن نسي هذا كله فيما نسي من الأشياء.
على أنه في حقيقة الأمر لم يكن خليقا أن يدعي شيخا، وإنما كان خليقا رغم حفظه للقرآن أن يذهب إلى الكتاب كما كان يذهب، مهمل الهيئة، على رأسه طاقيته التي تنظف يوما في الأسبوع، وفي رجليه حذاء يجد مرة في السنة، ولا يدعه حتى لا يحتمل شيئا، فإذا تركه فليمش حافيا أسبوعا أو أسابيع حتى يأذن الله له بحذاء جديد. كان خليقا بهذا كله؛ لأن حفظه للقرآن لم يدم طويلا ... أكان وحده ملوما في ذلك؟ أم كان اللوم مشتركا بينه وبين سيدنا؟ الحق أن سيدنا أهمله حينا وعني بغيره من الذين لم يختموا القرآن؛ أهمله ليستريح، وأهمله لأنه لم يتقاض أجرا على ختمه للقرآن. واستراح صاحبنا إلى هذا الإهمال، وأخذ يذهب إلى الكتاب يقضي فيه طوال النهار في راحة مطلقة ولعب متصل، ينتظر أن تنتهي السنة ويأتي أخوه الأزهري من القاهرة، حتى إذا انتهت الإجازة وعاد إلى القاهرة ، استصحبه ليصبح شيخا حقا، وليجاور في الأزهر.
ومضى على هذا شهر وشهر وشهر، يذهب صاحبنا إلى الكتاب ويعود منه في غير عمل، وهو واثق بأنه قد حفظ القرآن، وسيدنا مطمئن إلى أنه حفظ القرآن، إلى أن كان اليوم المشئوم ... كان هذا اليوم مشئوما حقا؛ ذاق فيه صاحبنا لأول مرة مرارة الخزي والذلة والضعة وكره الحياة. عاد من الكتاب عصر ذلك اليوم مطمئنا راضيا، ولم يكد يدخل الدار حتى دعاه أبوه بلقب الشيخ، فأقبل عليه ومعه صديقان له، فتلقاه أبوه مبتهجا، وأجلسه في رفق، وسأله أسئلة عادية، ثم طلب إليه أن يقرأ «سورة الشعراء»، وما هي إلا أن وقع عليه هذا السؤال وقع الصاعقة، ففكر وقدر، وتحفز
3
واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، وسمى الله الرحمن الرحيم، ولكنه لم يذكر من سورة الشعراء إلا أنها إحدى سور ثلاث، أولها «طسم»، فأخذ يردد:
طسم
مرة ومرة ومرة، دون أن يستطيع الانتقال إلى ما بعدها، وفتح عليه أبوه بما يلي هذه الكلمة من سورة الشعراء، فلم يستطع أن يتقدم خطوة. قال أبوه: فاقرأ سورة النمل، فذكر أن أول سورة النمل كأول سورة الشعراء «طس» وأخذ يردد هذا اللفظ، وفتح عليه أبوه، فلم يستطع أن يتقدم خطوة أخرى. قال أبوه: فاقرأ سورة القصص، فذكر أنها الثالثة، وأخذ يردد:
طسم ، ولم يفتح عليه أبوه هذه المرة، ولكنه قال له في هدوء: قم؛ فقد كنت أحسب أنك حفظت القرآن، فقام خجلا يتصبب عرقا، وأخذ الرجلان يعتذران عنه بالخجل وصغر السن، ولكنه مضى لا يدري أيلوم نفسه لأنه نسي القرآن، أم يلوم سيدنا لأنه أهمله، أم يلوم أباه لأنه امتحنه!
ومهما يكن من شيء، فقد أمسى هذا اليوم شر مساء، ولم يظهر على مائدة العشاء، ولم يسأل عنه أبوه، ودعته أمه في إعراض إلى أن يتعشى معها فأبى، فانصرفت عنه ونام.
ولكن هذا المساء المنكر كان في جملته خيرا من الغد؛ ذهب إلى الكتاب، فإذا سيدنا يدعوه في جفوة: ماذا حصل بالأمس؟ وكيف عجزت عن أن تقرأ سورة الشعراء؟ وهل نسيتها حقا؟ اتلها علي! فأخذ صاحبنا يردد:
طسم ، وكانت له مع سيدنا قصة كقصته مع أبيه، قال سيدنا: عوضني الله خيرا فيما أنفقت معك من وقت، وما بذلت في تعليمك من جهد، فقد نسيت القرآن ويجب أن تعيده، ولكن الذنب ليس عليك ولا علي، وإنما هو على أبيك؛ فلو أنه أعطاني أجري يوم ختمت القرآن لبارك الله له في حفظك، ولكنه منعني حقي فمحا الله القرآن من صدرك.
ثم بدأ يقرئه القرآن من أوله، شأنه مع من لم يكن شيخا ولا حافظا.
الفصل السابع
وليس من شك في أنه حفظ القرآن بعد ذلك حفظا جيدا في مدة قصيرة جدا، فهو يذكر أنه عاد من الكتاب ذات يوم مع سيدنا، وكان سيدنا في هذا اليوم حريصا على أن يعود معه، حتى إذا وصلوا إلى الدار عطف عليها سيدنا فدفع الباب فاندفع له، وصاح صيحته المألوفة: «يا ستار!» وكان الشيخ كعادته في المنظرة قد فرغ من صلاة العصر. فلما استقر سيدنا في مجلسه، قال للشيخ: «زعمت أن ابنك قد نسي القرآن، ولمتني في ذلك لوما شديدا، وأقسمت لك إنه لم ينس وإنما خجل، فكذبتني وعبثت بلحيتي هذه، وقد جئت اليوم لتمتحن ابنك أمامي، وأنا أقسم: لئن ظهر أنه لا يحفظ القرآن لأحلقن لحيتي هذه، ولأصبحن معرة الفقهاء في هذا البلد.» قال الشيخ: «هون عليك! وما لك لا تقول: إنه نسي القرآن ثم أقرأته إياه مرة أخرى!» قال: «أقسم بالله ثلاثا ما نسيه ولا أقرأته، وإنما استمعت له القرآن، فتلاه علي كالماء الجاري، لم يقف ولم يتردد.»
وكان صاحبنا يسمع هذا الحوار،
1
وكان مقتنعا أن أباه محق وأن سيدنا كاذب، ولكنه لم يقل شيئا، ولبث منتظرا الامتحان.
وكان الامتحان عسيرا شاقا، ولكن صاحبنا كان في هذا اليوم نجيبا بارعا، لم يسأل عن شيء إلا أجاب في غير تردد وقرأ في إسراع، حتى كان الشيخ يقول له: «على مهلك فإن الكر في القرآن خطيئة.» حتى إذا أتم الامتحان قال له أبوه: «فتح الله عليك! اذهب إلى أمك فقل لها: إنك حفظت القرآن حقا.» ذهب إلى أمه ولكنه لم يقل لها شيئا ولم تسأله هي عن شيء، وخرج سيدنا في ذلك اليوم، ومعه جبة من الجوخ خلعها عليه الشيخ.
الفصل الثامن
وأقبل سيدنا إلى الكتاب من الغد مسرورا مبتهجا، فدعا الشيخ الصبي بلقب الشيخ هذه المرة قائلا: أما اليوم، فأنت تستحق أن تدعى شيخا؛ فقد رفعت رأسي وبيضت وجهي وشرفت لحيتي أمس، واضطر أبوك إلى أن يعطيني الجبة، ولقد كنت تتلو القرآن أمس كسلاسل الذهب، وكنت على النار مخافة أن تزل
1
أو تنحرف، وكنت أحصنك بالحي القيوم الذي لا ينام؛ حتى انتهى هذا الامتحان، وأنا أعفيك اليوم من القراءة، ولكن أريد أن آخذ عليك عهدا، فعدني بأن تكون وفيا! قال الصبي في استحياء:
2 «لك علي الوفاء.» قال سيدنا: فأعطني يدك، وأخذ بيد الصبي، فما راع
3
الصبي إلا شيء في يده غريب، ما أحس مثله قط، عريض يترجرج،
4
ملؤه شعر تغور فيه الأصابع، ذلك أن سيدنا قد وضع يد الصبي على لحيته، وقال: هذه لحيتي أسلمك إياها، وأريد إلا تهينها، فقل: «والله العظيم ثلاثا، وحق القرآن المجيد لا أهينها.» وأقسم الصبي كما أراد سيدنا، حتى إذا فرغ من قسمه؛ قال له سيدنا: كم في القرآن من جزء؟ قال: ثلاثون، قال سيدنا: وكم نشتغل في الكتاب من يوم؟ قال الصبي: خمسة أيام. قال سيدنا: فإذا أردت أن تقرأ القرآن مرة في كل أسبوع، فكم تقرأ من جزء كل يوم؟ فكر الصبي قليلا ثم قال: ستة أجزاء. قال سيدنا: فتقسم لتتلون على العريف ستة أجزاء من القرآن في كل يوم من أيام العمل، ولتكونن هذه التلاوة أول ما تأتي به حين تصل إلى الكتاب، فإذا فرغت منها فلا جناح
5
عليك أن تلهو وتلعب، على ألا تصرف الصبيان عن أعمالهم. أعطى الصبي على نفسه هذا العهد، ودعا سيدنا العريف فأخذ عليه عهدا مثله، ليسمعن للصبي في كل يوم ستة أجزاء من القرآن، وأودعه شرفه، وكرامة لحيته، ومكانة الكتاب في البلد، وقبل العريف الوديعة، وانتهى هذا المنظر وصبيان الكتاب ينظرون ويعجبون.
الفصل التاسع
من ذلك اليوم انقطعت صلة الصبي التعليمية «بسيدنا»، واتصلت بالعريف، ولم يكن العريف أقل غرابة من سيدنا؛ كان شابا طويلا نحيفا أسود فاحما، أبوه سوداني، وأمه مولدة، وكان سيئ الحظ، لم يوفق في حياته لخير، جرب الأعمال كلها فلم يفلح في شيء منها، أرسله أبوه عند كثير من الصناع ليتعلم صنعة فلم يفلح، وحاول أن يجد له في معمل السكر شغل العامل أو الخفير أو البواب أو الخادم، فلم يفلح في شيء من هذا، وكان أبوه ضيق الصدر به، يمقته ويزدريه، ويؤثر
1
عليه إخوته الذين يعملون جميعا ويكسبون، وكان قد ذهب إلى الكتاب في صباه فتعلم القراءة والكتابة، وحفظ سورا من القرآن لم يلبث أن نسيها، فلما ضاقت به الحياة وضاق بها أقبل إلى سيدنا فشكا إليه أمره، قال له سيدنا: فتعال هنا فكن عريفا، عليك أن تعلم الصبيان القراءة والكتابة وتلاحظهم وتمنعهم من العبث، وتقوم مقامي متى غبت، وعلي أن أقرئهم القرآن وأحفظهم إياه، وعليك أن تفتح الكتاب قبل أن تطلع الشمس، وتشرف على تنظيفه قبل أن يحضر الصبيان، وعليك أن تغلق الكتاب متى صليت العصر، وتأخذ مفتاحه، وعليك مع هذا كله أن تكون يدي اليمنى، ولك ربع ما يأتي به الكتاب من نقد، تقتضي ذلك في كل أسبوع أو في كل شهر، وتم هذا العقد بين الرجلين وقرأ عليه الفاتحة، وبدأ العريف عمله.
وكان العريف يبغض سيدنا بغضا شديدا ويزدريه، ولكنه يصانعه،
2
وكان سيدنا يكره العريف كرها عنيفا ويحتقره، ولكنه يتملقه.
فأما العريف فكان يكره سيدنا؛ لأنه أثر
3
غشاش كذاب، يخفي عليه بعض موارد الكتاب، ويستأثر
4
بخير ما يحمل الصبيان معهم من طعام، ويزدريه؛ لأنه كان ضريرا يتكلف الإبصار، وكان قبيح الصوت، يتكلف حسن الصوت. وأما سيدنا فكان يكره العريف؛ لأنه مكار داهية، ولأنه يخفي عليه كثيرا مما ينبغي أن يعلمه، ولأنه سارق؛ يسرق ما يوضع بين يديهما من الطعام وقت الغداء، ويختلس أطايبه، ولأنه يأتمر
5
مع كبار الصبيان في الكتاب، ويعبث معهم على غفلة منه، فإذا صليت العصر وأغلق الكتاب كان بينه وبينهم مواعيد هناك عند شجر التوت، أو عند «القنطرة» أو في «معمل السكر».
ومن غريب الأمر أن الرجلين كانا صادقين مصيبين، وأنهما كانا مضطرين إلى أن يتعاونا على كره ومضض؛
6
أحدهما محتاج إلى أن يعيش، والآخر محتاج إلى من يدبر له أمور الكتاب.
اتصل صبينا بالعريف، وأخذ يتلو القرآن بين يديه، ستة أجزاء في كل يوم، ولكن ذلك لم يستمر ثلاثة أيام، ضاق الصبي بهذه التلاوة منذ اليوم الأول، وضاق العريف بها منذ اليوم الثاني، وتكاشفا
7
بهذا الضيق في اليوم الثالث، واتفقا منذ اليوم الرابع على أن يتلو الصبي في سره ستة أجزاء بين يدي العريف، حتى إذا أحس اضطرابا، أو غاب عنه لفظ، سأل عنه العريف. وأخذ الصبي يأتي في كل يوم، فيسلم على العريف، ويجلس على الأرض بين يديه، ويحرك شفتيه مهمهما
8
كأنه يقرأ القرآن، ويسأل العريف من حين إلى حين عن كلمة، فيجيبه مرة، ويتثاقل عنه مرة أخرى. ويأتي سيدنا في كل يوم قبيل الظهر؛ فإذا سلم وجلس، كان أول عمل يأتيه أن يدعو الصبي فيسأله: أقرأت؟ - نعم. - من أين إلى أين؟
وكان الصبي يجيب: من البقرة إلى
لتجدن
في يوم السبت، ومن:
لتجدن
إلى
وما أبرئ
في يوم الأحد، وكذلك قسم القرآن ستة أقسام اصطلح عليها الفقهاء، وخص لكل يوم من الأيام الخمسة، قسما من هذه الأقسام يخبر به سيدنا متى سأله.
ولكن العريف لم يكن ليكتفي بهذا الاتفاق الذي يريحه ويريح الصبي، وإنما كان يطمع في أن يستفيد من موقف الصبي بين يديه، وكان ينذر الصبي من حين إلى حين بأنه سيخبر سيدنا أنه قد وجد بعض السور «متعتعة» سيئة الحفظ عند الصبي: «سورة هود»، أو «سورة الأنبياء»، أو «سورة الأحزاب»، وإذ كان القرآن كله «متعتعا» عند الصبي؛ لأنه أهمل قراءته منذ أشهر، فقد كان يكره أن يمتحنه سيدنا، ويشتري صمت العريف بكل شيء، وكم دفع إلى العريف ما كان يملأ جيبه من خبز، أو فطير، أو تمر! وكم دفع إليه هذا القرش الذي كان يعطيه إياه أبوه من حين إلى حين، والذي كان يريد أن يشتري به أقراص النعناع! وكم احتال على أمه، ليأخذ منها قطعة ضخمة من السكر، حتى إذا وصل إلى الكتاب دفعها إلى العريف، وإنه ليشتهيها كلها أو بعضها، فيأخذها العريف ويدعو بالماء يغمس فيه السكر، ثم يمصه مصا شديدا، ثم يزدرد السكر وقد ذاب أو كاد! وكم نزل عن طعامه الذي كان يحمل إليه من البيت ظهر كل يوم، وإنه لشديد الجوع، ليأكل العريف مكانه؛ لئلا يخبر سيدنا بأن القرآن عنده «متعتع».
على أن هذه الصلات المستمرة لم تلبث أن ضمنت له مودة العريف، فقد اتخذه العريف صديقا، وأخذ يستصحبه إلى الجامع بعد الغداء ليصلي معه الظهر، ثم أخذ يعتمد عليه، ويثق به، ويطلب إليه أن يقرئ القرآن بعض الصبيان، أو يسمعه من بعض الذين أخذوا يعيدون ويحفظون. وهنا كان صاحبنا يسلك مع تلاميذه مسلك العريف معه بالدقة؛ كان يجلس الصبيان بين يديه، ويأخذهم بالتلاوة، ثم يتشاغل عنهم بالحديث مع أترابه، حتى إذا فرغ من حديثه، التفت إليهم، فإذا آنس منهم عبثا أو إبطاء أو اضطرابا؛ فالنذير، ثم الشتم، ثم الضرب، ثم إخبار العريف. والحق أنه لم يكن أحسن حفظا للقرآن من تلاميذه، ولكن العريف قد اتخذ معه هذه الخطة، فيجب أن يكون هو عريفا حقا. وإذا كان العريف لا يشتمه ولا يضربه، ولا يرفع أمره إلى سيدنا؛ فذلك لأنه يدفع ثمن ذلك كله غاليا، وقد فهم الصبيان هذا فأخذوا يدفعون له الثمن غاليا أيضا، وأخذ هو يسترد بالرشوة ما كان يدفع إلى العريف. على أن رشوته كانت متنوعة؛ فلم يكن محروما في بيته، ولم يكن في حاجة إلى الخبز ولا إلى التمر ولا إلى السكر، ولم يكن يستطيع أن يقبل «الفلوس»، وماذا يصنع بالفلوس وهو لا يستطيع أن ينفقها وحده! فهو إن قبلها دل على نفسه، وافتضح أمره، وإذن فقد كان عسيرا وكان إرضاؤه شاقا، وكان الصبيان يتفننون في إرضائه فيشترون له أقراص النعناع «والسكر النبات» و«اللب» و«الفول السوداني»، وكان يتفضل بكثير من ذلك على العريف.
ولكن لونا من الرشوة خاصا كان يعجبه ويفتنه، ويشجعه على أن يهمل واجبه أشنع إهمال، وهذا اللون هو القصص والحكايات والكتب، فإذا استطاع الصبي أن يقص عليه أحدوثة، أو يشتري له كتابا من هذا الرجل الذي يتنقل بالكتب في قرى الريف، أو يتلو عليه فصلا من قصة «الزير سالم» أو «أبي زيد»، فهو واثق بما شاء من رضاه، ورفقه ومحاباته، وكان أمهر تلاميذه في هذه، صبية مكفوفة البصر، يقال لها: نفيسة، أرسلها أهلها إلى الكتاب لتحفظ القرآن فحفظته، وأتقنت حفظه، ووكلها
9
سيدنا إلى العريف ووكلها العريف إلى صاحبنا، وأخذ صاحبنا يسلك معها مسلك العريف معه، وكان أهل هذه الفتاة أغنياء، ولكنهم من المحدثين، كان أبوها حمارا ثم أصبح تاجرا مثريا، وكان ينفق على أهله من غير حساب، ويسبغ
10
عليهم سعة غريبة من العيش، فلم تكن تنقطع الفلوس من يد نفيسة، وكانت أقدر الصبيان على تخير الرشا، ثم كانت أحفظهم للقصص، وأقدرهم على الاختراع، وأحفظهم لألوان الغناء المفرح، «والتعديد» المبكي، وكانت تحسن الغناء والتعديد معا. وكانت غريبة الأطوار، في عقلها شيء من الاضطراب، فكانت تلهي صاحبنا أكثر وقته بحديثها وتعديدها، وأقاصيصها وألوان رشوتها، وبينما كان صاحبنا يرشو ويرتشي، ويخدع ويخدع، كان القرآن يمحى من صدره آية آية وسورة سورة، حتى كان اليوم المحتوم ... ويا له من يوم!
الفصل العاشر
كان يوم الأربعاء، وكان صاحبنا قد قضاه فرحا مسرورا، زعم لسيدنا في أول النهار أنه قد أتم الختمة، ثم فرغ بعد ذلك لاستماع القصص والأحاديث، وعبث آخر النهار.
فلما انصرف من الكتاب لم يذهب إلى البيت، وإنما ذهب مع جماعة من أصحابه إلى الجامع ليصلي العصر، وكان يحب الذهاب إلى الجامع، والصعود في المنارة، والاشتراك مع المؤذن في التسليم؛ «وهو النداء الذي يلي الأذان الشرعي.»
ذهب في ذلك اليوم وصعد في المنارة، واشترك في الأذان وصلى، وأراد أن يعود إلى البيت، ولكنه افتقد نعله فلم يجدها، كان قد وضعها إلى جانب المنارة، فلما فرغ من الصلاة ذهب يلتمسها فإذا هي قد سرقت. أحزنه ذلك بعض الشيء، ولكنه كان فرحا مبتهجا هذا اليوم، فلم يجزع ولم يقدر للأمر عاقبة، وعاد إلى البيت حافيا، وما كان أبعد المسافة بين البيت والجامع! ولكن ذلك لم يرعه،
1
فكثيرا ما مشي حافيا.
دخل البيت، وإذا الشيخ في المنظرة كعادته يدعوه: وأين نعلاك؟ فيجيب: نسيتهما في الكتاب، فلا يحفل الشيخ بهذا الجواب، ثم يهمل الصبي حينا ريثما يدخل فيتحدث إلى أمه وإخوته قليلا، ويأكل كسرة من الخبز؛ كان من عادته أن يأكلها متى عاد من الكتاب، ثم يدعوه الشيخ، فيسرع إلى إجابته، فإذا استقر به مكانه، قال له أبوه: ماذا تلوت اليوم من القرآن؟ فيجيب: ختمته وتلوت الأجزاء الستة الأخيرة. قال الشيخ: ومازلت تحفظه حفظا جيدا؟ قال: نعم. قال الشيخ: فاقرأ لي سورة سبأ. وكان صاحبنا قد نسي سورة سبأ، كما نسي غيرها من السور، فلم يفتح الله عليه بحرف، قال الشيخ: فاقرأ سورة فاطر، فلم يفتح الله عليه بحرف. قال الشيخ في هدوء وسخرية: وقد زعمت أنك مازلت تحفظ القرآن! فاقرأ سورة يس. ففتح الله عليه بالآيات الأولى من هذه السورة، ولكن لسانه لم يلبث أن انعقد، وريقه لم يلبث أن جف، وأخذته رعدة منكرة تصبب على أثرها في وجهه عرق بارد، قال الشيخ في هدوء: قم واجتهد في أن تنسى نعليك كل يوم، فما أرى إلا أنك أضعتهما كما أضعت القرآن، ولكن لي مع سيدك شأنا آخر.
خرج صاحبنا من المنظرة منكس الرأس مضطربا يتعثر، ومضى في طريقه حتى وصل إلى الكرار - والكرار: حجرة في البيت كانت تدخر فيها ألوان من الطعام، وكان يربى فيها الحمام - وكانت في زاوية من زواياها القرمة - وهي قطعة ضخمة عريضة من الخشب كأنها جذع شجرة - كانت أمه تقطع عليها اللحم، وكانت تدع على هذه القرمة طائفة من السكاكين؛ منها الطويل، ومنها القصير، ومنها الثقيل ومنها الخفيف.
مضى صاحبنا حتى وصل إلى الكرار، وانعطف إلى الزاوية التي فيها القرمة، وأهوى إلى الساطور، وهو أغلظ ما كان عليها من سكين وأحده وأثقله، فأخذه بيمناه وأهوى به إلى قفاه ضربا! ثم صاح، وسقط الساطور من يديه، وأسرعت أمه إليه، وكانت قريبة منه لم تحفل به حينما مر بها، فإذا هو واقف يضطرب والدم يسيل من قفاه! والساطور ملقى إلى جانبه ... وما أسرع ما ألقت أمه نظرة إلى الجرح! وما أسرع ما عرفت أنه ليس شيئا! وما هي إلا أن أنهالت عليه شتما وتأنيبا، ثم جذبته من إحدى يديه حتى انتهت به إلى زاوية من زوايا المطبخ، فألقته فيها إلقاء، وانصرفت إلى عملها. ولبث صاحبنا في مكانه لا يتحرك ولا يتكلم ولا يبكي ولا يفكر كأنه لا شيء، وإخوته وأخواته من حوله يضطربون ويلعبون، لا يحفلون به ولا يلتفت هو إليهم.
وقربت المغرب، وإذا هو يدعى ليجيب أباه، فخرج خزيان متعثرا حتى انتهى إلى المنظرة، فلم يسأله أبوه عن شيء، وإنما ابتدره سيدنا بهذا السؤال: ألم تقرأ علي اليوم الأجزاء الستة من القرآن؟ قال: بلى. قال: ألم تقرأ علي أمس سورة سبأ؟ قال: بلى. قال: فما بالك لم تستطع أن تقرأها اليوم؟ فلم يجب، قال سيدنا: فاقرأ سورة سبأ، فلم يفتح الله عليه منها بحرف، قال أبوه: فاقرأ السجدة، فلم يحسن شيئا. هنا اشتد غضب الشيخ، ولكن على سيدنا لا على الصبي، قال: وإذن فهو يذهب إلى الكتاب لا ليقرأ ولا ليحفظ، ولا لتعنى به أو تلتفت إليه، وإنما هو لعب وعبث! ولقد عاد اليوم حافيا، وزعم أنه نسي نعليه في الكتاب، وما أظن عنايتك بحفظه للقرآن، إلا كعنايتك بمشيه حافيا أو ناعلا!
قال سيدنا: أقسم بالله العظيم ثلاثا ما أهملته يوما، ولولا أني خرجت اليوم من الكتاب قبل انصراف الصبيان، لما رجع حافيا، وإنه ليقرأ علي القرآن مرة في كل أسبوع: ستة أجزاء في كل يوم، أسمعها منه متى وصلت في الصباح. قال الشيخ : لا أصدق من هذا شيئا. قال سيدنا: امرأتي طالق ثلاثا ما كذبتك قط، وما أنا بكاذب الآن، وإني لأسمع له القرآن مرة في كل أسبوع. قال الشيخ: لا أصدق. قال سيدنا: أفتظن أن ما تدفع إلي في كل شهر أحب إلي من امرأتي؟ أم تظن أني في سبيل ما تدفع إلي أستحل الحرام، وأعيش مع امرأة طلقتها ثلاثا بين يديك؟ قال الشيخ: ذلك شيء لا شأن لي به، ولكن هذا الصبي لن يذهب إلى الكتاب منذ غد. ثم نهض فانصرف، ونهض سيدنا فانصرف كئيبا محزونا، وظل صاحبنا في مكانه لا يفكر في القرآن ولا فيما كان، وإنما يفكر في مقدرة سيدنا على الكذب، وفي هذا الطلاق المثلث الذي ألقاه كما يلقي سيجارته متى فرغ من تدخينها!
ولم يظهر الصبي في هذه الليلة على المائدة، ومكث ثلاثة أيام يتجنب مجلس أبيه ويتجنب المائدة، حتى إذا كان اليوم الرابع دخل أبوه عليه في المطبخ حيث كان يحب أن ينزوي إلى جانب الفرن؛ فما زال يكلمه في دعابة وعطف ورفق، حتى أنس الصبي إليه، وانطلق وجهه بعد عبوسه. وأخذه أبوه بيده فأجلسه مكانه من المائدة، وعنى به أثناء الغداء عناية خاصة، حتى إذا فرغ الصبي من طعامه ونهض لينصرف، قال أبوه هذه الجملة في مزاح قاس لم ينسه قط؛ لأنه أضحك منه إخوته جميعا، ولأنهم حفظوها له، وأخذوا يغيظونه بها من حين إلى حين، قال له: «أحفظت القرآن؟»
الفصل الحادي عشر
وانقطع الصبي عن الكتاب، وانقطع سيدنا عن البيت، والتمس الشيخ فقيها آخر يختلف إلى البيت
1
في كل يوم؛ فيتلو فيه سورة من القرآن مكان سيدنا، ويقرئ الصبي ساعة أو ساعتين. وظل الصبي حرا يعبث ويلعب في البيت متى انصرف عنه الفقيه الجديد، حتى إذا كان العصر أقبل عليه أصحابه ورفاقه منصرفهم
2
من الكتاب، فيقصون عليه ما كان في الكتاب، وهو يلهو بذلك، ويعبث بهم وبكتابهم، وبسيدنا وبالعريف، وكان قد خيل إليه أن الأمر قد انبت
3
بينه وبين الكتاب ومن فيه، فلن يعود إليه، ولن يرى الفقيه ولا العريف، فأطلق لسانه في الرجلين إطلاقا شنيعا، وأخذ يظهر من عيوبهما وسيئاتهما ما كان يخفيه، وأخذ يلعنهما أمام الصبيان ويصفهما بالكذب والسرقة والطمع، ويتحدث عنهما بأشياء منكرة؛ كان يجد في التحدث بها شفاء لنفسه، ولذة لهؤلاء الصبيان. وما له لا يطلق لسانه في الرجلين، وليس بينه وبين السفر إلى القاهرة إلا شهر واحد؟ فسيعود أخوه الأزهري من القاهرة بعد أيام، حتى إذا قضى إجازته استصحبه إلى الأزهر، حيث يصبح مجاورا، وحيث تنقطع عنه أخبار الفقيه والعريف.
الحق أنه كان سعيدا في هذه الأيام؛ كان يشعر بشيء من التفوق على رفاقه وأترابه؛ فهو لا يذهب إلى الكتاب كما يذهبون، وإنما يسعى إليه الفقيه سعيا، وسيسافر إلى القاهرة حيث الأزهر، وحيث «سيدنا الحسين»، وحيث «السيدة زينب» وغيرهما من الأولياء، وما كانت القاهرة عنده شيئا آخر، إنما كانت مستقر الأزهر، ومشاهد الأولياء والصالحين.
ولكن هذه السعادة لم تدم إلا ريثما يعقبها شقاء شنيع؛ ذلك أن سيدنا لم يطق صبرا على هذه القطيعة، ولم يستطع أن يحتمل انتصار الشيخ عبد الجواد عليه، فأخذ يتوسل بفلان وفلان إلى الشيخ، وما هي إلا أن لانت قناة
4
الشيخ، وأمر الصبي بالعودة إلى الكتاب متى أصبح. عاد كارها مقدرا ما سيلقاه من سيدنا وهو يقرئه القرآن للمرة الثالثة، ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد؛ فقد كان الصبيان ينقلون إلى الفقيه والعريف كل ما يسمعون من صاحبهم. ولله أوقات الغداء طوال هذا الأسبوع، وما كان سيدنا ينال به الصبي من لوم، وما كان العريف يعيد عليه من ألفاظه، تلك التي كان يطلق بها لسانه مقدرا أنه لن يرى الرجلين!
في هذا الأسبوع تعلم الصبي الاحتياط في اللفظ، وتعلم أن من الخطل والحمق
5
الاطمئنان إلى وعيد الرجال، وما يأخذون أنفسهم به من عهد، ألم يكن الشيخ قد أقسم لا يعود الصبي إلى الكتاب أبدا؟ وها هو ذا قد عاد! وأي فرق بين الشيخ يقسم ويحنث! وبين سيدنا يرسل الطلاق والأيمان إرسالا، وهو يعلم أنه كاذب؟ وهؤلاء الصبيان يتحدثون إليه، فيشتمون له الفقيه والعريف، ويغرونه
6
بشتمهما، حتى إذا ظفروا منه بذلك، تقربوا به إلى الرجلين، وابتغوا
7
به إليهما الوسيلة، وهذه أمه تضحك منه، وتغري به سيدنا حين أقبل يتحدث إليها بما نقل إليه الصبيان، وهؤلاء إخوته يشمتون به، ويعيدون عليه مقالة سيدنا من حين إلى حين، يغيظونه ويثيرون سخطه، ولكنه كان يحتمل هذا كله في صبر وجلد، وما له لا يصبر ولا يتجلد وليس بينه وبين فراق هذه البيئة
8
كلها إلا شهر أو بعض شهر!
الفصل الثاني عشر
ولكن الشهر مضى، ورجع الأزهري إلى القاهرة، وظل صاحبنا حيث هو كما هو، لم يسافر إلى الأزهر، ولم يتخذ العمة ولم يدخل في جبة أو قفطان.
كان لا يزال صغيرا، ولم يكن من اليسير إرساله إلى القاهرة، ولم يكن أخوه يحب أن يحتمله، فأشار بأن يبقى حيث هو سنة أخرى، فبقي ولم يحفل أحد برضاه أو غضبه.
على أن حياته تغيرت بعض الشيء؛ فقد أشار أخوه الأزهري بأن يقضي هذه السنة في الاستعداد للأزهر، ودفع إليه كتابين يحفظ أحدهما جملة، ويستظهر من الآخر صحفا مختلفة.
فأما الكتاب الذي لم يكن بد من حفظه كله فألفية ابن مالك، وأما الكتاب الآخر فمجموع المتون. وأوصى الأزهري قبل سفره بأن يبدأ بحفظ الألفية، حتى إذا فرغ منها وأتقنها إتقانا، حفظ من الكتاب الآخر أشياء غريبة، بعضها يسمى «الجوهرة»، وبعضها يسمى «الخريدة»، وبعضها يسمى «السراجية»، وبعضها يسمى «الرحبية»، وبعضها يسمى «لامية الأفعال»، وكانت هذه الأسماء تقع من نفس الصبي مواقع تيه وإعجاب؛ لأنه لا يفهم لها معنى، ولأنه يقدر أنها تدل على العلم، ولأنه يعلم أن أخاه الأزهري قد حفظها وفهمها فأصبح عالما وظفر بهذه المكانة الممتازة في نفس أبويه وإخوته وأهل القرية جميعا، ألم يكونوا جميعا يتحدثون بعودته قبل أن يعود بشهر، حتى إذا جاء أقبلوا إليه فرحين مبتهجين متلطفين! ألم يكن الشيخ يشرب كلامه شربا، ويعيده على الناس في إعجاب وفخار! ألم يكن أهل القرية يتوسلون إليه أن يقرأ لهم درسا في التوحيد أو الفقه! وماذا عسى أن يكون التوحيد؟ وماذا عسى أن يكون الفقه؟ ثم ألم يكن الشيخ يتوسل إليه، ملحا مستعطفا مسرفا في الوعد، باذلا ما استطاع وما لم يستطع من الأماني، ليلقي على الناس خطبة الجمعة! ثم هذا اليوم المشهود يوم مولد النبي، ماذا لقي الأزهري من إكرام وحفاوة، ومن تجلة وإكبار! كانوا قد اشتروا له قفطانا جديدا، وجبة جديدة وطربوشا جديدا، و«مركوبا» جديدا، وكانوا يتحدثون بهذا اليوم وما سيكون فيه قبل أن يظلهم
1
بأيام، حتى إذا أقبل هذا اليوم وانتصف، أسرعت الأسرة إلى طعامها فلم تصب منه إلا قليلا، ولبس الفتى الأزهري ثيابه الجديدة، واتخذ في هذا اليوم عمامة خضراء، وألقى على كتفيه شالا من الكشمير، وأمه تدعو وتتلو التعاويذ، وأبوه يخرج ويدخل جذلان مضطربا، حتى إذا تم للفتى من زيه وهيئته ما كان يريد، خرج فإذا فرس ينتظره بالباب، وإذا رجال يحملونه فيضعونه على السرج، وإذا قوم يكتنفونه
2
من يمين ومن شمال، وآخرون يسعون بين يديه، وآخرون يمشون من خلفه، وإذا البنادق تطلق في الفضاء، وإذا النساء يزغردن من كل ناحية، وإذا الجو يتأرج
3
بعرف البخور، وإذا الأصوات ترتفع متغنية بمدح النبي، وإذا هذا الحفل كله يتحرك في بطء وكأنما تتحرك معه الأرض وما عليها من دور. كل ذلك لأن هذا الفتى الأزهري قد اتخذ في هذا اليوم خليفة، فهو يطاف به في المدينة وما حولها من القرى في هذا المهرجان الباهر. وما باله اتخذ خليفة دون غيره من الشبان؟ لأنه أزهري قد قرأ العلم وحفظ الألفية والجوهرة والخريدة! فلم لا يبتهج الصبي حين يرى أن سيقرأ من العلم ما قرأ أخوه، وأن سيمتاز من رفاقه وأترابه بحفظ الألفية والجوهرة والخريدة؟!
وكم كان فرحا مختالا حين غدا إلى الكتاب يوم السبت، وفي يده نسخة من «الألفية»! لقد رفعته هذه النسخة درجات، وإن كانت هذه النسخة ضئيلة قذرة سيئة الجلد؛ ولكنها على ضآلتها وقذارتها، كانت تعدل عنده خمسين مصحفا من هذه المصاحف التي كان يحملها أترابه.
المصحف! لقد حفظ ما فيه فما أفاد من حفظه شيئا، وكثير من الشبان يحفظونه فلا يحفل بهم أحد، ولا ينتخبون خلفاء يوم المولد النبوي.
ولكن الألفية! وما أدراك ما الألفية؟! وحسبك أن سيدنا لا يحفظ منها حرفا، وحسبك أن العريف لا يحسن أن يقرأ الأبيات الأولى منها، والألفية شعر، وليس في المصحف شعر.
الحق أنه ابتهج بهذا البيت:
قال محمد هو ابن مالك
أحمد ربي الله خير مالك
ابتهاجا لم يشعر بشيء مثله أمام أي سورة من سور القرآن.
الفصل الثالث عشر
وكيف لا يبتهج وقد أحس منذ اليوم الأول أنه ارتفع درجات؛ أصبح «سيدنا» لا يستطيع أن يشرف على حفظه للألفية، ولا أن يقرئه إياها، بل ضاق الكتاب كله بالألفية، وكلف الصبي أن يذهب في كل يوم إلى المحكمة الشرعية؛ ليقرأ على القاضي ما يريد أن يحفظه من الألفية. القاضي عالم من علماء الأزهر، أكبر من أخيه الأزهري، وإن كان أبوه لا يؤمن بذلك، ولا يرى أن القاضي يكافئ ابنه، هو على كل حال عالم من علماء الأزهر، وهو قاضي الشرع - بقاف ضخمة وراء مفخمة - وهو في المحكمة لا في الكتاب، وهو يجلس على دكة مرتفعة، وقد وضعت عليها الطنافس والوسائد، لا تقاس إليها دكة سيدنا، وليس حولها نعال مرقعة، وعلى بابه رجلان يقومان مقام الحاجب، ويسميهما الناس هذا الاسم البديع، الذي لم يكن يخلو من هيبة: «الرسل».
نعم، كان يجب على الصبي أن يذهب إلى المحكمة في كل صباح، فيقرأ على القاضي بابا من أبواب الألفية، وكم كان القاضي يحسن القراءة! وكم كان يملأ فمه بالقاف والراء! وكم كان صوته يتهدج
1
بقول ابن مالك:
كلامنا لفظ مفيد كاستقم
واسم وفعل ثم حرف الكلم
واحده كلمة والقول عم
وكلمة بها كلام قد يؤم
ولقد استطاع القاضي أن يؤثر في نفس الصبي، ويملأه تواضعا حين قرأ هذه الأبيات:
وتقتضي رضا بغير سخط
فائقة ألفية ابن معطي
وهو بسبق حائز تفضيلا
مستوجب ثنائي الجميلا
والله يقضي بهبات وافرة
لي وله في درجات الآخرة
قرأ القاضي هذه الأبيات بصوت يحطمه البكاء حطما، ثم قال للصبي: من تواضع لله رفعه، أتفهم هذه الأبيات؟ قال الصبي: لا. قال القاضي: إن المؤلف رحمه الله تعالى، عندما بدأ في نظم ألفيته اغتر وأخذه الكبر فقال: «فائقة ألفية ابن معطي»، فلما كان الليل رأى فيما يرى النائم أن ابن معط قد أقبل يعاتبه عتابا شديدا، فلما أفاق من نومه أصلح من هذا الغرور وقال: «وهو بسبق حائز تفضيلا.»
وكم كان الشيخ مبتهجا فرحا حين عاد إليه الصبي عصر ذلك اليوم؛ فقص عليه ما سمع من القاضي، وقرأ عليه الأبيات الأولى من الألفية! فكان يقطع هذه الأبيات بهذه الكلمة التي يعبر بها الناس عن الاستحسان: «الله! الله!»
على أن لكل شيء حدا، فقد مضى صاحبنا في حفظ الألفية فرحا مبتهجا حتى انتهى إلى باب المبتدأ، ثم فترت همته، وكان أبوه يسأله عصر كل يوم: هل ذهبت إلى المحكمة؟ فيجيب: نعم. - فكم حفظت؟ فيقرأ له ما حفظ.
ولكن الأمر ثقل عليه منذ باب المبتدأ، فأخذ يحفظ ويذهب إلى المحكمة متثاقلا متباطئا، حتى وصل إلى باب المفعول المطلق، ثم لم يستطع أن يتقدم خطوة قصيرة ولا طويلة، ولبث يذهب إلى المحكمة في كل يوم، ويقرأ على القاضي فصلا من فصول الألفية، حتى إذا عاد إلى الكتاب ألقى الألفية في ناحية، وانصرف إلى عبثه ولعبه، وإلى قراءة القصص والأحاديث.
فإذا كان العصر وسأله أبوه: هل ذهبت إلى المحكمة؟
أجاب: نعم. - وكم حفظت من بيت؟
أجاب: عشرين. - من أي باب؟ - من باب الإضافة، أو من باب النعت، أو من باب جمع التكسير.
فإذا قال له: اقرأ علي ما حفظت، قرأ عليه عشرين بيتا من المائتين الأوليين، مرة من المعرب والمبني، وأخرى من النكرة والمعرفة، وثالثة من المبتدأ والخبر، والشيخ لا يفهم شيئا، ولا يلاحظ أن ابنه يخدعه؛ وإنما يكتفي بأن يسمع كلاما منظوما، وهو مطمئن إلى القاضي. ومن غريب الأمر أن الشيخ لم يفكر مرة واحدة في أن يفتح الألفية ، ويقابل على الصبي وهو يقرأ، ولو قد فعل يوما من الأيام، لكانت للصبي قصة كقصته مع سورة الشعراء، أو سبأ، أو فاطر.
على أن الصبي تعرض لهذا الخطر مرة، ولولا أن أمه شفعت فيه لكان له مع أبيه موقف مشهود.
كان له أخ يختلف إلى المدارس المدنية، فعاد من القاهرة ليقضي فصل الصيف، واتفق أنه حضر هذا الامتحان اليومي أياما متصلة؛ فسمع الشيخ يسأل الصبي: أي باب قرأت؟ فيجيب الصبي: باب العطف، مثلا، فإذا طلب إليه أن يعيد ما قرأ، أعاد عليه باب العلم أو باب الصلة والموصول.
سكت الشاب في أول يوم، وفي اليوم الذي يليه، فلما كثر ذلك انتظر حتى انصرف الشيخ، وقال للصبي أمام أمه: إنك تخدع أباك وتكذب عليه، وتلعب في الكتاب، ولا تحفظ من الألفية شيئا. قال الصبي: إنك كاذب! وما أنت وذاك؟ وإنما الألفية للأزهريين لا لأبناء المدارس! وسل القاضي ينبئك بأني أذهب إلى المحكمة في كل يوم. قال الشاب: أي باب حفظت اليوم؟ قال الصبي: باب كذا. قال الشاب: ولكنك لم تقرأ هذا الباب على أبيك، وإنما قرأت عليه باب كذا، وهات نسخة الألفية أمتحنك فيها! بهت الصبي وظهر عليه الوجوم، وهم الشاب أن يقص القصة على الشيخ، ولكن أمه توسلت إليه، وكان الشاب رفيقا بأمه رءوفا بأخيه، فسكت. وظل الشيخ على جهله حتى عاد الأزهري، فلما عاد امتحن الصبي، وما هي إلا أن عرف جلية الأمر، فلم يغضب ولم ينذر ولم يخبر الشيخ، وإنما أمر الصبي أن ينقطع عن الكتاب والمحكمة، وأحفظه الألفية كلها في عشرة أيام.
الفصل الرابع عشر
للعلم في القرى ومدن الأقاليم جلال ليس له مثله في العاصمة ولا في بيئاتها العلمية المختلفة، وليس في هذا شيء من العجب ولا من الغرابة، وإنما هو قانون العرض والطلب، يجري على العلم كما يجري على غيره مما يباع ويشترى. فبينما يروح العلماء ويغدون في القاهرة لا يحفل بهم أحد، أو لا يكاد يحفل بهم أحد، وبينما يقول العلماء فيكثرون في القول ، ويتصرفون في فنونه، دون أن يلتفت إليهم أحد غير تلاميذهم في القاهرة، ترى علماء الريف، وأشياخ القرى ومدن الأقاليم، يغدون ويروحون في جلال ومهابة، ويقولون فيستمع لهم الناس مع شيء من الإكبار مؤثر جذاب، وكان صاحبنا متأثرا بنفسية الريف، يكبر العلماء كما يكبرهم الريفيون، ويكاد يؤمن بأنهم فطروا
1
من طينة نقية ممتازة، غير الطينة التي فطر منها الناس جميعا.
وكان يسمع لهم وهم يتكلمون، فيأخذه شيء من الإعجاب والدهش، حاول أن يجد مثله في القاهرة أمام كبار العلماء، وجلة الشيوخ فلم يوفق.
كان علماء المدينة ثلاثة أو أربعة؛ قد تقسموا فيما بينهم إعجاب الناس ومودتهم، فأما أحدهم فكان كاتبا في المحكمة الشرعية، قصيرا ضخما، غليظ الصوت جهوريه، يمتلئ شدقه بالألفاظ حين يتكلم، فتخرج إليك هذه الألفاظ ضخمة كصاحبها، غليظة كصاحبها، وتصدمك معانيها كما تصدمك مقاطعها. وكان هذا الشيخ من الذين لم يفلحوا في الأزهر؛ قضى فيه ما شاء أن يقضي من السنين، فلم يوفق للعالمية ولا للقضاء، فقنع بمنصب الكاتب في المحكمة، على حين كان أخوه قاضيا ممتازا، قد جعل إليه قضاء أحد الأقاليم. ولم يكن هذا الشيخ يستطيع أن يجلس في مجلس إلا فخر بأخيه، وذم القاضي الذي هو معه. كان حنفي المذهب، وكان أتباع أبي حنيفة في المدينة قليلين، أو لم يكن لأبي حنيفة في المدينة أتباع؛ فكان ذلك يغيظه ويحنقه على خصومه العلماء الآخرين، الذين كانوا يتبعون الشافعي أو مالكا، ويجدون في أهل المدينة صدى لعلمهم، وطلابا للفتوى عندهم، فكان لا يدع فرصة إلا مجد فيها فقه أبي حنيفة، وغض فيها من فقه مالك والشافعي. وأهل الريف مكرة أذكياء؛ فلم يكن يخفى عليهم أن الشيخ إنما يقول ما يقول، ويأتي ما يأتي من الأمر، متأثرا بالحقد والموجدة،
2
فكانوا يعطفون عليه، ويضحكون منه، وكانت المنافسة شديدة عنيفة بين هذا الشيخ وبين الفتى الأزهري، كان الفتى الأزهري ينتخب خليفة في كل سنة، فغاظه أن ينتخب هذا الفتى خليفة دونه، ولما تحدث الناس أن الفتى سيلقي خطبة الجمعة سمع الشيخ هذا الحديث ولم يقل شيئا، حتى إذا كان يوم الجمعة وامتلأ المسجد بالناس؛ وأقبل الفتى يريد أن يصعد المنبر، نهض الشيخ حتى انتهى إلى الإمام، وقال في صوت سمعه الناس: إن هذا الشاب حديث السن، وما ينبغي له أن يصعد المنبر ولا أن يخطب، ولا أن يصلي بالناس وفيهم الشيوخ وأصحاب الأسنان، ولئن خليت بينه وبين المنبر والصلاة لأنصرفن. ثم التفت إلى الناس وقال: ومن كان منكم حريصا على ألا تبطل صلاته فليتبعني. سمع الناس هذا فاضطربوا، وكادت تقع بينهم الفتنة لولا أن نهض الإمام فخطبهم وصلى بهم، وحيل بين الفتى والمنبر هذا العام. ومع ذلك فقد كان الفتى أجهد نفسه في حفظ الخطبة واستعد لهذا الموقف أياما متصلة، وتلا الخطبة على أبيه غير مرة، وكان أبوه ينتظر هذه الساعة أشد ما يكون إليها شوقا، وأعظم ما يكون بها ابتهاجا، وكانت أمه مشفقة تخاف عليه العين، فما كاد يخرج إلى المسجد ذلك اليوم، حتى نهضت إلى جمر وضعته في إناء وأخذت تلقي فيه ضروبا من البخور، وتطوف به البيت حجرة حجرة، تقف في كل حجرة لحظات وتهمهم بكلمات، وظلت كذلك حتى عاد ابنها، فإذا هي تلقاه من وراء الباب مبخرة مهمهمة، وإذا الشيخ مغضب يلعن هذا الرجل الذي أكل الحسد قلبه، فحال بين ابنه وبين المنبر والصلاة.
وكان في المدينة عالم آخر شافعي، كان إمام المسجد، وصاحب الخطبة والصلاة، وكان معروفا بالتقى والورع، يذهب الناس في إكباره وإجلاله إلى حد يشبه التقديس؛ كانوا يتبركون به، ويلتمسون عنده شفاء مرضاهم وقضاء حاجاتهم. وكأنه كان يرى في نفسه شيئا من الولاية، وظل أهل المدينة بعد موته سنين يذكرونه بالخير، ويتحدثون مقتنعين بأنه عندما أنزل في قبره قال بصوت سمعه المشيعون جميعا: اللهم اجعله منزلا مباركا، وكانوا يتحدثون بما رأوا فيما يرى النائم من حظ هذا الرجل عند الله، وما أعد له في الجنة من نعيم.
وشيخ ثالث كان في المدينة، وكان مالكي المذهب، ولم يكن ينقطع للعلم ولا يتخذه حرفة، وإنما كان يعمل في الأرض، ويتجر، ويختلف إلى المسجد فيؤدى الخمس، ويجلس إلى الناس من حين إلى حين، فيقرأ لهم الحديث، ويفقههم في الدين متواضعا غير تياه ولا فخور، ولم يكن يحفل به إلا الأقلون عددا.
هؤلاء هم العلماء، ولكن علماء آخرين كانوا منبثين
3
في هذه المدينة وقراها وريفها، ولم يكونوا أقل من هؤلاء العلماء الرسميين تأثيرا في دهماء الناس وتسلطا على عقولهم؛ منهم هذا الحاج ... الخياط الذي كان دكانه يكاد يقابل الكتاب، والذي كان الناس مجمعين على وصفه بالبخل والشح، والذي كان متصلا بشيخ من كبار أهل الطرق، والذي كان يزدري
4
العلماء جميعا؛ لأنهم يأخذون علمهم من الكتب لا عن الشيوخ، والذي كان يرى أن العلم الصحيح إنما هو العلم اللدني؛ الذي يهبط على قلبك من عند الله دون أن تحتاج إلى كتاب، بل دون أن تقرأ أو تكتب.
ومنهم هذا الشيخ ... الذي كان في أول أمره حمارا ينقل للناس بضائعهم وأمتعتهم، ثم أصبح تاجرا، واقتصرت حمره على نقل تجارته، والذي كان الناس مجمعين على أنه أكل أموال اليتامى، وأثرى
5
على حساب الضعفاء، والذي كان يكثر من ترديد هذه الآية وتفسيرها:
إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ، والذي كان يكره الصلاة في المسجد الجامع؛ لأنه كان يكره الإمام ومن إليه من العلماء، ويؤثر الصلاة في جامع صغير لا قيمة له ولا مكانة.
ومنهم هذا الشيخ ... الذي لم يكن يقرأ ولا يكتب ولا يحسن قراءة الفاتحة، ولكنه كان شاذليا من أصحاب الطريق، كان يجمع الناس إلى الذكر، ويفتيهم في أمور دينهم ودنياهم.
ثم منهم الفقهاء الذين كانوا يقرءون القرآن ويقرئونه للناس، والذين كانوا يميزون أنفسهم من العلماء ويتسمون: «حملة كتاب الله»، والذين كانوا يتصلون بدهماء الناس والنساء منهم خاصة. كانت جمهرتهم من المكفوفين، فكانوا يدخلون البيوت يتلون فيها القرآن، وكان النساء يتحدثن إليهم، ويستفتينهم في أمور الصوم والصلاة وما إلى ذلك من أمورهن. وكان لهؤلاء الفقهاء علم مخالف كل المخالفة لعلم العلماء، الذين يأخذون علمهم من الكتب، والذين بينهم وبين الأزهر سبب قوي أو ضعيف، وكان علمهم مخالفا أيضا لعلم أصحاب الطرق وأهل العلم اللدني، كانوا يأخذون علمهم من القرآن مباشرة، يفهمونه كما يستطيعون، لا كما هو ولا كما ينبغي أن يفهم. يفهمونه كما كان يفهمه سيدنا، وكان من أذكى الفقهاء، وأشدهم علما وأقدرهم على التأويل، سأله الصبي ذات يوم: ما معنى قول الله تعالى:
وقد خلقكم أطوارا ؟ فأجاب هادئا مطمئنا: خلقكم كالثيران لا تعقلون شيئا! أو يفهمونه كما يفهمه جد هذا الصبي نفسه، وكان من أحفظ الناس للقرآن، وأبرعهم في فهمه وتفسيره وتأويله، سأله حفيده ذات يوم عن قول الله تعالي:
ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ، فقال: «على حرف دكة، على حرف مصطبة ... فإن أصابه خير فهو مطمئن في مكانه، وإن أصابه شر انكفأ على وجهه.»
وكان صبينا يختلف
6
بين هؤلاء العلماء جميعا، ويأخذ عنهم جميعا، حتى اجتمع له من ذلك مقدار من العلم ضخم مختلف مضطرب متناقض، ما أحسب إلا أنه عمل عملا غير قليل في تكوين عقله الذي لم يخل من اضطراب واختلاف وتناقض.
الفصل الخامس عشر
وشيوخ الطريق، وما شيوخ الطريق؟! كانوا كثيرين منبثين
1
في أقطار الأرض، لا تكاد تخلو منهم المدينة أسبوعا، وكانت مذاهبهم مختلفة، وكانوا قد تقسموا الناس فيما بينهم فجعلوهم شيعا، وفرقوا أهواءهم تفريقا عظيما، وكانت المنافسة حادة في الإقليم بين أسرتين من أصحاب الطريق، لإحداهما أعلاه وللأخرى أسفله.
وإذا كان أهل الإقليم ينتقلون ولا يأبون على أنفسهم الهجرة من قرية إلى قرية، ومن مدينة إلى مدينة داخل الإقليم، فقد كان يتفق أن ينزل أتباع إحدى الأسرتين حيث تتسلط الأسرة الأخرى، وكان زعماء الأسرتين يتنقلون في الإقليم يزورون أتباعهم وأشياعهم، ولله ما كان يحدث من الخصومات يوم يهبط صاحب العالية إلى السافلة، أو يصعد صاحب السافلة إلى العالية! وكان أبو الصبي من أتباع صاحب العالية، أخذ عنه العهد، وأخذ عنه أبوه من قبل. وكانت أم الصبي من أتباع صاحب العالية أيضا، بل كان أبوها من أنصاره وحوارييه
2
المقربين إليه، ومات صاحب العالية وخلفه على الطريق ابنه الحاج ... وكان أنشط من أبيه، وأقدر على الكيد واللؤم، وأنهض للخصومة، كان أقرب من أبيه إلى الدنيا، وأبعد من أبيه عن الدين.
وكان أبو الصبي قد هبط إلى السافلة واستقر فيها، فكانت لصاحب العالية عادة أن يزوره مرة في كل سنة، وكان إذا أقبل لم يقبل وحده، ولم يقبل في نفر قليل، وإنما أقبل في جيش ضخم؛ إن لم يبلغ المائة فليس ينحط عنها إلا قليلا. ولم يكن يتخذ قطر السكة الحديدية ولا سفن النيل، وإنما كان يتخذ الجياد والبغال والحمير، يسير ومن حوله أصحابه فيمرون بالقرى والدساكر، ينزلون ويرحلون في أبهة وضخامة، منتصرين حيث لا سلطان إلا لهم، متحدين
3
حيث لخصومهم شيء من القوة. وكانوا إذا زاروا أسرة الصبي أقبلوا حتى ينزلوا، فإذا الشارع ممتلئ بهم وبخيلهم وبغالهم وحمرهم، قد أخذوه من القناة إلى أقصاه الجنوبي، وإذا الشاء تذبح، وإذا السمط
4
ممدودة في الشارع، وإذا هم إلى طعامهم في شره لا يعدله شره، والشيخ جالس في المنظرة ومن حوله أصفياؤه وأولياؤه، وبين يديه صاحب البيت وأخصاؤه يأتمرون أمره،
5
فإذا فرغوا من الغداء انصرفوا عنه، فنام حيث هو، ثم نهض فتوضأ. فانظر إلى الناس يستبقون ويختصمون أيهم يصب عليه الماء! فإذا فرغ فانظر إليهم يستبقون ويختصمون أيهم يصيب من وضوء
6
الشيخ جرعة! والشيخ عنهم في شغل، يصلي فيطيل الصلاة، ويدعو فيطيل الدعاء، حتى إذا فرغ من هذا كله جلس للناس وهم يتقاطرون عليه؛ منهم من يقبل يده وينصرف خاشعا، ومنهم من يتحدث إليه لحظة أو لحظات، ومنهم من يسأله حاجة، والشيخ يجيب أولئك وهؤلاء بألفاظ غريبة غامضة، يذهبون في فهمها وتأويلها المذاهب.
أدخل عليه الصبي، فمسح رأسه وتلا قول الله تعالي:
وكان فضل الله عليك عظيما ، من ذلك اليوم اقتنع أبو الصبي بأن سيكون لابنه شأن، فإذا صليت المغرب مدت الموائد وأكل الناس، ثم تصلي العشاء ، ثم ينصب المجلس.
ونصب المجلس عبارة عن اجتماع الناس إلى حلقة الذكر، يذكرون الله قاعدين ساكنين، ثم تتحرك رءوسهم وترتفع أصواتهم قليلا، ثم تتحرك أنصافهم وترتفع أصواتهم قليلا، ثم تنبث في أجسامهم رعدة فإذا هم جميعا وقوف؛ قد دفعوا في الهواء كأنما حركهم لولب، وقد انبث في الحلقة شيوخ ينشدون شعر ابن الفارض وما يشبهه من الشعر. وكان لهذا الشيخ خاصة كلف بقصيدة معروفة، فيها ذكر الإسراء والمعراج، أولها:
من مكة والبيت الأمجد
للقدس سري ليلا أحمد
كان الشيوخ يرتلونها ترتيلا، وكان الذاكرون يحركون أجسامهم على هذا الترتيل، ينحنون ويستقيمون كأنما يرقصهم هؤلاء الشيوخ ترقيصا.
ومهما ينس الصبي فلن ينسى ليلة غلط فيها أحد المنشدين فوضع لفظا مكان لفظ من القصيدة، وإذا الشيخ قد ثار وفار، وأرغى وأزبد،
7
وصاح بملء صوته: يا بني الكلاب! لعن الله آباءكم وآباء آبائكم وآباء آباء أبائكم إلى آدم! أتريدون أن تخربوا بيت الرجل!
ومهما ينس الصبي فلن ينسى تأثير هذه الغضبة في نفوس الذاكرين، وفي نفوس الناس من حولهم، وكأن الناس قد اقتنعوا بأن الغلط في هذه القصيدة مصدر شؤم لا يشبهه شؤم، وأظهر أبو الصبي تأثيرا وفزعا، ثم اطمئنانا وهدوءا. فلما انصرف الشيخ من الغد وتذاكرت الأسرة ما كان من أمره، وما كان من قصته مع الذاكرين والمنشدين، ضحك صاحب البيت ضحكة لم يشك الصبي بعدها في أن إيمان أبيه بهذا الشيخ لم يكن خالصا من الشك والازدراء ... نعم من الشك والازدراء! فقد كان طمع الشيخ وحرصه أظهر من أن ينخدع بهما من له حظ من أناة وتفكير.
وكان من أشد الناس مقتا للشيخ وسخطا عليه أم الصبي، كانت تكره زيارته، وتستثقل ظله، وتؤدي ما تؤدي، وتعد ما تعد وهي كارهة ساخطة، لا تكاد تمسك لسانها إلا في مشقة وعناء؛ ذلك لأن زيارة الشيخ كانت ثقيلة على هذه الأسرة التي كانت تعيش من سعة، ولكنها كانت فقيرة على كل حال.
كانت زيارة الشيخ تستهلك كثيرا من القمح والسمن والعسل وما إلى ذلك، وكانت تكلف صاحب البيت الاقتراض لشراء ما لا بد منه من الضأن والمعز، وكان الشيخ لا يلم بهذه الأسرة إلا ارتحل من غده وقد أخذ شيئا راقه وأعجبه؛ يأخذ في هذه المرة بساطا، وفي هذه شالا من الكشمير، وعلى هذا النحو.
كانت زيارة هذا الشيخ وأصحابه شيئا ترغب فيه الأسرة رغبة شديدة، لأنه يمكنها من الفخر ورفع الرأس، ومناوأة الأشباه والنظائر، وتكرهه كرها شديدا لأنه يكلفها ما يكلفها من المال والمشقة. كانت شرا لا بد منه جرت به العادة، وصادف هوى في الناس. وكان اتصال الأسرة بهذا البيت من بيوت الطريق قويا متينا، ترك فيها آثارا باقية من الأخبار والقصص، وأحاديث الكرامات والمعجزا. وكانت أم الصبي وأبوه يجدان لذة في أن يتحدثا إلى أبنائهما بهذه الأخبار والأحاديث، ولم تكن أم الصبي تدع فرصة إلا قصت فيها هذه القصة: «حج أبي ومعه جدتي مع الشيخ خالد مرة، وكان الشيخ قد حج ثلاث مرات تبعه فيها أبي، واستصحب أمه في هذه المرة، فلما فرغوا من الحج وانصرفوا إلى المدينة، وقعت الشيخة في بعض الطريق من الرحل،
8
فانحطم ظهرها انحطاما، وعجزت عن المشي والحركة، وأخذ ابنها يحملها وينقلها من مكان إلى مكان، ويجد في ذلك من المشقة والعناء ما شكاه إلى الشيخ ذات يوم، فقال له الشيخ: ألست تزعم أنها شريفة من نسل الحسن بن علي؟ قال: بلى، قال: فهي ذاهبة إلى جدها، فإذا انتهيت بها إلى المسجد النبوي فضعها في ناحية منه، وخل بينها وبين جدها يصنع بها ما يشاء. وكذلك فعل الرجل؛ وضع أمه في ناحية من نواحي المسجد، وقال لها في لغة الفلاح الجافية يملؤها مع جفوتها الحب والإشفاق: أنت وجدك، فليس لي بكما شأن. ثم تركها وتبع شيخه يريد أن يطوف بقبر النبي. قال الرجل: فوالله ما خطوت خطوات حتى سمعت أمي تناديني، فالتفت فإذا هي قائمة تسعى، وأبيت أن أعود إليها، فإذا هي تعدو من ورائي عدوا، وإذا هي تسبقني إلى الشيخ وتطوف مع الطائفين.»
وكان أبو الصبي لا يدع فرصة إلا ذكر فيها عن الشيخ هذه القصة: ذكر أمامه أن الغزالي قال في بعض كتبه: إن النبي لا يمكن أن يرى فيما يرى النائم، فغضب الشيخ وقال: والله ما هكذا كان الأمل فيك يا غزالي! لقد رأيته بعيني رأسي هذا راكبا بغلته. وذكر له ذلك مرة أخرى فقال: والله ما هكذا كان الأمل فيك يا غزالي، لقد رأيته بعيني رأسي هذا راكبا ناقته، وكان أبو الصبي يستنبط من ذلك أن الغزالي قد أخطأ، وأن عامة الناس يستطيعون أن يروا النبي فيما يرى النائم، وأن الأولياء والصالحين يستطيعون أن يروه وهم أيقاظ. وكان أبو الصبي يثبت هذا بحديث يرويه كلما ذكر هذه القصة، وهو: «من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل بي.»
وعلى هذا النحو حفظ الصبي ألوانا من أخبار الكرامات والمعجزات وأسرار الصوفية، وكان إذا أراد أن يتحدث بشيء من ذلك إلى أترابه ورفاقه في الكتاب قصوا عليه أمثاله؛ يضيفونه إلى صاحب السافلة ويؤمنون به إيمانا شديدا.
كانت لأهل الريف؛ شيوخهم وشبانهم وصبيانهم ونسائهم عقلية خاصة فيها سذاجة وتصوف وغفلة، وكان أكبر الأثر في تكوين هذه العقلية لأهل الطريق.
الفصل السادس عشر
على أن صبينا لم يلبث أن أضاف إلى هذه الألوان من العلم لونا آخر جديدا، وهو علم السحر والطلاسم؛ فقد كان باعة الكتب يتنقلون في القرى والمدن بخليط من الأسفار، لعله أصدق مثل لعقيدة الريف في ذلك العهد؛ كانوا يحملون في حقائبهم: مناقب الصالحين، وأخبار الفتوح والغزوات، وقصة القط والفأر، وحوار السلك والوابور، وشمس المعارف الكبرى في السحر، وكتابا آخر لست أدري كيف كان يسمى، ولكنه كان يعرف بكتاب «الديربي»، ثم أورادا مختلفة، ثم قصص المولد النبوي، ثم مجموعات من الشعر الصوفي، ثم كتبا في الوعظ والإرشاد، وأخرى في المحاضرات وعجائب الأخبار، ثم قصص الأبطال من الهلاليين والزناتيين، وعنترة، والظاهر بيبرس، وسيف بن ذي يزن، ثم القرآن الكريم مع هذا كله. وكان الناس يشترون هذه الكتب كلها، ويلتهمون ما فيها التهاما، وكانت عقليتهم تتكون من خلاصته كما تتكون أجسامهم من خلاصة ما كانوا يأكلون ويشربون.
وقد قرئ لصاحبنا من هذا كله فحفظ منه الشيء الكثير ولكنه عني بشيئين عناية خاصة: عني بالسحر، وعني بالتصوف. ولم يكن في الجمع بين هذين اللونين من العلم شيء من الغرابة ولا من العسر؛ فإن التناقض الذي يظهر بينهما ليس إلا صوريا في حقيقة الأمر، أليس الصوفي يزعم لنفسه وللناس أنه يخترق حجب الغيب، وينبئ بما كان وما سيكون، كما أنه يتعدى حدود القوانين الطبيعية ويأتي بضروب الخوارق والكرامات؟ والساحر ماذا يصنع؟ أليس يزعم لنفسه القدرة على الإخبار بالغيب، وتجاوز حدود القوانين الطبيعية أيضا، والاتصال بعالم الأرواح؟! بلى، كل ما يوجد من الفرق بين الساحر والصوفي هو أن هذا يتصل بالملائكة، وذلك يتصل بالشياطين. ولكن يجب أن نقرأ ابن خلدون وأمثاله لنصل إلى تحقيق مثل هذا الفرق، ونرتب عليه نتائجه الطبيعية من تحريم السحر والترغيب عنه، وتحبيب التصوف والترغيب فيه.
وما كان أبعد صبينا وأترابه عن ابن خلدون وأمثال ابن خلدون! إنما كانت تقع في أيديهم كتب السحر ومناقب الصالحين وكرامات الأولياء، فيقرءون ويتأثرون، ثم لا يلبثون أن يتجاوزوا القراءة والإعجاب إلى الاقتداء والتجربة، وإذا هم يسلكون مناهج الصوفية، ويأتون ما يأتيه السحرة من ضروب الفن، وكثيرا ما يختلط في عقولهم السحر والتصوف، فيصبح كلاهما شيئا واحدا، غايته تيسير الحياة والتقرب إلى الله.
وكذلك كان الأمر في نفس صاحبنا، فقد كان يتصوف ويتكلف السحر، وهو واثق بأنه سيرضي الله، ويظفر من الحياة بأحب لذاتها إليه.
وكان من القصص التي تكثر في أيدي الصبيان يحملها إليهم باعة الكتب، قصة اقتطعت من «ألف ليلة وليلة» وتعرف بقصة «حسن البصري»، في هذه القصة أخبار ذلك المجوسي الذي كان يحول النحاس ذهبا، وأخبار ذلك القصر الذي كان يقوم من وراء الجبل على عمد شاهقة في الهواء، وتقيم فيه بنات سبع من بنات الجن، والذي أوى إليه حسن البصري، ثم أخبار حسن هذا وما كان من رحلته الطويلة الشاقة إلى دور الجن ، وبين هذه الأخبار خبر ملأ الصبي إعجابا؛ وهو أن قضيبا أهدي إلى حسن هذا في بعض رحلته وكان من خواص هذا القضيب أن تضرب به الأرض فتنشق ويخرج منها تسعة نفر يأتمرون أمر
1
صاحب القضيب، وهم بالطبع من الجن أقوياء خفاف يطيرون ويعدون، ويحملون الأثقال، ويقتلعون الجبال، ويأتون من عجيب الأمر ما لا حد له.
فتن الصبي بهذه العصا، ورغب في أن يظفر بها رغبة شديدة قوية أرقت
2
ليله ونغصت يومه، فأخذ يقرأ كتب السحر والتصوف، يلتمس عند السحرة والمتصوفين وسيلة تمكنه من هذه العصا.
وكان له قريب صبي مثله يرافقه إلى الكتاب، فكان أشد منه كلفا بهذه العصا، وما هي إلا أن جد الصبيان في البحث حتى انتهيا إلى وسيلة يسيرة تمكنهما مما يريدان، وجداها في كتاب الديربي، وهي أن يخلو الفتى إلى نفسه وقد تطهر ووضع بين يديه نارا ومقدارا من الطيب، ثم يأخذ في ترديد هذا الاسم من أسماء الله «يا لطيف يا لطيف» ملقيا في النار شيئا من الطيب من حين إلى حين، فيمضي في ترديد هذه الكلمة وتحريق هذا الطيب، حتى تدور به الأرض، وينشق أمامه الحائط، ويمثل أمامه خادم من الجن موكل بهذا الاسم من أسماء الله، فيطلب إليه ما يريده، والحاجة مقضية من غير شك.
ظفر الصبيان بهذه الوسيلة، فاعتزما أن يستخدماها، وما هي إلا أن اشتريا ضروبا من الطيب، وخلا صبينا إلى نفسه في المنظرة، أغلق بابها من دونه ووضع بين يديه قطعا من النار وأخذ يلقي فيها الطيب، ويردد: «يا لطيف! يا لطيف!» وطال به هذا وهو ينتظر أن تدور به الأرض وينشق له الحائط ويمثل الخادم بين يديه، ولكن شيئا من ذلك لم يكن، وهنا تحول صبينا الساحر المتصوف إلى نصاب.
خرج من المنظرة مضطربا يمسك رأسه بيديه ولا يكاد لسانه ينطلق بحرف واحد، فتلقاه صاحبه الصبي يسأله: هل لقي الخادم؟ وهل طلب إليه العصا؟ وصاحبنا لا يجيب إلا مضطربا مرتجفا، تصطك أسنانه اصطكاكا، حتى روع رفيقه الصبي، وبعد لأي
3
أخذ صاحبنا يهدأ ويجيب في ألفاظ متقطعة، وبصوت متهدج: «لقد دارت بي الأرض حتى كدت أسقط، وانشق الحائط وسمعت صوتا ملأ الحجرة من جميع نواحيها، ثم أغمي علي، ثم أفقت فخرجت مسرعا.»
سمع الصبي هذا! فامتلأ فرحا وإعجابا بصاحبه، وقال له: هون عليك؛ فقد أصابك الرعب وملك الخوف عليك أمرك، فلنبحثن في الكتاب عن شيء يؤمنك ويشجعك على أن تثبت للخادم وتطلب منه ما تشاء. واستأنفا البحث في الكتاب، وانتهى بهما البحث إلى أن صاحب الخلوة يجب أن يصلي ركعتين قبل أن يجلس إلى النار ويأخذ في ترديد هذا الاسم، وكذلك فعل الصبي من غده، وأخذ يلقي الطيب في النار ويردد دعاء «اللطيف» ينتظر أن تدور به الأرض، وينشق له الحائط، ويمثل الخادم بين يديه، ولكن شيئا من ذلك لم يكن. وخرج الصبي إلى صاحبه هادئا مطمئنا، فأخبره أن قد دارت الأرض وانشق الحائط ومثل الخادم بين يديه وسمع منه حاجته، ولكنه لم يشأ أن يجيبه إليها حتى يمرن على هذه الخلوة، ويكثر من الصلاة وإطلاق البخور وذكر الله، وضرب له موعدا لقضاء هذه الحاجة شهرا كاملا يأتي فيه هذا الأمر في نظام؛ فإن فسد هذا النظام فلا بد من استئناف الأمر شهرا كاملا آخر. وصدق الصبي صاحبه، وأخذ يلح عليه في كل يوم أن يخلو إلى النار ويردد الدعاء. وأخذ الصبي يستغل من صاحبه هذا الضعف، ويكلفه ما شاء من مشقة وعناء، فإن أبى أو أظهر الإباء أعلن إليه صاحبه أنه لن يخلو إلى النار، ولن يدعو «اللطيف»، ولن يلتمس العصا؛ فيذعن إذعانا سريعا.
على أن صاحبنا لم يكن يميل وحده إلى السحر والتصوف، وإنما كان يدفع إلى ذلك دفعا، يدفعه إليه أبوه؛ ذلك أن الشيخ كان كثير الحاجات عند الله، كان له أبناء كثيرون، وكان يحرص على تعليمهم وتهذيبهم، وكان فقيرا لا يستطيع أن يؤدي نفقات ذلك التعليم، وكان يستدين من حين إلى حين ويثقل عليه أداء الدين، وكان يطمع في أن يزاد راتبه من حين إلى حين ، وكان يطمع في أن يتقدم درجة وينتقل من عمل إلى عمل، وكان يلتمس هذا كله عند الله بالصلاة والدعاء والاستخارة، وكان أحب وسائل الالتماس إليه «عدية يس». وكان يطلب «عدية يس» هذه إلى ابنه الصبي؛ لأنه صبي ولأنه مكفوف، وهو بهاتين المزيتين أثير
4
عند الله رفيع المكانة عنده، وهل يرضى الله أن يرد صبيا مكفوفا حين يطلب إليه أمرا من الأمور متوسلا بقراءة القرآن!
وكانت «عدية يس» مراتب: أولاها؛ أن يخلو الإنسان إلى نفسه فيقرأ هذه السورة من سور القرآن أربع مرات، ثم يطلب ما يشاء وينصرف. والثانية: أن يخلو إلى نفسه فيتلو هذه السورة سبع مرات، ثم يطلب ما يشاء وينصرف. والثالثة: أن يخلو إلى نفسه فيتلو هذه السورة إحدى وأربعين مرة لا يفرغ من قراءتها مرة حتى يتبعها بدعاء يس: «يا عصبة الخير بخير الملل»، فإذا أتم القراءة طلب ما شاء وانصرف. والبخور محتوم في هذه المرتبة الثالثة، وكان الشيخ يكلف ابنه العدية الصغرى في صغار الأمور، والوسطى في الأمور الهامة، والكبرى في الأمور التي تمس حياة الأسرة كلها؛ فإذا سعى في أن يدخل أحد أبنائه في المدرسة مجانا فالعدية الصغرى، وإذا التمس إلى الله أداء دين ثقيل فالعدية الوسطى، وإذا رغب في أن ينتقل من عمل إلى عمل وأن يزاد راتبه جنيها أو بعض الجنيه فالعدية الكبرى. وكان لكل عدية أجر: فأما العدية الصغرى فأجرها قطعة من السكر أو الحلوى، وأما العدية الوسطى فأجرها خمسة مليمات، وأما العدية الكبرى فأجرها عشرة، وكثيرا ما خلا الصبي إلى نفسه وقرأ سورة يس أربعا أو سبعا أو إحدى وأربعين، ومن عجيب الأمر أن الحاجات كانت تقضى دائما، وما هي إلا أن تم اقتناع الشيخ بأن ابنه مبارك، وبأنه أثير عند الله.
ولم يكن أمر السحر والتصوف مقصورا على قضاء الحاجات والتنبؤ بما سينجلي عنه الغيب، وإنما كان يتجاوز هذا كله إلى دفع المكروه واتقاء النكبات. وقد نسي الصبي أشياء كثيرة، ولكنه لم ينس هذا الرعب الذي ملأ قلوب الناس جميعا في المدينة وما حولها من القري؛ حين وصلت إليهم الأخبار من القاهرة بأن نجما ذا ذنب سيظهر في السماء بعد أيام؛ حتى إذا كانت الساعة الثانية بعد الظهر مس الأرض بطرف من ذنبه فإذا هي هشيم
5
تذروه الرياح. فأما النساء وعامة الناس فلم يحفلوا بهذا أو لم يكادوا يحفلون به، وإنما كانوا يشعرون بشيء من الرعب كلما تحدثوا بهذه النازلة أو سمعوا الحديث عنها، ثم لا يلبثون أن ينصرفوا إلى ما هم فيه من حياة عملية. وأما المتفقهون في الدين وحملة القرآن وأصحاب الطرق وتلاميذهم فكانوا هلعين
6
مروعين حقا، لا تكاد تستقر قلوبهم بين جنوبهم، وكانوا يتحاورون
7
في ذلك تحاورا متصلا؛ فمنهم من يزعم أن هذه الكارثة لن تقع؛ لأنها مخالفة لما عرف من أشراط
8
الساعة، وما كان للأرض أن تفنى قبل أن تظهر الدابة والنار والدجال، وقبل أن يهبط المسيح إلى الأرض فيملأها عدلا بعد أن ملئت جورا. ومنهم من كان يظن أن الكارثة من أشراط الساعة. ومنهم من كان يتحدث بأن هذه الكارثة قد تقع فتصيب الأرض بشيء من التدمير دون أن تأتي عليها جميعا. كانوا يتحاورون طول النهار، حتى إذا أقبل الليل وصليت المغرب اجتمعوا حلقا في المسجد وأمام الدور، وأخذوا يرددون هذه الكلمة:
أزفت الآزفة * ليس لها من دون الله كاشفة ، حتى تصلى العشاء. وانقضت الأيام، وجاءت الساعة المحتومة، ولم يظهر في السماء نجم ذو ذنب، ولم يصب الأرض دمار قليل ولا كثير؛ فانقسم المتفقهون في الدين وحملة القرآن وأصحاب الطرق: فأما أهل العلم الذين يستمدون علمهم من الكتب وينتمون
9
إلى الأزهر فانتصروا، وقالوا: «ألم نقل لكم: إن هذه الكارثة لا يمكن أن تقع قبل أن تظهر أشراط الساعة؟ ألم ندعكم إلى تكذيب المنجمين؟» وأما حملة القرآن فقالوا: «كلا! لقد كادت تقع الكارثة لولا أن لطف الله بالرضع والحوامل والبهائم، وسمع لدعاء الداعين، وتضرع المتضرعين.» وأما أهل التصوف والعلم اللدني فقالوا: «كلا! لقد كادت تقع الكارثة لولا أن توسط القطب المتولي بين الناس والله، فصرف عن الناس هذا البلاء، واحتمل عنهم أوزارهم.»
10
وأنت تستطيع أن تقول: إن هذا الدافع الذي كان يدفع الناس إلى التحصن من «الخماسين» كان سحرا أو تصوفا، أما أنا فلا أستطيع إلا أن أحدثك بما يذكر الصبي من أن الأيام التي كانت تسبق أيام شم النسيم كانت أياما غريبة؛ يخالط فيها قلوب النساء والصبيان وحملة القرآن شيء من الفرح والخوف، كانوا إذا أظلهم يوم الجمعة أسرفوا في الأكل وفي ألوان خاصة من الطعام، حتى إذا كان يوم السبت أسرفوا في أكل البيض الملون. وكان الفقهاء قد استعدوا لهذا اليوم استعدادا خاصا فاشتروا ورقا أبيض صقيلا، وقطعوه قطعا صغارا دقاقا وكتبوا على كل قطعة «ا ل م ص» ثم يطوون هذه القطع ويملئون بها جيوبهم، حتى إذا كان يوم السبت ألموا
11
بالدور التي كانوا يتصلون بها، ففرقوا هذه القطع من الورق على أهلها، وطلبوا إلى كل واحد أن يبتلع منها أربعا قبل أن يلم
12
بطعام أو شراب، وكانوا يزعمون للناس أن ابتلاع هذه القطع من الورق يصرف عنهم ما تأتي به «الخماسين» من المكروه، ويصرف عنهم الرمد بنوع خاص. وكان الناس يصدقونهم ويبتلعون هذا الورق ويؤدون إلى الفقهاء ثمنه بيضا أحمر وأصفر. وليس يدري الصبي ماذا كان يصنع سيدنا بما كان يجتمع له من البيض في يوم سبت النور؛ فقد كان كثيرا يتجاوز المئات، على أن استعداد الفقهاء لهذا اليوم لم يكن يقف عند إعداد هذه القطع من الورق، وإنما كان يتجاوز ذلك إلى شيء آخر: كانوا يشترون الورق الأبيض الصقيل، ويقطعونه قطعا طويلة عريضة بعض العرض، ويكتبون عليها مخلفات النبي:
مخلف طه سبحتان ومصحف
ومكحلة سجادتان رحى عصا
حتى إذا فرغوا من هذه المخلفات أضافوا إليها دعاء آخر يبتدئ بهذه الكلمات التي كان الفقهاء يقولون إنها سريانية: «دبى دبندي، كرى كرندي، سرى سرندي، سبر سبربتونا، واحسبوا البعيد عنا لا يأتينا، والقريب منا لا يؤذينا ... إلخ.» ثم يطوون هذه الأوراق على أنها حجب وتمائم، يفرقونها في البيوت على النساء والصبيان، ويتقاضون أثمانها دراهم وخبزا وفطيرا وضروبا من الحلوى، ويزعمون للناس أن اتخاذ هذه التمائم والحجب يدفع عنهم أذي هذه الشياطين التي تحملها رياح الخماسين. وكان النساء يتلقين هذه الحجب مطمئنات إليها، ولكن ذلك لم يكن يمنعهن من اتقاء العفاريت يوم شم النسيم بشق البصل وتعليقه على أبواب الدور، وأكل الفول النابت دون غيره من ألوان الطعام في هذا اليوم.
الفصل السابع عشر
وأراد الله أن يشقي «سيدنا» بتلميذه شقاء غير قليل؛ فلم تكفه تلك الحوادث التي كانت تحدث من حين إلى حين عندما كان الشيخ يمتحن الصبي، ولم تكفه هذه النكبات المتصلة التي نشأت عن عناية الصبي بحفظ الألفية وغيرها من المتون، وجعلت الصبي ثقيلا سمجا يتعالى على أترابه وعلى سيده، ويرى لنفسه مكانة العلماء، ويعصي أوامر العريف، لم يكفه هذا كله، بل كانت نكبة أخرى لم يكن الرجل ينتظرها حقا، وكانت أشد عليه من كل النكبات الأخرى؛ لأنها مسته في صناعته، ذلك أن رجلا من أهل القاهرة هبط إلى المدينة في يوم من الأيام على أنه مفتش للطريق الزراعية، وكان هذا الرجل في متوسط عمره، وكان «مطربشا» يتكلم الفرنسية، وكان يقول إنه تخرج في مدرسة الفنون والصنائع، وكان خفيف الظل جذابا، فما لبث أن أحبه الناس ودعوه إلى دورهم ومجالسهم، وما لبث أن اتصلت المودة بينه وبين أبي الصبي.
وكان قد رتب سيدنا في بيته يقرأ له سورة من القرآن في كل يوم، وجعل له عشرة قروش في كل شهر، وهو الأجر المرتفع الذي كان يدفعه وجوه الناس، فكان سيدنا محبا لهذا الرجل مثنيا عليه. ولكن رمضان أقبل، وكان الناس يجتمعون في ليالي رمضان عند رجل من أهل المدينة وجيه يعمل في التجارة، وكان سيدنا يقرأ القرآن عند هذا الرجل طوال الشهر، وكان الصبي يرافق سيدنا ويريحه من حين إلى حين بقراءة سورة أو جزء مكانه، فقرأ ذات ليلة وسمعه هذا المفتش، فقال لأبيه: إن ابنك لشديد الحاجة إلى تجويد القرآن. قال الشيخ: سيجوده متى ذهب إلى القاهرة على شيخ من شيوخ الأزهر. قال المفتش: فأنا أستطيع أن أجود له القرآن على قراءة حفص، حتى إذا ذهب إلى الأزهر كان قد ألم بأصول التجويد،
1
وسهل عليه أن يفرغ للقراءات السبع أو العشر أو الأربع عشرة. قال الشيخ: وهل أنت من حملة القرآن؟ قال المفتش: ومن المجودين، ولولا أني مشغول لاستطعت أن أقرئ ابنك القرآن على الروايات جميعا، ولكني أحب أن أخصص له ساعة في كل يوم فأقرئه رواية حفص، وأدرس له أصول الفن، وأعده بذلك للأزهر إعدادا صحيحا. قال القوم: وكيف لمطربش يتكلم الفرنسية بحفظ القرآن ورواية القراءات؟ قال المفتش: أنا أزهري تقدمت في دراسة العلوم الدينية إلى مدى بعيد، ثم انصرفت عنها إلى المدارس، فتخرجت في مدرسة الفنون والصنائع. قالوا: فاقرأ لنا شيئا! فنزع الرجل نعليه وتربع ورتل لهم سورة هود ترتيلا ما سمعوا مثله، فلا تسل عن إعجابهم به وإكبارهم إياه، ولا تسل عما أصاب سيدنا من الحزن والغيظ؛ فقد قضى الرجل ليلته كأنه مصعوق.
2
وأصبح الشيخ فأمر ابنه بأن يختلف
3
إلى بيت المفتش في كل يوم، وفرح الصبي بهذا فرحا شديدا، فأعاده على أترابه في الكتاب وتحدث به الصبيان، ولا تسل عن مقدار ما كان يترك هذا الحديث في نفس سيدنا من الحزن؛ فقد نهر
4
الصبي وأمره ألا يذكر اسم المفتش مرة في الكتاب.
وذهب الصبي إلى بيت المفتش، واتصل ذهابه إلى هذا البيت، وأقرأه المفتش «تحفة الأطفال»، وشرح له أصول التجويد؛ علمه المد والغن والإخفاء والإدغام وما يتصل بهذا كله. وكان الصبي معجبا بهذا العلم، وكان يتحدث به إلى أترابه في الكتاب، وكان يبين لهم أن سيدنا لا يحسن المد ولا يتقن الغن، ولا يعرف الفرق بين المد الكلمي والحرفي، ولا بين المد المثقل والمخفف، وكانت أصداء هذا كله تصل إلى سيدنا فتغمه وتحزنه وتخرجه أحيانا عن طوره.
وأخذ الصبي يقرأ القرآن على المفتش من أوله، وأخذ المفتش يعلمه مواضع الوقف والوصل، وأخذ الصبي يقلد المفتش في ترتيله ويحاكي نغمه، وأخذ يقرأ القرآن على هذا النحو في الكتاب ، وجعل أبوه يمتحنه، فإذا سمعه يقرأ على هذا النحو الجديد أعجب وطرب وأثنى على المفتش. وما كان شيء يغيظ سيدنا مثلما كان يغيظه هذا الثناء.
وقضى الصبي سنة كاملة يتردد على هذا البيت، ويقرأ القرآن على المفتش، حتى أتقن التجويد برواية حفص، وكاد يبدأ في رواية ورش لولا أن حدثت حوادث وسافر الصبي إلى القاهرة.
أكان الصبي يحب الاختلاف إلى هذا البيت لأنه كان يعجب بالمفتش، ولأنه كان يحرص على إتقان القرآن وتجويده، وعلى أن يغيظ سيدنا ويظهر التفوق على أترابه؟ نعم! في الشهرين الأولين من هذه السنة، فأما بعد هذين الشهرين فقد كان يجذبه إلى بيت المفتش ويحببه فيه شيء آخر!
كان المفتش متوسط العمر قد بلغ الأربعين إن لم يكن قد جاوزها، وكان قد تزوج من فتاة لم تبلغ السادسة عشرة، ولم يكن له ولد، ولم يكن يعمر بيته الكبير إلا هذه الفتاة وجدة لها قد جاوزت الخمسين. فأما حين بدأ الصبي يختلف إلى هذه الدار فقد كان يذهب ويعود دون أن يلتفت إليه أحد غير المفتش، وما هي إلا أن كثر تردد الصبي حتى أخذت الفتاة تتحدث إليه وتسأله عن نفسه وعن أمه وعن إخوته وعن داره، وأخذ الصبي يجيبها مستحييا، ثم متبسطا، ثم مطمئنا. واتصلت بين هذه الفتاة وهذا الصبي مودة ساذجة كانت حلوة في نفس الصبي لذيذة الموقع في قلبه، وكانت ثقيلة على نفس هذه الشيخة، وكان المفتش يجهلها جهلا تاما.
وأخذ الصبي يذهب إلى دار المفتش قبل الميعاد ليظفر بساعة أو بعض ساعة يتحدث فيها إلى هذه الفتاة، وأخذت الفتاة تنتظره، حتى إذا أقبل أخذته إلى غرفتها، فجلست وأجلسته وتحدثا. وما هي إلا أن استحال الحديث إلى لعب - إلى لعب كلعب الصبيان لا أكثر ولا أقل - ولكنه كان لعبا لذيذا. وقص الصبي هذا كله على أمه، فضحكت ورثت
5
للفتاة قائلة لأخت الصبي: طفلة زوجت من هذا الشيخ لا تعرف أحدا ولا يعرفها أحد، فهي ضيقة الصدر في حاجة إلى اللهو والعبث.
ومن ذلك اليوم سعت أم الصبي في التعرف إلى هذه الفتاة، ودعتها إلى البيت وإلى أن تكثر التردد عليها.
الفصل الثامن عشر
وكذلك اتصلت أيام الصبي بين البيت والكتاب والمحكمة والمسجد وبيت المفتش ومجالس العلماء وحلقات الذكر، لا هي بالحلوة ولا هي بالمرة، ولكنها تحلو حينا وتمر حينا آخر، وتمضي فيما بين ذلك فاترة سخيفة. حتى كان يوم من الأيام ذاق الصبي فيه الألم حقا، وعرف منذ ذلك أن تلك الآلام التي كان يشقى بها ويكره من أجلها الحياة لم تكن شيئا، وأن الدهر قادر على أن يؤلم الناس ويؤذيهم، ويحبب إليهم الحياة ويهون من أمرها على نفوسهم في وقت واحد. كانت للصبي أخت هي صغرى أبناء الأسرة، كانت في الرابعة من عمرها، كانت خفيفة الروح طلقة الوجه فصيحة اللسان عذبة الحديث قوية الخيال. كانت لهو الأسرة كلها، كانت تخلو إلى نفسها ساعات طوالا في لهو وعبث؛ تجلس إلى الحائط فتتحدث إليه كما تتحدث أمها إلى زائرتها، وتبعث في كل اللعب التي كانت بين يديها روحا قويا وتسبغ عليها شخصية؛ فهذه اللعبة امرأة، وهذه اللعبة رجل، وهذه اللعبة فتى، وهذه اللعبة فتاة، والطفلة بين هؤلاء الأشخاص جميعا تذهب وتجيء، وتصل بينها الأحاديث مرة في لهو وعبث، وأخرى في غيظ وغضب، ومرة ثالثة في هدوء واطمئنان، وكانت الأسرة كلها تجد لذة قوية في الاستماع إلى هذه الأحاديث والنظر إلى هذه الألوان من اللعب دون أن ترى الطفلة، أو تستمع، أو تحس أن أحدا يرقبها.
فما هي إلا أن أقبلت بوادر عيد الأضحى في سنة من السنين، وأخذت أم الصبي تستعد لهذا العيد؛ تهيئ له الدار وتعد له الخبز وألوان الفطير. وأخذ إخوة الصبي يستعدون لهذا العيد؛ يختلف كبارهم إلى الخياط حينا، وإلى الحذاء حينا آخر، ويلهو صغارهم بهذه الحركة الطارئة على الدار، فينظر صبينا إلى أولئك وهؤلاء في شيء من الفلسفة كان قد تعوده؛ فلم يكن في حاجة إلى أن يختلف إلى خياط أو حذاء، وما كان ميالا إلى اللهو بمثل هذه الحركات الطارئة ، وإنما كان يخلو إلى نفسه ويعيش في عالم من الخيال يستمده من هذه القصص والكتب المختلفة التي كان يقرؤها فيسرف في قراءتها.
أقبلت بوادر هذا العيد، وأصبحت الطفلة ذات يوم في شيء من الفتور والهمود لم يكد يلتفت إليه أحد. والأطفال في القرى ومدن الأقاليم معرضون لهذا النوع من الإهمال، ولا سيما إذا كانت الأسرة كثيرة العدد، وربة البيت كثيرة العمل. ولنساء القرى ومدن الأقاليم فلسفة آثمة وعلم ليس أقل منها إثما، يشكو الطفل، وقلما تعني به أمه ... وأي طفل لا يشكو! إنما هو يوم وليلة ثم يفيق ويبل،
1
فإن عنيت به أمه فهي تزدري الطبيب أو تجهله، وهي تعتمد على هذا العلم الآثم؛ علم النساء وأشباه النساء. وعلى هذا النحو فقد صبينا عينيه؛ أصابه الرمد فأهمل أياما، ثم دعي الحلاق فعالجه علاجا ذهب بعينيه. وعلى هذا النحو فقدت هذه الطفلة الحياة؛ ظلت فاترة هامدة محمومة يوما ويوما ويوما، وهي ملقاة على فراشها في ناحية من نواحي الدار، تعنى بها أمها أو أختها من حين إلى حين، تدفع إليها شيئا من الغذاء، الله يعلم أكان جيدا أم رديئا؟ والحركة متصلة في البيت؛ يهيأ الخبز والفطير في ناحية، وتنظف المنظرة وحجرة الاستقبال في ناحية أخرى، والصبيان في لهوهم وعبثهم، والشبان في ثيابهم وأحذيتهم، والشيخ يغدو ويروح ويجلس إلى أصحابه آخر النهار وأول الليل.
حتى إذا كان عصر اليوم الرابع وقف هذا كله فجأة، وقف وعرفت أم الصبي أن شبحا مخيفا يحلق على هذه الدار، ولم يكن الموت قد دخل هذه الدار من قبل، ولم تكن هذه الأم الحنون قد ذاقت لذع الألم الصحيح، نعم! كانت في عملها وإذا الطفلة تصيح صياحا منكرا، فتدع أمها كل شيء وتسرع إليها، والصياح يتصل ويزداد، فتدع أخوات الطفلة كل شيء ويسرعن إليها، والصياح يتصل ويشتد، والطفلة تتلوى وتضطرب بين ذراعي أمها، فيدع الشيخ أصحابه ويسرع إليها، والصياح يتصل ويشتد، والطفلة ترتعد ارتعادا منكرا ويتقبض وجهها ويتصبب العرق عليه، فينصرف الصبيان والشبان عما هم فيه من لهو وحديث ويسرعون إليها، ولكن الصياح لا يزداد إلا شدة، وإذا هذه الأسرة كلها واجمة مبهوتة
2
محيطة بالطفلة لا تدري ماذا تصنع! ويتصل ذلك ساعة وساعة، فأما الشيخ فقد أخذه الضعف الذي يأخذ الرجال في مثل هذه الحال، فينصرف مهمهما
3
بصلوات وآيات من القرآن يتوسل بها إلى الله، وأما الشبان والصبيان فيتسللون في شيء من الوجوم لا يكادون ينسون ما كانوا فيه من لهو وحديث ولا يكادون يستأنفونه، هم كذلك حيارى في الدار! وأمهم جالسة واجمة تحدق في ابنتها وتسقيها ألوانا من الدواء لا أعرف ما هى، والصياح متصل مشتد، والاضطراب مستمر متزايد.
ما كنت أحسب أن في الأطفال - ولما يتجاوزوا الرابعة - قوة تعدل هذه القوة. وتأتي ساعة العشاء وقد مدت المائدة، مدتها كبرى أخوات الصبي، وأقبل الشيخ وبنوه فجلسوا إليها، ولكن صياح الطفلة متصل، فلا تمد يد إلى طعام، وإنما يتفرقون جميعا، وترفع المائدة كما مدت، والطفلة تصيح وتضطرب، وأمها تحدق إليها حينا وتبسط يدها إلى السماء حينا آخر، وقد كشفت عن رأسها وما كان من عادتها أن تفعل! ولكن أبواب السماء كانت قد أغلقت في ذلك اليوم، فقد سبق القضاء بما لا بد منه، فيستطيع الشيخ أن يتلو القرآن، وتستطيع هذه الأم أن تتضرع، ومن غريب الأمر أن أحدا من هؤلاء الناس جميعا لم يفكر في الطبيب، وتقدم الليل وأخذ صياح الفتاة يهدأ، وأخذ صوتها يخفت،
4
وأخذ اضطرابها يخف، وخيل إلى هذه الأم التعسة أن قد سمع الله لها ولزوجها، وأن قد أخذت الأزمة
5
تنحل. وفي الحق أن الأزمة كانت قد أخذت تنحل، وأن الله كان قد رأف بهذه الطفلة، وأن خفوت الصوت وهدوء هذا الاضطراب كانا آيتي هذه الرأفة. تنظر الأم إلى ابنتها فيخيل إليها أنها ستنام، ثم تنظر فإذا هدوء متصل لا صوت ولا حركة، وإنما هو نفس خفيف شديد الخفة يتردد بين شفتين مفتحتين قليلا، ثم ينقطع هذا النفس وإذا الطفلة قد فارقت الحياة.
ماذا كانت علتها؟ كيف ذهبت بحياتها هذه العلة؟ الله وحده يعلم هذا.
وهنا يرتفع صياح آخر ويتصل ويشتد، وهنا يظهر اضطراب آخر ويتصل ويشتد، ولكنه ليس صياح الطفلة ولا اضطرابها، وإنما هو صياح هذه الأم وقد رأت الموت، واضطرابها وقد أحست الثكل.
6
وإذا الشبان والصبيان قد فزعوا إلى أمهم وسبقهم إليها الشيخ، وإذا هي في جزع وهلع ينطق لسانها بألفاظ لا صلة بينها، ويقطع الدمع صوتها تقطيعا، وإذا هي تلطم خديها في عنف متصل، وزوجها ماثل أمامها لا ينطق لسانه بحرف، وإنما تنهمر دموعه انهمارا، وإذا الجارات والجيران قد سمعوا هذا الصياح فأقبلوا مسرعين. فأما الشيخ فينصرف إلى الرجال يتقبل عزاءهم في قوة وجلد. وأما الشبان والصبيان فيتفرقون في الدار، قد قست قلوب بعضهم فنام، ورقت قلوب بعضهم فسهر، وأما الأم ففيما هي فيه من جزع وهلع، أمامها ابنتها هامدة جامدة، تولول
7
وتخمش وجهها وتصك صدرها، ومن حولها بناتها وجاراتها يصنعن صنيعها؛ يولولن ويخمشن الوجوه ويصككن الصدور حتى ينقضي الليل كله.
وما أشد نكر هذه الساعة التي أقبل فيها بعض الناس واحتملوا الطفلة ومضوا بها إلى حيث لا تعود! كان ذلك اليوم يوم الأضحى، وكانت الدار قد هيئت للعيد، وكانت الضحايا قد أعدت، فيا له من يوم! ويا لها من ضحايا! ويا نكرها من ساعة حين عاد الشيخ إلى داره مع الظهر وقد وارى ابنته في التراب!
منذ ذلك اليوم اتصلت الأواصر
8
بين الحزن وبين هذه الأسرة؛ فما هي إلا أشهر حتى فقد الشيخ أباه الهرم، وما هي إلا أشهر أخرى حتى فقدت أم الصبي أمها الفانية.
9
وإنما هو حداد
10
متصل وألم يقفو
11
بعضه بعضا، منه اللاذع ومنه الهادئ، حتى كان هذا اليوم المنكر الذي لم تعرف الأسرة يوما مثله، والذي طبع حياتها بطابع من الحزن لم يفارقها، والذي ابيض له شعر الأبوين جميعا، والذي قضى على هذه الأم أن تلبس السواد إلى آخر أيامها، وألا تذوق للفرح طعما، ولا تضحك إلا بكت إثر ضحكها، ولا تنام حتى تريق بعض الدموع، ولا تفيق من نومها حتى تريق دموعا أخرى،
12
ولا تطعم فاكهة حتى تطعم منها الفقراء والصبيان، ولا تبتسم لعيد، ولا تستقبل يوم سرور إلا وهي كارهة راغمة.
كان هذا اليوم يوم 21 أغسطس من سنة 1902، وكان الصيف منكرا في هذه السنة، وكان وباء الكوليرا قد هبط إلى مصر ففتك بأهلها فتكا ذريعا،
13
ودمر مدنا وقرى، ومحا أسرا كاملة. وكان «سيدنا» قد أكثر من الحجب وكتابة المخلفات، وكانت المدارس والكتاتيب قد أقفلت، وكان الأطباء ورسل مصلحة الصحة قد انبثوا
14
في الأرض ومعهم أدواتهم وخيامهم يحجزون فيها المرضى، وكان الهلع قد ملأ النفوس واستأثر بالقلوب، وكانت الحياة قد هانت على الناس، وكانت كل أسرة تتحدث بما أصاب الأسر الأخرى وتنتظر حظها من المصيبة. وكانت أم الصبي في هلع مستمر، وكانت تسأل نفسها ألف مرة في كل يوم بمن تنزل النازلة من أبنائها وبناتها! وكان لها ابن في الثامنة عشرة جميل المنظر رائع الطلعة، نجيب ذكي القلب، وكان أنجب الأسرة وأذكاها وأرقها قلبا، وأصفاها طبعا، وأبرها بأمه، وأرأفها بأبيه، وأرفقها بصغار إخوته وأخواته، وكان مبتهجا دائما، وكان قد ظفر بشهادة «البكالوريا» وانتسب إلى مدرسة الطب، وأخذ ينتظر آخر الصيف ليذهب إلى القاهرة، فلما كان هذا الوباء، اتصل بطبيب المدينة وأخذ يرافقه، ويقول: إنه يتمرن على صناعته، حتى كان يوم 21 أغسطس.
أقبل الشاب آخر هذا اليوم كعادته باسما، فلاطف أمه وداعبها وهدأ من روعها، وقال: لم تصب المدينة اليوم بأكثر من عشرين إصابة، وقد أخذت وطأة الوباء تخف. ولكنه مع ذلك شكا من بعض الغثيان،
15
وخرج إلى أبيه فجلس إليه وحدثه كعادته، ثم ذهب إلى أصحابه فرافقهم إلى حيث كان يذهب معهم في كل يوم عند شاطئ الإبراهيمية. فلما كان أول الليل عاد وقضى ساعة في ضحك وعبث مع إخوته، وفي هذه الليلة زعم لأهل البيت جميعا أن في أكل الثوم وقاية من الكوليرا، وأكل الثوم وأخذ كبار إخوته وصغارهم بالأكل منه، وحاول أن يقنع أبويه بذلك فلم يوفق.
وكانت الدار هادئة مغرقة في النوم كبارها وصغارها وحيوانها عندما انتصف الليل، ولكن صيحة غريبة ملأت هذا الجو الهادئ، فهب
16
لها القوم جميعا. فأما الشيخ وزوجته فكانا في هذا الدهليز المنبسط الذي تظله السماء يدعوان ابنهما باسمه. وأما الشبان من أهل الدار فكانوا يثبون من فراشهم مسرعين إلى حيث الصوت. وأما الصبيان فكانوا يجلسون يحكون أعينهم بأيديهم يحاولون أن يتبينوا في شيء من الهلع من أين يأتي الصوت وماذا كانت الحركة الغريبة؟!
وكان مصدر هذا كله صوت هذا الفتى وهو يعالج القيء. وكان الفتى قضى ساعة أو ساعتين يخرج من الحجرة على أطراف قدميه ويمضي إلى الخلاء ليقيء مجتهدا ألا يوقظ أحدا، حتى إذا بلغت العلة منه أقصاها لم يملك نفسه ولم يستطع أن يقيء في لطف، فسمع أبواه هذه الحشرجة ففزعا لها، وفزع معهما أهل الدار جميعا.
إذن فقد أصيب الشاب، ووجد الوباء طريقه إلى الدار، وعرفت أم الفتى بأي أبنائها تنزل النازلة. لقد كان الشيخ في تلك الليلة خليقا بالإعجاب حقا، كان هادئا رزينا مروعا مع ذلك، ولكنه يملك نفسه، وكان في صوته شيء يدل على أن قلبه مفطور، وعلى أنه مع ذلك جلد مستعد لاحتمال النازلة. آوى ابنه إلى حجرته، وأمر بالفصل بينه وبين بقية إخوته، وخرج مسرعا فدعا جارين من جيرانه، وما هي إلا ساعة حتى عاد ومعه الطبيب.
وفي أثناء ذلك كانت أم الفتى مروعة جلدة مؤمنة تعنى بابنها، حتى إذا أمهله القيء خرجت إلى الدهليز فرفعت يدها ووجهها إلى السماء، وفنيت في الدعاء والصلاة، حتى تسمع حشرجة القيء فتسرع إلى ابنها تسنده إلى صدرها وتأخذ رأسه بين يديها، ولسانها مع ذلك لا يكف عن الدعاء والابتهال.
ولم تستطع أن تحول بين الصبيان والشبان وبين المريض، فملئوا عليه الحجرة وأحاطوا به واجمين، وهو يداعب أمه كلما أمهله القيء، ويعبث مع صغار إخوته، حتى إذا جاء الطبيب فوصف ما وصف وأمر بما أمر وانصرف على أن يعود مع الصبح. لزمت أم الفتى حجرة ابنها، وجلس الشيخ قريبا من هذه الحجرة واجما لا يدعو ولا يصلي ولا يجيب أحدا من الذين كانوا يتحدثون إليه.
وأقبل الصبح بعد لأي، وأخذ الفتى يشكو ألما في ساقيه، وأقبلت إليه أخواته يدلكن له ساقيه، وهو يشكو صائحا مرة كاتما ألمه، ومرة أخرى القيء يجهده ويخلع في الوقت نفسه قلب أبويه. وقضت الأسرة كلها صباحا لم تقض مثله قط؛ صباحا واجما مظلما فيه شيء مفزع مروع. فأما خارج الدار فكان يزدحم بالناس، أقبلوا إلى الشيخ يواسونه. وأما داخل الدار فكان يزدحم بالنساء أقبلن يواسين أم الفتى. وكان الشيخ وزوجه عن أولئك وهؤلاء في شغل، وكان الطبيب يتردد بين ساعة وساعة، وكان الفتى قد طلب أن يبرق إلى أخيه الأزهري في القاهرة وإلى عمه في أعلى الإقليم، وكان يطلب الساعة من حين إلى حين ينظر فيها كأنه يتعجل الوقت، وكأنه يشفق أن يموت دون أن يرى أخاه الشاب وعمه الشيخ، يا لها من ساعة منكرة، هذه الساعة الثالثة من الخميس 21 أغسطس سنة 1902!
انصرف الطبيب من الحجرة يائسا، وكأنه قد أسر إلى رجلين من أقرب أصحاب الشيخ إليه بأن الفتى يحتضر،
17
فأقبل الرجلان حتى دخلا الحجرة على الفتى ومعه أمه، ظهرت في هذا اليوم لأول مرة في حياتها أمام الرجال.
والفتى في سريره يتضور؛
18
يقف ثم يلقي بنفسه، ثم يجلس ثم يطلب الساعة، ثم يعالج القيء، وأمه واجمة، والرجلان يواسيانه وهو يجيبهما: لست خيرا من النبي، أليس النبي قد مات! ويدعو أباه يريد أن يواسيه فلا يجيبه الشيخ، وهو يقوم ويقعد ويلقي نفسه في السرير مرة ومن دون السرير مرة أخرى، وصبينا منزو في ناحية من هذه الحجرة، واجم كئيب دهش يمزق الحزن قلبه تمزيقا.
ثم ألقى الفتى نفسه على السرير وعجز عن الحركة، وأخذ يئن أنينا يخفت من حين إلى حين، وكان صوت هذا الأنين يبعد شيئا فشيئا، وإن الصبي لينسى كل شيء قبل أن ينسى هذه الأنة الأخيرة التي أرسلها الفتى نحيلة ضئيلة طويلة ثم سكت. في هذه اللحظة نهضت أم الفتى وقد انتهى صبرها ووهى
19
جلدها، فلم تكد تقف حتى هوت
20
أو كادت، وأسندها الرجلان، فتمالكت نفسها وخرجت من الحجرة مطرقة ساعية في هدوء، حتى إذا جاوزتها انبعثت من صدرها شكاة، لا يذكرها الصبي إلا انخلع لها قلبه انخلاعا. واضطرب الفتى قليلا، ومرت في جسمه رعدة تبعها سكوت الموت. وأقبل الرجلان إليه فهيآه وعصباه وألقيا على وجهه لثاما، وخرجا إلى الشيخ، ثم ذكر أن الصبي منزو في ناحية من نواحي الحجرة، فعاد أحدهما إليه فجذبه جذبا وهو ذاهل، حتى انتهى به إلى مكان بين الناس فوضعه فيه كما يوضع الشيء.
وما هي إلا ساعة أو بعض ساعة حتى هيئ الفتى للدفن وخرج الرجال به على أعناقهم.
فيا للقضاء! ما كادوا يبلغون به باب الدار حتى كان أول من لقي النعش هذا العم الشيخ الذي كان الفتى يتمهل الموت دقائق ليراه.
من ذلك اليوم استقر الحزن العميق في هذا الدار، وأصبح إظهار الابتهاج أو السرور بأي حادث من الحوادث شيئا ينبغي أن يتجنبه الشبان والأطفال جميعا.
من ذلك اليوم تعود الشيخ ألا يجلس إلى غدائه ولا إلى عشائه حتى يذكر ابنه ويبكيه ساعة أو بعض ساعة، وأمامه امرأته تعينه على البكاء، ومن حوله أبناؤه وبناته يحاولون تعزية هذين الأبوين فلا يبلغون منهما شيئا، فيجهشون جميعا بالبكاء.
21
من ذلك اليوم تعودت هذه الأسرة أن تعبر النيل إلى مقر الموتى من حين إلى حين، وكانت من قبل ذلك تعيب الذين يزورون الموتى.
ومن ذلك اليوم تغيرت نفسية صبينا تغيرا تاما ... عرف الله حقا، وحرص على أن يتقرب إليه بكل ألوان التقرب؛ بالصدقة حينا، وبالصلاة حينا آخر، وبتلاوة القرآن مرة ثالثة، ولقد شهد الله ما كان يدفعه إلى ذلك خوف ولا إشفاق ولا إيثار للحياة، ولكنه كان يعلم أن أخاه الشاب كان من أبناء المدارس، وكان يقصر في أداء واجباته الدينية؛ فكان الصبي يأتي ما يأتي من ضروب العبادة يريد أن يحط عن أخيه بعض السيئات. كان أخوه في الثامنة عشرة من عمره، وكان الصبي قد سمع من الشيوخ أن الصلاة والصوم فرض على الإنسان متى بلغ الخامسة عشرة، فقدر الصبي في نفسه أن أخاه مدين لله بالصوم والصلاة ثلاثة أعوام كاملة، وفرض الصبي على نفسه ليصلين الخمس في كل يوم مرتين: مرة لنفسه ومرة لأخيه، وليصومن من السنة شهرين: شهرا لنفسه وشهرا لأخيه، وليكتمن ذلك عن أهله جميعا، وليجعلن ذلك عهدا بينه وبين الله خاصة، وليطعمن فقيرا أو يتيما مما تصل إليه يده من طعام أو فاكهة قبل أن يأخذ بحظه منه. وشهد الله لقد وفى الصبي بهذا العهد أشهرا، وما غير سيرته هذه إلا حين ذهب إلى الأزهر.
من ذلك اليوم عرف الصبي أرق الليل؛ فكم أنفق سواد الليل كاملا يفكر في أخيه أو يقرأ سورة الإخلاص آلاف المرات، ثم يهب ذلك كله لأخيه، أو ينظم شعرا على نحو هذا الشعر الذي كان يقرؤه في كتب القصص يذكر فيه حزنه وألمه لفقد أخيه، معنيا بألا يفرغ من قصيدة حتى يصلي في آخرها على النبي، واهبا ثواب هذه الصلاة لأخيه.
نعم! ومن ذلك اليوم عرف الصبي الأحلام المروعة؛ فقد كانت علة أخيه تتمثل له في كل ليلة. واستمرت الحال كذلك أعواما، ثم تقدمت به السن، وعمل فيه الأزهر عمله، فأخذت علة أخيه تتمثل له من حين إلى حين. وأصبح فتى ورجلا، وتقلبت به أطوار الحياة، وإنه لعلى ما هو عليه من وفاء لهذا الأخ، يذكره ويراه فيما يرى النائم مرة في الأسبوع على أقل تقدير.
ولقد تعزى عن هذا الفتى إخوته وأخواته، ونسيه من نسيه من أصحابه وأترابه، وأخذت ذكراه لا تزور أباه الشيخ إلا لماما، ولكن اثنين يذكرانه دائما، وسيذكرانه أبدا أول الليل من كل يوم، هما: أمه وهذا الصبي.
الفصل التاسع عشر
«أما في هذه المرة فستذهب إلى القاهرة مع أخيك، وستصبح مجاورا، وستجتهد في طلب العلم. وأنا أرجو أن أعيش حتى أرى أخاك قاضيا وأراك من علماء الأزهر، قد جلست إلى أحد أعمدته ومن حولك حلقة واسعة بعيدة المدى.»
قال الشيخ ذلك لابنه آخر النهار في يوم من خريف سنة 1902، وسمع الصبي هذا الكلام فلم يصدق ولم يكذب، ولكنه آثر
1
أن ينتظر تصديق الأيام أو تكذيبها له، فكثيرا ما قال له أبوه مثل هذا الكلام، وكثيرا ما وعده أخوه الأزهري مثل هذا الوعد، ثم سافر الأزهري إلى القاهرة، ولبث الصبي في المدينة يتردد بين البيت والكتاب والمحكمة ومجالس الشيوخ.
وفي الحق أنه لم يفهم لماذا صدق وعد أبيه في هذه السنة؛ فقد أخبر الصبي ذات يوم أنه مسافر بعد أيام. وأقبل يوم الخميس، فإذا الصبي يرى نفسه يتأهب للسفر حقا، وإذا هو يرى نفسه في المحطة ولما تشرق الشمس، وهو يرى نفسه جالسا القرفصاء منكس الرأس كئيبا محزونا، ويسمع أكبر إخوته ينهره في لطف قائلا له: لاتنكس رأسك هكذا، ولا تأخذ هذا الوجه الحزين فتحزن أخاك. ويسمع أباه يشجعه في لطف قائلا: ماذا يحزنك؟ ألست رجلا؟ ألست قادرا على أن تفارق أمك؟ أم أنت تريد أن تلعب؟ ألم يكفك هذا اللعب الطويل؟!
شهد الله ما كان الصبي حزينا لفراق أمه، وما كان الصبي حزينا لأنه لن يلعب، إنما كان يذكر هذا الذي ينام هنالك من وراء النيل، كان يذكره، وكان يذكر أنه كثيرا ما فكر في أنه سيكون معهما في القاهرة تلميذا في مدرسة الطب. كان يذكر هذا كله فيحزن، ولكنه لم يقل شيئا ولم يظهر حزنا، وإنما تكلف الابتسام، ولو قد أرسل نفسه مع طبيعتها لبكى ولأبكى من حوله أباه وأخويه.
وانطلق القطار ومضت ساعات، ورأى صاحبنا نفسه في القاهرة بين جماعة من المجاورين قد أقبلوا إلى أخيه فحيوه، وأكلوا ما كان قد احتمله لهم من طعام.
انقضى هذا اليوم، وكان يوم الجمعة، وإذا الصبي يرى نفسه في الأزهر للصلاة، وإذا هو يسمع الخطيب شيخا ضخم الصوت عاليه، فخم الراءات والقافات، لا فرق بينه وبين خطيب المدينة إلا في هذا. فأما الخطبة فهي ما كان تعود أن يسمع في المدينة. وأما الحديث فهو هو، وأما النعت فهو هو، وأما الصلاة فهي هي؛ ليست أطول من صلاة المدينة ولا أقصر.
وعاد الصبي إلى بيته أو قل إلى حجرة أخيه، خائب الظن بعض الشيء، وسأله أخوه: مارأيك في تجويد القرآن ودرس القراءات؟ قال الصبي: لست في حاجة إلى شيء من هذا؛ فأما التجويد فأنا أتقنه، وأما القراءات فلست في حاجة إليها، وهل درست أنت القراءات؟ أليس يكفيني أن أكون مثلك؟ إنما أنا في حاجة إلى العلم، أريد أن أدرس الفقه والنحو والمنطق والتوحيد.
قال أخوه: حسبك! يكفي أن تدرس الفقه والنحو في هذه السنة.
وكان يوم السبت، فاستيقظ الصبي مع الفجر، وتوضأ وصلى، ونهض أخوه فتوضأ وصلى كذلك، ثم قال له: ستذهب معي الآن إلى مسجد كذا، وستحضر درسا ليس لك وإنما هو لي، حتى إذا فرغنا من هذا الدرس ذهبت بك إلى الأزهر، فالتمست لك شيخا من أصحابنا تختلف إليه وتأخذ عنه مبادئ العلم. قال الصبي: وما هذا الدرس الذي سأحضره؟ قال أخوه ضاحكا: هو درس الفقه وهو: «ابن عابدين على الدر»، قال ذلك يملأ به فمه. قال الصبي: ومن الشيخ؟ قال أخوه: هو الشيخ ... وكان الصبي قد سمع اسم الشيخ ... ألف مرة ومرة، فقد كان أبوه يذكر هذا الاسم، ويفتخر بأنه عرف الشيخ حين كان قاضيا للإقليم، وكانت أمه تذكر هذا الاسم، وتذكر أنها عرفت امرأته فتاة هوجاء جلفة، تتكلف زي أهل المدينة وما هي من زي أهل المدن في شيء. وكان أبو الصبي يسأل ابنه الأزهري كلما عاد من القاهرة عن الشيخ ودروسه وعدد طلابه، وكان ابنه الأزهري يحدثه عن الشيخ ومكانته في المحكمة العليا وحلقته التي تعد بالمئات. وكان أبو الصبي يلح على ابنه الأزهري في أن يقرأ كما كان يقرأ الشيخ، فيحاول الفتى تقليده، فيضحك أبوه في إعجاب وإكبار. وكان أبو الصبي يسأل ابنه: أيعرفك الشيخ؟ فيجيب الفتى: وكيف لا! وأنا ورفاقي من أخص تلاميذه وآثرهم
2
عنده! نحضر درسه العام ثم نحضر عليه درسا خاصا في بيته، وكثيرا ما نتغدى لنعمل معه بعد ذلك في كتبه الكثيرة التي يؤلفها. ثم يمضي الفتى في وصف بيت الشيخ وحجرة استقباله ودار كتبه، وأبوه يسمع ذلك معجبا، حتى إذا خرج إلى أصحابه قص عليهم ما سمع من ابنه في شيء من التيه والفخار.
كان الصبي إذن يعرف الشيخ، وكان سعيدا بالذهاب إلى حلقته والاستماع له، وكم كان مبتهجا حين خلع نعليه عند باب المسجد ومشى على الحصير ثم على الرخام ثم على هذا البساط الرقيق الذي فرش به المسجد، وكم كان سعيدا حين أخذ مكانه في الحلقة على هذا البساط إلى جانب عمود من الرخام، لمسه فأحب ملاسته ونعومته، وأطال التفكير في قول أبيه: «إني لأرجو أن أعيش حتى أرى أخاك قاضيا وأراك صاحب عمود في الأزهر.» وفيما هو يفكر في هذا ويتمنى أن يمس أعمدة الأزهر ليرى أهي كأعمدة هذا المسجد، وللطلاب من حوله دوي غريب، أحس أن هذا الدوي يخفت ثم ينقطع، وغمزه أخوه بيده قائلا في صوت خافت: لقد أقبل الشيخ. اجتمعت شخصية الصبي كلها حينئذ في أذنيه وأنصت، ماذا يسمع؟ يسمع صوتا خافتا هادئا رزينا ملؤه شيء؛ قل: إنه الكبر، أو قل: إنه الجلال، أو قل: إنه ما شئت، ولكنه شيء غريب لم يحبه الصبي، ولبث الصبي دقائق لا يميز مما يقول الشيخ حرفا، حتى إذا تعودت أذناه صوت الشيخ وصدى المكان سمع وتبين وفهم، وقد أقسم لي بعد ذلك أنه احتقر العلم منذ ذلك اليوم؛ سمع الشيخ يقول: «ولو قال لها أنت طلاق أو أنت ظلام أو أنت طلال أو أنت طلاة، وقع الطلاق ولا عبرة بتغيير اللفظ.» يقول ذلك متغنيا به مرتلا له ترتيلا في صوت لا يخلو من حشرجة، ولكن صاحبه يحتال أن يجعله عذبا. ثم يختم هذا الغناء بهذه الكلمة التي أعادها طوال الدرس: «فاهم يا أدع!» وأخذ الصبي يسأل نفسه عن «الأدع» هذا ما هو؟ حتى إذا انصرف عن الدرس سأل أخاه: ما الأدع؟ فقهقه أخوه وقال: الأدع؛ الجدع في لغة الشيخ.
ومضى به أخوه بعد ذلك إلى الأزهر، فقدمه إلى أستاذه الذي علمه مبادئ الفقه والنحو سنة كاملة.
الفصل العشرون
إنك يا ابنتي لساذجة سليمة القلب طيبة النفس، أنت في التاسعة من عمرك، في هذه السن التي يعجب فيها الأطفال بآبائهم وأمهاتهم، ويتخذونهم مثلا عليا في الحياة: يتأثرونهم
1
في القول والعمل، ويحاولون أن يكونوا مثلهم في كل شيء، ويفاخرون بهم إذا تحدثوا إلى أقرانهم أثناء اللعب، ويخيل إليهم أنهم كانوا أثناء طفولتهم كما هم الآن مثلا عليا يصلحون أن يكونوا قدوة حسنة وأسوة صالحة.
أليس الأمر كما أقول؟ ألست ترين أن أباك خير الرجال وأكرمهم؟ ألست ترين أنه قد كان كذلك خير الأطفال وأنبلهم؟ ألست مقتنعة أنه كان يعيش كما تعيشين أو خيرا مما تعيشين؟ ألست تحبين أن تعيشي الآن كما كان يعيش أبوك حين كان في الثامنة من عمره؟ ومع ذلك فإن أباك يبذل من الجهد ما يملك وما لا يملك، ويتكلف من المشقة ما يطيق وما لا يطيق، ليجنبك حياته حين كان صبيا.
لقد عرفته يا ابنتي في هذا الطور من أطوار حياته، ولو أني حدثتك بما كان عليه حينئذ لكذبت كثيرا من ظنك، ولخيبت كثيرا من أملك، ولفتحت إلى قلبك الساذج ونفسك الحلوة بابا من أبواب الحزن، حرام أن يفتح إليهما وأنت في هذا الطور اللذيذ من الحياة، ولكني لن أحدثك بشيء مما كان عليه أبوك في ذلك الطور الآن، لن أحدثك بشيء من هذا حتى تتقدم بك السن قليلا فتستطيعين أن تقرئى وتفهمي وتحكمي، ويومئذ تستطيعين أن تعرفي أن أباك أحبك حقا، وجد في إسعادك حقا، ووفق بعض التوفيق لأن يجنبك طفولته وصباه.
نعم يا ابنتي! لقد عرفت أباك في هذا الطور من حياته، وإني لأعرف أن في قلبك رقة ولينا، وإني لأخشى لو حدثتك بما عرفت من أمر أبيك حينئذ أن يملكك الإشفاق وتأخذك الرأفة فتجهشي بالبكاء.
لقد رأيتك ذات يوم جالسة على حجر أبيك وهو يقص عليك قصة «أوديب ملكا»، وقد خرج من قصره بعد أن فقأ عينيه لا يدري كيف يسير، وأقبلت ابنته «أنتيجون» فقادته وأرشدته، رأيتك ذلك اليوم تسمعين هذه القصة مبتهجة من أولها، ثم أخذ لونك يتغير قليلا قليلا، وأخذت جبهتك السمحة تربد
2
شيئا فشيئا، وما هي إلا أن أجهشت بالبكاء وانكببت على أبيك لثما وتقبيلا، وأقبلت أمك فانتزعتك من بين ذراعيه، وما زالت بك حتى هدأ روعك، وفهمت أمك وفهم أبوك وفهمت أنا أيضا أنك إنما بكيت؛ لأنك رأيت أوديب الملك كأبيك مكفوفا لا يبصر ولا يستطيع أن يهتدي وحده، فبكيت لأبيك كما بكيت «لأوديب».
نعم! وإني لأعرف أن فيك عبث الأطفال وميلهم إلى اللهو والضحك وشيئا من قسوتهم، وإني لأخشى يا ابنتي إن حدثتك بما كان عليه أبوك في بعض أطوار صباه أن تضحكي منه قاسية لاهية، وما أحب أن يضحك طفل من أبيه، وما أحب أن يلهو به أو يقسو عليه، ومع ذلك فقد عرفت أباك في طور من أطوار حياته أستطيع أن أحدثك به دون أن أثير في نفسك حزنا، ودون أن أغريك بالضحك أو اللهو.
عرفته في الثالثة عشرة من عمره حين أرسل إلى القاهرة ليختلف إلى دروس العلم في الأزهر، إن كان في ذلك الوقت لصبي جد وعمل،
3
كان نحيفا شاحب اللون مهمل الزي أقرب إلى الفقر منه إلى الغنى، تقتحمه
4
العين اقتحاما في عباءته القذرة وطاقيته التي استحال بياضها إلى سواد قاتم، وفي هذا القميص الذي يبين من تحت عباءته وقد اتخذ ألوانا مختلفة من كثرة ما سقط عليه من الطعام، ومن نعليه الباليتين المرقعتين، تقتحمه العين في هذا كله، ولكنها تبتسم له حين تراه على ما هو عليه من حال رثة
5
وبصر مكفوف، واضح الجبين مبتسم الثغر مسرعا مع قائده إلى الأزهر، لا تختلف خطاه ولا يتردد في مشيته، ولا تظهر على وجهه هذه الظلمة التي تغشى
6
عادة وجوه المكفوفين، تقتحمه العين ولكنها تبتسم له وتلحظه في شيء من الرفق، حين تراه في حلقة الدرس مصغيا
7
كله إلى الشيخ يلتهم كلامه التهاما، مبتسما مع ذلك لا متألما ولا متبرما
8
ولا مظهرا ميلا إلى لهو، على حين يلهو الصبيان من حوله أو يشرئبون
9
إلى اللهو، عرفته يا ابنتي في هذا الطور، وكم أحب لو تعرفينه كما عرفته، إذن تقدرين ما بينك وبينه من فرق. ولكن أنى لك هذا وأنت في التاسعة من عمرك ترين الحياة كلها نعيما وصفوا!
عرفته ينفق اليوم والأسبوع والشهر والسنة لا يأكل إلا لونا واحدا، يأخذ منه حظه في الصباح، ويأخذ منه حظه في المساء، لا شاكيا ولا متبرما ولا متجلدا، ولا مفكرا في أن حاله خليقة بالشكوى. ولو أخذت يا ابنتي من هذا اللون حظا قليلا في يوم واحد لأشفقت أمك ولقدمت إليك قدحا من الماء المعدني، ولانتظرت أن تدعو الطبيب.
لقد كان أبوك ينفق الأسبوع والشهر لا يعيش إلا على خبز الأزهر، وويل للأزهريين من خبز الأزهر! إن كانوا
10
ليجدون فيه ضروبا من القش وألوانا من الحصى وفنونا من الحشرات.
وكان ينفق الأسبوع والشهر والأشهر لا يغمس هذا الخبز إلا في العسل الأسود، وأنت لا تعرفين العسل الأسود، وخير لك ألا تعرفيه.
كذلك كان يعيش أبوك جادا مبتسما للحياة والدروس، محروما لا يكاد يشعر بالحرمان، حتى إذا انقضت السنة وعاد إلى أبويه، وأقبلا عليه يسألانه كيف يأكل؟ وكيف يعيش؟ أخذ ينظم لهما الأكاذيب كما تعود أن ينظم لك القصص، فيحدثهما بحياة كلها رغد ونعيم، وما كان يدفعه إلى هذا الكذب حب الكذب؛ إنما كان يرفق بهذين الشيخين ويكره أن ينبئهما بما هو فيه من حرمان. وكان يرفق بأخيه الأزهري، ويكره أن يعلم أبواه أنه يستأثر دونه بقليل من اللبن، كذلك كانت حياة أبيك في الثالثة عشرة من عمره.
فإن سألتني كيف انتهى إلى حيث هو الآن؟ وكيف أصبح شكله مقبولا لا تقتحمه العين ولا تزدريه؟ وكيف استطاع أن يهيئ لك ولأخيك ما أنتما فيه من حياة راضية؟ وكيف استطاع أن يثير في نفوس كثير من الناس ما يثير من حسد وحقد وضغينة، وأن يثير في نفوس ناس آخرين ما يثير من رضا عنه وإكرام له وتشجيع؟ إن سألت كيف انتقل من تلك الحال إلى هذه الحال، فلست أستطيع أن أجيبك! وإنما هناك شخص آخر هو الذي يستطيع هذا الجواب، فسليه ينبئك.
أتعرفينه؟ انظري إليه! هو هذا الملك القائم الذي يحنو على سريرك إذا أمسيت لتستقبلي الليل في هدوء ونوم لذيذ، ويحنو على سريرك إذا أصبحت لتستقبلي النهار في سرور وابتهاج، ألست مدينة لهذا الملك بما أنت فيه من هدوء الليل وبهجة النهار؟!
لقد حنا يا ابنتي هذا الملك على أبيك، فبدله من البؤس نعيما، ومن اليأس أملا، ومن الفقر غنى، ومن الشقاء سعادة وصفوا.
ليس دين أبيك لهذا الملك بأقل من دينك، فلتتعاونا يا ابنتي على أداء هذا الدين؛ وما أنتما ببالغين من ذلك بعض ما تريدان.
الجزء الثاني
الفصل الأول
أقام في القاهرة أسبوعين أو أكثر من أسبوعين، لا يعرف من أمره إلا أنه ترك الريف وانتقل إلى العاصمة؛ ليطيل فيها المقام طالبا للعلم مختلفا إلى مجالس الدرس في الأزهر، وإلا أنه يقضي يومه في أحد هذه الأطوار الثلاثة التي يتخيلها ولا يحققها.
فهو يسكن بيتا غريبا يسلك إليه طريقا غريبة أيضا، ينحرف إليها نحو اليمين إذا عاد من الأزهر، فيدخل من باب يفتح أثناء النهار ويغلق في الليل، وتفتح في وسطه فجوة ضيقة بعد أن تصلى العشاء، فإذا تجاوز هذا الباب أحس عن يمينه حرا خفيفا يبلغ صفحة وجهه اليمين، ودخانا خفيفا يداعب خياشيمه، وأحس من شماله صوتا غريبا يبلغ سمعه ويثير في نفسه شيئا من العجب.
وقد ظل أياما يسمع هذا الصوت إذا عاد من الأزهر مصبحا وإذا عاد منه ممسيا، يسمعه وينكره، ويستحيي أن يسأل عنه، ثم فهم من بعض الحديث أنه قرقرة الشيشة يدخنها بعض تجار الحي، ويهيئها صاحب القهوة التي كان ينبعث منها ذلك الحر الخفيف وذلك الدخان الرقيق. فإذا مضى أمامه خطوات وجاوز ذلك المكان الرطب المسقوف الذي لم تكن تستقر فيه القدم لكثرة ما كان يصب فيه صاحب القهوة من الماء، خرج إلى طريق مكشوفة، ولكنها ضيقة قذرة تنبعث منها روائح غريبة معقدة لا يكاد صاحبنا يحققها، تنبعث هادئة بغيضة في أول النهار وحين يقبل الليل ، وتنبعث شديدة عنيفة حين يتقدم النهار ويشتد حر الشمس.
وكان صاحبنا يمضي أمامه في هذه الطريق الضيقة، وقلما كانت تستقيم له هذه الطريق، وما أكثر ما كان صاحبه ينحرف به ذات اليمين أو ذات الشمال ليجنبه عقبة قائمة هنا أو هناك! فكان يسعى حينئذ مستعرضا قد أدار وجهه نحو هذا البناء عن يمين أو ذلك البناء عن شمال، حتى إذا جاوز هذه العقبة استقل الطريق كما بدأها ساعيا أمامه في خطى رفيقة قلقة، تأخذ أنفه تلك الروائح المنكرة، وتأخذ أذنيه أصوات مختلطة مصطخبة تنحدر من عل وتصعد من أسفل، وتنبعث من يمين وتنبعث من شمال وتلتقي كلها في الجو؛ فكأنما كانت تنعقد فتؤلف من فوق رأس الصبي سحابا رقيقا ولكنه متراكم قد غشى بعضه بعضا.
وكانت هذه الأصوات مختلفة أشد الاختلاف: أصوات النساء يختصمن، وأصوات الرجال يتنادون في عنف ويتحدثون في رفق، وأصوات الأثقال تحط وتعتل، وصوت السقاء يتغنى ببيع الماء، وصوت الحوذي يزجر حماره أو بغله أو فرسه، وصوت العربة تئز عجلاتها أزا، وربما شق هذا السحاب من الأصوات نهيق حمار أو صهيل فرس.
وكان صاحبنا يمضي بين هذا كله مشرد النفس قد غفل أو كاد يغفل عن كل أمره، حتى إذا بلغ من هذه الطريق مكانا بعينه سمع أحاديث مختلطة تأتيه من باب قد فتح عن شماله، فعرف أنه سينحرف بعد خطوة أو خطوتين إلى الشمال ليصعد في السلم الذي سينتهي به إلى حيث يقيم. وكان هذا السلم متوسطا ليس بشديد السعة ولا بشديد الضيق، قد اتخذ درجه من الحجر، ولكن كثر التصعيد فيه والهبوط منه ولم يتعهد بالغسل ولا بالتنظيف، فتراكم عليه تراب كثيف، ثم انعقد ولزم بعضه بعضا حتى استخفى الحجر استخفاء، وخيل إلى المصعد فيه والهابط منه أنه إنما يتخذ سلما من الطين.
ومع أن الصبي كان كلفا بإحصاء الدرج كلما صعد في سلم أو هبط منه، فقد أقام ما شاء الله له أن يقيم في ذلك المكان، وصعد في ذلك السلم وهبط منه ما شاء الله له أن يصعد أو يهبط، ولم يخطر له قط أن يحصي درج هذا السلم، وإنما علم بعد أن اتخذه مرتين أو مرات أنه إذا صعد منه درجات فلا بد من أن ينحرف قليلا نحو الشمال ليمضي في التصعيد تاركا عن يمينه فجوة لم يلجها قط، ولكنه كان يعلم أنها كانت تؤدي إلى الطبقة الأولى من ذلك البناء الذي أقام فيه أعواما طوالا.
كان يترك إذن عن يمينه مدخل تلك الطبقة من الطبقات التي لم يكن يسكنها طلاب العلم، وإنما كان يسكنها أخلاط من العمال والباعة، ويمضي مصعدا حتى يبلغ الطبقة الثانية، فلا يكاد يبلغها حتى تجد نفسه المكدودة شيئا من الراحة يأتيه من هذا الهواء الطلق الذي كان يبيح له التنفس بعد أن كاد يختنق في ذلك السلم القذر، وتأتيه من صوت تلك الببغاء التي كانت تصوت في غير انقطاع، كأنما تشهد الناس جميعا على ظلم صاحبها الفارسي الذي سجنها في ذلك القفص البغيض، ليبيعها غدا أو بعد غد لرجل آخر يسجنها في قفص بغيض؛ حتى إذا تخفف منها وقبض ثمنها نقدا اشترى بدلها خليفة تقوم في ذلك السجن مقامها وتدعو فيه دعاءها وتنتظر فيه مثل ما كانت تنتظر صاحبتها؛ أن تنقل من يد إلى يد ومن قفص إلى قفص، وأن ينتقل معها دعاؤها الحزين الذي يبتهج الناس به من مكان إلى مكان.
كان صاحبنا إذا بلغ أعلى السلم استقبل الهواء الطلق بوجهه، ودعاه صوت الببغاء إلى أن ينحرف نحو اليمين، فيفعل ويمضي في طريق ضيقة فيمر أمام بيتين يسكنهما رجلان من فارس: أحدهما لا يزال شابا، والآخر قد تقدمت به السن، في أحدهما شراسة وغلظة وانقباض عن الناس، وفي الآخر دعة ورقة وتبسط للناس.
ثم يبلغ الصبي بيته، فيدخل إلى غرفة هي أشبه بالدهليز، قد تجمعت فيها المرافق المادية للبيت، وهي تنتهي به إلى غرفة أخرى واسعة غير مستقيمة قد تجمعت فيها المرافق العقلية للبيت، وهي على ذلك غرفة النوم، وغرفة الطعام، وغرفة الحديث، وغرفة السمر، وغرفة القراءة والدرس، فيها الكتب وفيها أدوات الشاي، وفيها بعض رقائق الطعام. وكان مجلس الصبي من هذه الغرفة معروفا محدودا كمجلسه من كل غرفة سكنها واختلف إليها، كان مجلسه عن شماله إذا دخل الغرفة، يمضي خطوة أو خطوتين فيجد حصيرا قد بسط على الأرض ألقي عليه بساط قديم ولكنه قيم. هنالك يجلس أثناء النهار، وهنالك ينام أثناء الليل؛ تلقى له وسادة يضع عليها رأسه ولحاف يلتف فيه. وكان يحاذي مجلسه من الغرفة مجلس أخيه الشيخ، وهو أرقى في مجلسه قليلا أو كثيرا؛ حصير قد بسط على الأرض وألقي عليه بساط لا بأس به، ثم ألقي على البساط فراش آخر من اللبد، ثم ألقي من فوق هذا الفراش حشية طويلة عريضة من القطن، ثم بسطت من فوقها ملاءة. على هذه الحشية كان يجلس الفتى الشيخ ويجلس معه أصفياؤه، ولم يكونوا يسندون ظهورهم إلى الحائط كما كان يفعل الصبي، وإنما كانوا يسندونها إلى وسائد قد رصت على الحشية رصا؛ فإذا كان الليل استحال هذا المجلس سريرا ينام عليه الفتى الشيخ.
الفصل الثاني
لم يكن الصبي يعرف من بيئته القريبة أكثر من هذا. فأما الطور الثاني من أطواره فقد كان اضطرابه في الطريق بين هذه البيئة وبين الأزهر. وكان يخرج من ذلك المكان المسقوف، فيجد حر القهوة على صفحة وجهه من شمال، وتبلغ قرقرة الشيشة أذنه اليمنى، فيستقبل حانوتا كان له في حياته أثر عظيم؛ حانوت الحاج فيروز الذي كان يبيع لأهل الحي أكثر ما كانت تقوم عليه حياتهم من الغذاء: يبيع لهم ألوان الفول المدمس إذا أصبحوا. وكان الفول عنده كما هو عند غيره ألوانا مختلفة، ولكنه كان يمتاز بإتقانه ويغالي بثمنه؛ فقد كان يبيع الفول صرفا، وكان يبيعه بالزيت على اختلاف ألوانه، وكان يبيعه بالسمن، وكان يبيعه بالزبد، وكان يضيف إليه عند الحاجة فنونا من التوابل ترغب فيه وتغري به وتدفع طلاب العلم إلى أن يسرفوا على أنفسهم إذا طعموا منه، ثم يثقلون بعد ذلك عن درس الضحى وينامون أثناء درس الظهر .
فإذا أقبل المساء فقد كان الحاج فيروز يبيع لأهل الحي طعامهم من الجبن والزيتون والطحينة والعسل؛ وربما باع للمترفين منهم علب التونة والسردين، وربما باع لبعضهم حين يتقدم الليل أشياء لم تكن تسمى ولم تكن تؤكل، وإنما كان يتحدث المتحدثون عنها همسا ويتنافسون فيها تنافسا شديدا.
وكان الصبي يسمع لهذا الهمس فيفهم حينا، ويستغلق الأمر عليه في أكثر الأحيان، حتى إذا مضت الأيام وتبعتها الأيام وشب الصبي وأتيح له أن يفهم عن الملغزين وأصحاب الرمز، علم ما علم، فتغيرت في نفسه قيم كثير من الأشياء، ومعايير كثير من الأحكام، وأقدار كثير من الناس.
وكان الحاج فيروز رجلا أسود فاحما طويلا قليل الكلام، فإذا تكلم لم يكد يبين، وإنما كان يلتوي لسانه بالعربية التواء غريبا ترك في نفس الصبي أثرا لا يمحى؛ فهو لا يقرأ في «البيان والتبيين» قصة زياد مع غلامه حين أراد أن يقول له: «أهدي إلينا حمار وحش.» فجعل الحاء هاء في الكلمتين، وأنكر زياد عليه ذلك فقال له: «ويلك! قل أهدي إلينا عير.» فلما قال الغلام ذلك جعل العين همزة، فارتاع زياد ورده إلى حمار الوحش.
لا يقرأ هذه القصة إلا ذكر الحاج فيروز. وكان للحاج فيروز في الحي وبين طلاب العلم من أهله خاصة خطر عظيم؛ فإليه كانوا يفزعون إذا تقدم الشهر أو تأخر الراتب أو نفدت النقود؛ يفزعون إليه ليطعمهم نسيئة، ويفزعون إليه ليقرضهم القرش أو القروش، ويفزعون إليه في كثير من شئونهم؛ ولذلك كان اسمه يدور على ألسنتهم كما كانت تدور عليها أسماء كثير من شيوخهم الأعلام في الأزهر الشريف.
وكان للحاج فيروز خطر عظيم آخر في حياة هؤلاء الطلاب؛ فباسمه كانت ترسل إليهم الرسائل التي تحمل إليهم أخبار الأسر، والتي تحمل إليهم في طياتها أحيانا تلك الورقة الضئيلة التي كانوا يذهبون بها إلى مكتب البريد فيدخلون وجيوبهم خالية، ويخرجون وللفضة في جيوبهم رنين حسن الوقع في آذانهم وفي قلوبهم أيضا.
ومن هنا لم يكن بد لكل واحد منهم من أن يمر بالحاج فيروز ليحييه إذا أصبح، وليحييه إذا أمسى، وليلقي في أثناء ذلك نظرة سريعة خاطفة إلى ذلك المكان الذي كانت الرسائل تنتظر فيه أصحابه. وما أكثر ما كان أحدهم يعود إلى بيته وفي يده ذلك الغلاف المقفل قد أصابه كثير من وضر الزيت والزبد! وإن هذا الغلاف على قذارته لآثر عنده من هذه الملزمة أو تلك من هذا الكتاب أو ذاك من كتب الفقه أو كتب النحو أو كتب الأصول.
كان الصبي إذن يستقبل حانوت الحاج فيروز إذا خرج من ذلك الممر المسقوف، وربما خطا مع صاحبه خطوات فحيا الحاج فيروز والتمس عنده رسالة فوجدها أو لم يجدها، فانصرف مبتسما أو عابسا، واستدار إلى الشمال فمضى أمامه في ذلك الشارع الطويل الضيق المزدحم بالمارة من الطلاب والتجار والباعة والعمال وعجلات الحمل تجرها الحمر أو تجرها الخيل أو تجرها البغال، ويصيح بها الحوذية زاجرين حينا ومتلاحين حينا آخر ومخاصمين لمن يعترض طريقهم من الرجال والنساء والصبية أحيانا. وعن يمين هذا الشارع وعن شماله حوانيت مختلفة، منها ما يهيأ فيه طعام الفقراء والبائسين، فيحمل الهواء منها روائح كريهة، ولكنها مع ذلك كانت محببة إلى كثير من هؤلاء المارة بين طلاب العلم والعاملين بأيديهم والحاملين على ظهورهم وكواهلهم. منهم من كان يعطف على هذه الحوانيت فيشتري منها القليل يلتهمه في مكانه التهاما أو يحمله إلى بيته ليستأثر به أو يشارك فيه. ومنهم من تبلغه هذه الروائح فتثيره ولكنه لا يثور، وتدعوه ولكنه لا يجيب؛ قد رأت عينه وشم أنفه وتحركت شهوته، ولكن قصرت يده وخانه جيبه، فمضى وفي نفسه حاجة وفي قلبه موجدة وحفيظة، وفيه مع ذلك رضا بالقضاء وإذعان للقدر.
ومن هذه الحوانيت ما كانت تدار فيه تجارة هادئة مطمئنة صامتة لا تقول شيئا أو لا تكاد تقول شيئا؛ فإن نطقت فإنما تنطق همسا لا يكاد يسمع، وتنطقه في ظرف وأدب وفي رقة وتلطف، وهي على هذا كله بل لهذا كله تغل على أهلها الثراء الضخم والمال الكثير، وكانت أكثر هذه الحوانيت إنما تدار فيها تجارة البن والصابون، وربما أديرت في بعضها تجارة السكر والأرز أيضا.
وكان الصبي يسعى بين هذا كله يحسه إحساسا قويا ويجهله جهلا شديدا، لولا أن صاحبه كان يفسر له بعض ذلك من حين إلى حين. وما يزال الصبي ماضيا في طريقه، تعتدل مواطئ أقدامه حينا وتعوج حينا آخر، وهو يسعى حسن السعي ما اعتدلت له الطريق، ويسعى متعثرا في أذياله حين تعوج أو تضطرب، حتى يبلغ موضعا ينحرف فيه قليلا نحو الشمال، ثم يندفع في طريق ضيقة أشد الضيق، ملتوية أشد الالتواء، قذرة أشد القذارة، قد استقر فيها هواء فاسد كل الفساد، انعقدت فيه روائح كريهة منكرة، وانبعثت فيه بين حين وحين أصوات نحيلة ضئيلة تصور البؤس وتبين عن الضر وتلحف في السؤال، يبعثها وقع الخطى كأن أصحابها لا يحسون الحياة إلا بآذانهم، فهم يدعونها كلها سمعوها، وتتجاوب فيها أصوات أخرى قصيرة غليظة مختنقة متقطعة، هي أصوات هذه الطير التي تحب الظلمة وتأنس إلى الخلوة وتألف الخراب. وربما اختلطت هذه الأصوات بخفق الأجنحة، وربما دنا هذا الخفق من أذن الصبي أو من وجهه فأخافه وأفزعه، وإذا يده ترتفع فجأة وعلى غير إرادة لتحمي وجهه أو أذنه، وإذا قلبه يخفق خفقا خفيفا متصلا.
وهو يمضي مع صاحبه في هذه الطريق الضيقة المظلمة الملتوية، يصعد قليلا لينحدر قليلا، ويمضي أمامه ليعطف عن يمينه، ثم يمضي أمامه ليعطف عن شماله، وهذه الأصوات المنكرة المختلفة تدعوه مرة وتشيعه مرة أخرى وتؤذيه دائما، حتى يشعر بعد حين بأن قلبه قد هدأ، وبأن صدره قد اتسع، وبأن طريق التنفس قد استقامت له، فيبعث من جوفه نفسا طويلا كأنه يحمل كل ما استقر في نفس الصبي من ألوان الذعر والألم والحزن.
ثم يتنفس حرا طليقا كأنما يستنشق الحياة في هذا الهواء الطلق الذي أخذ يغمره منذ خرج من «حارة الوطاويط»، ومضى أمامه في تلك الطريق المنحدرة التي لا تعتدل لقدميه، ولكن ما هي إلا لحظات قصيرة، حتى تعتدل الطريق وتستوي الأرض لقدميه؛ فهو يسعى معتدلا مطمئنا ، قد تهيأت نفسه لشيء من الفرح والمرح تحمله إليه هذه الأصوات الغريبة المختلطة التي يسمعها حين يسعى في ذلك الشارع الهادئ الحلو، وعن شماله مسجد سيدنا الحسين، وعن يمينه هذه الحوانيت الصغيرة التي طالما وقف عند بعضها حين تقدمت به الأيام فذاق من طيباتها ما شاء الله له أن يذوق.
ذاق التين المرطب وشرب نقيعه في أثناء الصيف، وذاق البسبوسة واستمتع بما تبعثه من الحرارة في الأجواف أثناء الشتاء. وربما وقف عند بعض الباعة من السوريين فذاق ألوانا من الطعام؛ منها الحار ومنها البارد، ومنها الحلو ومنها الملح، كان يجد في ذوقها لذة لا تقدر، ولو قدمت إليه الآن لأشفق أن تحمل إليه العلة أو تغرى به الموت.
وكان يمضي في طريقه هذه حتى يبلغ مكانا تختلط فيه الأصوات وترتفع، ويشعر بأن الطريق قد افترقت فيه؛ فهو يستطيع أن يمضي أمامه، وأن يمضي عن يمين، وأن يمضي عن شمال، وأن يعود أدراجه.
وكان صاحبه يقول له: هذه هي المفارق الأربعة، إن مضيت عن يمينك فإلى السكة الجديدة ثم الموسكي ثم العتبة الخضراء، وإن مضيت عن شمالك فهي الدراسة، ولكننا سنمضي أمامنا فنسلك شارع الحلوجي، وهو شارع العلم والجد والعمل، ضيق تكاد تبلغ جانبيه إذا مددت يديك عن يمين وشمال، ولكنك تمضي بين حوانيت صغيرة تباع فيها الكتب جديدها وقديمها، جيدها ورديئها، مطبوعها ومخطوطها، وكم كانت للصبي في ذلك الشارع الضيق وقفات خصبة ممتعة لم ينسها قط حين تقدمت به الأيام واختلفت عليه أطوار الحياة، ولكنه عجل فيجب أن يبلغ صاحبه الأزهر قبل أن يبتدئ الدرس. وها هو ذا قد بلغ «باب المزينين»، فخلع نعليه وخالف بينهما وأخذهما في يده ومضى مع صاحبه، فلما تقدم قليلا تخطى عتبة قليلة الارتفاع، ثم انفرج له صحن الأزهر هادئا مطمئنا يترقرق فيه نسيم بارد هو نسيم الصباح، وهو الآن في الطور الثالث من أطوار حياته الأولى.
الفصل الثالث
وكان هذا الطور أحب أطوار حياته تلك إليه وآثرها عنده، كان أحب إليه من طوره ذاك في غرفته التي كان يشعر فيها بالغربة شعورا قاسيا؛ لأنه لا يعرفها ولا يعرف مما اشتملته من الأثاث والمتاع إلا أقله وأدناه إليه؛ فهو لا يعيش فيها كما كان يعيش في بيته الريفي وفي غرفاته وحجراته تلك التي لم يكن يجهل منها ومما احتوت عليه شيئا، وإنما كان يعيش فيها غريبا عن الناس وغريبا عن الأشياء؛ وضيقا حتى بذلك الهواء الثقيل الذي كان يتنفسه فلا يجد فيه راحة ولا حياة؛ وإنما كان يجد فيه ألما وثقلا.
وكان أحب إليه من طوره الثاني في طريقه تلك بين البيت والأزهر؛ فقد كان في ذلك الطور مشردا مفرق النفس مضطرب الخطى ممتلئ القلب بهذه الحيرة المضلة الباهظة التي تفسد على المرء أمره وتجعله يتقدم أمامه لا على غير هدى في طريقه المادية وحدها - فقد كان ذلك محتوما عليه - بل على غير هدى في طريقه المعنوية أيضا؛ فقد كان مصروفا عن نفسه بما يرتفع حوله من الأصوات وما يضطرب حوله من الحركات، وقد كان مستخذيا في نفسه من اضطراب خطاه وعجزه من أن يلائم بين مشيته الضالة الحائرة الهادئة ومشية صاحبه المهتدية العازمة العنيفة.
فأما في طوره الثالث هذا فقد كان يجد راحة وأمنا وطمأنينة واستقرارا. كان هذا النسيم الذي يترقرق في صحن الأزهر حين تصلي الفجر يتلقى وجهه بالتحية فيملأ قلبه أمنا وأملا، وما كان يشبه وقع هذا النسيم على جبهته التي كانت تندى بالعرق من سرعة ما سعى، إلا بتلك القبلات التي كانت أمه تضعها على جبهته بين حين وحين في أثناء إقامته في الريف حين يقرئها آيات من القرآن أو يمتعها بقصة مما قرأ في الكتب أثناء عبثه في الكتاب، أو حين كان يخرج ضعيفا شاحبا من خلوته تلك التي كان يتوسل فيها إلى الله بعدية يس ليقضي هذه الحاجة أو تلك من حاجات الأسرة.
كانت تلك القبلات تنعش قلبه وتشيع في نفسه أمنا وأملا وحنانا، وكان ذلك النسيم الذي كان يتلقاه في صحن الأزهر يشيع في نفسه هذا كله ويرده إلى الراحة بعد التعب، وإلى الهدوء بعد الاضطراب، وإلى الابتسام بعد العبوس. ومع ذلك فلم يكن يعلم من أمر الأزهر شيئا، ولم يكن يعرف مما يحتويه الأزهر شيئا، وإنما كان يكفيه أن تمس قدميه الحافيتين أرض هذا الصحن، وأن يمس وجهه نسيم هذا الصحن، وأن يحس الأزهر من حوله نائما يريد أن يستيقظ، وهادئا يريد أن ينشط ليعود إلى نفسه أو لتعود إليه نفسه، وإذا هو يشعر أنه في وطنه وبين أهله، لا يحس غربة ولا يجد ألما، وإنما هي نفسه تتفتح من جميع أنحائها، وقلبه يتشوق من جميع أقطاره ليتلقى ... ليتلقى ماذا؟ ليتلقى شيئا لم يكن يعرفه، ولكنه كان يحبه ويدفع إليه دفعا، طالما سمع اسمه وأراد أن يعرف ما وراء هذا الاسم، وهو العلم.
وكان يشعر شعورا غامضا ولكنه قوى بأن هذا العلم لا حد له، وبأن الناس قد ينفقون حياتهم كلها ولا يبلغون منه إلا أيسره. وكان يريد أن ينفق حياته كلها وأن يبلغ من هذا العلم أكثر ما يستطيع أن يبلغ مهما يكن في نفسه يسيرا. وكان قد سمع من أبيه الشيخ ومن أصحابه الذين كانوا يجالسونه من أهل العلم أن العلم بحر لا ساحل له، فلم يأخذ هذا الكلام على أنه تشبيه أو تجوز، وإنما أخذه على أنه الحق كل الحق.
وأقبل إلى القاهرة وإلى الأزهر يريد أن يلقي نفسه في هذا البحر فيشرب منه ما شاء الله له أن يشرب ثم يموت فيه غرقا، وأي موت أحب إلى الرجل النبيل من هذا الموت الذي يأتيه من العلم ويأتيه وهو غرق في العلم!
كانت هذه الخواطر كلها تثور في نفسه الناشئة فجأة، فتملؤها وتملكها وتنسيها تلك الغرقة الموحشة وتلك الطريق المضطربة الملتوية، بل تنسيها الريف ولذات الريف، وتشعرها بأنها لم تكن مخطئة ولا غالية حين كانت تتحرق شوقا إلى الأزهر وضيقا بالريف.
وكان الصبي يسعى أمامه مع صاحبه حتى يقطع الصحن ويصعد هذه الدرجة اليسيرة التي يبتدئ بها الأزهر نفسه، فيمتلئ قلبه خشوعا، وخضوعا، وتمتلئ نفسه إكبارا وإجلالا. ويخفف الخطو على هذه الحصر المبسوطة البالية التي كانت تنفرج أحيانا عما تحتها من الأرض، كأنها تريد أن تتيح لأقدام الساعين عليها شيئا من البركة بلمس هذه الأرض المطهرة. وكان الصبي يحب الأزهر في هذه اللحظة حين ينفتل المصلون من صلاة الفجر وينصرفون وفي عيونهم النعاس، ليتحلقوا حول هذا العمود أو ذاك، وينتظروا هذا الأستاذ أو ذاك، فيسمعوا منه درس الحديث أو درس التفسير أو درس الأصول أو درس التوحيد.
كان الأزهر في هذه اللحظة هادئا لا ينعقد فيه ذلك الدوي الغريب الذي كان يملؤه منذ تطلع الشمس إلى أن تصلى العشاء، وإنما كنت تسمع فيه أحاديث يتهامس بها أصحابها، وربما سمعت فتى يتلو القرآن في صوت هادئ معتدل، وربما مررت إلى جانب مصل لم يدرك الجماعة أو أدركها ولكنه مضى في التنفل بعد أن أدى الفريضة. وربما سمعت أستاذا هنا أو هناك يبدأ درسه بهذا الصوت الفاتر، صوت الذي استيقظ من نومه فأدى صلاته ولم يطعم بعد شيئا يبعث في جسمه النشاط والقوة، فهو يقول في صوت هادئ حلو منكسر بعض الشيء: «بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال المؤلف رحمه الله تعالى، ونفعنا بعلمه، آمين!»
والطلاب يسمعون لهذا الصوت في هدوء وفتور يشبهان هدوء الشيخ وفتوره، وما أكثر ما كان الصبي يوازن في نفسه بين أصوات الشيوخ حين ينطقون بهذه الصيغة في درس الفجر، وأصواتهم حين ينطقون بها في درس الظهر! فأما أصوات الفجر فكانت فاترة حلوة فيها بقية من نوم. وأما أصوات الظهر فكانت قوية عنيفة ممتلئة فيها شيء من كسل أيضا، تصور امتلاء البطون بما كانت تمتلئ به من طعام الأزهريين في ذلك الوقت الذي كان الأزهريون يعيشون فيه على الفول والمخلل وما يشبه الفول والمخلل من ألوان الطعام.
كان في أصوات الفجر دعاء للمؤلفين يشبه الاستعطاف، وكان في أصوات الظهر هجوم على المؤلفين يوشك أن يكون عدوانا، وكانت هذه الموازنة تعجب الصبي وتثير في نفسه لذة ومتاعا.
وكان يسعى مع صاحبه حتى يرقى هاتين الدرجتين اللتين يبتدئ بهما الليوان، وهناك إلى جانب عمود من هذه الأعمدة المباركة قد شد إليه كرسي بسلسلة غليظة يجلسه صاحبه ويقول له: انتظر هنا فستسمع درسا في الحديث، فإذا فرغت من درسي فسأعود إليك.
وكان درس صاحبه في أصول الفقه، وكان أستاذ صاحبه الشيخ راضي رحمه الله، وكان الكتاب الذي يدرسه الشيخ راضي كتاب «التحرير» للكمال بن الهمام، وكان الصبي يسمع هذه الألفاظ كلها فيمتلئ لها قلبه رهبا ورغبا ومهابة وإجلالا؛ أصول الفقه! ما عسى أن يكون هذا العلم؟ الشيخ راضي! من عسى أن يكون هذا الشيخ؟ التحرير! ما معنى هذه الكلمة؟ الكمال بن الهمام! ما أعظم هذين الاسمين! حقا إن العلم بحر لا ساحل له، والخير كل الخير للرجل الذكي أن يغرق فيه، وكان إجلال الصبي لهذا الدرس خاصة يزداد ويعظم من يوم إلى يوم حين كان يسمع أخاه ورفاقه يطالعون الدرس قبل حضوره فيقرءون كلاما غريبا ولكنه حلو الموقع في النفس.
كان الصبي يسمعه فيتحرق شوقا إلى أن تتقدم به السن ستة أعوام أو سبعة ليستطيع أن يفهمه وأن يحل ألغازه ويفك رموزه، ويتصرف فيه كما كان يتصرف فيه أولئك الشبان البارعون، ويجادل فيه أساتذته كما كان يجادل فيه أولئك الشبان البارعون، ولكنه الآن مضطر إلى أن يسمع ولا يفهم، وما كان أكثر ما يقلب في نفسه هذه الجملة أو تلك لعله يجد وراءها شيئا فلا يظفر بطائل، ولا يزيده ذلك إلا إكبارا للعلم، وإجلالا للعلماء، وإصغارا لنفسه، واستعدادا للعمل والجد!
وقد سمع جملة بعينها شهد الله أنها أرقته غير ليلة من لياليه، ونغصت عليه حياته غير يوم من أيامه، ولعلها أن تكون قد صرفته عن غير درس من دروسه اليسيرة؛ فقد كان يفهم دروسه الأولى في غير مشقة، وكان ذلك يغريه بالانصراف عن حديث الشيخ إلى التفكير في بعض ما سمع من أولئك الشبان النجباء.
وكانت هذه الجملة التي ملأت نفسه وقلبه غريبة في حقيقة الأمر، وقعت على أذنه وهو في أول النوم وآخر اليقظة، فردته إلى اليقظة ليله كله، وهي: «والحق هدم الهدم.» ما معنى هذا الكلام؟ كيف يهدم الهدم؟ وما عسى أن يكون هذا الهدم؟ وكيف يكون الهدم حقا؟ وجعلت هذه الجملة تدور في رأسه كما يدور هذيان الحمى في رأس المريض، حتى صرف عنها ذات يوم بإشكال من إشكالات الكفراوي، أقبل عليه ففهمه وجادل فيه، وأحس أنه بدأ يشرب من ذلك البحر الذي لا ساحل له وهو بحر العلم.
وكان الصبي يجلس إلى جانب ذلك العمود، يعبث بتلك السلسلة، ويسمع للشيخ وهو يلقي دروسه في الحديث، فيفهم عنه في وضوح وجلاء، ولا ينكر منه إلا تلك الأسماء التي كانت تساقط على الطلبة يتبع بعضها بعضا، تسبقها كلمة «حدثنا» وتفصل بينها كلمة «عن».
وكان الصبي لا يفهم معنى لهذه الأسماء ولا لتتابعها ولا لهذه «العنعنة» المملة، وكان يتمنى أن تنقطع هذه العنعنة وأن يصل الشيخ إلى الحديث، فإذا وصل إليه سمعه الصبي ملقيا إليه نفسه كلها فحفظه وفهمه، وأعرض عن تفسير الشيخ؛ لأنه كان يذكره ما كان يسمع في الريف من إمام المسجد، ومن ذلك الشيخ الذي كان يعلمه أوليات الفقه.
وبينما كان الشيخ يمضي في دروسه كان الأزهر يستيقظ شيئا فشيئا، كأنما كانت تنبهه أصوات أولئك الشيوخ الذين كانوا يلقون دروسهم، وما كان يثور بينهم وبين طلابهم من حوار يبلغ العنف أحيانا، فهؤلاء الطلاب يقبلون، وهذه الأصوات ترتفع، وهذا الدوي ينعقد، وهؤلاء الشيوخ ترتفع أصواتهم لتبلغ آذان التلاميذ، بل هؤلاء الشيوخ يضطرون أن ينطقوا بهذه الصيغة التي تؤذن بانتهاء الدرس، وهي: «والله أعلم»؛ لأن الطلاب قد أقبلوا ينتظرون درس الفقه من شيخ غير هذا الشيخ، أو من الشيخ نفسه؛ فلا بد من أن ينتهي درس الفجر ليبدأ درس الصبح.
هنالك كان يقبل على الصبي صاحبه فيأخذه بيده في غير كلام ويجذبه في غير رفق، ويمضي إلى مجلس آخر فيضعه فيه كما يضع المتاع وينصرف عنه.
وقد فهم الصبي أنه قد نقل إلى درس الفقه، وأنه سيسمع هذا الدرس وسيفرغ منه، وسينصرف الشيخ ويتفرق الطلاب، ويبقى هو في مكانه لا يتحول عنه حتى يعود إليه صاحبه من سيدنا الحسين حيث كان يسمع درس الفقه الذي كان يلقيه الشيخ بخيت رحمه الله.
وكان الشيخ بخيت يحب الإطالة في الدرس، وكان طلابه يلحون عليه في الجدال؛ فلم يكن يقطع درسه حتى يرتفع الضحى، وهنالك يعود إلى الصبي صاحبه فيأخذه بيده في غير كلام، ويجذبه في غير رفق، ويمضي به حتى يخرجه من الأزهر وحتى يرده إلى طوره الثاني، فيقطع به الطريق بين الأزهر والبيت، ثم إلى طوره الأول، فيلقيه في مكانه من الغرفة على ذلك البساط القديم الذي ألقي على حصير بال عتيق.
الفصل الرابع
ولم يكن الصبي يفرغ لنفسه إذا أخذ مجلسه على ذلك البساط في ركن من أركان الغرفة، واعتمد بيده أو بساعده على النافذة عن شماله، وإنما كان يستعرض الخواطر التي كانت تملأ رأسه: خواطر الطريق، وخواطر صحن الأزهر، وخواطر ما سمع من أستاذ الحديث وما سمع من أستاذ الفقه. كان يستعرض هذه الخواطر ويعيش معها لحظات لا تطول؛ فإن أخاه لم ينصرف عنه حين ألقاه في مجلسه ذاك ليفرغ لنفسه وحدها، أو لدرسه وحده، وإنما انصرف عنه ليعد طعام الإفطار.
وكان هذا الإفطار يختلف بين يوم ويوم لا في مادته، فقد كان الفول يغرقه السمن أو يغرقه الزيت، ولكن فيما يحيط به من الظروف والأطوار؛ فقد كان هذا الإفطار صامتا يوما وناطقا مصطخبا يوما آخر، صامتا حين يخلو الصبي إلى أخيه فيفطران معا إفطارا سريعا مظلما قاتما لا يكاد أحدهما ينطق فيه بشيء، وإنما هي جمل متقطعة قصار يردها الصبي على الشيخ الفتى، وكانوا ثلاثة حينا وأربعة حينا، وربما بلغوا خمسة في بعض الأيام، ولكن لخامسهم هذا شأنا آخر، فالخير ألا يذكر الآن.
هنالك كان هؤلاء الشباب من طلاب العلم ينفقون ساعة حلوة من ساعات حياتهم، وكان الصبي يهمل إهمالا تاما لا تلقى إليه جملة، ولا يحتاج إلى أن يرجع على أحد جوابا.
وكان ذلك أحب إليه وآثر عنده؛ فقد كان يروقه أن يسمع، وما أكثر ما كان يسمع! وما أغرب ما كان يسمع! وما أشد اختلاف ألوان الأحاديث التي كان يسمعها حول هذه المائدة المستديرة المنخفضة التي كانوا يسمونها «الطبلية» والتي كان يجلس الطاعمون من حولها على الأرض وقد وضع في وسطها طبق عظيم ملئ بالفول والسمن أو الزيت، وإلى جانبه إناء عظيم ملئ بألوان المخلل الغارقة في ماء يعب فيه هؤلاء الشباب قبل أن يأخذوا في طعامهم، يبدأ أحدهم، ثم يدار الإناء على سائرهم، ولكنه لا يعرض على الصبي. حتى إذا أخذوا حظهم من هذا الماء الملح الحاد الذي كان يحرش المعدة فيما يقولون مخلصين، أقبلوا على طعامهم. وقد ألقيت على المائدة جماعات من الأرغفة، منها ما يشترى ومنها ما أخذ جراية من الأزهر، والشباب يتنافسون: أيهم يقهر أصحابه في الأكل؟ يقهرهم في عدد ما يلتهم من الأرغفة، ويقهرهم في مقدار اللقمة التي يقتطعها، ويقهرهم في مقدار ما يغترف فيها من الفول وما يبلها به من السمن أو الزيت، ويقهرهم فيما يستعين به على هذا كله من اللفت أو الفلفل أو الخيار.
وهم يتنافسون ويزدحمون في أصوات مرتفعة، وضحكات تملأ الغرفة، وتخترق النافذة عن شمال فتتردد في الحارة من ورائها، وتخترق الباب عن يمين فتتردد في «الربع»، وتهبط إلى الطبقة السفلى حيث نساء العمال يختصمن أو يتناجين أو يتناغين، فتنقطع لهذه الضحكات خصومتهن ومناجاتهن ومناغاتهن، وإذا هن قد فرغن لهذه الأصوات المرتفعة وهذه الضحكات المضطربة التي يحملها إليهن الهواء، كأنما يجدن في الاستماع لها والاستمتاع بها لذة لا تعدلها إلا اللذة التي يجدها هؤلاء الشباب فيما يلتهمون ويلتقمون من الطعام.
والصبي جالس بينهم قد أطرق إلى الأرض، وحنى ظهره حتى كأنه القوس، ويده تذهب وتجيء في أناة وخوف واستحياء بين هذا الرغيف قد ألقي أمامه على المائدة، وهذا الطبق قد قام بعيدا عنه في وسط المائدة، ويده تصطدم بهذه الأيدي الكثيرة المسرعة التي تهوي لترتفع ، وترتفع لتهوي وتنزح الطبق في أثناء ذلك نزحا، والصبي معجب بذلك منكر له، لا يكاد يلائم في نفسه بين هذا التهالك على الفول والمخلل، وذلك التهالك على العلم والدرس وما كانت تعرف به هذه الجماعة من النجابة والنشاط وحدة الذكاء.
ولم يكن هذا الإفطار يستغرق من هؤلاء الشباب وقتا طويلا، وإنما هي لحظات لا تتجاوز ربع الساعة وقد فرغ ما كان في الطبق، ونظفت المائدة إلا من فتات ضئيل، ومن نصف الرغيف الذي كان قد ألقي أمام الصبي فلم يستطع أو لم يرد أن يتجاوز نصفه. وما هي إلا لحظة حتى ترتفع المائدة ويذهب بها ذاهب إلى خارج الغرفة فينقيها مما كان عليها، ثم يعود بها إلى مكانها نظيفة ملساء إلا مما كان قد تقاطر عليها من السمن أو ماء المخلل. وقد ذهب أحد هؤلاء الشبان فاستخرج مقدارا من الفحم؛ فحم الخشب، وأعد أداة الشاي، هذه الأداة التي يصطنعها الفرس والروس، فأوقد فيها النار بعد أن ملأها بالماء، وعاد بها وقد صفت جذوتها، فوضعها من المائدة مكان الطبق، وصف على حافة المائدة أكواب الشاي، وأخذ مجلسه ينتظر أن يغلي الماء، وأخذ الشبان يتحدثون حديثا هادئا فاترا يضطرهم إلى هدوئه وفتوره اشتغال بطونهم بما ألقوا فيها من الجامد والسائل، ومن البارد والحار، ولكن ماذا؟ لقد خفتت الأصوات ثم سكتت، ثم ملأ الغرفة صمت رهيب، ثم تردد فيها صوت ضئيل جدا، نحيل جدا، متقطع أول الأمر، متصل بعد ذلك.
وإذا هؤلاء الشبان قد تحركوا حركة الطرب، ثم انفتحت أفواههم في وقت واحد عن كلمة واحدة يقولونها في صوت هادئ متصل مستقر وهي «الله» يمدون بها أصواتهم مدا، كأنما أشاعت الطرب في نفوسهم موسيقى حلوة تأتيهم من بعيد، ولا غرابة في ذلك؛ فقد سمعوا أزيز الماء وهو يدور من حول هذا الموقد الذي تضطرم فيه تلك الجذوة الهادئة الصافية، وقد فرغ لأداة الشاي صاحب الشاي، فجعل يتبعها بقلبه وعينه وأذنه، حتى إذا استحال أزيز الماء غليانا أخذ هو إبريقا من الخزف فقربه من هذه الأداة وأدار مفتاحها في رفق، فجرى في الإبريق بعض هذا الماء الذي يغلي ويضطرب، ثم أدار المفتاح فانقطع جريان الماء، ثم رد على الإبريق غطاءه، ثم هزه هزا رفيقا ليبلغ ما فيه من الماء السخن أجزاءه كلها، ثم قام فألقى ما في الإبريق بعد تدفئته؛ فما ينبغي أن يجد الشاي برد الخزف أو برد المعدن لأن ذلك يفسده، ثم انتظر بهذا الشاي ثواني، ثم صب عليه الماء في رفق دون أن يملأ الإبريق إلى غايته، ثم انتظر به قليلا، ثم عمد إلى علبة الشاي الأحمر فأخذ منه مقدارا ووضعه في الإبريق، ثم صب الماء في الإبريق حتى يمتلئ، ثم رفع الإبريق في تلطف ورفق فوضعه على النار ثواني، ثم حطه عنها، ثم أهاب بأصحابه أن قدموا أكوابكم.
كان ذلك يجري والقوم سكوت، ينظرون ويتبعون حركات صاحبهم مراقبين لها حراصا على ألا ينحرف في بعضها عن الجادة. فإذا ملئت الأكواب وأديرت فيها الملاعق الصغار، فسمع لها صوت منسجم لا يخلو من جمال حسن الموقع في الأذن يأتي من هذه المداعبة الخفيفة الهادئة بين المعدن والزجاج، رفع القوم أكوابهم إلى أفواههم، فجروا الشاي منها بشفاههم جرا طويلا يسمع له صوت منكر يناقض صوت الملاعق حين كانت تداعب الأكواب. ومضوا في شربهم لا يكادون ينطقون إلا بهذه الجملة التي لم تكن تتغير، ولم يكن بد من أن ينطق أحدهم بها ويقره عليها الآخرون: «هذا هو الذي سيطفئ نار الفول.» فإذا فرغوا من هذه الدورة الأولى ملئت لهم الأكواب مرة أخرى، وقد أعيد إلى أداة الشاي ما فقدت من ماء، ولكن القوم ينصرفون الآن إلى شايهم عن هذا الماء المسكين الذي ترسل النار عليه حرارتها فيئن ثم يتغنى شاكيا، ثم يجهش بالغليان باكيا. ولكن القوم لا يحفلون به ولا يطربون لغنائه ولا لبكائه، قد شغلوا عنه بالشاي وبدورته الثانية خاصة؛ فقد كانت الدورة الأولى مطفئة لنار الفول، فأما الدورة الثانية فقد جعلت تخلص لهم ولأعصابهم، وجعلوا يجدون لها بعض اللذة في أفواههم وحلوقهم ورءوسهم أيضا. حتى إذا فرغوا من هذه الدورة ثابوا إلى عقولهم أو ثابت عقولهم إليهم، فهذه ألسنتهم تتحرك، وهذه شفاههم تبتسم وهذه أصواتهم ترتفع، ولكنهم لا يتحدثون الآن عن طعام ولا عن شراب، لقد نسوا الطعام والشراب وذكروا أنفسهم، لقد فرغوا من بطونهم والتفتوا إلى عقولهم، فهم يستعيدون ما سمعوا من الشيخ في درس الصبح، وهم يسخرون من هذا مرة ومن ذاك أخرى، وهم يعيدون اعتراض أحدهم على هذا الشيخ أو ذاك، أو اعتراض غيرهم على هذا الشيخ أو ذاك، وهم يجادلون في هذا الاعتراض، يراه بعضهم قويا مفحما، ويراه بعضهم سخيفا لا يعني شيئا. وقد أخذ أحدهم مكان الشيخ المقرر، وأخذ أحدهم مكان الطالب المعترض، وأقام سائرهم حكما في هذه المناظرة، وربما تدخل الحكم في المناظرة بين حين وحين يرد أحد المتناظرين إلى القصد إن جار عنه، أو يؤيد أحد المتناظرين بحجة قد أهملها أو دليل قد ند عنه، وصاحب الشاي مشترك في هذا كله، ولكنه في الوقت نفسه ملتفت إلى الشاي لا يهمله ولا ينساه؛ فقد أضاف إلى الإبريق شايا على شاي وماء على ماء، وقد فرغت الأكواب ثم امتلأت؛ فالشاي لا يتم إلا بالدورة الثالثة؛ لأن نصاب الشاي ثلاثة أقداح لا ينبغي أن ينقص، ولا بأس بأن يزيد.
والصبي مطرق منحن في مكانه، يقدم له نصيبه من الشاي في صمت، فيشربه مترفقا في صمت أيضا، وهو يلحظ ما يجري حوله، ويسمع ما يقال حوله، فيفهم منه قليلا ويعجزه أكثره عن الفهم، ولكنه يعجب بما فهم وبما لم يفهم ويسأل نفسه متحرقا متى يستطيع أن يقول كما يقول هؤلاء الشباب، وأن يجادل كما يجادلون؟
وقد مضت ساعة أو نحو ساعة، واستوفى القوم نصيبهم من الشاي، ولكن المائدة ستبقى حيث هي، وستبقى أداة الشاي في وسطها والأكواب مصطفة على حافتها؛ فقد قربت الظهر ولا بد من أن يتفرق القوم ليلقي كل منهم نظرة سريعة على درس الظهر قبل أن يذهبوا لاستماعه. وهم قد أعدوه معا منذ أمس، ولكن لا بأس من المراجعة السريعة، ومن الوقوف عند عند هذه القولة أو تلك، فهي لا تخلو من غموض أو التواء، ومع ذلك فالمتن واضح والشرح جلي، ولكن «البنان» يصعب السهل ويعقد المنحل، والسيد الجرجاني نافذة البصيرة يستخرج من الأشياء الواضحة أسرارا غامضة، فأما عبد الحكيم فيفهم حينا وتلتوي عليه الأمور أحيانا، فأما المقرر فجاهل لا يدري ما يقول. ولم يبق على الظهر إلا دقائق، فلنسرع إذن إلى الأزهر، فسيدعو المؤذنون إلى الصلاة، وستقام الصلاة، ونحن في الطريق، حتى إذا بلغنا الأزهر كان المصلون قد فرغوا من صلاتهم وأخذ الطلاب يتحلقون حول شيوخهم، ولا بأس إن فاتتنا صلاة الجماعة فسنقيم الصلاة بعد الدرس، وسنقيمها جماعة أيضا. والخير ألا تؤدى الصلاة قبل الدرس؛ فإن النفس تشغل عن العبادة بهذا الدرس وما فيه من صعوبة ومن مشكلات تحتاج إلى الحل، فإذا ألقي الدرس وسمعناه وجادلنا فيه وشفينا نفوسنا من مشكلاته ومعضلاته، فرغنا للصلاة فأديناها وقد خلصت لها النفوس والقلوب.
وهذا أخو الصبي يدعوه بهذه الجملة التي ما زال يدعوه بها أعواما وأعواما: «يا الله يا مولانا!» فينهض الصبي متثاقلا فيمضي مع أخيه متعثرا حتى يبلغ الأزهر، فيجلسه أخوه في مكانه من حلقة النحو، ويمضي هو إلى درس الشيخ الصالحي في زاوية العميان.
وقد سمع الصبي درس النحو ففهمه في غير جهد، وطال عليه إلحاح الشيخ في الإعادة والتفسير، ثم انقضى الدرس وتفرق الطلاب، وظل الصبي في مكانه حتى يعود أخوه فيجذبه في غير كلام وفي غير رفق، ويمضي به حتى يخرجه من الأزهر وحتى يقطع به الطريق التي قطعها به في الصباح والضحى، وحتى يلقيه في مكانه من الغرفة على ذلك البساط القديم قد بسط على حصير بال عتيق، ومنذ ذلك الوقت يتهيأ الصبي لاستقبال حظه من العذاب.
الفصل الخامس
وكانت الوحدة المتصلة مصدر ذلك العذاب؛ فقد كان الصبي يستقر في مجلسه من الغرفة قبيل العصر بقليل، ثم ينصرف عنه أخوه فيذهب إلى غرفة أخرى من غرفات «الربع» عند أحد أصحابه.
وكان مجلس الجماعة لا يستقر في غرفة بعينها من غرفاتهم، وإنما هو عند أحدهم إذا أصبحوا، وعند ثان منهم إذا أمسوا، وعند ثالث منهم إذا تقدم الليل، وكان أخو الصبي يتركه في غرفته بعد درس الظهر ويذهب إلى حيث يلقى أصحابه في إحدى الغرفات، فينفقون وقتا طويلا أو قصيرا في شيء من الراحة والدعابة والتندر بالشيوخ والطلاب، وكانت أصواتهم ترتفع وضحكاتهم تدوي في «الربع» تدوية فتبلغ الصبي وهو جاثم في مكانه، فتبتسم لها شفتاه ويحزن لها قلبه؛ لأنه لا يسمع كما كان يسمع في الضحى ما أثارها من فكاهة أو نادرة، ولأنه لا يستطيع كما كان يستطيع في الضحى أن يشارك صامتا بابتسامة نحيلة ضيقة في هذا الضحك الغليظ العريض.
وكان الصبي يعلم أن القوم سيجتمعون حول شاي العصر إذا أرضوا حاجتهم إلى الراحة وإلى التندر بالشيوخ والزملاء، وسيستأنفون حول هذا الشاي حديثا هادئا منتظما، ثم يستعيدون ما يرون أن يستعيدوه من درس الظهر مجادلين مناظرين، ثم يعيدون درس المساء الذي يلقيه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في كتاب «دلائل الإعجاز» في بعض أيام الأسبوع، وفي تفسير القرآن الكريم في بعضها الآخر. وسيتحدثون أثناء إعدادهم لهذا الدرس عن الأستاذ الإمام، وسيستعيدون ما كانوا يسمعون من نوادره وما كانوا يحفظون من رأيه في الشيوخ ومن رأي الشيوخ فيه، وما كانوا يحفظون من أجوبته التي كان يلقيها لبعض السائلين له والمعترضين عليه فيفحمهم ويضحك منهم زملاءهم الطلاب.
وكان الصبي لهذا كله محبا وبه كلفا وإليه مشوقا متحرقا. وربما أحس الصبي في دخيلة نفسة الحاجة إلى كوب من أكواب الشاي تلك التي تدار هناك، فقد كان هو أيضا قد كلف بالشاي وشعر بالحاجة إلى أن يشربه مصبحا وممسيا، وإلى أن يستكمل منه النصاب. ولكنه حرم هذا كله؛ فهولاء القوم يتندرون ويتناظرون ويدرسون ويشربون الشاي غير بعيد، وهو لا يستطيع أن يشارك في شيء من هذا، ولا يستطيع أن يطلب إلى أخيه الإذن له بأن يحضر مجلس هؤلاء الشباب، ويستمتع بما فيه من لذة العقل والجسم معا .
لا يستطيع أن يطلب ذلك؛ فأبغض شيء إليه أن يطلب إلى أحد شيئا، ولو قد طلب ذلك إلى أخيه لرده عنه ردا رفيقا أو عنيفا، ولكنه مؤلم له، مؤذ لنفسه على كل حال، فالخير في أن يملك على نفسه أمرها، ويكتم حاجة عقله إلى العلم، وحاجة أذنه إلى الحديث، وحاجة جسمه إلى الشاي، ويظل قابعا في مجلسه مطرقا مغرقا في تفكيره. ولكن كيف السبيل إلى ذلك وقد ترك أخوه باب الغرفة مفتوحا إلى أقصى غايته، وهذه أصوات القوم تبلغه، وهذه ضحكاتهم تصل إليه، وهذه دقات مصمتة تنتهي إليه فتؤذنه بأن صاحب الشاي يحطم الخشب ليوقد النار. وكل هذه الأصوات التي تنتهي إليه تثير في نفسه من الرغبة والرهبة، ومن الأمل واليأس، ما يعنيه ويضنيه، ويملأ قلبه بؤسا وحزنا، ويزيد في بؤسه وحزنه أنه لا يستطيع حتى أن يتحرك من مجلسه، وأن يخطو هذه الخطوات القليلة التي تمكنه من أن يبلغ باب الغرفة ويقف أمامه حيث يكون أدنى إلى هذه الأصوات، وأجدر أن يسمع ما تحمله مما يتحدث به القوم، لقد كان ذلك خليقا أن يسره ويسليه، ولكنه لا يستطيع أن ينتقل من مكانه، لا لأنه يجهل الطريق إلى الباب، فقد كان حفظ هذه الطريق، وكان يستطيع أن يقطعها متمهلا مستأنيا، ولكن لأنه كان يستحيي أن يفاجئه أحد المارة فيراه وهو يسعى متمهلا مضطرب الخطى. وكان يشفق أن يفاجئه أخوه الذي كان يلم بالغرفة من حين إلى حين؛ ليأخذ كتبا أو أداة، أو لونا من ألوان الطعام التي كانت تدخر ليتبلغ بها أثناء الشاي في غير أوقات الإفطار أو العشاء.
وكان كل شيء أهون على الصبي من أن يفجأه أخوه وهو يسعى مضطربا حائرا فيسأله: ما خطبك؟ وإلى أين تريد؟ فكان إذن يرى الخير في أن يبقى في مكانه ويؤثر العافية، ويردد في نفسه تلك الحسرات اللاذعة التي كان يجدها، وحسرات أخرى لم تكن أقل منها لذعا وإيلاما؛ حسرات الحنين إلى منزله ذلك، في قريته تلك من قرى الريف، هنالك حين كان يعود من الكتاب وقد أرضى حاجته إلى اللعب، فيتبلغ بكسرة من الخبز المجفف، مازحا مع أخواته قاصا على أمه ما أحب أن يقص عليها من أنباء يومه في الكتاب. فإذا بلغ من ذلك ما أراد خرج من الدار فأغلق الباب وراءه، ثم مضى حتى يبلغ جدران البيت الذي كان يقوم أمامه فلزمه ماضيا نحو الجنوب، حتى إذا بلغ مكانا بعينه انحرف إلى يمين، ثم مضى أمامه خطوات حتى ينتهي إلى حانوت الشيخ محمد عبد الواحد وأخيه الشاب الحاج محمود، فجلس هناك متحدثا متندرا مستمعا لما كان يقوله المشترون من الرجال، والمشتريات من النساء من هذه الأحاديث الريفية الساذجة التي تمتع باختلافها وطرافتها وسذاجتها أيضا.
وربما قل الطارئون على الحانوت من المشترين والمشتريات، فخلا للصبي أحد صاحبي الحانوت، وجعل يتحدث إليه أو يقرأ له في كتاب من الكتب. وربما عدل الصبي عن السعي إلى الحانوت وخرج من داره فجلس على المصطبة الملاصقة لها مطرقا يسمع حديث أبيه الشيخ مع أصحابه في مجلسهم ذاك الذي كانوا يعقدونه منذ تصلى العصر إلى أن يدعوهم مؤذن المغرب إلى العشاء.
وربما عدل الصبي عن الخروج من داره وخلا إلى رفيق من رفاقه في الكتاب، قد أقبل عليه ومعه هذا الكتاب أو ذاك من كتب الوعظ، وهذه القصة أو تلك من قصص المغازي، فجعل يقرأ له حتى يدعوه غروب الشمس إلى العشاء. هنالك لم يكن الصبي يشعر بالوحدة، ولم يكن يضطر إلى السكون، ولم يكن يجد ألم الجوع، ولم يكن يجد ألم الحرمان، ولم يكن يتحرق إلى كوب من أكواب الشاي.
كانت كل هذه الحسرات تضطرب في نفس الصبي أشد الاضطراب وهو ساكن أشد السكون. وربما صرفه عنها لحظة صوت المؤذن حين كان يدعو إلى صلاة العصر في جامع بيبرس، ولكنه كان صوتا منكرا أشد النكر، فكان يذكر الصبي بصوت المؤذن في بلده، ولم يكن خيرا من هذا الصوت ولكنه كثيرا ما أتاح للصبي ألوانا من اللهو واللعب، فكم صعد المنارة مع المؤذن، وكم أذن مكانه وكم شاركه في هذا الدعاء الذي يدعى به بعد الأذان! ولكنه هنا في هذه الغرفة لا يستحب هذا الصوت، ولا يستطيع أن يشارك في الأذان، ولا يعرف حتى من أين يأتي هذا الصوت، وهو لم يدخل قط مسجد بيبرس، وهو لا يعرف الطريق إلى مئذنته، وهو لم يبل درج هذه المئذنة، ولم يعرف أتستقيم للمصعد فيها وتتسع له أم تلتوي به وتضيق عليه كشأن مئذنته في الريف.
لا يعرف شيئا من ذلك ولا سبيل إلى أن يعرف منه شيئا، إنما هو السكون، والسكون المتصل الطويل، يا للألم! إن العلم ليكلف طلابه أهوالا ثقالا.
وكان هذا السكون يطول على الصبي فيجهده، وربما أخذته إغفاءة وهو جالس في مكانه، وربما اشتدت عليه هذه الإغفاءة فاضطرته إلى أن يستلقى ويسلم نفسه للنوم، وكان يسمع من أمه أن نوم العصر بغيض مؤذ للأجسام والنفوس، ولكن كيف السبيل إلى أن يرد عن نفسه هذا النوم البغيض! ولكنه يهب فزعا مذعورا؛ فقد سمع صوتا يدعوه بهذه الكلمة التي رنت في آذانه أعواما وأعواما: «مولانا أنائم أنت؟» يهب فزعا مذعورا لأن أخاه أقبل ينظر إليه ويسأله عن شأنه ويحمل إليه عشاءه. وكان عشاؤه لذيذا حقا؛ فقد كان يتألف من رغيف وقطعة من الجبن الذي يسمى الجبن الرومي، أو قطعة من الحلاوة الطحينية، كان هذا عشاءه في أثناء الأسبوع، فكان أخوه يضع ذلك أمامه ويودعه منصرفا عنه ليذهب إلى الأزهر فيحضر درس الأستاذ الإمام.
وكان الصبي يقبل على طعامه راغبا عنه حينا وراغبا فيه حينا آخر، ولكنه كان يستنفده على كل حال. كان يبيح لنفسه الإقلال من الطعام إذا أكل مع أخيه، ولم يكن أخوه يكلمه في ذلك أو يسأله عنه. فأما إذا خلا إلى طعامه فقد كان يأتي عليه كله حتى ولو رغب عنه أو ضاق به؛ مخافة أن يبقى منه شيئا، ويعود أخوه ويرى ذلك فيظن به المرض أو يظن به الحزن، وكان أبغض شيء إليه أن يثير في نفس أخيه هما أو قلقا.
كان إذن يقبل على طعامه، حتى إذا فرغ منه عاد إلى سكونه وجموده في ركنه الذي اضطر إليه، وقد أخذ النهار يتصرم وأخذت الشمس تنحدر إلى مغربها، وأخذ يتسرب إلى نفسه شعور شاحب هادئ حزين، ثم يدعو مؤذن المغرب إلى الصلاة، فيعرف الصبي أن الليل قد أقبل، ويقدر في نفسه أن الظلمة قد أخذت تكتنفه، ويقدر في نفسه أن لو كان معه في الغرفة بعض المبصرين لأضيء المصباح ليطرد هذه الظلمة المتكاثفة، ولكنه وحيد لا حاجة له إلى المصباح فيما يظن المبصرون، وإن كان ليراهم مخطئين في هذا الظن؛ فقد كان ذلك الوقت يفرق تفرقة غامضة بين الظلمة والنور، وكان يجد في المصباح إذا أضئ جليسا له ومؤنسا، وكان يجد في الظلمة وحشة لعلها كانت تأتيه من عقله الناشئ ومن حسه المضطرب. والغريب أنه كان يجد للظلمة صوتا يبلغ أذنيه، صوتا متصلا يشبه طنين البعوض لولا أنه غليظ ممتلئ، وكان هذا الصوت يبلغ أذنيه فيؤذيهما، ويبلغ قلبه فيملؤه روعا، وإذا هو مضطر إلى أن يغير جلسته فيجلس القرفصاء، ويعتمد بمرفقيه على ركبتيه ويخفي رأسه بين يديه، ويسلم نفسه لهذا الصوت الذي يأخذه من كل مكان. ومع أن سكون العصر كان كثيرا ما يضطره إلى النوم فقد كان سكون العشية يضطره إلى اليقظة التي لا تشبهها يقظة.
وكان ينتهي إلى أن يألف صوت الظلمة ويطمئن إليه. ولكن في الغرفة أصواتا أخرى كانت تفزعه وتروعه، أصوات مختلفة؛ فقد كانت هذه الغرفة من غرفات الأوقاف، ومعنى ذلك أنها كانت قديمة، قد طال عليها العهد، وبعد بها الأمد، وكثرت في جدرانها الشقوق، وعمرت هذه الشقوق طوائف من الحشرات وغيرها من صغار الحيوان، وكانت هذه الحشرات وهذه الصغار من الحيوان كأنما وكلت بالصبي إذا أقبل الليل عليه وهو قابع وحده في ذلك الركن من أركان الغرفة؛ فهي تبعث من الأصوات الضئيلة، وتأتي من الحركات الخفيفة السريعة حينا والبطيئة حينا آخر ما يملأ قلب الصبي هلعا ورعبا، فإذا أقبل أخوه وحده أو مع أصحابه فأضيء المصباح انقطعت هذه الأصوات والحركات كأنها لم تكن، وكان الصبي من أجل هذا ومن أجل أشياء أخرى غير هذا لا يجرؤ على أن يذكر من أمر هذه الأصوات والحركات شيئا، وأيسر ما كان يخاف إن تحدث ببعض ذلك أن يسفه رأيه وأن تظن بعقله وبشجاعته الظنون، فكان يؤثر العافية ويكظم خوفه من الحشرات وصغار الحيوان.
وهذا المؤذن يدعو إلى صلاة العشاء، فيثير في نفس الصبي أملا قصيرا يتبعه يأس طويل؛ فقد انتهى درس الأستاذ الإمام، وسيقبل أخو الصبي بعد قليل فيضئ المصباح ويضع محفظته في مكانها، ويأخذ ما يحتاج إليه من كتاب أو أداة أو طعام، ويشيع في الغرفة في أثناء ذلك شيئا من الأنس، ويطرد من الغرفة في أثناء ذلك تلك الوحدة المنكرة، ولكنه سيلقي إلى الصبي تلك الوسادة التي سيضع عليها رأسه، وذلك اللحاف الذي سيلتف فيه لينام، وسيشهد التفافه في لحافه ووضع رأسه على وسادته، ثم يطفئ المصباح وينصرف، ويغلق الباب من ورائه ويدير فيه المفتاح، ويمضي وهو يظن أنه أسلم الصبي إلى النوم، وإن كان لم يسلمه إلا إلى أرق متصل مخيف.
وسيعود بعد ساعتين أو بعد ساعات، وقد طعم وشرب الشاي، وناظر أصحابه وأعد معهم ما شاء الله أن يعد من درس للغد، فيدير المفتاح ثم يضئ المصباح، وهو يظن أن الصبي مغرق في نوم هادئ لذيذ، وما ذاق الصبي في حقيقة الأمر نوما، وإنما انتظر جزعا فزعا عودة أخيه.
فإذا استلقى أخوه على فراشه بعد أن أطفأ مصباحه وأخذ تنفسه المضطرب أو المنتظم يدل على أنه نام، فقد أخذ الصبي يحس الأمن والدعة، ويدير في نفسه خواطر الآمن الوادع وتفكير الهادئ المطمئن.
وهنالك تتصل يقظته الآمنة بنومه اللذيذ دون أن يشعر بهذا الاتصال.
الفصل السادس
ولكن صوتين غريبين يردانه فجأة إلى يقظة فزعة؛ أحدهما: صوت عصا غليظة تضرب الأرض ضربا عنيفا، والآخر: صوت إنساني متهدج مضطرب لا هو بالغليظ ولا هو بالنحيف، يذكر الله ويسبح بحمده، ويمد ذكره وتسبيحه مدا طويلا غريبا، وقد سكن كل شيء وشمل هدوء الليل كل شيء، وجعل هذا الصوت الإنساني ينبعث بين حين وحين متهدجا مرجعا، تقطعه ضربات العصا على الأرض، وهو يبدو قويا فيذيع في الليل الهادئ شيئا يشبه الاضطراب، ثم يدنو قليلا قليلا حتى يكاد يبلغ غرفة الصبي، ثم ينحرف ويضعف شيئا فشيئا حتى يكاد ينقطع، ثم يبدو مرة أخرى قويا متصلا بعد أن هبط صاحبه سلم «الربع» واستقامت له طريقه في الحارة، ثم يبعد شيئا فشيئا حتى ينقطع.
وقد ارتاع الصبي لهذا الصوت أو لهذين الصوتين حين سمعهما لأول مرة، وأتعب نفسه في التفكير فيهما والبحث عن مصدرهما، ولكنه لم يظفر من بحثه بطائل، إلا أنه فقد النوم وأتم ليله مؤرقا مروعا حتى رد الأمن والطمأنينة إلى قلبه صوت المؤذن وهو ينادي: «الصلاة خير من النوم.» فهب الصبي مترفقا، وهب أخوه عنيفا عجلا، وما هي إلا دقائق حتى كانا يهبطان السلم ويجدان في طريقهما إلى الأزهر؛ ليسمع أحدهما درس الأصول، وليسمع الآخر درس الحديث.
وجعل هذان الصوتان يوقظان الصبي كل يوم في أول الثلث الأخير من الليل، وجعل الصبي يراع لهذين الصوتين ولا يعرف لهما مصدرا، ولا يجرؤ على أن يسأل أخاه أو غير أخيه عنهما، حتى كانت ليلة الجمعة، فأيقظه الصوتان وروعاه كدأبهما في كل ليله، ورد المؤذن إليه الأمن والهدوء كدأبه في كل صباح، ولكن الصبي لم يهب مترفقا، ولكن أخاه لم يهب عجلا عنيفا؛ فليس في فجر الجمعة ولا في صباحه دروس، وليس الشيخ الفتى ولا الشيخ الصبي في حاجة إلى أن يقطعا نومهما.
فأما نوم الصبي فقد قطعه هذان الصوتان، وأما أخوه فلم يسمعهما هذه الليلة كما لم يسمعهما من قبل، ولبث الصبي في فراشه ضيقا بهذا السكون، عاجزا عن الحركة، مشفقا أن يوقظ أخاه. حتى صليت الفجر وانتشر ضوء الشمس ونفذت أشعتها إلى الغرفة فاترة، وإذا الصبي يسمع هذين الصوتين مرة أخرى، ولكنه يسمعهما هادئين رفيقين، فأما العصا فتداعب الأرض مداعبة يسيرة، وأما الصوت فيصافح الهواء مصافحة حلوة لا تخلو من فتور، والصبي يعجب لهذين الصوتين اللذين يعنفان حين يسكن الليل وينام الناس ويحسن الرفق، واللذين يرقان ويلطفان حين ينشط النهار ويستيقظ الناس ويتاح للأصوات أن ترتفع وأن تأخذ حظها من الحرية والنشاط، وهو مع ذلك مضطر إلى سكونه، مشفق إن تحرك أن ينبه أخاه، حتى تشتد حرارة الشمس على رأسه فيستوي جالسا في أناة، ويتزحزح من مكانه في رفق حتى يبلغ مكانا لا تلفحه حرارة الشمس فيستقر فيه دون أن يتحرك.
وهو بهذا ضيق، وله كاره، وعليه مكره، وأخوه مغرق في نومه لا يفيق، ولكن الباب يطرق طرقا عنيفا وصوت من ورائه ينادي مرتفعا ساخطا صاخبا: «هلم يا هؤلاء، هلم يا بهائم، أفيقوا إلى متى تنامون! أعوذ بالله من الكفر، أعوذ بالله من الضلال! طلاب علم ينامون حتى يرتفع الضحى لا يؤدون الصلاة لوقتها، هلم يا هؤلاء! هلم يا بهائم، أعوذ بالله من الكفر، أعوذ بالله من الضلال!»
ويد هذا الصوت تقرع الباب وعصاه تقرع الأرض، ومن حوله ضحكات ترافقه. وقد هب الشيخ الفتى لأول نبأة، ولكنه ظل في مكانه ساكنا ثابتا يغرق في ضحك مكتوم مكظوم، كأنه يستحب ما يسمع ويستزيد منه ويريد أن يتصل. فأما الصبي فقد عرف هذا الصوت وهذه العصا، إنه الصوت الذي كان يضطرب في الليل، وإنها العصا التي كانت تقرع الأرض لتوقظها من نومها، من عسى أن يكون هذا الرجل؟ وما عسى أن تكون عصاه؟ وما هذا الضحك الذي يتبعه؟ وقد نهض الفتى جاهرا بضحكه فسعى إلى الباب ففتحه، واندفع منه هذا الرجل صاخبا: «أعوذ بالله من الكفر! أعوذ بالله من الضلال! اللهم اصرف عنا الأذى، أعذنا من الشيطان الرجيم. أناس أنتم أم بهائم! أمسلمون أنتم أم كفار، أتتعلمون على شيوخكم هدي أم ضلالا!»
وقد اندفع معه الشباب من أصحاب الفتى وهم يجأرون بالضحك ويغرقون فيه. وهنالك عرف الصبي هذا الرجل، وهو عمي الحاج علي.
وكان عمي الحاج علي رجلا شيخا قد تقدمت به السن حتى جاوز السبعين، ولكنه احتفظ بقوته كلها: احتفظ بقوة عقله فهو ماكر ماهر ظريف لبق، واحتفظ بقوة جسمه فهو معتدل القامة، شديد النشاط، متين البنية، عنيف إذا تحرك، عنيف إذا تكلم، لا يعرف الهمس، ولا يحسن أن يخافت صوته، وإنما هو صائح دائما، وكان عمي الحاج علي فيما مضى من دهره - كما علم الصبي فيما بعد - رجلا تاجرا، قد ولد في الإسكندرية وشب فيها، واحتفظ بما لأهل الإسكندرية من قوة وعنف، ومن صراحة وظرف، وكان يتجر في الأرز؛ ومن أجل ذلك سمي: عمي الحاج علي الرزاز. فلما تقدمت به السن أعرض عن التجارة أو أعرضت التجارة عنه، وكان له بيت في القاهرة يغل عليه شيئا من مال، فاتخذ لنفسه غرفة في هذا الربع الذي لم يكن يسكنه من غير المجاورين إلا هذا الرجل، وهذان الفارسيان اللذان ذكرا في بعض هذا الحديث.
ولم يكد عمي الحاج علي يستقر في غرفته في آخر الربع عن شمال إذا صعدت السلم حتى لفت إليه هؤلاء الشباب من طلاب العلم، أضحكهم وراقوه، فاتصلت بينه وبينهم مودة حلوة متينة نقية، فيها ظرف كثير، وفيها رقة وتحفظ يؤثران في القلوب حقا. فقد كان هذا الشيخ يعرف من هؤلاء الشباب حبهم للعلم، وجدهم في الدرس، وصدوفهم عن العبث، وكان يحب منهم ذلك. فإذا بدأ أسبوع العمل لم يسع إليهم، ولم يعرض لهم، حتى كأنه لا يعرفهم إلا أن يسعوا هم إليه، أو يلحوا هم عليه في أن يشهد معهم طعاما أو يشاركهم في الشاي، فإذا كان يوم الجمعة لم يمهلهم ولم يخل بينهم وبين أنفسهم، وإنما انتظر بهم حتى يتقدم النهار، وحتى يعلم أنهم قد أرضوا نفوسهم من النوم والراحة. هنالك يخرج من غرفته فيبدأ بأقرب غرف هؤلاء الشباب إليه، فيوقظ صاحبها في هذا العنف والضجيج اللذين رأيتهما، ثم ينتقل إلى الغرفة التي تليها ومعه صاحبه الذي أيقظه. وما يزال كذلك حتى يبلغ غرفة أخي الصبي فيوقظه على هذا النحو. الشباب من حوله فرحون مرحون، يستقبلون يوم راحتهم مبتهجين، قد ابتسموا للحياة وابتسمت لهم الحياة.
وإلى هذا الشيخ كان تدبير طعامهم ولهوهم البرئ في يوم الجمعة؛ فهو الذي يقترح عليهم طعام الإفطار، وقد يعده لهم في غرفته أو في غرفة أحدهم. وهو الذي يقترح عليهم طعام العشاء، ويشير عليهم بما ينبغي أن يصنعوا لإعداده، ويشرف على هذا الإعداد، ويقوم منه ما يمكن أن يعوج، يصحبهم صباحهم، ثم يفارقهم ليصلي الجمعة، ثم يصحبهم، حتى إذا وجبت العصر فارقهم لحظة، ثم يعود إليهم فيشاركهم في عشائهم وفيما يكون بعده من الشاي، ثم إذا وجبت المغرب أمهم في صلاتهم، فإذا وجبت العشاء فارقهم ليعدوا الدروس التي سيسمعونها من الغد.
وكان عمي الحاج علي يتكلف التقوى والورع، ويظهر ذلك إلى أقصى ما يظهر الناس تكلفهم وتصنعهم. يبدأ بهذه الغزوة التي يجددها في الثلث الأخير من كل ليلة، فيخرج من غرفته صاخبا صائحا بذكر الله والتسبيح بحمده، ضاربا الأرض بعصاه حتى يبلغ مسجد سيدنا الحسين، فيقرأ فيه ورد السحر، ويشهد فيه صلاة الفجر، ثم يرجع متمتما مهمهما مداعبا الأرض بعصاه فيستريح في غرفته. فإذا وجبت الصلوات أداها في غرفته وقد فتح بابها وجهر بالقراءة والتكبير ليسمعه أهل الربع جميعا. فإذا خلا إلى أصحابه الشباب على طعامهم أو على شايهم أو في بعض سمرهم، فهو أسرع الناس خاطرا، وأظرفهم نكته، وأطولهم لسانا، وأخفهم دعابة، وأشدهم تتبعا لعيوب الناس، وأعظمهم إغراقا في الغيبة، لا يتحفظ في لفظ، ولا يتحرج من كلمة نابية، ولا يتردد في أن يجري علي لسانه المنطلق دائما وبصوته المرتفع دائما أشنع الألفاظ، وأشدها إغراقا في البذاء، وأدلها على أبشع المعاني وأقبح الصور.
وكان أولئك الشباب يحبونه على ذلك، أو يحبونه من أجل ذلك، أو قل: إنهم يحبون ذلك منه أشد الحب، ويكلفون به أعظم الكلف، كأنه كان يخرجهم من أطوارهم، ويريحهم من جد العلم والدرس، ويفتح لهم بابا من اللهو ما كانوا يستطيعون أن يلجوه حين كانوا يخلون إلى أنفسهم، بل ما كانوا يستطيعون أن يلجوه حين كانوا يلتفون حول هذا الرجل الشيخ، وحين كان يصب عليهم هراءه هذا بغير حساب، كانوا يسمعون ذلك منه ويضحكون له، حتى إن جنوبهم لتكاد تنقد من الضحك، ولكنهم على ذلك لم يكونوا يعيدون على الشيخ كلمة من كلماته البذيئة أو لفظا من ألفاظه النابية، فكأنما كانوا يرون شيئا يعجبهم ويلهيهم فيستمتعون به من بعيد، ولا يبيحون لأنفسهم أو لا تبيح لهم ظروفهم أن يدنوا منه أو يسعوا إليه.
ولم يكن ذلك يدل على أقل من هذه الصفة الغريبة الخليقة بالإعجاب والرحمة معا، والتي كان هؤلاء الشبان يمتازون بها من كثير من زملائهم وأقرانهم؛ وهي كظم الشهوات وأخذ النفس بألوان من الشدة تمكنهم من المضي في الدرس على وجهه، وتردهم عن التورط فيما كان كثير من زملائهم يتورطون فيه من هذا العبث السهل الذي يفل الحد ويفتر العزائم ويفسد الأخلاق.
وكان الصبي يسمع لهذا كله فيفهم ويحفظ ويعجب، ويسأل نفسه كيف يجتمع طلب العلم وما يحتاج إليه من الجد مع هذا التهالك على الهزل والتساقط على السخف في غير تحفظ ولا احتياط؟! وكان يعاهد نفسه على أنه إذا شب وبلغ طور هؤلاء الطلاب الذين يكبرهم ويقدر ذكاءهم فلن يسير سيرتهم ولن يتهالك على العبث كما يتهالكون عليه.
وكان يوم الجمعة يوم البطون في حياة هؤلاء الطلاب وفي حياة صديقهم الشيخ، فكانوا إذا أصبحوا اجتمعوا إلى إفطار غزير دسم صاخب، قوامه الفول والبيض ثم الشاي، وما كانوا قد ادخروا من هذه الفطائر الجافة التي كانت أمهاتهم يزودنهم بها ويضعن في صنعها وفي تعبئتها قلوبهن الساذجة وما يملؤها من حب وعطف وحنان. وكم ذكر الصبي جهد أبيه في كسب ما لم يكن بد من كسبه من النقد لتستطيع أمه أن تهيئ لابنيها زادهما، وجد أمه في صنع هذا الزاد وتكلفها الفرح وهي تهيئه، وحزنها الصامت وهي تعبئه، ودموعها المنهمرة وهي تسلم أحماله إلى من سيذهب به إلى القطار.
كم ذكر الصبي هذا كله حين كان هؤلاء الشباب يلتهمون هذا الزاد التهاما، يغمسونه في الشاي كما كان يوصيهم الشيخ، أو يقضمونه بأسنانهم وأضراسهم قضما، ثم يعبون في أكواب الشاي ليبلوه في أفواههم ولتسيغه حلوقهم بعد ذلك سهلا هينا، وهم في أثناء ذلك يتضاحكون من دعابة الشيخ وفكاهته، لا يذكرون آباءهم وما جدوا، ولا يذكرون أمهاتهم وما احتملن من كد وما ذرفن من دموع.
وكان الشيخ وأصدقاؤه الطلاب يدبرون عشاءهم أثناء الدورة الثانية والثالثة من الشاي الذي يقبلون عليه بعد الإفطار. وكان تدبيرهم لهذا العشاء يقبض نفس الصبي ويملؤها خجلا، فلما فكر فيه بعد أن تقدمت به السن وجد لذكراه حنانا وإعجابا. كانوا يتداولون ويتشاورون، ولم يكن ميدان مداولاتهم ومشاوراتهم واسعا ولا عريضا، وإنما هما لونان من ألوان الطعام لم يشذوا عنهما قط: فإما البطاطس في خليط من اللحم والطماطم والبصل، وإما القرع في خليط من اللحم والطماطم والبصل وشيء من الحمص. وكانوا يتفقون على أقدار ما يشترون من هذه الأصناف كلها، ثم يقدرون ثمن ما سيشترون، ثم يخرج كل منهم حصته من هذا الثمن إلا الشيخ فكانوا يخرجونه من هذه الغرامة. فإذا اجتمع لهم ما يحتاجون إليه من نقد، ذهب أحدهم فاشترى لهم طعامهم، فإذا عاد بما اشترى نهض أحدهم إلى موقده فأوقد فيه ناره من هذا الفحم البلدي، حتى إذا صفت جذوته أقبل على الطعام يهيئه وأصحابه ينظرون إليه مجتمعين أو متفرقين، والشيخ يلقي إليه نصائحه بين حين وحين، حتى إذا تم له من تهيئة الطعام ما أراد خلى بينه وبين هذه النار تنضجه على مهل، واجتمع القوم إلى صديقهم الشيخ يعبثون، أو إلى أنفسهم يدرسون، وطاهيهم يخطف نفسه بين حين وحين ليلقي نظرة على هذا الطعام مخافة أن يحترق أو يفسد، وليلقي عليه بين حين وحين قطرات من ماء. وكلهم يتنسم هذه الرائحة الذكية التي تبعثها النار من هذا الطعام كلما تقدمت به إلى الإنضاج، وكلهم يجد في تنسم هذه الرائحة مقدمة لذيذة لعشاء لذيذ، ومن المحقق أنهم لم يكونوا وحدهم يصطنعون هذا الطعام، وإنما كان لهم في الربع زملاء يصطنعون مثله ويتنسمون رائحته مثلهم، ومن المحقق أيضا أن قد كان لهم في الربع زملاء تقصر بهم ذات أيديهم عن أن يصنعوا لأنفسهم من الطعام مثل ما كانوا يصنعون، ومن المحقق أيضا أن هؤلاء العمال الذين كانوا يسكنون الدور السفلي من الربع كانت تقصر بهم ذات أيديهم عن أن يطرفوا أنفسهم وأبناءهم ونساءهم بمثل هذا الطعام. وأكبر الظن أنهم كانوا يجدون من نسائهم لهذا الحرمان هما ثقيلا. وأكبر الظن أن هؤلاء المحرومين من الطلاب والعمال كانوا يجدون في هذه الروائح التي كانت تملأ الربع يوم الجمعة لذة مؤلمة أو ألما لذيذا.
وكانت نار هذا الفحم البلدي بطيئة طويلة البال، فكان ذلك يطيل لذة قوم ويمد ألم آخرين، حتى إذا صليت العصر ودعيت الشمس إلى الغروب كان الطعام قد نضج، فاجتمع القوم حول مائدتهم وأقبلوا على طعامهم في نشاط يشبه الجد الهازل أو الهزل الجاد، كلهم حريص على أن يستوفي حظه من هذا الطعام، وكلهم يراقب أصحابه أن يسبقوه أو يشتطوا عليه، وكلهم يستحيي أن يظهر هذا الحرص أو يبدي هذه المراقبة. ولكن الشيخ معهم، فصراحته تغني عن صراحتهم، وهزله يفضح ما أسروا من الجد، فهو يراقبهم جميعا، وهو يقسم الطعام بينهم بالعدل، وهو يصد أحدهم إن هم أن يجور على أصحابه، لا يخفي ذلك ولا يتحفظ فيه، وإنما يعلنه صاخبا كعادته، منبها هذا إلى أنه يخدع نفسه عن قطعة البطاطس بقطعة اللحم، ومنبها ذاك إلى أنه يسرف على نفسه وعلى أصحابه بما يغترف في لقمته الغليظة من جامد الطعام أو سائله، مرسلا ألفاظه إلى هذا وذاك في هزل يخف على أسماعهم ويحسن موقعه من نفوسهم، ويضحكهم، ولا يؤذيهم فيما ينبغي لهم من الحياء.
والصبي في أثناء هذه المعركة الضاحكة خجل وجل، مضطرب النفس مضطرب حركة اليد، لا يحسن أن يقتطع لقمته، ولا يحسن أن يغمسها في الطبق، ولا يحسن أن يبلغ بها فمه، يخيل إلى نفسه أن عيون القوم جميعا تلحظه، وأن عين الشيخ خاصة ترمقه في خفية، فيزيده هذا اضطرابا، وإذا يده ترتعش، وإذا بالمرق يتقاطر على ثوبه، وهو يعرف ذلك ويألم له ولا يحسن أن يتقيه. وأكبر الظن؛ بل المحقق أن القوم كانوا في شغل عنه بأنفسهم، وآية ذلك أنهم يفكرون فيه ويلتفتون إليه ويحرضونه على أن يأكل ويقدمون إليه ما لا تبلغه يده، فلا يزيده ذلك إلا اضطرابا واختلاطا، وإذا هذه المعركة الضاحكة مصدر ألم لنفسه وحزن لقلبه، وكانت خليقة أن تسره وأن تضحكه، ولكنها إن آذته في أثناء الطعام فقد كانت تسره وتسليه، وتضطره أحيانا إلى أن يضحك وحده إذا خلا إلى نفسه بعد أن يشرب الجماعة شايهم وينتقلوا إلى حيث يدرسون أو يسمرون.
وكذلك أنفق هؤلاء الشباب أعواما طويلة مع هذا الشيخ. وشب الصبي في هذه الحياة الضاحكة بفضل الشيخ علي، على رغم ما كان يعترض طريقها من أسباب الألم والأسى.
ثم تفرقت الجماعة، وذهب كل من هؤلاء الشباب لوجهه، وتركوا الربع واستقروا في أطراف متباعدة من المدينة، وقلت زيارتهم للشيخ، ثم انقطعت، ثم تناسوه، ثم نسوه.
وفي ذات يوم حمل إلى أفراد هذه الجماعة نعي الشيخ، فحزنت قلوبهم ولم يبلغ الحزن عيونهم، ولم يرسم آياته على وجوههم، وأخبر المخبر الصادق أن آخر كلمة نطق بها الشيخ وهو يحتضر إنما كانت دعاءه لأخي الصبي.
فرحم الله عمي «الحاج علي»! لقد كان ظله على الصبي ثقيلا وإن ذكره ليملأ قلبه بعد ذلك رحمة وحنانا.
الفصل السابع
ولم يكن هؤلاء الشباب يستمدون فرحهم ومرحهم من ذلك الشيخ وحده، وإنما كان لفرحهم ومرحهم مصدر آخر في بعض الأحيان. ولكن فرحهم كان مقتصدا ومرحهم كان هادئا إذا جاءهم من هذا المصدر الآخر. كانوا يفرحون بمقدار، ويمرحون من وراء ستار، إذا لقوا صاحبهم ذاك الذي كان يسكن غرفة في أقصى الربع من يمين، كما كان الشيخ في أقصى الربع من شمال. وكان صاحب الغرفة اليمنى رجلا متوسط السن قد جاوز الأربعين من غير شك ولكنه لم يبلغ الخمسين. وكان طالب علم، وقد أنفق في الأزهر أكثر من عشرين سنة ولم يظفر بدرجة العالمية بعد، ولم يستيئس من الظفر بها، ولكنه لم يقصر عليها جهده ولم يقف عليها حياته، وإنما كان يطلبها ويطلب معها أشياء أخرى هي التي يطلبها الناس في حياتهم؛ فقد كان له زوج وكان له بنون، وكان يمنح زوجه وأبناءه من وقته إجازة الصيف وإجازة الصوم. وهذه الإجازات القصار التي كانت تتخلل دراسة الأزهريين أحيانا. وكان أهله يقيمون في القرية قريبا من القاهرة؛ فلم يكن الانتقال إليهم والارتحال عنهم يكلفان الرجل جهدا ثقيلا أو نقدا كثيرا. وكان ككثير من أهل إقليمه يملك قطعة أو قطعا صغيرة من الأرض، وقد أصهر إلى رجل يملك قطعة أو قطعا من الأرض أيضا، فلم يكن فقير الحال كما كان يقال في ذلك الوقت، ولكنه لم يكن عظيم اليسار؛ وكان قبل كل شيء مقتصدا يوشك اقتصاده أن يبلغ البخل.
وكان حبه للعلم معتدلا، وكانت رغبته في العلم متواضعة، وكان إقباله على الدرس ضئيلا جدا، وكان ذكائه أضأل من إقباله على الدرس، واستعداده لفهم العلم أقل من إقباله عليه، وكان مع ذلك يرى نفسه ذكيا، ويرى نفسه مظلوما؛ لا لأنه تقدم لنيل الدرجة فرد عنها واشتطت عليه اللجنة في الامتحان، فقد أنفق في الأزهر أكثر من عشرين سنة ولم يتقدم للامتحان، وكان يستطيع أن يتقدم بعد اثنتي عشرة سنة، ولكنه لم يفعل؛ لأنه كان يرى الأزهر من وراء منظار قاتم أو شاحب.
كان يسيء الظن بالطلاب، وكان يرى - مخطئا أو مصيبا، وأكبر الظن أنه كان مخطئا - أن الدرجات لا تنال في الأزهر بالذكاء والبراعة، ولا بالجد والتحصيل، وإنما تنال من جهة بالحظ والمصادفة، ومن جهة أخرى بالتملق وحسن الحيلة والمهارة في التوسل إلى الممتحنين. وكان يرى أن الحظ قد ظلمه وتحول عنه لسبب مجهول، وأنه مخفق إن تقدم إلى الامتحان؛ فالخير في ألا يتقدم.
وكان يبتدئ عامه الأزهري مصمما على أن يتأهب للامتحان، فيتفق مع جماعة من أصدقائه على أن يقرأ معهم طائفة من الكتب التي لم يكن بد من إتقانها قبل التقدم للامتحان، ثم لا يمضي شهر أو شهران حتى يشعر بأن الحظ لا يواتيه، فيهمل ثم يكسل ثم ينصرف عن الدرس إلى غيره من شئون الحياة. وكان يعتقد أن الحظ قد ظلمه مرة أخرى، فلم يمنحه من نباهة الذكر ومن هذا الذكاء الخداع ما يلفت إليه الشيوخ، كما منح فلانا وفلانا من أصدقائه، مع أنه في حقيقة الأمر ليس أقل من أصدقائه فهما للعلم، ولا قدرة على التصرف فيه.
ولم يكن يخفي إذا تحدث إلى أصدقائه الشباب أنه كان يعرف الطريق المأمونة المضمونة إلى الدرجة، وأنه كثيرا ما راود نفسه عن سلوكها، ولكن نفسه لم تطب قط عن بيع قيراط أو قيراطين ليظفر بهذه الدرجة التي تمنحه لقلب العالم، وتزيد جرايته أرغفة، وتغل عليه آخر الشهر خمسة وسبعين قرشا.
وكان من أجل هذا كله ينتظر أن تصفو له الأيام، ويبتسم له وجه الحظ، كما ابتسم لصديقه ومواطنه فلان في العام الماضي؛ فقد أقام صديقه هذا طالبا للعلم ربع قرن، وكان ذكيا بارعا، ثم تقدم فجأة إلى الامتحان فلم يجزه ناجحا فحسب، ولكنه ظفر بالدرجة الثانية لا بالدرجة الثالثة، ولو أنه أحسن التقرب إلى فلان من أعضاء اللجنة لظفر بالدرجة الأولى.
فلينتظر إذن كما انتظر صديقه، ولعل الحظ أن يواتيه كما واتى صديقه، فالأمر كله إلى الحظ أيها الأصدقاء؛ فقد درست كما تدرسون وتعبت كما تتعبون، وأنا أتمنى أن يكون حظكم خيرا من حظي وإن كنت لا أثق بذلك ولا أطمع فيه.
وكان هؤلاء الشباب يسمعون من صاحبهم هذه الأحاديث فيحفظونها ويثبتون في أنفسهم طريقته في إلقائها، وكانت طريقته طريفة حقا؛ فقد كان يتحدث في هدوء شديد وصوت هو إلى الخفوت أقرب منه إلى الجهر، وكان يعتمد على ألفاظه كأنما يريد أن يثبتها في آذان سامعيه. وكان يفصل بين أحاديثه هذه بكثير من الفكاهات والنوادر التي كان يراها غريبة مضحكة، فيضحك لها ويطيل الضحك، وقد مرت على أصدقائه فلم تضحكهم ولم تلفتهم، ولكنهم رأوه يضحك فوجموا، ثم رأوا ضحكه متصلا فضحكوا، ثم رأوا إغراقه في الضحك فأغرقوا فيه. وكان ضحكه غريبا مضحكا حقا إن جاز هذا التعبير؛ فقد كان يبدؤه عاليا ثم يقطعه ويضحك صامتا لحظة، ثم يستأنفه عاليا ثم يقطعه ويمضي فيه صامتا، ثم يستأنفه، وهكذا.
وكان الطلاب إذا خلوا إلى أنفسهم أعادوا أحاديثه، ورددوا ألفاظه، وقلدوا ضحكه وقضوا في ذلك ساعة مسلية سارة.
ولكن الذي كان يعجب هؤلاء الشباب من صديقهم هذا شيء آخر؛ فقد كان صاحب لذة بل صاحب إغراق في اللذة وتهالك عليها. وكان يحب الحديث عن لذاته، ويستمتع بتفصيل هذا الحديث كما يستمتع بلذاته نفسها أو أكثر مما يستمتع بلذاته نفسها. وكانت اللذات التي يمعن فيها ويتحدث عنها بريئة إن شئت، وآثمة إن شئت أيضا. كان يذكر لذاته إذا خلا إلى أهله ويفصل ذلك تفصيلا منكرا يقطعه بضحكه الغريب. وكان يذكر لذاته إذا جلس إلى طعامه الدسم في القرية وإلى طعامه الخشن في المدينة، ويفصل ذلك بفكاهاته النادرة الفاترة وضحكه المتقطع المتصل.
وكان يذكر لذاته إذا سعى في شوارع المدينة وفي حاراتها، وإذا وقف في الربع نفسه يستنشق الهواء وألقى عينيه إلى الطبقة السفلى، فلم يكن يرى امرأة في الشارع أو الحارة أو الربع إلا فصلها بعينه تفصيلا، وحللها في نفسه تحليلا، وجردها من ثيابها تجريدا، ووجد في هذا الجهد الآثم لذة لا تقل عنه إثما. ولم يكن يسمي المرأة امرأة ولا سيدة ولا أنثى، ولا شيئا مما تعود الناس أن يسموها، وإنما كان يسميها فخذا. ولم تكن المرأة النحيلة تعدل عنده شيئا، وإنما المرأة كل المرأة من ضخمت حتى اكتظت أعضاؤها بالشحم واللحم، وكان يشبهها بالوسائد حينا وبالحشايا حينا آخر.
وكان يستدل على مذهبه هذا بقول كعب بن زهير في صاحبته سعاد:
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة
لا يشتكى قصر منها ولا طول
وكان يقول لأصدقائه: ألا ترون أنه لم يكد يذكر أن صاحبته كانت هيفاء إذا أقبلت حتى استدرك أمره وقوم رأيه فذكر أنها عجزاء إذا أدبرت! ثم يمضي بعد ذلك في ألوان شنيعة من التفصيل، ثم يقص الفكاهات وينثر النوادر، ويرسل الضحك ثم يمسكه، وقد ملك على هؤلاء الشباب أمرهم بما يلقي إليهم من حديث، وأي شيء أبلغ أثرا في نفوس الشباب المحرومين هذه اللذات بريئها وآثمها من هذا الحديث!
وكان الصبي يسمع ذلك وهو في ركنه منحن مطرق كأنه ليس مع القوم، وما يفوته من حديث القوم لفظ، وما تشذ عنه من أصوات القوم نبرة. وكان يقول في نفسه: لو عرف هؤلاء الرجال مقدار ما أسمع لهم وما آخذ عنهم لاجتنبوا أن يديروا مثل هذه الأحاديث بمحضر من الصبية الناشئين.
وقد أنفق الرجل منذ عرفه الصبي أعواما في الربع اختلفت عليه فيها شئون كانت كلها تضحك في ظاهر الأمر، ولكنها تحزن وتثير الأسى عند الرؤية والتفكير.
كان فلاحا بأدق ما تؤدي هذه الكلمة من معاني الحب للأرض، والحرص على المال، والجزع كل الجزع أن يغلب في بيع أو تأجير أو شراء. وكان المال، والمال وحده، يسيطر على أمره كله إذا ذهب إلى قريته أو فكر فيها أو لقي أحدا من أهلها. وكان صاحب لذة بأدق ما تؤدي هذه الكلمة من معاني الاستجابة للحس والطلب لهذه المتع القريبة التي لا تحتاج إلى رقة نفس ولا إلى دقة عاطفة ولا إلى صفاء ذوق. وكان طلبه للعلم وانتظاره للدرجة وسيلة من وسائله - أو قل غاية من غاياته - يستريح إليها إذا جد في تحصيل المال حتى أعياه الجد، وإذا تهالك على الاستمتاع باللذة حتى أضناه الاستمتاع. هنالك يعود إلى ربعه ويستقر في غرفته، ويفكر في زملائه وشيوخه ودرجته، ويتحدث إلى أصدقائه هؤلاء، ويشاركهم في بعض الطعام ويشاركهم في بعض الشاي. ولكنه كان على هذا كله مؤمنا شديد الإيمان، له نزعات صوفية غريبة تخرجه بين حين وحين عن أطواره هذه كلها، وترده زاهدا متقشفا يأخذ نفسه بالشدة والعنف، ويفرض عليها عذاب الحرمان والجوع.
وقد اختلف مع حميه ذات يوم في بعض الأمور، وزهد في زوجه الفلاحة، وطمح إلى أن يتخذ لنفسه زوجا من أهل القاهرة، ويصهر إلى أسرة متحضرة متأنقة، فطلق امرأته. وكان يتحدث بآماله هذه إلى أصدقائه مفصلا لهم في أصرح الألفاظ وأبشعها ما يكون من الفروق بين نساء المدينة ونساء الريف. ولكنه أصبح ذات يوم وقد صرف عن المال وصرف عن نساء المدينة ونساء الريف، وصرف عن لذة الطعام والشاي؛ لأنه أحس أن الحظ سيواتيه إن تقدم للامتحان، فلا بد إذن من أن يتقدم، ولا بد إذن من أن يتهيأ لهذا الصراع بينه وبين الشيوخ، وأمامه أشهر يستطيع أن يستعد فيها، فليعبئ أصدقاءه وزملاءه القدماء والمحدثين، وليفرغ للأصول والفقه وللبلاغة والنحو والتوحيد، ولهذه المواد التي كان يتألف منها «التعيين». وقد فعل، وتقدم للامتحان وكان يوم امتحانه يوما مشهودا.
أقبل على اللجنة مع الصباح وانصرف عنها عند المساء، فأتعبها وأتعبته، وكان قد دبر لنفسه حيلة ظريفة طريفة يستريح بها من اللجنة إن اشتطت عليه، فاشترى بطيخة أو جماعة من البطيخ وتركها قريبا من غرفة الامتحان، وزعم للجنة حين أدخل عليها أنه مريض بسلس البول، واستأذنها في أن ينصرف كلما اضطرته علته إلى الانصراف، وقد رحمته اللجنة وأذنت له أن ينصرف كلما دعته علته إلى ذلك. فكان يأخذ في تقرير الدرس ويأخذ في محاورة الممتحنين إن ألقى عليه أحدهم هذا السؤال أو ذاك، ثم يقطع تقريره أو حواره فجأة ويستأذن في الخروج، فإذا خرج لم يذهب إلى حيث يرضي حاجة أو يشفي علة، وإنما ذهب إلى حيث يصيب مقدارا من البطيخ يبرد به قلبه ويشحذ به ذهنه ويسترد به خاطره كما كان يقول، ثم عاد إلى اللجنة فاستأنف التقرير أو الحوار من حيث قطع التقرير أو الحوار. وما زال باللجنة وما زالت اللجنة به حتى انقضى أكثر النهار، وعاد إلى غرفته سعيدا موفورا؛ فقد أتيح له النجاح وظفر بالدرجة الثالثة وأصبح من العلماء.
وتفرق عنه أصدقاؤه مع الصيف، فلما لقوه من الخريف كان قد فارق غرفته في الربع وحقق آماله تلك، فأصهر إلى أسرة من المدينة، وأقام معها غير بعيد من مسكنه القديم.
وقد أخذته نزعته الصوفية ذات يوم، فاعتزم أن يعتكف في المسجد أياما يروض نفسه فيها على الصلاة والصوم وذكر الله. وقد فعل، فلزم الخلوة أياما لا أدري كم عددها ولكنها لم تكن قليلة؛ فقد خرج من الخلوة نحيلا منهوكا. فلما عاد إلى أهله أنكروه، ولعلهم سخروا من رجولته، فعادت إليه نفسه الفلاحة المتهالكة على اللذات، وأدركته حميته الريفية، فخرج مع الصباح حتى أتى مطعما أو قهوة فأسرف على نفسه أشد الإسراف فيما التهم من فول وزيت وخبز وبصل، ثم أسرف على نفسه أشد الإسراف فيما أطفأ به نار هذا الإفطار من شاي، ثم أضاف إلى كل ما ألقى في جوفه من سائل وجامد شيئا من هذه الأشياء التي كان أمثاله يشيرون إليها ولا يسمونها؛ فلما استقر هذا كله - أو اضطرب - في جوفه عاد إلى أهله فائرا ثائرا، فأنكروا قوته واتقوه، وانتهى أمره إلى أن هم بأن يثب من النافذة لولا أن أدركه بعض أعضاء الأسرة فردوه عن ذلك بعد جهد وأوثقوه، وإذا هو مجنون قد ذهب عقله.
وما ينسى الصبي ذلك الصوت الذي كان يصل إليه ذات ليلة بعد أن صليت العشاء، والذي وقف له أولئك الشباب من الطلاب واجمين محزونين تريد دموعهم أن تنهل فلا يمسكها إلا الحياء. وكان ذلك الصوت صوت ذلك الرجل الذي أخذه الجنون وأطلق لسانه فهو يتغنى بأبشع الهذيان، فلما أصبح ذهب به أصهاره إلى المستشفى هناك حيث يداوى أمثاله. وقد أقام في هذا المستشفى أسابيع، ثم خرج منه وقد تغيرت حاله كل التغيير؛ فانخفض صوته أكثر مما كان منخفضا، وهدأت حركاته وانقطع ضحكه، وأصبح يبعث في نفس من يلقاه شيئا غريبا من الخوف منه والإشفاق عليه.
وقد مضت الأيام بما تمضي به من الأحداث، وتفرق عن هذا الرجل أصدقاؤه الشباب، وذهب كل منهم لوجه من وجوه الحياة، وقل لقاؤهم لهذا الرجل ثم انقطع، وجعلت أخباره تصل إليهم متقطعة، ثم انقطعت هي أيضا، وأنبأ المنبئ ذات يوم بأنه قد مات.
فسمع أصدقاؤه هذا النبأ فحزنت نفوسهم لحظة، ولكن عيونهم لم تذرف دمعة، ولكن وجوههم لم تنقبض إلا قليلا، وإنما انطلقت ألسنتهم بهذه الآية الكريمة التي نتلوها دائما كلما انتهى إلينا النعي:
إنا لله وإنا إليه راجعون .
الفصل الثامن
وغرفة أخرى من غرفات هذا الربع كانت تقوم فيه غير بعيد عن شمالك إذا صعدت السلم، وكانت مصدر فكاهة ودعابة ولهو لهؤلاء الشباب أيضا.
كان يسكنها شاب لعله كان أكبر من هؤلاء الطلاب شيئا، وقد كان أقدم منهم عهدا بالأزهر، ولكنه كان من جيلهم ومن طبقتهم على كل حال. كان نحيف الصوت يكفي أن تسمعه لتضحك من صوته، وكان ضيق العقل لم يأذن الله للون من ألوان العلم أن يستقر في رأسه؛ لأن عقله كان محدودا محصورا. وكان قصير الذكاء لم يأذن الله لذهنه أن ينفذ إلى أقرب شيء وراء ما كان يقرأ في الكتب على اختلافها. وكان مع ذلك واسع الثقة بنفسه بعيد الطمع في مستقبله مطمئنا في غير تكلف إلى أنه كأصحابه هؤلاء الذين يعيش معهم ويشاركهم في أكثر ما يختلفون إليه من الدروس.
كان يشهد معهم درس الفقه ودرس البلاغة ودرس الأستاذ الإمام. ولم يكن يخف لدرس الأصول؛ لأن هذا الدرس كان يقتضيه أن يخرج من غرفته مع الفجر، وقد كان لراحته مؤثرا وبها ضنينا. وكان يشارك أصحابه في بعض مطالعاتهم، وكان يشاركهم بنوع خاص في هذه المطالعات التي لا تتصل بالدروس المنظمة ولا بالكتب التي كان الشيوخ يقرءونها.
فقد كان هؤلاء الشبان يضيقون بكتب الأزهر ضيقا شديدا، يتأثرون في ذلك برأي أستاذهم «الإمام» في كتب الأزهر ومناهجه. وكانوا يسمعون من الأستاذ الإمام حين يشهدون درسه أو حين يزورونه في داره أسماء كتب قيمة في النحو والبلاغة والتوحيد والأدب أيضا، وكانت هذه الكتب القيمة بغيضة إلى شيوخ الأزهر؛ لأنهم لم يألفوها، وربما اشتد بغضهم لهذه الكتب؛ لأن الأستاذ الإمام قد دل عليها ونوه بها. وكان الذين ينافسون الأستاذ الإمام من الشيوخ الأعلام يحاولون أن يذهبوا مذهبه فيدلون طلابهم على كتب قيمة أخرى، لا تقرأ في الأزهر؛ لأن الأزهريين لم يألفوا قراءتها. وكان هؤلاء الطلاب لا يكادون يسمعون اسم كتاب من هذه الكتب حتى يسرعوا إلى شرائه إن وسعهم ذلك، وربما كلفوا أنفسهم في هذا الشراء جهدا ثقيلا وحرمانا شديدا، فإن أعياهم ذلك استعاروه من مكتبة الأزهر، ثم أقبلوا عليه ينظرون فيه، ثم اتفقوا على أن يقرءوه جماعة، ويتعاونوا على فهمه.
كان يدفعهم إلى ذلك حبهم الصادق للأستاذ الإمام ورغبتهم الصادقة في العلم والاطلاع. وربما دفعهم إلى ذلك مع هذه العاطفة شيء من غرور الشباب؛ فقد كانوا يفخرون بتلمذتهم للأستاذ الإمام وللشيخ بخيت وللشيخ أبي خطوة وللشيخ راضي، وكانوا يملئون أفواههم بأنهم تلاميذ هؤلاء الأئمة وبأنهم من تلاميذهم المقربين المصطفين. ولم يكونوا يكتفون بالاختلاف إلى هؤلاء الشيوخ في دروسهم، وإنما كانوا يزورون شيوخهم في بيوتهم، وربما شاركوهم في بعض البحث، وربما استمعوا منهم دروسا خاصة في يوم الخميس بعد أن تصلى الظهر أو بعد أن تصلى العشاء. وكانوا لا يكرهون أن يعرف عنهم زملاؤهم هذا كله، وأن يتحدث عنهم زملاؤهم بأنهم يقرءون بينهم هذا الكتاب أو ذاك في هذا الفن أو ذاك، وكانوا قد وصلوا بهذا كله إلى شيء ظاهر من الامتياز بين زملائهم، حتى عرفوا في الأزهر كله بأنهم أنجب طلاب الأزهر وأخلقهم بالمستقبل السعيد. فكان من المعقول أن يسعى إليهم الأوساط من زملائهم يلتمسون التفوق في الاتصال بهم والامتياز حين يعرف الناس أنهم من أصدقائهم وأصفيائهم، ويلتمسون بذلك الوسيلة إلى أن يتصلوا بكبار الشيوخ وأئمة الأساتذة. وكان صاحبنا من هؤلاء الطلاب الأوساط، قد اتصل بهذه الجماعة من الطلاب؛ ليقول زملاؤه إنه واحد منهم، وليستطيع بحكم هذه الصلة أن يصحبهم في زياراتهم للأستاذ الإمام أو الشيخ بخيت.
وكان غرور الشباب يحبب إلى هذه الجماعة هذا النوع من الامتياز، ويهون عليها قبول هؤلاء الطفيليين في العلم من ضعاف الطلاب وأوساطهم، ثم يتيح لهم بعد ذلك، حين يخلون إلى أنفسهم وقد أحصوا على هؤلاء الزملاء جهالاتهم وسخافاتهم وأغلاطهم الشنيعة، أن يعيدوا ذلك وأن يضحكوا منه ملء أفواههم وملء جنوبهم أيضا. وأكبر الظن أن صاحبهم هذا قد عرفهم في بعض الدروس، فما زال يدني نفسه منهم حتى اتصل بهم فزارهم. ثم أعجبه ربعهم وأعجبه جواره لهم في هذا الربع، فاتخذ فيه غرفة وأصبح واحدا منهم، يشاركهم في الدرس، ويشاركهم في الشاي، ويشاركهم في الزيارات ويشاركهم في بعض الشهرة. ولكن الله لم يفتح عليه قط بأن يشاركهم في العلم والفهم، وفي الإبانة والإيضاح. ويظهر أنه كان أوسع منهم يدا، وأكثر منهم مالا، أو قل: إنه كان يقتر على نفسه إذا خلا إليها، فإذا اتصل بأصحابه يسر على نفسه وأنفق عن سعة. وربما كان يشعر بحاجتهم إلى النقد لشراء كتاب، أو لأداء دين عاجل، أو لإرضاء حاجة ملحة؛ فيقدم إليهم من ذلك ما يريدون رفيقا بهم متلطفا لهم. وكانوا يعرفون ذلك له ويحمدونه، ولكنهم لم يكونوا يطيقون جهله، وربما لم يملكوا أنفسهم فضحكوا من هذا الجهل بمحضر منه، وردوا عليه سخفه ردا عنيفا فيه كثير من الازدراء القاسي، ولكنه كان يقبل ذلك راضيا، ويتلقاه باسما، وما أظن أنهم قد عرفوا في وجهه الغضب يوما على كثرة ما كانوا يثقلون عليه بالغض منه والازدراء له. وكان أجمل ما كانوا يتندرون به عليه علمه بالعروض، أو جهله بالعروض فكلاهما سواء. كان يطالع معهم كتابا في النحو، فلا يكاد يعرض لهم شاهد - وما أكثر ما تعرض الشواهد في كتب النحو - حتى يكون أسرعهم إلى رد هذا الشاهد إلى بحر من أبحر العروض، لم يكن يختلف قط وإنما كان «البسيط» دائما، وقد يكون البيت من «الطويل»، وقد يكون من «الوافر»، وقد يكون من أي بحر من أبحر الشعر، ولكنه كان «بسيطا» دائما.
والغريب أنه لم يكن يكتفي بالإسراع إلى إعلان أن هذا البيت من البسيط، وإنما كان يسرع فيأخذ في تقطيع البيت يرده إلى البسيط، مهما يكن وزنه، فيقطع على الجماعة درسهم، ويدفعهم إلى بحر من الضحك لا يكاد يعرف له حد. وقد كثر منه ذلك حتى أغرى به أصحابه وأطمعهم فيه؛ فكانوا كلما عرض لهم بيت من الشعر أظهروا العجز عن رده إلى وزنه حتى ينبئهم صاحبهم بأنه من البسيط، فإذا فعل أظهروا العجز عن تقطيع البيت حتى يأخذ صاحبهم في تقطيعه فيرده إلى البسيط، وهناك يستأنفون الضحك، ويستأنفون الاستهزاء، ويلقاهم هو بهذه الابتسامة الراضية التي لا تعرف الغضب ولا الغيظ.
وقد أقام هذا الشاب على ذلك مع أصدقائه أعواما طوالا لم يغاضبهم ولم يغاضبوه. وكأنه أحس آخر الأمر أنه ليس من تلك الحلبة، وأنه لا يستطيع أن يجري في ذلك الميدان؛ فأخذ يتخلف قليلا قليلا عن الدروس، ويتكلف التعلات والمعاذير، لا يشارك القوم في مطالعتهم، ويكتفي بالمشاركة في الشاي والطعام أحيانا، والزيارات دائما.
وقد تقدمت السن بالصبي في أثناء ذلك، وتقدم به الدرس أيضا، وإذا هذا الشاب يظهر العطف عليه والقدر له، وإذا هو يعرض عليه أن يقرأ معه الكتب، ويعرض عن مشاركة أقرانه وأنداده إلى مشاركة هذا الغلام الناشئ، ويأخذ الغلام في أن يقرأ معه كتبا في الحديث وأخرى في المنطق وأخرى في التوحيد، ولكنه لا يجد عنده غناء. وليس الغلام فارغا للضحك منه والتندر به، وليس هو قادرا على ذلك ولا راغبا فيه، وإذا هو يحتال في التخلص منه والمضي لشأنه.
وإذا هذا الرجل يترك العلم أو يتركه العلم، ولكنه يظل محسوبا على الأزهر طالبا فيه مشاركا لأصحابه في الناحية الاجتماعية من حياتهم، وقد ارتقت حياتهم بعض الشيء؛ رقاها ذكاؤهم وجدهم وتفوقهم ورضا الأستاذ الإمام عنهم وتقريبه إياهم، وإذا هم يتصلون بفلان وفلان من أبناء الأسر الغنية الثرية الذين كانوا يطلبون العلم في الأزهر إذ ذاك، وإذا الزيارات تتصل بينهم وبين هؤلاء الشبان الأغنياء الأثرياء، وصاحبهم معهم يزور ويزار، وترتقي حياته الاجتماعية كما ارتقت حياة أصحابه. ولكن أصحابه لا يحسون هذا الارتقاء ولا يكادون يشعرون به، وهم إذن لا يتحدثون به ولا يتمدحون بزياراتهم لتلك البيوت الممتازة وجلوسهم إلى أصحابها النابهين، وإنما يرون ذلك شيئا طبيعيا مألوفا. فأما صاحبهم فهو الذي يراه المجد كل المجد، ويستمد منه الغبطة كل الغبطة والغرور كل الغرور، ويستغله لبعض منافعه المادية أحيانا، ويتحدث به دائما إلى من أراد أن يسمع له ومن لم يرد.
وتمضي الأيام ويتفرق هؤلاء الطلاب، وقد أخذ كل واحد منهم طريقه في الحياة. ولكن هذا الرجل لا ينساهم ولا يسمح لهم أن ينسوه، قد عجز عن تتبعهم في العلم فليتتبعهم في غيره مما تمتلئ به الحياة؛ يزورهم وإن لم يزوروه، ويلقاهم في زيارتهم عند فلان أو فلان من أصحاب المنزلة والثراء.
وقد خرج الأستاذ الإمام من الأزهر في تلك المحنة السياسية المعروفة، وإذا صاحبنا متصل بالأستاذ وشيعته، متصل بخصوم الأستاذ الإمام وشيعتهم أيضا. وقد أخذ الأزهر يضطرب، ودخلت السياسة في ذلك الاضطراب، واختصمت فيه السلطتان، وإذا صاحبنا يتصل بالمضربين مشاركا لهم في الإضراب، ويتصل بخصوم الإضراب مفشيا لهم أسرار المضربين، ويتكشف الأمر ذات يوم، ويا له من يوم! عن أن صاحبنا قد كان متصلا بالمحافظة، فتقطع الصلة قطعا عنيفا بينه وبين أصدقائه، ويرد عن البيوت التي كان يسعى إليها ويستقبل فيها، ويقبع في غرفته تلك في الربع قد خسر الناس جميعا ولم يخسره أحد. وقد قصرت به همته عن درجة الأزهر فهو ينفق حياته الخاملة وحيدا بائسا محتملا خموله على مضض مكتسبا عيشه في مشقة.
ثم ينبئ المنبئ ذات يوم بأنه قد مات، أمات من علة؟ أمات من حسرة؟ أم مات من الحرمان؟ ولكن أصدقاءه يسمعون النعي فلا يأخذهم وجوم، ولا يمس نفوسهم حزن، وإنما يتلون هذه الآية الكريمة التي نتلوها دائما حين ينعى إلينا الناس:
إنا لله وإنا إليه راجعون .
الفصل التاسع
وكان الربع خاليا أو كالخالي حين أقبل الصبي عليه لأول مرة، لم يكن أهله قد عادوا إليه بعد إجازة الصوم. وقد عرف الصبي بعد ذلك أن طلاب الأزهر كانوا يستحبون الإبطاء في العودة إلى القاهرة بعد هذه الإجازة خاصة، ففي هذا الوقت كانت تبدأ السنة الأزهرية، وكأن الطلاب والعلماء كانوا يجدون شيئا من المشقة والجهد في مفارقة أهلهم وأوطانهم، فكانوا يطيلون إجازتهم يومين أو أياما، وربما أطالوها أسبوعا أو أكثر من أسبوع. ولم يكن عليهم من ذلك بأس؛ فقد كان الأزهر حينئذ في آخر أيامه السعيدة التي لم يكن النظام يحصي فيها على الأساتذة والطلاب أيام العمل وأيام الراحة، والتي لم يكن فيها النظام يأخذ الأساتذة والطلاب بهذه المواظبة القاسية على الدرس في جميع أيامه وفي جميع أوقاته. وإنما كان الأمر هينا سهلا؛ تعين المشيخة آخر الإجازة وأول العمل، والأساتذة أحرار يبدءون متى أرادوا أو متى استطاعوا. والطلاب أحرار يقبلون على الدروس متى أحبوا أو متى أتاحت لهم ظروفهم أن يقبلوا عليها.
كان الأمر هينا سهلا، وكان يعتمد على الرغبة والإرادة أكثر مما يعتمد على الدقة المقررة والنظام المحتوم، وكان أجدر أن يميز أصحاب الجد والعمل من أصحاب الكسل والعبث، وأن يدفع الطلاب إلى العلم حبا فيه وطموحا إليه لا طاعة للأمر ولا إشفاقا من العقاب.
وكان الأساتذة والطلاب يستمتعون بهذه الحرية الحلوة السمحة في قصد واعتدال، فكان الأسبوعان الأولان من أيام الدرس أسبوعي حرية وسعة، كما كانا أسبوعي مودة وتعارف وبر.
يقبل الطلاب من بلادهم على مهل، فإذا أقبلوا تزاوروا وبر بعضهم بعضا، ثم سعوا إلى دروسهم على مهل أيضا. ويقبل الأساتذة من بلادهم في أناة وريث، فإذا أقبلوا هيئوا منازلهم للإقامة الطويلة، ثم سعى بعضهم إلى بعض بالتحية والود، ثم بدءوا دروسهم لا معجلين ولا مرهقين. على أن كثيرا من الأساتذة والطلاب كانوا يؤثرون العلم على أهلهم وأوطانهم، فمنهم من يقيم في القاهرة أثناء الإجازة دارسا في بيته أو في الأزهر نفسه أو في غيره من المساجد. ومنهم من كان يتعجل العودة إلى القاهرة متى سنحت له الفرصة وسمحت له الظروف؛ ليأخذ من الدرس الحر الخاص نصيبا قبل أن يبدأ في الدرس المنظم المشترك.
من أجل هذا كله كان الربع خاليا أو كالخالي حين أقبل عليه الصبي وأخوه، لم يكن يعمره إلا عمي الحاج علي وزميلان من زملاء الشيخ الفتى وهذان الفارسيان. ثم لم يكد الصبي يستقر في الربع يوما ويوما، حتى أخذ أهله يعودون إليه منفردين ومجتمعين مع الصباح ومع المساء، وحتى أخذ الربع يمتلئ بالحركة والنشاط، وترتفع فيه الأصوات من يمين وشمال، ويأخذ شكل المكان المزدحم بأهله أشد الازدحام. وقد كان مزدحما بأهله حقا: فقد كان بعض غرفاته يكتظ بالطلاب على نحو غريب، حتى لقد كان يسكن غرفة من هذه الغرفات عشرون طالبا.
كيف كانوا يجلسون؟ كيف كانوا يدرسون؟ كيف كانوا ينامون؟ هذه أسئلة ألقاها الصبي على نفسه ولكنه لم يجد لها جوابا، وإنما عرف أن أجر الغرفة لم يكن يزيد عن خمسة وعشرين قرشا، وربما نزل إلى العشرين في كل شهر، فكان الطالب يسكن بقرش واحد في الشهر على هذا النحو.
وهذا يصور حال هذه الجماعات الضخمة من أبناء الريف التي كانت تفد على القاهرة لتدرس العلم والدين في الأزهر؛ فتصيب من العلم والدين ما تستطيع، ولكنها تصيب معها ألوانا من علل الأجسام والأخلاق والعقول أيضا. وكانت الغرفة التي تلي غرفة الصبي من جهة اليمين خالية أثناء الأسبوع الأول، لم يسمع الصبي من قبلها صوتا أو حركة. ثم انقضى الأسبوع وأقبل أسبوع آخر، فلم تشغل الغرفة ولم تأت من قبلها حركة أو صوت، حتى أخذ الطلاب يتساءلون عن الشيخ الذي كان يسكنها قبل الصوم: ما خطبه؟ ويقول بعضهم لبعض: لعله تحول عن هذا الربع إلى مكان آخر. ولكن الصبي استيقظ في ليلة من ليالي الجمعة على صوت عمي الحاج علي يشق الليل وعلى صوت عصاه تضرب الأرض، ففكر كما كان يفكر، وانتظر صوت المؤذن كما كان ينتظره، وأذن مع المؤذن في نفسه كما كان يفعل. وانقطع الصوت، وجعلت نفس الصبي تتبع المصلين في المسجد وهم يقبلون على صلاتهم، منهم المتعجل النشيط ومنهم المتثاقل المتبلد، وإذا صوت غريب مرتفع يشق الحائط من وراء الصبي ويبلغ أذنه، فيبعث في جسمه رعدة تجري فيه من رأسه إلى قدميه. ولم ينس الصبي قط هذا الصوت، ولم يذكره قط إلا ضحكت له نفسه وإن شغل الجد شفتيه عن الابتسام. كان صوتا غريبا، ملأ الصبي رعبا أول الأمر، ثم دفعه إلى ضحك مرتفع لم يستطع أن يملكه على ما كان يخاف من إيقاظ أخيه: أل... أل... أل... الله الله الله أك ... أل... أل... الله أك... الله أك... الله أكبر ...
كذلك وصل الصوت إلى الصبي، فأنكر أوله وأنكر تردده، وعرف آخره. ولكن الصوت لم ينقطع عند انتهاء التكبيرة، وإنما استؤنف بعد ذلك مرة ومرة، حتى استقر آخر الأمر وقد أخذت حروف التكبير مواضعها من فم المصوت بها ومن الهواء ومن أذن الصبي ونفسه أيضا، ومضى الصوت من وراء الحائط بعد ذلك يقرأ الفاتحة، فعرف الصبي أنه صوت رجل يصلي، ومضى الصوت يقرأ الفاتحة حتى بلغ قول الله تعالى:
إياك نعبد وإياك نستعين ، فوقف عند السين ولم يستطع أن يتقدم، وإذا هو يستأنف التكبير على نحو ما بدأه: «أل... أل... أل... الله أك... أل... أل...» هنالك لم يملك الصبي نفسه فاندفع في ضحك مرتفع متصل استيقظ له أخوه فزعا، وسأل الصبي ما به؟ فلم يستطع الصبي جوابا، ولكن أخاه لم يحتج إلى هذا الجواب فقد سمعه من وراء الحائط، فاندفع هو أيضا في ضحك مكظوم، ثم قال للصبي في صوت خافت: مهلا؛ فهذا جارنا الشيخ فلان قد عاد وهو يصلي الصبح وهو شافعي.
واستأنف الشيخ الفتى صمته وهدوءه يدعو إليه النوم. وضبط الصبي نفسه وتتبع صوت الشيخ من وراء الحائط حتى أتم صلاته بعد جهد ثقيل. ولكن سؤالا قد استقر في نفس الصبي: ما بال هذا الشيخ الشافعي يكلف نفسه هذا الجهد وهذا العناء ولا يتم صلاته إلا بعد هذه المشقة التي لا تطاق؟ فلما أصبح سأل أخاه متشجعا، فعرف منه أن الشيخ موسوس بعض الشيء، وأنه يريد أن يحقق نية الصلاة، وأن يخلص قلبه ونفسه وضميره لله إذا أقبل على صلاته وفي أثناء مضيه فيها. فإذا رأيته يتردد ويعود من حيث بدأ ويقطع الصلاة ليبتدئها، فاعلم أنه قد أحس عارضا من أمور الدنيا عرض لنفسه فصرفها عما ينبغي أن تخلص له من ذكر الله.
وكان هذا الشيخ هادئا أشد الهدوء، لا يكاد يسمع له صوت ولا تكاد تسمع له حركة إلا إذا صلى الفجر، وقد احتاج الصبي إلى أيام وأيام ليعود نفسه هذا الصوت، وليسمعه دون أن يضحك منه أو يرثى لصاحبه من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس.
ولم يبق في نفس الصبي من هذا الشيخ بعد أن مضت الأعوام إلا ذكرى هذا الصوت، وذكرى قصتين شهد إحداهما بنفسه وتحدث إليه بالأخرى الرواة، فأما الأولى: فقد كانت للصبي مع الشيخ حين تقدمت به السن وحين تقدم به الدرس وحين بدأ يسمع دروس البلاغة، فقد ذهب يحضر درس الشيخ وسمعه يفسر الجملة المشهورة في «التلخيص»: «ولكل كلمة مع صاحبتها مقام.» وما أكثر ما يقال حول هذه الجملة من كلام في «المختصر» و«المطول» و«الأطول» وفي الشروح والحواشي والتقارير، وهي على ذلك واضحة جلية لا تعمية فيها ولا غموض. وكان الشيخ كغيره من شيوخ الأزهر يقبل على تفسير هذه الجملة وتقرير ما يقال حولها من كلام كثير، مجهودا مكدودا قد بح صوته وخارت قواه وتصبب جبينه عرقا، وأمانة العلم كما تعرف ثقيلة جدا لا ينهض بها إلا الأقوياء، وقليل ما هم.
فأخذ الغلام يناقش الأستاذ في بعض ما كان يقول كدأبه مع أساتذته جميعا، ولكن الشيخ رد عليه فأفحمه وألجمه وملأ قلبه في وقت واحد غيظا وازدراء وخجلا. قال الشيخ للغلام: دع عنك هذا يا بني؛ فإنك لا تحسنه وإنما تحسن هذه القشور التي تقبل عليها في الضحى، فأما اللباب فلم تخلق له ولم يخلق لك. وضحك الشيخ وتضاحك الطلاب، واستحيا الغلام أن يقوم عن الدرس قبل تمامه، فأقام على مضض حتى انصرف مع غيره من الطلاب. وكانت القشور التي عرض بها الشيخ والتي كان الغلام يقبل عليها في الضحى دروس الأدب وكتاب «الكامل» للمبرد خاصة. ومنذ ذلك الوقت سقط الشيخ في نفس الغلام وبغض إليها، وقد كان الغلام يحبه ويكبره. وأصبح الشيخ موضوعا من موضوعات الفكاهة التي كان الغلام يلهو بها مع أترابه في الضحى قبل درس القشور، وعند الظهر بعد درس القشور. وجاءت القصة الأخرى من قصتي الشيخ، فلم تزد الغلام إلا عبثا به وتندرا عليه وتفكها مع أترابه بقول الشعر فيه. ومع ذلك فقد كانت قصة يسيرة لا غرابة فيها، ولكن أي شيء أيسر من ضحك الشباب!
كان للشيخ ابن لا يظهر عليه الذكاء ولا يدل شيء من أمره على أنه قد خلق لطلب العلم. ولكنه مع ذلك كان يطلب العلم، وكان يعيش مع أبيه في غرفته هادئا كأبيه، صامتا كأبيه، حسن الجوار كأبيه. وأقبل ذات يوم أو ذات ليلة على أبيه نفر من أصدقائه يزورونه، فطلب القهوة إلى ابنه وقدمت القهوة بعد لحظات، وأقبل الشيوخ على فناجينهم في شره إليها كعادتهم، فعبوا فيها، أو قل: مصوها مصا طويلا له صوت طويل، ولكنهم لم يكادوا يبلغون حلوقهم بما مصوا حتى ردته حلوقهم ردا عنيفا، وإذا هم جميعا يسعلون وينحنحون متحرفين لذلك يريدون أن يبرئوا حلوقهم مما أصابها، وقد جرت القهوة واللعاب على لحاهم وصدورهم وهم يسعلون ويضطربون اضطرابا شديدا؛ ذلك لأنهم لم يشربوا قهوة البن، وإنما شربوا قهوة النشوق، أخطأ الفتى علبة البن، وأخذ مكانها علبة النشوق.
وكانت لقصة الغلام مع الشيخ في درس البلاغة عواقبها؛ فقد انصرف عن الشيخ إلى شيخ آخر كان مجاورا له في الربع، وكانت غرفته تلي غرفة الشيخ الموسوس، وكان شافعيا مثله ولكنه لم يكن موسوسا. وكان أهدأ الناس وأرزن الناس وأطيبهم قلبا وأقلهم كلاما، لم يسمع الصبي صوته إلا حين كان يلقي السلام عليه أو على من يمر به من أصحابه. فلما انصرف الغلام عن درس الشيخ الأول ذهب من غده إلى درس الشيخ الثاني، وكان يلقي درسه في تلك القبة من جامع محمد بك أبي الذهب، وكان الغلام يعرف هذا الجامع حق المعرفة، سمع دروس النحو والمنطق في جميع أماكنه وزواياه، وكانت له قصص قد نلم بها في هذا الحديث.
فأقبل الغلام إذن مع الظهر منصرفه من درس القشور، فصعد هذه الدرجات التي كان يألفها، ثم خلع حذاءه ومشى في هذا الممر بين حلقتين من حلقات الدرس طالما عرفهما. وتخطى عتبة القبة وجلس في حلقة الشيخ. فلم ينتظر إلا قليلا، حتى أقبل الشيخ هادئا كعادته، فحمد الله وصلى على نبيه وأخذ يقرأ قول المؤلف في تنكير المبتدأ وفي نكته ومزاياه، ثم مضى حتى وصل إلى استشهاد المؤلف بالآية الكريمة
ورضوان من الله أكبر ، فجعل يعلل مع المؤلف والشارح والمحشي والمقرر تنكير الرضوان بكلام لم يعجب الغلام ولم يقع من نفسه، ولم يستطع الغلام أن يصبر على ما كان يسمع، فأخذ يجادل الشيخ، ولكنه لم يكد يفعل حتى قطع الشيخ عليه كلامه وقال في صوته الهادئ المطمئن: «اسكت يا بني، فتح الله عليك وغفر لك ووقانا شرك وشر أمثالك، اتق الله فينا ولا تشاركنا في هذا الدرس فتفسد علينا أمرنا، وانصرف إلى ما أنت فيه من هذه القشور الضالة المضلة التي تقبل عليها في الضحى!»
وتضاحك الطلاب، ووجم الغلام، واستأنف الشيخ قراءته وتفسيره في صوته الهادئ المطمئن الرزين. وأقام الغلام على مضض حتى انصرف الطلاب، فانصرف معهم ثائرا محزونا وقد أعرض عن دروس البلاغة وأنفق بقية عامه يخرج من درس القشور إذا كان الظهر، فيمضي إلى دار الكتب في باب الخلق فيمكث فيها إلى أن يحين إغلاقها قبيل الغروب.
أكان اتفاق الشيخين على رد الغلام عن علمهما مصادفة أم كان أمرا مدبرا؟ لم يعرف الغلام ذلك، ولكن ذكرى هاتين القصتين الآن تعجل للحوادث دعا إليه الاستطراد، فالخير أن نعود إلى الربع ومن كان فيه، وما كان فيه، حين أقبل عليه الصبي لأول عهده بطلب العلم.
الفصل العاشر
وفي زاوية الربع من يمين كانت تقوم غرفة سكنتها أسرة لم يعرف الصبي قط كيف صعدت إلى هذا الربع، ولا كيف استقرت فيه، يأخذها العلم وطلابه من جانبيها، وكان حقها أن تستقر في الطبقة السفلى بين سكان هذه الطبقة من الباعة والعمال. ولكنها صعدت إلى حيث العلم وطلابه وأساتذته، فأقامت بين هذا كله لم تؤذ أحدا ولم يؤذها أحد، ولم يتصل الود أو لم تتصل المعرفة بينها وبين أحد.
كانت غريبة في هذا الربع، كما كانت غريبة في القاهرة؛ فقد كانت لهجتها إذا تحدثت تدل على أنها قد هبطت من الصعيد، بل من أقصى الصعيد. ولعل غربتها هي التي صعدت بها إلى هذه الطبقة الثانية من الربع، ولم تقف بها عند الطبقة الأولى، فقد كان سكان الطبقة الثانية كلهم غرباء، شيخ من الإسكندرية وفارسيان وطلاب وأساتذة قد أقبلوا من أقطار مصر على اختلافها. فلا بأس على هذه الأسرة الغريبة أن تقيم بين هؤلاء الغرباء. فأما الطبقة الأولى من الربع فقد كان العمال والباعة الذين يسكنونها جميعا من أهل القاهرة، أو من الذين بعد عهدهم بها حتى أصبحوا من أهلها وورثوا لغتها وعاداتها.
كانت هذه الأسرة تتألف من عضوين اثنين: امرأة قد تقدمت بها السن حتى جاوزت الستين، وأصبح من العسير بل من المستحيل أن تتخذ لغة القاهرة وتصطنع عاداتها، وابن لها شاب قد نيف على العشرين ولم يبلغ الثلاثين بعد، فهو حرى إذا مضى عليه الزمن أن يلوي لسانه بلغة القاهرة، وأن يأخذ نفسه بعادات أهلها، وكانت الأم لا تصنع شيئا كما ينبغي لأمثالها حين يتركن الصعيد، ويقرن في غرفة من غرفات هذا الربع في مدينة القاهرة.
لم تكن تصنع شيئا لتكسب حياتها، إنما قسم الأمر بينها وبين ابنها قسمة عدلا، فعلى الفتى أن يجد في الشارع طول النهار ويعود بالقوت مع الليل، وعلى أمه أن تعنى بالغرفة وتهيئ الطعام لابنها ولنفسها.
وكان الفتى بائعا متجولا، يصنع ما يبيعه في غرفته، يبدأ في صنعه مع الصبح، فإذا ارتفع الضحى وكاد النهار ينتصف خرج إلى الشارع بما أعد، فجعل يتغنى به متنقلا متجولا في حيث تدفعه قدماه إليه من الشوارع والحارات، يبعد حينا ويقرب حينا، ولكنه لا يعود حتى يبيع ما يحمل، وكان يحمل في الشتاء هذا اللون من ألوان الحلوى الذي يسمى «غزل البنات»، وكان يحمل في الصيف هذا اللون الآخر من ألوان الحلوى الذي كان يسمى مرة «جيلاتي» ومرة «دندرمة».
وكان الفتى يصنع هذا اللون أو ذاك فرحا مرحا متغنيا أو متكلفا للفرح والمرح والغناء، فإذا أتم صناعته حملها ومر أمام غرفاتنا هادئا صامتا مستأنيا، حتى إذا انحرف إلى السلم وهبط منه إلى الحارة ارتفع صوته فجأة بغناء حلو رقيق، يمدح فيه ما كان يحمل من طعام، ويدعو إليه طلابه من الصبية والنساء. وكأن الفتى كان يستبيح لنفسه الغناء ما أقام في غرفته، ويحظر على نفسه الغناء إذا مر بغرفات أهل الوقار والجد من العلماء والطلاب، فإذا هبط إلى الطريق العام استباح لنفسه ما يستبيح لها الباعة جميعا، فغنى طعامه ودعا الناس إليه. وكأن الفتى كان يشعر في نفسه بأن ليس هناك خير في أن يتغنى ما كان يحمل من حلوى أو يدعو إليه أمام هذه الغرفات؛ فأهلها أصحاب جد لا يحفلون بالحلوى ولا ينشطون لها، وإنما يحفلون بالعلم وينشطون للعلم. وأكبر الظن أن الفتى كان مخطئا في هذا التقدير، فقد كان بين أهل الربع من غير شك من كانوا يحبون غناءه ويتشوقون إلى غزل البنات أو إلى الدندرمة، ويودون أن يقف وأن يكونوا أول من يفتح عليه، ولكنهم لم يكونوا يفعلون، يمنعهم من ذلك الحياء حينا وضيق ذات اليد أحيانا.
وفي ذات يوم انقطع غناء الفتى وانقطع صوت أدواته التي كان يحرك بها ألوان الحلوى، وقام مقام هذا الغناء وهذه الأصوات غناء آخر وأصوات آخرى؛ فقد جعل نسوة يختلفن إلى هذه الغرفة متصايحات متضاحكات أول الأمر، ثم مزغردات متغنيات ناقرات على الطبول، حتى أصبحت حياة الطلاب والعلماء عناء ثقيلا. ولكن حياة الصبي رقت لذلك وراقت وامتلأت لذة وحبورا؛ ذكر ريفه بهذه الطبول وهذه الزغاريد وهذا الغناء، وقد كان يحب هذا كله أشد الحب ويجد فيه لذة ومتاعا لا يقلان عما كان يجد من اللذة والمتاع حين كان يستمع لشيوخه وهم يتغنون بما كانوا يلقون في دروسهم من علم، وإن اختلف نوع اللذة والمتاع اختلافا شديدا.
ثم أضيفت إلى أصوات النساء هذه أصوات أخرى ساعة من نهار؛ أصوات الحمالين الذين أخذوا يصعدون سلم الربع ويزحمون طرقه بما كانوا يحملون إلى هذه الغرفة من متاع، وهم يتصايحون ويتشاتمون جادين مرة ومازحين مرة أخرى، والنساء يلقينهم ويتلقين أمتعتهم بنقر الطبول ورفع الزغاريد وإرسال الغناء. وربما ابتهجت امرأة من أهل الطبقة السفلى لبعض ما كانت تسمع وترى، فذكرت يوم زفافها أو استحضرت يوم زفاف ابنها أو بنتها الذي لم يأت بعد، وإذا هي تزغرد مع المزغردات وقد تغني مع المغنيات على غير معرفة بأصحاب العرس وعلى غير مودة بينها وبينهم، ولكن الفرح كثير الشيوع كما أن الحزن كثير الشيوع، ما أسرع ما تنتقل به العدوى بين المصريين!
وقد جاء اليوم الأكبر يوم الخميس بعد أن لقي العلماء وطلاب العلم من هذا الاضطراب شرا عظيما، أزعج أصحاب الجد منهم عن غرفاتهم وعن الربع كله، فذهبوا يلتمسون الهدوء الذي يحتاج إليه الدرس عند أصحابهم أو في المساجد. أقبل يوم الخميس فاشتد الاضطراب حتى تعدى حده المألوف وتجاوز الربع إلى الحارة، فضرب السرادق، وجعلت الموسيقى تعزف من العصر، وأقبل ناس من غير أهل الحي فابتهجوا وطعموا وحيا بعضهم بعضا واستمعوا للغناء. والصبي رابض عند نافذته لا يفوته من هذا كله شيء، قد نسي العلم والعلماء والأزهر وأهل الأزهر، ونسي طعامه وشايه وفني في هذه الموسيقى التي كان يسمعها في القاهرة لأول مرة، كما فني في هذه الألوان المختلفة من الأغاني؛ أغاني الشعب في أول الليل، وأغاني الشيخ المحترف حين تقدم الليل.
فأما أخوه وأصحابه فقد هجروا الربع في هذا اليوم هجرا غير جميل، وأما هو فلم يتحول عن مكانه حتى تقدم الليل. وكاد عمي الحاج علي يخرج من غرفته فيشق الليل بصوته ويضرب الأرض بعصاه، ولكنه لم يفعل، ولو قد فعل لما سمع صوته أحد ولا أحس عصاه أحد، وأين كان يقع صوته وعصاه من هذه الضوضاء المنعقدة التي طردت النوم عن الحي كله، وهذا صياح فظيع ينبعث طويلا ممتدا، وهذه الزغاريد تحيط به وترقص حوله إن صح أن ترقص الزغاريد، وهذا الفرح والابتهاج يرقصان من حول الألم والعذاب؛ فقد أدخل الفتى على أهله. ثم يسعى الليل هادئا بطيئا رزينا، فيمس بيده المظلمة العريضة هذه الأشياء وهؤلاء الأحياء، وإذا المصابيح قد أطفئت، وإذا الأصوات قد سكتت، وإذا النوم قد أقبل رفيقا كأنه اللص فضم بين ذراعيه أهل الحي جميعا، إلا هذا الصبي الذي لم يتحول عن نافذته ولم ينقطع تفكيره في هذا الألم الطويل الممتد، يرقص من حوله فرح عريض مضطرب، ولكن الصبي يعود إلى نفسه؛ لأن صوتا يأتيه من قريب ينبئه بأن الليل قد انقضى وبأن الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، ولكن الصبي لم ينم من ليلته، وهو على ذلك ينهض ويتوضأ، حتى إذا فرغ المؤذن من أذانه أدى الصبي صلاة الصبح، ثم التف في لحافه وامتد على بساطه القديم، وذهل عن نفسه أو ذهلت نفسه عنه، فلم تعرفه ولم يعرفها إلا حين أقبل عمي الحاج علي حين ارتفع الضحى يطرق الباب طرقا عنيفا، ويصيح صيحته المعروفة: «يا هؤلاء! يا هؤلاء!»
الفصل الحادي عشر
ولن يتم وصف الربع وتصوير البيئة التي عاش فيها الصبي لأول عهده بالقاهرة، إذا لم يذكر أشخاص كانوا يقيمون في الربع وكأنهم ليسوا من أهله، وأشخاص آخرون كانوا يلمون بالربع بين حين وحين وكأنهم من أهله المقيمين فيه. فمن المقيمين النازحين ذلك الشيخ الذي تقدمت به السن حتى جاوز الخمسين، والذي طلب العلم جادا في طلبه ما استطاع، والتمس الدرجة محتملا في ذاتها ما أطاق، فلم يحصل من العلم إلا قليلا، ولم يتقدم إلى الدرجة إلا رد عنها فيئس ولم ييأس، وأقام جسمه في الربع ونزحت نفسه عنه؛ استحيا أن يعود إلى بلده مخفقا فأقام في القاهرة، وفي حيث كان يقيم أيام كان يطلب العلم جادا مجتهدا. ودبر أمر أسرته في الريف من بعيد يخطف نفسه إليها يوم الخميس إذا أمسى ليعود إلى الربع يوم السبت إذا أصبح. وله حظ من ثراء وفضل من نعمة؛ فهو يعيش بين هؤلاء الطلاب عيشة الأغنياء من أهل الريف. قد أثث غرفته بمتاع ممتاز، وأقام فيها مصبحا وممسيا لا يفارقها إلا قليلا، يخيل إلى الناس أنه يقرأ ويدرس، وأنه قد حفظ العلم ووعى أسفاره فليس هو في حاجة إلى أن يختلف إلى الدروس ويسمع للشيوخ، ولو قد أسعده الحظ وواتته الأقدار لكان شيخا مثلهم يلقي الدروس ويختلف إليه التلاميذ؛ فقد صحب أكثرهم حين كانوا طلابا، واستمع معهم للشيخ الإمبابي وزار معهم الشيخ الأشموني، ولكن الحظ وفى لهم وأخلفه، فأصبحوا أساتذة وظل هو في هذه المنزلة بين المنزلتين، منزلة الطالب ومنزلة الأستاذ.
ولكنه على كل حال قد اتخذ أكثر خصال الأساتذة؛ فهو لا يشارك أصدقاءه الشباب في درس ولا يقرأ معهم كتابا، وإنما يلقاهم بين حين وحين مترفعا عليهم شيئا، مترفقا بهم قليلا، يشهد طعامهم وشايهم ويدعوهم إلى طعامه وشايه. ويتحدث إليهم في صوت هادئ ممتلئ وبحروف مضخمة مفخمة، ولكنه لا يتحدث إليهم في العلم وإنما يتحدث إليهم عن العلماء يعيب أكثرهم ويمدح أقلهم، يغلو في العيب ويقتصد في الثناء. ويتحدث إليهم عن المال وعن تدبيره، وعن مكانته بين أهل القرية وصيته بين أهل المركز وارتفاع شأنه بين أهل الأقاليم. وعن إخوته الذين يشرفون على الحرث والزرع، وأخيه النابه النجيب الذي عظم نصيبه من الذكاء وقل نصيبه من مواتاة الحظ، فلم يفتح الله عليه بنيل الشهادة الابتدائية على تقدم سنه حتى كاد يبلغ العشرين؛ لا لأنه كان مقصرا أو غبيا، بل لأن الحظ كان يمانعه ويعاكسه، وقد قررت الأسرة أن تغالب الحظ، وصمم الشيخ على أن يغلب الحظ على أخيه، ويثب بهذا الفتى من الخمول إلى نباهة الذكر وارتفاع الشأن، فأزمع أن يدخله المدرسة الحربية ويجعل منه ضابطا باسلا تزدان كتفه لا بالنجمة بل بالنجمتين، بل بالنجوم.
ولكن الحظ كان أقوى من الشيخ ومن أسرته، فرد الفتى عن المدرسة؛ لأن هيأته لم تعجب الممتحنين، والشيخ ساخط على الحظ مصمم على مغالبته، يتحدث بهذا كله حديثا متقطعا متصلا، تقطعه قرقرة الشيشة التي كان صاحب القهوة يحملها إليه وجه النهار وآخره وحين يتقدم الليل، والتي كان ربما أعدها لنفسه أو أعدها له خادمه الصغير، والتي كانت تبهر هؤلاء الطلاب وتثير في نفوسهم شيئا من الإعجاب بثرائه يمازج ازدراءهم لجهله وتندرهم بغبائه.
وما ينسى الصبي أن هذا الشيخ الغني أراد ذات يوم أن يتخفف من بعض أثاثه ويشتري خيرا منه وأرقى، فعرض قديمه على هؤلاء الطلاب، فكلهم نكل عن الشراء إلا أخا الصبي، فإنه اشترى منه دولابا يأتلف من قطعتين تقوم إحداهما على الأخرى، فأما القطعة السفلى: فقد كان لها بابان مصمتان، وقد خصص أعلاها لثياب الشيخ الفتى وخصص أسفلها لكتبه التي لم تجلد، والتي لا يحسن أن ترى، وخصص جزء منه لما كان الشيخ يحرص على ادخاره لنفسه من طيب الطعام. وكان في أعلى هذه القطعة السفلى درجان خصصهما الشيخ الفتى لأوراقه المنتثرة ولنقوده حين كانت تصل إليه أول الشهر؛ فكان يضعها في أحد هذين الدرجين ويأخذ منها بمقدار بين يوم ويوم، وقد حفظ مفتاحيهما في جيبه. وأما القطعة العليا: فكان لها بابان زجاجيان وقد خصصت للكتب المجلدة التي يبعث منظرها في النفوس بهجة ورضا.
وقد غالى الشيخ بدولابه هذا وساوم في ثمنه حتى تجاوز به الجنيه؛ لأنه كان من خشب البندق، واشتراه الشيخ الفتى على ذلك، ومن المحقق أن شراءه قد جر على الشيخ الفتى وعلى أخيه أعباء ثقالا، فلم يكن بد من دفع هذا الثمن أقساطا، ومن أن تقتطع هذه الأقساط من وظيفة الشهر الضئيلة التي كانت تأتي من القرية، ثم لم يكن بد من أن تشترى الكتب ومن أن تجلد وترص لتبدو أعقابها مزدانة باسم الشيخ الفتى من وراء الزجاج. وكان هذا كله يقتطع من وظيفة الشهر ويضطر الطالبين إلى أن يقترا على أنفسهما في الرزق. ثم عجزت وظيفة الشهر عن أن تنهض بهذه الأعباء، فبدأت الاستدانة، وقل ما كان يودع في الدرج من نقود، وكثر الإلحاح على الشيخ الوالد في أن يزيد الوظيفة أو يضيف إليها شيئا بين حين وحين.
ولكن شراء هذا الدولاب قد رفه على الصبي وأثار في نفسه كثيرا من الفرح والبهجة؛ فقد كان للشيخ الفتى صندوق طويل عميق عرفه الصبي في أثناء طفولته حين كانت أمه تحفظ فيه ثيابها ونفائس هذه الثياب خاصة، وكان لهذا الصندوق غطاء مجوف قليلا يرفع فيتكشف عن عمق، كان الصبي يراه عظيما، ويتكشف عن درجين خفيين كانت أمه تحفظ فيهما حليها حين كان لها حلي، ثم افتقد الصبي هذا الصندوق في مكانه من الدار ذات يوم فلم يجده، وكان كثيرا ما يلعب عنده مع أخواته، وكان كثيرا ما يجلس عليه متربعا وتجلس أخواته بين يديه على الأرض متربعات وهو يقص عليهن أحاديثه ويسمع منهن أحاديثهن.
افتقد الصبي هذا الصندوق ذات يوم فلم يجده؛ لأنه حمل إلى النيل حيث أودع سفينة ذاهبة إلى القاهرة، وهناك تلقاه الفتى الشيخ فحفظ فيه ثيابه وكتبه التي لم يكن يجد لها مستودعا. وقد حزن الصبي على هذا الصندوق حزنا شديدا، واضطر إلى أن يجلس مكانه متربعا على الأرض ليتحدث إلى أخواته ويسمع منهن.
فلما انتقل الصبي إلى القاهرة كان شديد الشوق إلى أن يمس الصندوق ويجلس عليه ويمسح بيده الصغيرة خشبه الأملس، ولكن الصندوق كان بعيدا من مجلسه، قد وضع في زاوية من زوايا الغرفة، فلم يكن ذهاب الصبي إليه سهلا ولا ميسورا. فلما اشترى الدولاب وانتقلت إليه ثياب الشيخ الفتى وكتبه، سقط أمر الصندوق، فانتقل من مكانه في الغرفة إلى مكان مهمل في الدهليز يكون عن شمال الصبي إذا دخل، وقيل للصبي: ضع في هذا الصندوق ثيابك وما قد يكون لك من كتب إن اشتريت كتبا.
ومنذ ذلك الوقت هجر الصبي مجلسه ذاك من الغرفة أثناء النهار واستحيا أن يجلس على الصندوق فيضحك منه من يراه، ولكنه جلس إلى جانبه مما يلي عتبة الغرفة مسندا ظهره إلى الحائط معتمدا بيده على الصندوق، متحينا فرصة إن أتيحت له لينهض فيجلس على الصندوق ويداعبه، وقد يرفع غطاءه ويضع يده في هذا الدرج ثم في ذاك، ولكنه لم يكن يجد فيهما شيئا. وربما انحنى على ثيابه القليلة التي كانت ملقاة في أعماق هذا الصندوق يقلبها مستمتعا بذلك، كأنه يملك شيئا ويتخذ له حرزا لا يشاركه فيه غيره، ولكن الأيام قد مضت وتبعتها الأيام وامتلأ هذا الصندوق كتبا.
وشخص آخر كان يقيم في الربع نازحا عنه غريبا بين أهله وإن وصلت القرابة بينه وبين بعض هؤلاء الطلاب، ووصل الود الخالص بينه وبينهم جميعا. كان قصير النظر، لا يكاد يبصر إلا عن قرب شديد، وكان طويل الجسم، طويل الإقامة على طلب العلم في الأزهر، طويل السكنى في هذا الربع، قد جد في طلب العلم ما استطاع، وجد العلم في الهرب منه ما استطاع، فلم يكن غريبا بين الطلاب وحدهم وإنما كان غريبا بين الكتب التي كانت تملأ غرفته أيضا، شهد الدروس وسمع من الشيوخ، فلما استيأس من هذا كله قبع في غرفته لا يكاد يتنقل منها إلا إلى هذه الغرفة أو تلك من غرفات الربع ليتحدث إلى هذا الصديق أو ذاك. وقد كان أصدقاؤه منصرفين إلى علمهم ودرسهم فانقطع حتى عن زيارتهم، ولكنه كان طيب القلب، سمح النفس، عذب الحديث، شديد الوفاء، سريعا إلى معونة أصدقائه، منتظرا بهم إن تعسر الأداء.
فكانوا هم يذكرونه لأنهم كانوا يحبونه، وكانوا هم يزورونه لأنهم كانوا يستمتعون بحديثه ويجدون اللذة في محضره. ولم تطاوعه نفسه على فراق القاهرة ولا على ترك الربع، على أنه كان مستيئسا من العلم والدرجة، فأقام حيث كان يدبر أمره أو يدبر له أمره وهو مقيم في القاهرة، لا هو بالطالب ولا هو بالفلاح ولكنه شيء بين ذلك. وما أكثر ما كان يزوره أقاربه وأهل قريته فيحملون إليه من طيبات الريف ما يسرع فيدعو أصدقاءه إلى المشاركة فيه، أو يسرع فيحمله إليهم في غرفاتهم. وقد أقام هؤلاء الطلاب ما أقاموا في الربع لا يذكرون هذا الصديق إلا محبين له مثنين عليه، ثم تفرقوا وأخذ كل منهم طريقه، وانقطعت عنهم أخباره، ولكنهم ظلوا لا يذكرونه إلا أثنوا عليه.
وشخص آخر كان يقيم في الربع، ولكنه لم يكن يسكن فيه غرفة بعينها ولا يستقر منه في مكان بعينه، ولم يكن لقاؤه سهلا ولا التحدث إليه ميسورا، وإنما كان هؤلاء الشباب يتحدثون عنه بين حين وحين حديثا مخطوفا سريعا مهموسا، يتبعه شيء من الضحك السريع الخفيف الذي كان يقطعه التحفظ والحياء.
وكان هذا الشخص يزور ولا يزار، وكان لا يزور وحده إنما يزور ومعه شخص آخر، وكان لا يزور في النهار ولا في أول الليل، ولا يزور في اليقظة وإنما يزور في أوساط الليل وفي أثناء النوم العميق.
وكانت زيارته حلوة البدء مرة العاقبة، وكانت زيارته تكلف الذين يلم بهم عناء ثقيلا، ربما آذاهم في أنفسهم، ولكنه كان يؤذيهم في علمهم وفي أجسامهم دائما، وكان يعرضهم للعلة أحيانا وللزكام في كثير من الوقت ولا سيما في الشتاء.
وكان هذا الشخص يسمى بين هؤلاء الشباب أبا طرطور، ولم يكن هذا الشخص غير الشيطان الذي كان يلم بأحدهم إذا جنه الليل وشمله النوم، فإذا انصرف عنه أفاق الفتى مذعورا ضيق النفس متأثما متحرجا، وانتظر حتى يدنو الفجر، فهب من فراشه عجلا وجلا حريصا على أن يطهر ليدرك درس الفجر. فأما في الصيف فقد كان الأمر يسيرا محتملا، وأي شيء أيسر وأحب من أن يغمس الفتى نفسه في الماء البارد في هذا المغطس أو ذاك من هذا المسجد أو ذاك، أو أن يصب الفتى على جسمه مقدارا من الماء البارد يعم جسمه ويحقق شرائط الغسل كما فرضتها كتب الفقه! ولكن الجهد كل الجهد والعذاب كل العذاب حين يلم أبو طرطور بالفتى في ليلة من ليالي الشتاء، هنالك لا يجد الفتى الوقت لإسخان الماء، ولا يجد الوقت - وقد لا يجد النقد - للذهاب إلى حمام من هذه الحمامات العامة، وحسب أبي طرطور أن يضيع على الفتى وقته فأما أن يضيع عليه نقده فلا.
ولا بد من الذهاب إلى الأزهر ولا بد من الاستماع إلى الدرس، ولا بد من أن يكون الفتى طاهر النفس والجسم معا، وإذن فهو الماء البارد يصب على الجسم في البيت صبا سريعا ثم الخروج إلى الأزهر. والخير أن يغمس الفتى نفسه في مغطس من مغاطس المساجد؛ ذلك لا يكلفه شيئا إلا البرد والرعشة، فالماء في البيت يشترى، وما ينبغي أن يستنفد في غير الشرب إلا أن تقضي بذلك الضرورة، ولا بد من أن تحمل الضرورة نفسها على الاقتصاد.
وكان أبو طرطور ملحا في زياراته على هؤلاء الشباب، كأنما أقام في أعلى سلم الربع مختفيا في تلك الزاوية حيث لا يسمع ما كان الطلاب يدرسونه من العلم ويقرءونه من الكتب. فإذا انصرف الطلاب عن علمهم أو كتبهم وخلوا إلى ذلك الشيخ الذي كان يسكن أقصى الربع من شمال، أو ذلك الكهل الذي كان يسكن أقصى الربع من يمين، وثب أبو طرطور فدخل عليهم غرفتهم من حيث لا يرونه ولا يسمعونه ولا يحسونه، ثم انسل فمضى حتى ركب كتفي الشيخ أو كتفي الكهل أو تقمصه وتحدث بصوته ولسانه إلى هؤلاء الشبان، فأثار في نفوسهم ورءوسهم هذه الخواطر المنكرة التي كانت تصرفهم عنها الكتب. فإذا تفرقوا عن شيخهم أو كهلهم، وأووا إلى مضاجعهم وأغرقوا في نومهم، كان أبو طرطور قد اختار منهم فريسته فزاره زيارته المنكرة الآثمة.
وربما استخفى أبو طرطور في زاويته تلك من أعلى السلم، حتى إذا صعدت تلك الفتاة من الطبقة السفلى إلى الطبقة العليا تحمل إلى أحد هؤلاء الطلاب ثيابه غسيلة نظيفة، أو تأخذ من أحد هؤلاء الطلاب ثيابه لتغسلها وتنظفها، اعترضها أبو طرطور فسايرها لا يرى ولا يسمع ولا يحس، فلا تكاد تدخل على أحد هؤلاء الطلاب، حتى يستحيل أبو طرطور نظرة تلقى من طرف هذه الفتاة، أو كلمة تجرى على لسانها، أو ابتسامة ترتسم على شفتيها أو حركة تنبعث من أحد أعضائها.
ثم تنصرف الفتاة وينصرف معها أبو طرطور لم ير ولم يسمع ولم يحس، ولكنه مع ذلك قد ضرب للفتى موعدا حين يجنه الليل ويشمله النوم. وربما أمعن أبو طرطور في البراعة وغلا في المكر والكيد، فلم يكلف نفسه الصعود إلى أعلى السلم، وإنما اندس في الطبقة السفلى، واختلط بأولئك النساء اللاتي كن يختصمن أحيانا ويتضاحكن أحيانا، ويتحدثن بأصوات مرتفعة يشكلنها أشكالا مختلفة على كل حال؛ فيستحيل أبو طرطور إلى جوهر لطيف يجري في صوت من هذه الأصوات، أو حركة من هذه الحركات، ويرتفع هذا الصوت أو هذه الحركة بأبي طرطور أو يرتفع هو بهذا الصوت أو بهذه الحركة، حتى يبلغ الفتى في الطبقة العليا، وينصرف عنه لوقته وقد ألقى في نفسه شرا خفيا وضرب له موعدا حين يجنه الليل ويشمله النوم.
وكذلك لم تكن حياة هؤلاء الطلاب في ربعهم وفي أزهرهم صفوا كلها، ولا علما كلها، ولم تكن حياة الصبي بين هؤلاء الطلاب صفوا خالصا، ولا علما خالصا، وإنما كان يلم بهم أبو طرطور فيحمل إليهم عذابا حلوا مرا، ويسمع الصبي من أحاديثهم ما كان يدعوه إلى التفكير.
الفصل الثاني عشر
على هذا الربع أقبل الصبي، وفي هذه البيئة عاش. وأكبر الظن أن ما اكتسب فيهما من العلم بالحياة وشئونها والأحياء وأخلاقهم لم يكن أقل خطرا مما اكتسبه في بيئته الأزهرية من العلم بالفقه والنحو والمنطق والتوحيد.
ولم يكد الصبي يستقر في ربعه يومين أو ثلاثة، حتى أسلمه أخوه إلى أستاذ كان قد ظفر بالدرجة أثناء الصيف، وكان سيبدأ الدرس ويجلس مجلس الأستاذ من صغار التلاميذ لأول مرة في حياته، وكان قد بلغ الأربعين أو كاد يبلغها. وكان معروفا بالتفوق مشهورا بالذكاء، قد غالب الحظ فغلبه، وإن لم يكن انتصاره على الحظ ملائما لحقه في الفوز، فقد ظفر بالدرجة الثانية، وعد هذا انتصارا، وقصر عن الدرجة الأولى وعد هذا ظلما. وكان ذكاؤه مقصورا على العلم، فإذا تجاوزه إلى الحياة العملية فقد كان إلى السذاجة أدنى منه إلى أي شيء آخر. وكان يعرف بين أصدقائه الطلاب والعلماء بأنه محب لبعض لذاته المادية متهالك عليها، يفرض عليه مزاجه ذلك ولا تفرضه عليه رذيلة أو فساد خلق مألوف، وكان كثير الأكل قد شهر بأنه يتهالك على اللحم ولا يستطيع أن ينقطع عن أكله والإسراف فيه يوما واحدا، وكان ذلك يكلفه عناء كثيرا.
وكان إلى هذا غريب الصوت إذا تحدث، كان صوته متهدجا متكسرا يقطع الحروف تقطيعا، ويتراكم مع ذلك بعضه فوق بعض، وتنفرج شفتاه عن كلامه أكثر مما ينبغي، فلا يكاد يسمعه المتحدث إليه حتى يضحك، ولا يكاد يمضي في الحديث معه حتى يقلد فتور صوته وتكسره وانفراج الشفتين عنه.
ولم يكد يظفر بدرجة العالمية حتى أسرع إلى شارة العلماء فاتخذها ولبس «الفراجية» متعجلا لبسها، ولم يكن العلماء يتخذون هذه الشارة إلا بعد أن يبعد عهدهم بالدرجة وتعرف لهم في العلم سابقة، وقدمة تيسر لهم حياتهم المادية شيئا.
ولكن صاحبنا أسرع إلى «الفراجية» فلبسها وأضحك منه أصحابه من الطلاب وأساتذته من الشيوخ، وزادهم ضحكا منه وتندرا عليه أنه كان يلبس الفراجية ويمشي حافيا في نعليه - إن صح هذا التعبير - لا يتخذ الجوارب عجزا منه عنها أو زهدا منه فيها. وكان إذا مشى في الشارع تثاقل وتباطأ واصطنع وقار العلماء وجلال العلم، فإذا خطا عتبة الأزهر ذهب عنه وقاره وفارقته أناته ولم يمش إلا مهرولا.
وقد عرف الصبي رجليه قبل أن يسمع صوته؛ فقد أقبل على مكان درسه لأول مرة مهرولا كما تعود أن يمشي، فعثر بالصبي وكاد يسقط من عثرته، ومست رجلاه العاريتان اللتان خشن جلدهما يد الصبي فكادت تقطع. ثم مضى حتى جلس وأسند لأول مرة ظهره إلى ذلك العمود الذي تمنى أن يسند ظهره إليه معلما.
وكان كغيره من أقرانه في ذلك الوقت بارعا في العلوم الأزهرية كل البراعة، ساخطا على طريقة تعليمها سخطا شديدا. قد بلغت تعاليم الأستاذ الإمام قلبه فأثرت فيه، ولكنها لم تصل إلى أعماقه؛ فلم يكن مجددا خالصا ولا محافظا خالصا، وإنما كان شيئا بين ذلك، وكان هذا يكفي لينظر الشيوخ إليه شزرا وليلحظوه في شيء من الريبة والإشفاق. ولم يكد يبدأ درسه الأول في الفقه حتى أعلن إلى تلاميذه أنه لن يقرأ لهم كتاب «مراقي الفلاح على نور الإيضاح» كما تعود الشيوخ أن يقرءوا للتلاميذ المبتدئين، ولكنه سيعلمهم الفقه في غير كتاب بمقدار ما في «مراقي الفلاح»، فعليهم إذن أن يسمعوا منه ويفهموا عنه، وأن يكتبوا ما يحتاجون إلى كتابته من المذكرات. ثم أخذ في درسه فكان قيما ممتعا، وسار هذه السيرة في درس النحو، فلم يقرأ للتلاميذ «شرح الكفراوي»، ولم يعلمهم الأوجه التسعة لقراءة بسم الله الرحمن الرحيم وإعرابها، وإنما هيأهم للنحو تهيئة حسنة، وعرفهم الكلمة والكلام والاسم والفعل والحرف؛ فكان درسه سهلا ممتعا أيضا.
وسئل الصبي أثناء شاي العصر عما سمع من أستاذه في الفقه والنحو، فلما أعاد على أخيه وأصحابه ما سمع رضيت الجماعة عن الشيخ وعن منهجه وأقرت طريقته في التعليم. وجعل الصبي يختلف إلى هذين الدرسين لا يتجاوزهما أياما لا يذكر عددها، ولكنه كان يسأل نفسه متى ينتسب إلى الأزهر ويصبح طالبا مقيدا في سجلاته؛ فلم يكن في هذه الأيام إلا صبيا يستمع إلى هذين الدرسين استماعا منظما محتوما، ويستمع إلى درس الحديث الذي كان يلقى بعد صلاة الفجر لا لشيء إلا لأنه كان ينتظر أن يفرغ أخوه من درس الأصول، وأن يحين الوقت الذي يبدأ فيه درس الفقه.
وقد أقبل اليوم المشهود، فأنبئ الصبي بعد درس الفقه أنه سيذهب إلى الامتحان في حفظ القرآن توطئة لانتسابه إلى الأزهر. ولم يكن الصبي قد أنبئ بذلك من قبل، فلم يتهيأ لهذا الامتحان، ولو قد أنبئ به لقرأ القرآن على نفسه مرة أو مرتين قبل ذلك اليوم، ولكنه لم يفكر في تلاوة القرآن منذ وصل إلى القاهرة، فلما أنبئ بأنه سيمتحن بعد ساعة خفق قلبه وجلا، وسعى إلى مكان الامتحان في زاوية العميان خائفا أشد الخوف مضطرب النفس أشد الاضطراب، ولكنه لم يكد يدنو من الممتحنين حتى ذهب عنه الوجل فجأة، وامتلأ قلبه حسرة وألما، وثارت في نفسه خواطر لاذعة لم ينسها قط؛ فقد انتظر أن يفرغ الممتحنان من الطالب الذي كان أمامهما، وإذا هو يسمع أحد الممتحنين يدعوه بهذه الجملة التي وقعت من أذنه ومن قلبه أسوأ وقع: «أقبل يا أعمى!»
ولولا أن أخاه بذراعه فأنهضه في غير رفق وقاده إلى الممتحنين في غير كلام، لما صدق أن هذه الدعوة قد سيقت إليه؛ فقد كان تعود من أهله كثيرا من الرفق به وتجنبا لذكر هذه الآفة بمحضره، وكان يقدر ذلك وإن كان لم ينس قط آفته ولم يشغل قط عن ذكرها. ومع ذلك فقد جلس أمام الممتحنين وطلب إليه أن يقرأ سورة الكهف، فلم يكد يمضي في الآيات الأولى منها حتى طلب إليه أن يقرأ سورة العنكبوت، فلم يكد يمضي في الآيات الأولى منها حتى قال له أحد الممتحنين: «انصرف يا أعمى، فتح الله عليك.»
وقد دهش الصبي لهذا الامتحان الذي لا يصور شيئا ولا يدل على حفظ. وقد كان ينتظر على أقل تقدير أن تمتحنه اللجنة على نحو ما كان يمتحنه أبوه الشيخ. ولكنه انصرف راضيا عن نجاحه، ساخطا على ممتحنيه، محتقرا لامتحانهما. ولم يخرج من زاوية العميان قبل أن يعطف به أخوه على بعض أركانها، فتلقاه هناك أحد الفراشين - أو أحد «المشدين» بلغة ذلك الوقت - فأخذ ذراعه اليمنى، وأدار حول معصمه سوارا من الخيط جمع طرفيه بقطعة مختومة من الرصاص، وقال له: انصرف فتح الله عليك.
ولم يفهم الصبي لهذا السوار معنى، ولكن أخاه أنبأه بأن هذا السوار سيظل حول معصمه أسبوعا كاملا حتى يمر أمام الطبيب الذي سيمتحن صحته ويقدر سنه ويطعمه التطعيم الواقي من الجدري.
وقد كان الصبي خليقا أن يبتهج بهذا السوار الجديد الذي كان يدل على أنه مرشح للانتساب إلى الأزهر، قد جاز المرحلة الأولى من مراحله، لولا أنه ظل مشغولا عن السوار بدعوة الممتحن له وصرفه إياه. وأنفق أسبوعه كما تعود أن ينفق أيامه، مستيقظا على صوت عمى الحاج علي، ذاهبا إلى الأزهر مع الفجر، عائدا منه بعد درس الفقه، ثم ذاهبا إلى الأزهر مع الظهر، ثم راجعا منه بعد درس النحو، ثم مقيما في مجلسه ذاك، فنائما في مجلسه ذاك، فغاديا على الأزهر حين يسمع نداء المؤذن بأن الصلاة خير من النوم.
وجاء يوم الامتحان الطبي، فذهب إليه الصبي وفي نفسه شيء من الاشفاق أن يدعوه الطبيب كما دعاه الممتحن. ولكن الطبيب لم يدعه لأنه لم يكن يدعو أحدا، وإنما دفعه أخوه إلى الطبيب دفعا، فأخذ ذراعه وخط فيها خطوطا، وقال: «خمسة عشر»، وانتهى الأمر عند هذا الحد. وأصبح الصبي طالبا منتسبا إلى الأزهر، ولم يكن قد بلغ السن التي ذكرها الطبيب والتي لم يكن بد منها لصحة الانتساب، وإنما كان في الثالثة عشرة من عمره، وقد حل السوار عن معصمه وعاد إلى غرفته وفي نفسه شك مؤلم لذيذ في أمانة الممتحنين وفي صدق الطبيب.
الفصل الثالث عشر
وكانت هذه الحياة شاقة على الصبي وعلى أخيه معا؛ فأما الصبي فقد كان يستقل ما كان يقدم إليه من العلم ويتشوق إلى أن يشهد أكثر مما كان يشهد من الدروس، ويبدأ أكثر مما كان قد بدأ من الفنون. وكانت وحدته في الغرفة بعد درس النحو قد ثقلت عليه حتى لم يكن يستطع لها احتمالا، وكان يود لو استطاع الحركة أكثر مما كان يتحرك، والكلام أكثر مما كان يتكلم. وأما أخوه فقد ثقل عليه اضطراره إلى أن يقود الصبي إلى الأزهر وإلى البيت مصبحا وممسيا، وثقل عليه أيضا أن يترك الصبي وحده أكثر الوقت، ولم يكن يستطيع أن يفعل غير هذا؛ فلم يكن من الممكن ولا من الملائم لحياته ودرسه أن يهجر أصدقاءه ويتخلف عن دروسه ويقيم في تلك الغرفة ملازما للصبي مؤنسا له.
ولم يتحدث الصبي بذات نفسه إلى أحد، ولم يتحدث أخو الصبي إليه بذات نفسه أيضا، وأكبر الظن أنه تحدث بذلك إلى أصدقائه غير مرة، ولكن المشكلة بلغت أقصاها ذات ليلة، وانتهت إلى الحل بعد ذلك دون أن يقول الصبي لأخيه شيئا أو أن يقول له أخوه شيئا.
دعيت الجماعة ذات يوم إلى أن تسمر عند صديق لها سوري لا يسكن الربع ولا يسكن الحي، وقبلت الجماعة دعوة الصديق، ومضى اليوم كما تعودت الأيام أن تمضي. وذهبت الجماعة إلى درس الأستاذ الإمام ثم عادت منه بعد صلاة العشاء، ليتخفف كل واحد منها مما كان يحمل من محفظته وأوراقه.
وهيأ الشيخ الفتى أخاه الصبي لنومه كما كان يفعل كل ليلة، وانصرف عنه بعد أن أطفأ المصباح كما كان ينصرف كل ليلة. ولكنه لم يكد يبلغ الباب حتى كان الحزن قد غلب الصبي على نفسه فأجهش ببكاء كظمه ما استطاع، ولكنه وصل في أكبر الظن إلى أذن الفتى، فلم يغير رأيه ولم يصرفه عن سمره، وإنما أغلق الباب ومضى في وجهه. وأرضى الصبي حاجة نفسه إلى البكاء ثم عاد إلى اطمئنانه شيئا فشيئا، ومثل قصته التي كان يمثلها في كل ليلة، فلم يستسلم إلى النوم إلا بعد أن عاد أخوه. ولكنه أصبح فإذا أخوه يقدم إليه بعد درس الفقه وبعد أن أفطر ألوانا من الحلوى كان قد اشتراها له في طريقه إلى العودة من سمره، وقد فهم الصبي عن أخيه وفهم أخوه عنه، فلم يقل أحدهما لصاحبه شيئا.
ومضى يوم ويوم آخر، وأخذ الشيخ الفتى كتابا من الحاج فيروز ففضه ونظر فيه ثم قال لأخيه وقد وضع يده على كتفه، وامتلأ صوته حنانا ورفقا: «لن تكون وحدك في الغرفة منذ غد، فسيحضر ابن خالتك طالبا للعلم، وستجد منه مؤنسا ورفيقا.»
الفصل الرابع عشر
وكان ابن خالته هذا رفيق صباه، وكان له صديقا وعنده أثيرا، وكان كثيرا ما يهبط من بلدته في أعلى الإقليم لزيارة الصبي، فينفق معه الشهر أو الأشهر، يختلفان معا إلى الكتاب فيلعبان وإلى المسجد فليصليان، ثم يعودان مع الأصيل إلى البيت فيقرآن في كتب القصص والسمر، أو يمضيان في ألوان من العبث، أو يخرجان للنزهة عند شجيرات التوت التي كانت تقوم على حافة الإبراهيمية. وكانا كثيرا ما أدارا بينهما ألوانا من الأماني والأحلام، وكانا قد تعاهدا على أن يذهبا معا إلى القاهرة ويطلبا العلم معا في الأزهر.
وكثيرا ما هبط ابن خالته من مدينته في أعلى الإقليم في آخر الصيف وقد أعطته أمه نقودا وأعدت له زادا وودعته على أنه سيذهب مع ابن خالته إلى القاهرة ليطلبا فيها العلم معا. ولكنه كان يشارك صديقه في الانتظار ثم في الغضب ثم في الحزن والبكاء؛ لأن الأسرة رأت - أو لأن الشيخ الفتى رأى - أن الوقت لم يئن لذهابهما إلى القاهرة، ثم كانا يفترقان ويعود الصديق إلى أمه محزونا كئيبا.
فلا غرابة في أن يقع هذا الخبر من نفس الصبي موقعا حسنا، ولا غرابة في أن يقضي الصبي مساءه راضيا مبتهجا لا يفكر إلا في غد. وقد أقبل الليل وملأ الغرفة بظلمته، ولكن الصبي لم يسمع للظلمة في تلك الليلة صوتا ولا حديثا، وأكبر الظن أن حشرات الغرفة قد لعبت كما كانت تفعل كل ليلة، ولكن الصبي لم يسمع لها صوتا ولم يحس لها حركة.
وقد أرق الصبي ليلته كلها، ولكنه كان أرقا فرحا مبتهجا، فيه كثير من تعجل الوقت واستبطاء الصبح. وقد ذهب الصبي إلى درس الحديث فسمع صوت الشيخ وهو يتغنى بالسند والمتن، ولكنه لم يلق إلى الشيخ بالا، ولم يفهم عنه شيئا. وذهب بعد ذلك إلى درس الفقه فاستمع له لأنه لم يجد عن ذلك بدا، فقد كان أخوه أوصى به الشيخ، وكان الشيخ يحاوره ويناظره ويضطره إلى أن يسمع له ويفهم عنه. ثم عاد الصبي إلى الغرفة في الضحى فأنفق وقته هادئا قلقا.
هادئا في ظاهر الأمر؛ فقد كان يكره كل الكره أن يظهر أخوه أو أصحابه على أن شيئا من أمره قد تغير قليلا أو كثيرا، وقلقا في دخيلة نفسه يتعجل الوقت ويستبطئ العصر الذي سيصل فيه القطار إلى محطة القاهرة.
وقد دعا المؤذن بصلاة العصر آخر الأمر، ولم يبق بين الصبي وابن خالته إلا هذا الوقت القصير الذي تقطع فيه عربة من عربات النقل هذه المسافة بين المحطة وبين الحي، سالكة باب البحر فباب الشعرية منتهية إلى هذا الباب الذي ستنعطف نحوه، فتمر بين دخان القهوة وقرقرة الشيشة.
وهاتان قدمان تضربان أرض الربع لا يتردد الصبي في معرفتهما، وهذا ابن خالته يقبل فيلقي عليه سلاما ضاحكا، ثم يعتنقان ضاحكين، وهذا سائق العربة يتبعه وقد حمل ما أرسلته الأسرة إلى الطالبين من الطرف والزاد، ومن المحقق أن العشاء سيكون دسما هذه الليلة، وأن الأصدقاء جميعا سيشاركون فيه، وأن الصبيين لن يخلوا لأنفسهما وأحاديثهما إلا حين يذهب القوم ليشهدوا درس الأستاذ الإمام.
ولكن من المحقق أيضا أن حياة الصبي قد تغيرت كلها منذ ذلك اليوم، فذهبت عنه العزلة حتى رغب فيها أحيانا، وكثر عليه العلم حتى ضاق به أحيانا أخرى.
الفصل الخامس عشر
وأيسر ما تغير من حياته المادية أنه هجر مجلسه من الغرفة على البساط القديم الذي بسط على الحصير البالي العتيق، فلم يعرفه إلا حين كان يجلس للإفطار أو للعشاء، وحين كان يأوي إلى مضجعه حين يتقدم الليل؛ وإنما كان يقضي يومه كله أو أكثره في الأزهر، وفيما حوله من المساجد التي كان يختلف فيها إلى بعض الدروس. فإذا عاد إلى «الربع» لم يدخل الغرفة إلا ليتخفف من عباءته، ثم يعود فيخرج منها ليجلس مع صاحبه على فراش ضيق من اللبد قد فرش أمامها وأخذ أكثر الطريق على المارة، فلم يخل لهم منه إلا موضع أقدام الرجل الواحد أو الرجلين.
وفي هذا المجلس كان الصبيان يلهوان بالحديث قليلا وبالقراءة كثيرا، وقد يفرغان لما كان يجري في الطبقة السفلى من حركة وحديث، يسمع أحدهما، ويرى الآخر ويفسر لصاحبه ما لا يرى.
وكذلك عرف الصبي الربع أكثر مما كان يعرفه، وعرف من شئون أهله أكثر مما كان يعرف، وسمع من أحاديثهم أكثر مما كان يسمع، عاش جهرة بعد أن كان يعيش سرا. ولكن حياته الخصبة الممتعة منذ أقبل عليه صديقه لم تكن في الغرفة ولا في الربع، وإنما كانت في الأزهر نفسه، فقد استراح الصبي من درس الفجر وتلبث في غرفته حتى يدنو درس الفقه، فكان يستمتع إذن مع صديقه بصوت الشيخ الموسوس حين كان يقيم الصلاة في كل يوم، بعد أن كان لا يستمتع بهذا الصوت إلا يوم الجمعة من كل أسبوع.
فإذا حان وقت الدرس خرج مع صاحبه إلى الأزهر، فسلكا الطريق نفسها التي كان يسلكها مع أخيه، ولكنهما يسلكان هذه الطريق متحدثين بالجد مرة وبالهزل مرة أخرى، وقد ينحرفان عن حارة الوطاويط تلك القذرة، إلى شارع خان جعفر ذلك النظيف، ويخلصان على كل حال إلى شارع سيدنا الحسين. والغريب أن الصبي تعود منذ أقبل صديقه عليه ألا يمر بمسجد سيدنا الحسين ولا يدخله إلا قرأ الفاتحة، عوده صديقه هذه العادة فدأب عليها. وقد تقدمت به السن واختلفت عليه أطوار الحياة، وما يذكر أنه مر بمسجد سيدنا الحسين إلا قرأ في نفسه هذه السورة الكريمة من سور القرآن.
وكان أخو الصبي قد خصص له ولصاحبه مقدارا يسيرا جدا من النقد ثمنا لإفطارهما، على أن يأخذا بعد درس الفقه جراية الشيخ الفتى من رواق الحنفية، وكانت أربعة أرغفة، فيأكلان منها رغيفين إذا أفطرا ويحفظان منها رغيفين للعشاء، ومع أن هذا المقدار الذي خصص لهما من النقد قد كان يسيرا ضئيلا لا يتجاوز القرش الواحد في كل يوم، فقد عرفا كيف يحتالان وكيف يقتصدان ليمتعا أنفسهما ببعض ما كانت نفوسهما تتوق إليه من طرائف الطعام والشراب. وما يمنعهما أن يغدوا ذات صباح مع الطير، فإذا تجاوزا ذلك الباب المقفل من فجوته الضيقة، واستدارا ليأخذا طريقهما نحو الأزهر، وقفا عند بائع البليلة فأخذ كل منهما قدرا من هذا الطعام الذي كانا يحبانه أشد الحب؛ لكثرة ما أكلا منه في الريف، ولكثرة ما كان يوضع عليه من السكر الذي يختلط بحباته الغلاظ ويذوب في مائه الشديد الحرارة جدا، فلا يكادان يسيغانه حتى يطرد عنهما بقية النوم ويشيع في جسميهما النشاط ويثير في أفواههما وأجوافهما لذة كانا يقدرانها قدرها، ويهيئهما تهيئة صالحة لدرس الفقه، يسمعان لحديث الشيخ وقد عمرت بطونهما ورءوسهما معا.
وما يمنعهما إذا كانا في شارع سيدنا الحسين أن يعطفا على هذا البائع أو ذاك فيجلسا على مجلس ضيق من الخشب قد ألقي عليه حصير ضيق أحيانا، ولم يلق عليه شيء أحيانا أخرى، ولكنه كان وثيرا على كل حال؛ لأن الجلوس عليه كان يصحبه انتظار لذة كانا يحبانها ويقدرانها؛ لذة هذا التين المرطب الذي يقدم إليهما في إناء صغير، فيلتهمانه التهاما ثم يعبان في مائة عبا، ثم يأكلان ما كان تحته من زبيب في أناة وهدوء! وما يمنعهما حين يعودان قبل العصر أو بعيده أن يجورا على ثمن العشاء فيقفا عند بائع الهريسة أو بائع البسبوسة، ويرضيا لذاتهما البريئة إلى هذا اللون من الحلوى أو ذاك! وليس على إفطارهما ولا على عشائهما بأس.
فأما الإفطار فقد كان أمره يسيرا جدا: زيارة لبائع من هؤلاء الباعة الذين كانوا يعرضون الفول النابت، ومعهما رغيفاهما وهما يدفعان إلى هذا البائع مليمين ونصف مليم، وقد اشتريا بنصف مليم حزمة أو حزمتين من كراث، وهذا البائع يقبل عليهما بإناء ضخم عميق قد امتلأ مرقا وسبحت فيه حبات من الفول وألقي عليه قليل من الزيت، فهما يغمسان خبزهما في المرق، ويتصيدان ما تيسر من حب، ويلتهمان ما تحمله يدهما اليسرى إلى أفواههما من الكراث ... وما يبلغان آخر الرغيف وآخر الكراث حتى يبلغا حظهما من الطعام وقد امتلأا حتى كادا يكتظان. ولكن في الإناء بقية من مرق، فكان الصبي يستحيي أن يجيب صاحبه إلى ما يعرض عليه من شرب هذا المرق، وكان صاحبه يضحك منه ويرفع الإناء فيعب فيه حتى يرده إلى البائع نظيفا.
فقد أفطرا إذن ولم ينفقا أكثر من ثلاثة مليمات، وقد غنما ما طعما قبل الدرس. وما عليهما الآن إلا أن يعودا إلى الأزهر ليرضيا عقولهما بعد أن رضيت أجسامهما. وكان الصبي قد حرص كل الحرص على أن يواظب على درس شيخه المجدد المحافظ في الفقه والنحو، طاعة لأخيه من جهة وإرضاء لنفسه من جهة أخرى. ولكنه كان شديد الطمع في أن يسمع لغير هذا الشيخ، وأن يذوق غير هذين اللونين من ألوان العلم. وقد أتيح له ذلك في غير مشقة ولا جهد بفضل هذه الدروس التي كانت تلقى في الضحى بعد أن يفرغ الطلاب من إفطارهم. وقد قرر الصديقان أن يحضرا شرح «الكفراوي» وكان يلقى في الضحى من كل يوم، يلقيه شيخ جديد ولكنه قديم؛ جديد في الدرجة، قديم في الصلة بالأزهر، قد تقدمت به السن وطال عليه الطلب حتى ظفر بدرجته، وبدأ كما كان يبدأ أمثاله بقراءة «شرح الكفراوي».
وكان الصبي يسمع من شيخه الأول ومن أخيه وأصحابه عبثا كثيرا بشرح الكفراوي، وسخطا كثيرا عليه، فكان ذلك يغريه به ويرغبه فيه.
وما هي إلا أن يحضر الدرس الأول ويسمع الأوجه التسعة في قراءة بسم الله الرحمن الرحيم وإعرابها، حتى يفتن بهذا اللون من العلم ويكلف به أشد الكلف، وإذا هو يواظب مع صاحبه في دقة على هذا الدرس من دروس النحو، ويواظب في دقة أيضا على درسه القديم. وكان يرى أنه يتعلم النحو في درسه القديم، وأنه يلهو بالنحو في درسه الجديد. وكان يلهو في درسه الجديد حقا؛ يلهو بهذا الإعراب المتصل الذي ألح فيه الشارح على المتن إلحاحا شديدا. ويلهو خاصة بالشيخ الذي كان يقرأ متنه وشرحه ويفسر ما يقرأ في صوت غريب مضحك حقا، لم يكن يقرأ وإنما كان يغني، ولم يكن غناؤه يصعد من صدره، وإنما كان يهبط من رأسه. وكان صوته قد جمع بين خصلتين متناقضتين، فكان أصم مكظوما، وكان ممتدا عريضا.
وكان الشيخ على ذلك من أهل الصعيد أو قل من أقصى الصعيد، وكان قد احتفظ بلهجته الإقليمية لم يغير منها شيئا لا في الكلام ولا في القراءة ولا في الغناء. وكان الشيخ على هذا كله غليظ الطبع، يقرأ في عنف، ويسأل الطلاب ويرد عليهم في عنف. وكان سريع الغضب، لا يكاد يسأل حتى يشتم؛ فإن ألح عليه السائل لم يعفه من لكمة إن كان قريبا منه، ومن رمية بحذائه إن كان مجلسه منه بعيدا. وكان حذاء الشيخ غليظا كصوته جافيا كثيابه؛ فلم يكن يتخذ العباءة، وإنما كان يتخذ «الدفية». كان حذاء الشيخ غليظا جافيا، وكانت نعله قد ملئت بالمسامير، وكان ذلك أمتن للحذاء وأمنع له من البلى، ففكر في الطالب الذي كانت تصيبه مسامير هذا الحذاء في وجهه أو فيما يبدو من جسمه!
ومن أجل هذا أشفق الطلاب من سؤال الشيخ وخلوا بينه وبين القراءة والتفسير والتقرير والغناء. ومن أجل ذلك لم يضع الشيخ وقته ولا وقت الطلاب، وبدأ سنته الدراسية بشرح الكفراوي، ولم تنته هذه السنة حتى كان قد أتم «شرح الشيخ خالد».
فقرأ الطلاب في سنة دراسية واحدة كتابين، على حين لم يكن غيرهم يقرءون مع غير هذا الشيخ إلا كتابا واحدا، وعلى حين لم يكن ذلك الشيخ المجدد المحافظ قد تجاوز بطلابه القليلين الأبواب الأولى من النحو.
وكان لهذا كله أثره في حياة الصبي النحوية - إن صح هذا التعبير - فقد قضى إجازة الصيف وعاد إلى القاهرة، فلم ير شيخه المحافظ المجدد، وإنما سلك طريق غيره من الأزهريين، فحضر في الفقه «شرح الطائي على الكنز»، وحضر في النحو «حاشية العطار على شرح الأزهرية». ولكن من الخير ألا نتعجل الحوادث وأن نبقى مع صاحبنا في سنته الأولى.
كان إذن يفرغ من درس الضحى فينتقل إلى درس الظهر، ثم يعود إلى غرفته فيقرأ مع صاحبه مطالعا دروس غد كما كان يفعل أصحاب الجد من الطلاب، أو متنقلا بين كتب مختلفة يفهم عنها أو لا يفهم. فإذا دعيت الشمس إلى غروبها أقبل الصديقان على عشائهما، وكان يختلف رقة وغلظا باختلاف ما بقي لهما من نقد؛ فإن كان قد بقى لهما نصف القرش قسماه نصفين، فاشتريا بنصفه شيئا من الحلاوة الطحينية وبنصفه الآخر شيئا من الجبن الرومي، وأقبلا على عشاء مترف لذيذ يجمعان فيه على اللقمة الواحدة قطعة من الجبن وقطعة من الحلاوة، ويريان لهذا المزاج الغريب طعما لذيذا. وإن كانت البليلة أو التين قد أسرفا عليهما في نقدهما فلم يبق لهما منه إلا ربع القرش، اشتريا بما بقي لهما شيئا من الطحينة ثم صبا عليه شيئا من عسل أسود أو أبيض كان يأتيهما من الريف، ثم أقبلا على عشاء ليس بالفخم، ولكنه لا بأس به.
فإن جارت البليلة أو التين أو كلاهما على نقدهما فلم يبقيا منه شيئا، فليس عليهما من بأس، لقد حفظا رغيفيهما، وفي الغرفة هذه الصفيحة أو تلك، في هذه العسل الأسود، وفي تلك العسل الأبيض، فليأخذا من هذا العسل شيئا وليغمسا فيه رغيفيهما، فذلك يجزئ عما كانا يجدان في الحلاوة والجبن والطحينة من ترف.
وربما أباحا لأنفسهما على هذا البؤس شيئا من ترف فغمسا رغيفهما الأول وقد اقتسماه في العسل الأسود، ثم غمسا رغيفهما الثاني وقد اقتسماه أيضا في العسل الأبيض.
وقد جعلت الشمس تسرع إلى غروبها، وكاد المؤذن يصعد إلى مئذنته، فليسرع الصديقان إذن إلى الأزهر، فهما يحضران درسا بعد صلاة المغرب كما يفعل أولئك الطلاب الكبار، هما يحضران درسا في المنطق، يحضران «متن السلم» للأخضري، ومن الحق أنهما كانا يحضران هذا الدرس على شيخ كان يرى نفسه عالما وإن لم يعترف له الأزهر بالعالمية، طال عليه الوقت، واشتد إلحاحه في طلب الدرجة فلم يظفر بها، ولكنه لم ييأس منها ولم يرض بحكم الممتحنين فيه، فجعل يطاولهم من جهة، ويغيظهم من جهة أخرى. يطاولهم بحضور الدرس والتقدم للامتحان، ويغيظهم بالجلوس إلى أحد الأعمدة إذا صليت المغرب ومن حوله جماعة من الطلاب وهو يقرأ لهم كتابا في المنطق كما يقرأ العلماء الممتازون؛ فلم يكن يهجم على تعليم المنطق إلا هؤلاء العلماء الممتازون.
ومن الحق أن ذلك الطالب الشيخ لم يكن بارعا في العلم ولا ماهرا في التعليم، وأن جهله وعجزه كانا يظهران حتى لهؤلاء التلاميذ المبتدئين. ومن الحق أنه كان من أقصى الصعيد، وكان محتفظا بلهجته كما عرفها قبل أن يقبل على الأزهر، ولم يكن يغير منها شيئا في قراءته وحديثه.
ومن الحق آخر الأمر أنه كان سريع الغضب شديد الحدة، ولكنه لم يكن يشتم التلاميذ ولا يضربهم، أولم يكن يجرؤ على شتم التلاميذ وضربهم؛ فما ينبغي ذلك إلا للعالم حقا وصدقا، الذي نال الدرجة، ونال معها الإذن الضمني بشتم التلاميذ أو ضربهم.
كل هذا كان حقا، وكل هذا سمعه الصديقان من أولئك الطلاب الكبار، ولكنه لم يمنعهما من حضور الدرس والمواظبة عليه، ليقولا لأنفسهما إنهما يدرسان المنطق، وليقولا لأنفسهما إنهما يذهبان إلى الأزهر بعد صلاة المغرب ويعودان منه بعد صلاة العشاء، كما يفعل الطلاب الكبار المتقدمون.
وما أسرع ما انقضت السنة الأولى! وما أسرع ما ختمت دروس الفقه والنحو! وما أسرع ما دعي التلاميذ إلى التفرق ثم الرحيل إلى حيث ينفقون الصيف بين أهلهم في المدن والقرى! وما أشد ما كان الصبي يتشوق إلى هذه الإجازة ويتحرق حنينا إلى الريف!
ولكن الإجازة قد أقبلت، وإذا هو يريد أن يمتنع عن الرحيل وأن يبقى في القاهرة. أكان صادقا في هذا التمنع؟ أم كان متكلفا له؟ كان صادقا وكان متكلفا معا.
كان صادقا؛ لأنه أحب القاهرة وكلف بها وشق عليه فراقها وقد كره الرحيل دائما. وكان متكلفا؛ فقد كان أخوه يقضي أكثر إجازته في القاهرة، وكانت الأسرة تكبر منه ذلك وتراه آية جد واجتهاد، وكان يريد أن يصنع صنع أخيه، وأن يظن به ما كان يظن بأخيه، ولكن تمنعه لم يغن عنه شيئا، وها هو ذا يركب مع صاحبه عربة من عربات النقل ومعهما ثيابهما قد لفت في حزمتين وقد بلغا المحطة، وأخذت لهما تذكرتان ثم دفعتا إليهما، ثم وضعا في عربة مزدحمة من عربات الدرجة الثالثة، ثم تحرك القطار. ولم يكد يمضي قليلا ويبلغ محطة بعد القاهرة أو محطتين حتى نسي الصديقان أزهرهما وقاهرتهما وربعهما، ولم يذكرا إلا شيئا واحدا هو الريف، وما سيكون فيه من لذه ونعيم.
الفصل السادس عشر
وكانت العشاء قد صليت حين نزل الصبيان من القطار، فلم يجدا في المحطة أحدا، فأنكرا ذلك شيئا، ولكنهما وصلا إلى الدار، فإذا كل شيء كان يجري فيها كما كانت تجري الأمور في كل يوم؛ قد فرغت الأسرة من عشائها منذ وقت طويل، وأتم الشيخ صلاته ثم خرج كعادته فجلس مع أصحابه غير بعيد من الدار، وتناوم الصبية، وجعلت أختهم الصغرى تحملهم واحدا واحدا إلى مضاجعهم. واضطجعت أم الصبي على فراش من اللبد تحت السماء تستريح، والنوم يلم بها ثم يصرف عنها، ومن حولها بناتها قد جلسن يتحدثن كعادتهن في كل ليلة، حتى يقضي الشيخ سمره القصير ثم يعود إلى الدار، فتأوي الأسرة كلها إلى مضاجعها، ويشمل الدار سكون وهدوء لا يقطعهما إلا تنابح الكلاب وتصايح الديكة في داخل الدار وفي أطراف القرية.
فلما دخل الصبيان وجمت الأسرة لدخولهما ولم تكن قد أنبئت بعودتهما، فلم تعد لهما عشاء خاصا، ولم تنتظرهما بالعشاء المألوف، ولم ترسل أحدا لتلقيهما عند نزولهما من القطار.
وكذلك أضيع على الصبي ما كان يدير في نفسه من الأماني، وما كان يقدر من أنه سيستقبل كما كان يستقبل أخوه الشيخ في ابتهاج وحفاوة واستعداد عظيم. على أن أمه نهضت فقبلته، ونهضت إليه أخواته فضممنه إليهن. وقدم إليه وإلى صاحبه عشاء كعشائهما في القاهرة. وأقبل الشيخ فأعطى ابنه يده ليقبلها ثم سأله عن أخيه في القاهرة، وأوت الأسرة كلها إلى مضاجعها، ونام الصبي في مضجعه القديم، وهو يكتم في صدره كثيرا من الغيظ وكثيرا من خيبة الأمل أيضا.
ومضت الحياة بعد ذلك في الدار والقرية كما كانت تمضي قبل أن يذهب الصبي إلى القاهرة ويطلب العلم في الأزهر، كأنه لم يذهب إلى القاهرة ولم يجلس إلى العلماء ولم يدرس الفقه والنحو والمنطق والحديث. وإذا هو مضطر كما كان يضطر من قبل إلى أن يلقى «سيدنا» بالتحية والإكرام، ويقبل يده كما كان يفعل من قبل، ويسمع منه كلامه الفارغ الكثير كما كان يسمعه من قبل. وإذا هو مضطر إلى أن يذهب بين وقت وآخر إلى الكتاب لينفق الوقت، وإذا التلاميذ يلقونه كما كانوا يلقونه قديما، لا يكادون يشعرون بأنه غاب عنهم، ولا يكادون يسألونه عما رأى أو سمع في القاهرة، ولو قد سألوه لخبرهم بالكثير.
وأكثر من هذا كله أنه لم يقبل أحد من أهل القرية على الدار ليسلم على الصبي الشيخ بعد أن عاد إليها وقد غاب عنها سنة دراسية كاملة، وإنما كان يلقاه منهم هذا الرجل أو ذاك، فيلقي عليه في فتور وإعراض هذا السؤال: ها أنت ذا؟ أعدت من القاهرة؟ كيف أنت؟ ثم يلقي عليه هذا السؤال الآخر معنيا به رافعا به صوته: وكيف تركت أخاك الشيخ؟
وقد استقر إذن في نفس الصبي أنه ما زال، كما كان قبل رحلته إلى القاهرة ، قليل الخطر ضئيل الشأن لا يستحق عناية به ولا سؤالا عنه، فآذى ذلك غروره، وقد كان غروره شديدا، وزاده ذلك إمعانا في الصمت وعكوفا على نفسه وانصرافا إليها.
ولكنه لم يكد يقضي أياما بين أسرته وأهل قريته حتى غير رأي الناس فيه ولفتهم إليه، لا لفت عطف ومودة، ولكن لفت إنكار وإعراض وازورار؛ فقد احتمل من أهل القرية ما كان يحتمل قديما يوما ويوما وأياما، ولكنه لم يطق على ذلك صبرا، وإذا هو ينبو على ما كان يألف، وينكر ما كان يعرف، ويتمرد على من كان يظهر لهم الإذعان والخضوع. كان صادقا في ذلك أول الأمر، فلما أحس الإنكار والازورار والمقاومة، تكلف وعاند وغلا في الشذوذ، سمع «سيدنا» يتحدث إلى أمه ببعض أحاديثه في العلم والدين، وببعض تمجيده لحفظة القرآن وحملة كتاب الله، فأنكر عليه حديثه ورد عليه قوله، ولم يتحرج من أن يقول: هذا كلام فارغ، فغضب «سيدنا» وشتمه، وزعم أنه لم يتعلم في القاهرة إلا سوء الخلق، وأنه أضاع في القاهرة تربيته الصالحة.
وغضبت أمه وزجرته، واعتذرت إلى «سيدنا» وقصت الأمر على الشيخ حين عاد فصلى المغرب وجلس للعشاء، فهز رأسه وضحك ضحكة سريعة في ازدراء للقصة كلها وشماتة «بسيدنا»؛ فلم يكن يحب «سيدنا» ولا يعطف عليه.
ولو وقف الأمر عند هذا الحد لاستقامت الأمور، ولكن صاحبنا سمع أباه يقرأ «دلائل الخيرات» كما كان يفعل دائما إذا فرغ من صلاة الصبح أو من صلاة العصر، فرفع كتفيه وهز رأسه ثم ضحك، ثم قال لإخوته: إن قراءة «الدلائل» عبث لا غناء فيه.
فأما الصغار من إخوته وأخواته فلم يفهموا عنه ولم يلتفتوا إليه، ولكن أخته الكبرى زجرته زجرا عنيفا ورفعت بهذا الزجر صوتها، فسمعها الشيخ ولم يقطع قراءته، ولكنه مضى فيها حتى أتمها، ثم أقبل على الصبي هادئا باسما يسأله ماذا كان يقول؟ فأعاد الصبي قوله، فلما سمعه الشيخ هز رأسه وضحك ضحكة قصيرة وقال لابنه في ازدراء: «ما أنت وذاك! هذا ما تعلمته في الأزهر!» فغضب الصبي وقال لأبيه: «نعم، وتعلمت في الأزهر أن كثيرا مما تقرؤه في هذا الكتاب حرام يضر ولا ينفع؛ فما ينبغي أن يتوسل إنسان بالأنبياء ولا بالأولياء، وما ينبغي أن يكون بين الله وبين الناس واسطة، وإنما هذا لون من الوثنية.»
هنالك غضب الشيخ غضبا شديدا، ولكنه كظم غضبه واحتفظ بابتسامه وقال فأضحك الأسرة كلها: «اخرس قطع الله لسانك، لا تعد إلى هذا الكلام، وإني أقسم لئن فعلت لأمسكنك في القرية، ولأقطعنك عن الأزهر، ولأجعلنك فقيها تقرأ القرآن في المآتم والبيوت.» ثم انصرف، وتضاحكت الأسرة من حول الصبي، ولكن هذه القصة على قسوتها الساخرة لم تزد صاحبنا إلا عنادا وإصرارا.
وقد نسيها الشيخ بعد ساعات، وأقبل على عشائه ومن حوله أبناؤه وبناته كعادته، وجعل يسأل الصبي عن الشيخ الفتى ماذا يصنع في القاهرة؟ وماذا يقرأ من الكتب؟ وعلى من يختلف من الأساتذة؟
وكان الشيخ يجد لذة عظيمة في إلقاء هذه الأسئلة وفي الاستماع لأجوبتها. كان يلقيها على ابنه الشيخ الفتى إذا عاد إلى القرية، فيجيبه متكلفا أول مرة، فإذا أعيدت أعرض الفتى عن أبيه وبخل عليه بالجواب. ولم يكن أبوه ينكر ذلك منه جهرة، ولكنه كان يتأذى به ويشكو منه لزوجه إذا خلا إليها.
فأما الصبي فكان سمحا طيعا، لا يعرض عن أبيه ولا يمتنع عن إجابته، ولا يدركه السأم مهما تتكرر الأسئلة ومهما يكن موضوعها. وكان الشيخ من أجل ذلك يحب أن يسأله ويستمتع بالتحدث إليه في أثناء العشاء وأثناء الغداء، ولعله كان يعيد على صاحبه بعض ما كان ابنه يقص عليه من زيارات الشيخ الفتى للأستاذ الإمام وللشيخ بخيت، ومن اعتراض الشيخ الفتى على أساتذته في أثناء الدرس وإحراجه لهم، وردهم عليه بالعنف وبالشتم وبالضرب أحيانا.
وكان الصبي يشعر بلذة أبيه لهذه الأحاديث ورضاه عنها، فيتزيد ويتكثر ويخترع منها ما لم يكن، ويحفظ ذلك في نفسه ليقصه على أخيه إذا عاد إلى القاهرة.
وكان الشيخ بهذا كله سعيدا وله مغتبطا وعلى تجديده حريصا. فلما جلست الأسرة للعشاء في تلك الليلة وجدد الشيخ أسئلته عن ابنه الفتى: ماذا يصنع في القاهرة؟ وماذا يقرأ من الكتب؟ قال الصبي في دهاء وخبث وكيد: إنه يزور قبور الأولياء، وينفق نهاره في قراءة «دلائل الخيرات».
ولم يكد الصبي ينطق بهذا الجواب حتى أغرقت الأسرة كلها في ضحك شديد شرق له الصغار بما كان في أفواههم من طعام وشراب، وكان الشيخ نفسه أسرعهم إلى الضحك وأشدهم إغراقا فيه.
وكذلك استحال نقد الصبي لأبيه في قراءته للدلائل والأوراد موضوعا للهو الأسرة وعبثها أعواما وأعواما. والظريف من هذا الأمر أن هذا النقد كان يحفظ الشيخ حقا، ويؤذيه في نفسه وفيما ورث من عادة واعتقاد. ولكن الشيخ على ذلك كان يدعو ابنه إلى هذا النقد ويغريه به، ويجد في هذا الألم لذة ومتاعا.
ومهما يكن من شيء فإن شذوذ الصبي لم يلبث أن تجاوز الدار إلى مجلس الشيخ قريبا منها، وإلى دكان الشيخ محمد عبد الواحد، وإلى المسجد حيث كان الشيخ محمد أبو أحمد رئيس الفقهاء في المدينة يقرئ القرآن للصبية والشباب، ويصلي بالناس في أثناء الأسبوع ويفقههم في دينهم أحيانا، وحيث كان الشيخ عطية - رجل من التجار الذين طلبوا العلم في الأزهر أعواما، ثم عادوا إلى الريف فاشتغلوا بأمور الدنيا ولم ينصرفوا عن أمور الدين - يجلس للناس بعد صلاة العصر من حين إلى حين، فيعظهم ويفقههم، وربما قرأ لهم شيئا من الحديث.
بل وصل شذوذ الصبي إلى المحكمة الشرعية، فسمعه القاضي وسمعه خاصة ذلك الشيخ الذي كان يكتب للقاضي، ويرى أنه أعلم من القاضي بالشرع، وأفقه منه بالدين، وأحق منه بالقضاء، لولا أنه لم يظفر بهذه الورقة التي تسمى درجة العالمية والتي تشترط لتولي منصب القضاء، والتي تنال بالجد والاجتهاد قليلا وبالحظ والتملق في أكثر الأحيان.
تسامع هؤلاء الناس جميعا بمقالات هذا الصبي وإنكاره لكثير مما يعرفون، واستهزائه بكرامات الأولياء، وتحريمه التوسل بهم وبالأنبياء، وقال بعضهم لبعض: إن هذا الصبي ضال مضل، قد ذهب إلى القاهرة فسمع مقالات الشيخ محمد عبده الضارة وآراءه الفاسدة المفسدة، ثم عاد بها إلى المدينة ليضلل الناس.
وربما سعى بعضهم إلى مجلس الشيخ وأصحابه قريبا من الدار وطلبوا إلى الشيخ أن يريهم ابنه ذلك الشاذ الغريب، فيقبل الشيخ هادئا باسما حتى يدخل الدار، فيرى ابنه آخذا في اللعب أو الحديث مع أخواته، فيأخذه بيده في رفق ويقوده إلى مجلسه؛ فإذا سلم على القادمين أجلسه، ثم أخذ بعض القادمين في التحدث إليه رفيقا أول الأمر، فإذا اتصل الحديث ذهب الرفق وقام مقامه الحوار العنيف. وكثيرا ما كان محاور الصبي ينصرف غاضبا متحرجا يستغفر الله من الذنب العظيم، ويستعيذ به من الشيطان الرجيم.
وكان الشيخ وأصحابه من الذين لم يدرسوا في الأزهر ولم يتفقهوا في الدين يرضون عن هذه الخصومات ويعجبون بها، ويبتهجون لهذا الصراع الذي كانوا يشهدونه بين هذا الصبي الناشئ وهؤلاء الشيوخ الشيب.
وكان أبو الصبي أشدهم غبطة وسرورا، ومع أنه لم يصدق قط أن التوسل بالأولياء والأنبياء حرام، ولم يطمئن قط إلى عجز الأولياء عن إحداث الكرامات، ولم يساير قط ابنه فيما كان يقول من تلك المقالات، فقد كان يحب أن يرى ابنه محاورا مخاصما ظاهرا على محاوريه ومخاصميه، وكان يتعصب لابنه تعصبا شديدا.
وكان يسمع ويحفظ ما كان الناس يتحدثون به ويخترعونه أحيانا من أمر هذا الصبي الغريب، ثم يعود مع الظهر أو مع المساء فيعيد ذلك كله على زوجته راضيا حينا وساخطا حينا آخر.
وعلى كل حال فقد انتقم الصبي لنفسه، وخرج من عزلته وشغل الناس في القرية والمدينة بالحديث عنه والتفكير فيه، وتغير مكانه في الأسرة، مكانه المعنوي إن صح هذا التعبير؛ فلم يهمله أبوه، ولم تعرض عنه أمه وإخوته، ولم تقم الصلة بينهم وبينه على الرحمة والإشفاق، بل على شيء أكثر وآثر عند الصبي من الرحمة والإشفاق.
وانقطع ذلك النذير الذي سمعه الصبي في أول الإجازة بأنه قد يبقى في القرية ويقطع عن الأزهر فقيها يقرأ القرآن في المآتم والبيوت، وآية ذلك أنه أصبح ذات يوم فنهض مع الفجر ونهضت الأسرة كلها مع الفجر أيضا، ورأى الصبي نفسه بين ذراعي أمه وهي تقبله وتذرف دموعا صامتة. ثم رأى الصبي نفسه في المحطة مع صاحبه وأبوه يجلسه في القطار رفيقا به، ثم يعطيه يده ليقبلها، ثم ينصرف عنه وهو يسأل الله أن يفتح عليه.
ورأى الصبي نفسه يعبث مع صاحبه أثناء السفر، ثم رأى الصبي نفسه ينزل من القطار في محطة القاهرة، وإذا أخوه يتلقاه مبتسما له. ثم يدعو حمالا ليحمل ما كان معه من متاع قليل وزاد كثير، فإذا تجاوز باب المحطة دعا عربة من عربات النقل فحمل عليها الزاد وصاحب أخيه، ثم عربة أخرى من عربات الركوب، فأجلس فيها أخاه رفيقا به، وجلس عن يمينه وأعطى السائق عنوان «الربع».
الفصل السابع عشر
وأقبل صاحبنا على دروسه في الأزهر وغير الأزهر من المساجد، فأمعن في الفقه والنحو والمنطق، وأخذ يحسن «الفنقلة» التي كان يتنافس فيها البارعون من طلاب العلم في الأزهر على المنهج القديم، ويسخر منها المسرفون في التجديد، ولا يعرض عنها المجددون المعتدلون. وإذا هو يدرس «شرح الطائي على الكنز» مصبحا، و«الأزهرية» مع الظهر، وشرح السيد الجرجاني على إيساغوجي ممسيا.
وكان يحضر الدرس الأول في الأزهر، والدرس الثاني في مسجد محمد بك أبي الذهب، والدرس الثالث في مسجد الشيح العدوي على أستاذ من سلالة الشيخ العدوي نفسه. وربما ألم بدرس من دروس الضحى كان يقرأ فيه كتاب «قطر الندى» لابن هشام؛ تعجلا للتعمق في النحو والفراغ من كتب المبتدئين والوصول إلى «شرح ابن عقيل على الألفية»، ولكنه لم يكن يواظب على هذا الدرس؛ كان يستجهل الشيخ، ويرى في «فنقلة» الشيخ عبد المجيد الشاذلي حول «الأزهرية» و«حاشية العطار» ما يكفيه ويرضيه.
وقد بقيت في نفسه آثار لا تمحى من درس الأزهرية هذا؛ ففيه تعلم «الفنقلة» حقا، وكان أول ذلك هذا الكلام الكثير والجدال العقيم حول قول المؤلف: «وعلامة الفعل قد»؛ فقد أتقن صاحبنا ما أثير حول هذه الجملة البريئة من الاعتراضات والأجوبة، وأتعب شيخه حوارا وجدالا حتى سكت الشيخ فجأة أثناء هذا الحوار، ثم قال في صوت حلو لم ينسه صاحبنا قط، ولم يذكره قط إلا ضحك منه ورق له: «الله حكم بيني وبينك يوم القيامة.» قال ذلك في صوت يملؤه السأم والضجر، ويملؤه العطف والحنان أيضا؛ وآية ذلك أنه بعد أن أتم الدرس وأقبل الصبي ليلثم يده كما كان الطلاب يفعلون، وضع يده على كتف الصبي، وقال له في هدوء وحب: «شد حيلك الله يفتح عليك.»
وعاد الصبي مبتهجا بهذه الكلمات والدعوات، فأنبأ بها أخاه وانتظر به أخوه موعد الشاي. فلما اجتمع القوم إلى شايهم قال للصبي مداعبا: قرر لنا «وعلامة الفعل قد.» فامتنع الصبي حياء أول الأمر، ولكن الجماعة ألحت عليه، فأقبل يقرر ما سمع وما وعى وما قال، والجماعة صامتة تسمع له، حتى إذا فرغ نهض إليه ذلك الكهل الذي كان ينتظر الدرجة فقبل جبهته وهو يقول: «حصنتك بالحي القيوم الذي لا ينام.»
وأما الجماعة فأغرقت في الضحك، وأما الصبي فأغرق في الرضا عن نفسه، وبدأ منذ ذلك الوقت يعتقد أنه أصبح طالبا بارعا نجيبا.
وقوى هذا الرأي في نفسه أن زملاءه في درس النحو التفتوا إليه وجعلوا يستوقفونه بعد الدرس، أو يدنون منه قبل الدرس، فيسألونه ويتحدثون إليه، ثم يعرضون عليه أن يعدوا معه الدرس قبل الظهر. وقد أغراه هذا العرض فترك درس «القطر»، وجعل يطالع مع زملائه هؤلاء يقرءون له ويأخذون في التفسير، وجعل هو يسبقهم إلى هذا التفسير ويستبد به من دونهم، فلا يقاومونه وإنما يسمعون منه ويصغون إليه. وجعل ذلك يزيده غرورا إلى غرور، ويخيل إليه أنه قد بدأ يصبح أستاذا.
واطردت حياته في ذلك العام متشابهة لا جديد فيها إلا ما كان يفيده الصبي من العلم كلما أمعن في الدرس، وما كان يشعر به من الغرور إذا كان بين زملائه، وما كان يرد إليه من التواضع إذا كان بين أولئك الطلاب الكبار في الربع، وإلا ما كان يفيده من العلم بشئون الأساتذة والطلاب في الأزهر لما كان يسمع من حديث زملائه وأصدقاء أخيه عن أولئك وهؤلاء.
فلم يكن شيء من هذه الأحاديث ليحسن ظنه بأولئك أو هؤلاء، وإنما كان ظنه يزداد بهم سوءا كلما مر عليه الوقت، فقد كان يسمع بين وحين ثناء بالذكاء والبراعة على هذا الشيخ أو ذاك من صغار العلماء وكبارهم، ولكنه كان يسمع دائما عيبا لأولئك وهؤلاء بألوان من النقائص التي تتصل بالخلق أو تتصل بالسيرة أو تتصل بصناعة العلم نفسها، والتي كانت تثير في نفسه كثيرا من الغضب والازدراء وخيبة الأمل.
ولم يكن يسلم من هذه العيوب أحد، فأما هذا الشيخ فقد كان شديد الحقد على زملائه وأقرانه، شديد المكر بهم والكيد لهم، يلقاهم مبتسما فلا يكاد يفارقهم حتى يقول فيهم أشنع القول ويسعى بهم أقبح السعي. وأما هذا الشيخ الآخر فقد كان رقيق الدين، يظهر التقوى إذا كان في الأزهر أو بين أقرانه، فإذا خلا إلى نفسه وإلى شياطينه أغرق في إثم عظيم.
وكان هؤلاء العائبون ربما سموا أولئك الشياطين الذين كان الشيخ يخلو إليهم ويشاركهم في الإثم. وكان كبار الطلاب يتندرون على هذا الشيخ أو ذاك؛ لأنه كان يعنى عناية خاصة بهذا الفتى أو ذاك، ويلقي نظرات خاصة على هذا الفتى أو ذاك، ولا يستقر على كرسيه إذا حضر من طلابه هذا الفتى أو ذاك.
وكانت الغيبة والنميمة أشيع وأشنع ما كان يذكر من عيب الشيوخ، فكان الطلاب يذكرون سعي ذلك الشيخ بصديقه الحميم عند شيخ الأزهر أو عند الشيخ المفتي، وكانوا يذكرون أن شيخ الأزهر كان أذنا للنمامين، وأن الشيخ المفتي كان يترفع عن الاستماع لهم ويلقاهم بالزجر القاسي العنيف.
وقد تحدث الطلاب الكبار ذات يوم بقصة عن جماعة من كبار الشيوخ سموهم يومئذ، فزعموا أن هؤلاء الشيوخ لاحظوا أنهم قد أسرفوا على أنفسهم في الغيبة، فأستعظموا ذلك وذكروا قول الله عز وجل:
ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ، فتناهوا عن هذه الخطيئة الكبيرة، وتعاهدوا على أن من أخذ منهم في الغيبة فعليه أن يؤدي إلى أصحابه عشرين قرشا.
وقد كفوا عن الغيبة يوما أو بعض يوم ضنا بهذا المبلغ من النقد. وإنهم لفي بعض حديثهم، وإذا شيخ يمر بهم فيلقي عليهم تحية، ويمضي في طريقه، ولكنه لا يكاد يمضي حتى يخرج أحدهم قطعة من الفضة فيدفعها إلى أصحابه ويأخذ في اغتياب هذا الشيخ.
فأما تحدث الطلاب كبارا وصغارا بجهل شيوخهم وتورطهم في ألوان الخطأ المضحك الذي كان بعضه يتصل بالفهم وبعضه يتصل بالقراءة، فقد كان أكثر من أن يحصى وأعظم من أن يقدر، ومن أجل هذا كان صاحبنا سيئ الرأي في العلماء والطلاب جميعا، وكان يرى أن الخير كل الخير في أن يجد ويجتهد ويحصل ما استطاع من العلم معرضا عن مصادره التي كان يستقيه منها.
وازداد رأيه سوءا حين استقبل السنة الثالثة من حياته في الأزهر، فالتمس لنفسه أستاذا يقرأ في الفقه شرح ملا مسكين على الكنز، فدل على أستاذ معروف بعيد الذكر ظاهر المكانة في القضاء، فذهب إليه وجلس في حلقته، ولكنه لم يكد ينفق دقائق حتى أحس حرجا عظيما، رأى نفسه مضطرا إلى أن يبذل جهدا شديدا لمقاومة الضحك؛ وذلك أن الشيخ رحمه الله قد كانت له لازمة غريبة، كما كان يقول الأزهريون، فلم يكن يقرأ جملة في الكتاب أو يفسرها من عند نفسه إلا قال هذه الجملة مرتين: «قال قال، ثم قال إيه.»
يعيد ذلك مرات في الدقائق القليلة، وصاحبنا يسمع له ويعنف على نفسه حتى لا يضحك فيأتي منكرا من الأمر.
وقد استطاع صاحبنا أن يضبط نفسه، ولكنه لم يستطع أن يختلف إلى درس الأستاذ أكثر من ثلاثة أيام؛ لأنه لم يجد عنده غناء، وإنما وجد عنده عناء، لم يفد منه شيئا، وإنما كان يكظم ضحكه كظما عنيفا، ويكلف نفسه من ذلك ما لم تكن تطيق. والتمس غيره من الأساتذة الذين كانوا يقرءون هذا الكتاب، فلم يجد عندهم إلا هذه اللوازم التي كانت تختلف باختلافهم، ولكنها كانت تدفع الغلام إلى الضحك وتضطره إلى أن يبذل في ضبط نفسه من الجهد ما كان يشغله أحيانا عن الاستماع، وقيل له في أثناء ذلك: إن هذا الكتاب من كتب الفقه ليس بذي خطر، وإن أستاذا ممتازا - سموه له - يقرأ كتاب «الدرر»، والخير في أن تحضر درسه، فهو من أذكى العلماء وأبرع القضاة.
واستشار صاحبنا أخاه وأصحاب أخيه فلم يردوه عن ذلك، بل شجعوه عليه وأوصوا به الشيخ، وقد رضي الغلام عن أستاذه الجديد في دروسه الأولى، فلم يكن يلتزم جملة بعينها أو لفظا بعينه أو صوتا بعينه، ولم يكن يتردد في القراءة ولا في التفسير، وكان ذكاؤه واضحا، وإتقانه للفقه بينا، وحسن تصرفه فيه لا يتعرض للشك.
وكان الأستاذ رشيقا أنيقا حلو الصوت، ممتازا في حركته وفي لقائه للطلاب وحديثه إليهم، وكان معروفا بالتجديد، لا في العلم ولا في الرأي، ولكن في السيرة. وكان كبار الطلاب يتحدثون بأنه يلقي درسه إذا أصبح ثم يمضي إلى محكمته فيقضي فيها، ثم يروح إلى بيته فيطعم وينام، فإذا كان الليل خرج مع لذاته فذهب إلى حيث لا ينبغي أن يذهب العلماء، وسمع من الغناء ما لا ينبغي أن يسمع العلماء، وأقبل من اللذات على ما لا ينبغي أن يقبل عليه رجال الدين. وكانوا يذكرون «ألف ليلة وليلة» فيعجب الغلام؛ لأنه كان يعرف أن «ألف ليلة وليلة» اسم كتاب طالما قرأ فيه ووجد في قراءته لذة ومتاعا، ولكنهم كانوا يذكرون هذا الاسم على أنه مكان يسمع فيه الغناء، ويكون فيه اللهو، وتطلب فيه بعض اللذات.
وكان الغلام يسمع عن شيخه هذه الأحاديث فلا يصدقها ولا يطمئن إليها، ولكنه لم ينفق مع الشيخ أسابيع حتى أحس منه تقصيرا في إعداد الدرس، وقصورا عن تفسير النص، وضيقا بأسئلة الطلاب. بل أحس منه أكثر من ذلك، فقد سأله ذات يوم عن تفسير بعض ما كان يقول فلم يجبه إلا بالشتم، وكان الشيخ أبعد الناس عن الشتم وأشدهم عنه ترفعا.
فلما قص الغلام على أخيه وأصحابه من أمر الشيخ ما رأى، أنكروا ذلك وأسفوا له، وهمس بعضهم لبعض بأن العلم والسهر في «ألف ليلة وليلة» لا يجتمعان.
وكان حظ الغلام في النحو خيرا من حظه في الفقه؛ فقد سمع «القطر» و«الشذور» على الشيخ عبد الله دراز رحمه الله، فوجد من ظرف الأستاذ وصوته العذب وبراعته في النحو ومهارته في رياضة الطلاب على مشكلاته ما زاده في النحو حبا.
ولكن حظه في النحو لم يلبث أن ساء حين استؤنفت الدراسة في العام الجديد، فقد أخذ الغلام يسمع على الشيخ عبد الله دراز «شرح ابن عقيل». وبينما الأستاذ وطلابه ماضون في درسهم، راضون عن عملهم، صدر الأمر إلى الأستاذ بالانتقال إلى معهد الإسكندرية، فمانع في ذلك ما استطاع، ومانع طلابه ما استطاعوا، ولكن المشيخة لم تسمع له ولا لهم، فلم يجد بدا من إنفاذ الأمر. ولم ينس الغلام ذلك اليوم الذي ودع الأستاذ فيه طلابه، وإنه ليبكي مخلصا، وإنهم ليبكون مخلصين ويشيعونه باكين إلى باب المسجد.
ثم أقيم مقام الشيخ، شيخ آخر ضرير، وكان مشهورا بالذكاء الحاد والتفوق الظاهر والنبوغ الممتاز، وكان لا يذكر إلا أثنى عليه ذاكروه والسامعون لذكره بهذه الخصال.
أقبل هذا الشيخ، فأخذ الدرس من حيث تركه الشيخ عبد الله دراز. وكانت حلقة الشيخ عبد الله دراز عظيمة تملأ رقعتها القبة من مسجد محمد بك أبي الذهب، فلما خلفه هذا الشيخ ازدادت هذه الحلقة ضخامة واتساعا حتى اكتظ بها المكان، وألقى الشيخ درسه الأول فرضي عنه الطلاب، ولكنهم لم يجدوا عنده وداعة أستاذهم القديم ولا عذوبة صوته، ثم ألقى درسه الثاني والثالث، وإذا الطلاب ينكرون منه رضاه عن نفسه وإعجابه بها، وثقته بما كان يقول، وغضبه الحاد على مقاطعيه.
ولم يكد يتقدم في درسه الرابع حتى كانت بينه وبين صاحبنا قصة صرفت الغلام عن النحو صرفا. كان الشيخ يفسر قول تأبط شرا:
فأبت إلى فهم وما كدت آئبا
وكم مثلها فارقتها وهي تصفر
فلما وصل إلى قوله «تصفر» قال: إن العرب كانت إذا اشتدت على أحدهم أزمة أو محنة وضعوا أصابعهم في أفواههم ونفخوا فيها، فكان لها صفير يسمع.
قال الغلام للشيخ: وإذن فما مرجع الضمير في قوله : «وهي تصفر»، وفي قوله: «وكم مثلها فارقتها؟» قال الشيخ: مرجعه «فهم» أيها الغبي! قال الغلام: فإنه قد عاد إلى فهم والبيت لا يستقيم على هذا التفسير. قال الشيخ: فإنك وقح وقد كان يكفي أن تكون غبيا. قال الغلام: ولكن هذا لا يدل على مرجع الضمير. فسكت الشيخ لحظة ثم قال: «انصرفوا، فلن أستطيع أن أقرأ وفيكم هذا الوقح.»
ونهض الشيخ، وقام الغلام، وقد كاد الطلاب يبطشون به لولا أن حماه زملاؤه وكانوا من أهل الصعيد، حموه بأن أحاطوا به وأشهروا نعالهم فتفرق الناس، وأي الأزهريين لم يكن يفرق في ذلك الوقت من نعال أهل الصعيد!
ولم يعد الغلام إلى درس النحو، بل لم يحضر الغلام بعد ذلك درسا في النحو، بل ذهب من غده إلى درس كان يلقيه أستاذ معروف من أهل الشرقية، وكان يقرأ «شرح الأشموني»، ولكنه لم يتم الاستماع للدرس، مضى الشيخ يقرأ ويفسر، وسأله الغلام في بعض الشيء، فرد عليه الشيخ بما لم يقنعه، فأعاد السؤال، فغضب الشيخ وأمره بالانصراف. فتوسط بعض أصدقائه عند الشيخ يستعطفونه، فازداد غضب الشيخ وأبى أن يمضي في الدرس حتى يقوم هذا الغلام ومعه أصدقاؤه، ولم يكن لهم بد من أن ينصرفوا؛ فقد أشهرت عليهم نعال الشرقية، ولم تكن نعال الشرقية بأقل خطرا من نعال الصعيد.
وذهب الغلام من غده مع أصحابه إلى حلقة أخرى كان يقرأ فيها «شرح الأشموني»، يقرؤه أستاذ مشهور من أساتذة الشرقية أيضا. فوقف الغلام على الحلقة لحظة لا تتجاوز الدقائق الخمس، ولكنه سمع فيها هذه اللازمة الغريبة يعيدها الشيخ كلما انتقل من جملة إلى جملة: «اخص على بلدي.» فضحك الغلام وضحك أصدقاؤه وانصرفوا، وأزمع الغلام وصديق له أن يدرسا النحو مستقلين، وأن يدرساه في مصادره الأولى، فقرأا كتاب «المفصل» للزمخشري، ثم «كتاب سيبويه»، ولكن هذه قصة أخرى.
ولم يكن حظه في المنطق خيرا من حظه في الفقه والنحو. لقد أحب المنطق حبا شديدا حين كان يسمع شرح السيد على إيساغوجي من أستاذه ذاك الشاب في العام الماضي . فأما في هذا العام فقد جلس لأمثاله من أوساط الطلاب علم من أعلام الأزهر الشريف، وإمام من أئمة المنطق والفلسفة فيه. وكان معروفا بين كبار الطلاب بهذا الذكاء الظاهر الذي يخدع ولا يغني شيئا. وكان معروفا بهذه الفصاحة التي تبهر الأذن ولا تبلغ العقل. وكان يؤثر عنه أنه كان يقول: «مما من الله علي به أني أستطيع أن أتكلم ساعتين فلا يفهم أحد عني شيئا ولا أفهم أنا عن نفسي شيئا.» كان يرى ذلك مزية وفخرا. ولكن لم يكن بد للطالب الذي يقدر نفسه من أن يجلس إليه ويسمع منه. وقد جلس للطلاب بعد صلاة المغرب يقرأ لهم «شرح الخبيصي على تهذيب المنطق»، وذهب إليه صاحبنا وسمع منه درسا ودرسا، وكانت حلقته عظيمة حقا تكتظ بها القبة في جامع محمد بك. وكان الغلام يسبق صلاة المغرب فيجلس في أقرب مكان من كرسي الأستاذ، وكان الأستاذ جهوري الصوت قد احتفظ بلهجة الصعيد كاملة. وكان شديد النشاط كثير الحركة. وكان إذا سأله طالب رد عليه ساخرا منه، فإن ألح الطالب في السؤال ثار هو به وجعل يقول له في حدة: «اسكت يا خاسر، اسكت يا خنزير!» وكان يفخم الخاء في الكلمتين إلى أقصى ما يستطيع فيه أن يبلغ من التفخيم.
وقد استقام للشيخ وللطلاب أمرهم حتى أتمموا قسم التصورات، فلما بلغوا في كتابهم المقصد الثاني في التصديقات لقي الغلام من نفسه ومن شيخه بلاء عظيما، فاضطر إلى أن يختار له من الغد مكانا بعيدا عن الشيخ، وما زال يتأخر يوما بعد يوم في مجلسه حتى بلغ باب القبة، فخرج منه ذات ليلة، ولم يدخله بعد ذلك.
لقي الغلام بلاء من نفسه لم يذكره قط إلا ضحك منه ضحكا شديدا، وأضحك منه أخاه وأصدقاءه جميعا؛ فقد جلس الشيخ على كرسيه وأخذ في القراءة، فقال: «المقصد الثاني في التصديقات.» يقلقل القاف ويفخم الصاد، ويمد الألفات والياءات مدا متوسطا. ثم يعيد هذه الكلمات نفسها فيقلقل القاف ويفخم الصاد ويطيل مد الألفات والياءات. ثم يعيد الكلمات نفسها فيقلقل القاف ويفخم الصاد ويمد الألف والياء في «الثاني»، ولكنه لا يقول «في التصديقات»، وإنما يقول: «في مين؟» فلا يرد عليه أحد، فيرد على نفسه ويقول: «في التصديقات»، ثم يعيد الكلمة نفسها على هذا النحو نفسه، فإذا انتهى إلى قوله: «في مين؟» ولم يرد عليه أحد، ضرب بظهر يده في جبهة الغلام وهو يقول: «ردوا يا غنم، ردوا يا بهائم، ردوا يا خنازير!» يفخم الغين والخاء إلى أقصى ما يستطيع فمه أن يبلغ من التفخيم، فيقول الطلاب جميعا: «في التصديقات».
لقي الغلام من نفسه عناء شديدا؛ فقد كان هذا كله خليقا أن يضحكه، وكان يخاف أن يضحك بين يدي الأستاذ. ولقي من شيخه بلاء عظيما بهذه الضربات التي كانت تتوالى على جبهته بين حين وحين. ومهما يكن من شيء فقد تحول الغلام عن هذا الدرس ولم يتجاوز بالمنطق عند هذا الشيخ باب القضايا.
تحول عن هذا الدرس في أثناء العام، وقرر أن يحضر مكانه درسا في التوحيد كان يلقيه شيخ جديد حديث الظفر بدرجة العالمية. وكان أصدقاؤه من كبار الطلاب يذكرونه بالظرف الشديد والذكاء المتوسط وحلاوة الصوت وحسن الإلقاء، ويقولون: إن علمه يخدع من حدثه أو سمع عنه، فإذا تعمقه لم يجد عنده شيئا، وكان يقرأ «شرح الخريدة» و«متنها» للدردير، فسمع الغلام منه درسا وأعجب بصوته وإلقائه وظرفه، وجعل ينتظر أن يعجب بعلمه وفنقلته، ولكن الشيخ صرف عن الدرس؛ لأنه نقل من القاهرة وأرسل إلى مكان بعيد تولى فيه منصب القضاء، فلم يتح للغلام أن يعلم علمه، ولا أن يقضي في أمره بشيء إلا أنه كان لبقا ظريفا حلو الصوت عذب الحديث.
وإذن فقد ضاعت السنة في حقيقة الأمر على الغلام، ولم يحصل فيها أو لم يكد يحصل فيها من العلم شيئا جديدا، إلا ما كان يقرؤه في الكتب ويسمعه من أولئك الطلاب الكبار وهم يطالعون أو يتناظرون.
فلما عاد إلى الأزهر من قابل، عاد إليه ضيق النفس به، شديد الزهد فيه، حائرا في أمره لا يدري ماذا يصنع، لا يستطيع أن يقيم في الريف، وماذا يفعل في الريف؟! ولا يجد نفعا من إقامته في القاهرة واختلافه إلى الشيوخ. وفي هذا العام اتصل بدرس الأدب، ولكن لحديث هذا الدرس ساعة:
من الدهر ما حانت ولا حان حينها
كما تقول بثينة في سلوها عن جميل.
الفصل الثامن عشر
وفي الحق أن إقبال الفتى على درس الأدب لم يصرفه عن علومه الأزهرية أول الأمر؛ فقد كان يظن أنه يستطيع الملاءمة في نفسه بين هذين اللونين من ألوان المعرفة. وهو لم يرسل إلى القاهرة ولم ينسب إلى الأزهر ليكون أديبا ينظم الشعر أو ينشئ النثر، وإنما أرسل إلى القاهرة وانتسب إلى الأزهر ليسلك طريقه الأزهرية الخالصة، حتى يبلغ الامتحان ويظفر بالدرجة، ويسند ظهره إلى عمود من الأعمدة القائمة في ذلك المسجد العتيق، ويتحلق الطلاب من حوله فيسمعوا منه درسا في الفقه أو في النحو أو فيهما جميعا.
كذلك كان يتمنى أبوه، وبذلك كان يتحدث إلى الأسرة في شيء من الأمل والإعجاب بابنه هذا الشاذ الغريب. وكذلك كان يريد أخوه، وكذلك كان يريد هو. وماذا كان يمكن أن يريد غير ذلك وقد فرضت الحياة على أمثاله من المكفوفين الذين يريدون أن يحيوا حياة محتملة إحدى اثنتين: فإما الدرس في الأزهر حتى تنال الدرجة وتضمن الحياة بهذه الأرغفة التي تؤخذ في كل يوم، وبهذه القروش التي تؤخذ آخر الشهر لا تزيد عن خمسة وسبعين قرشا إن كانت الدرجة الثالثة، ولا عن مائة قرش إن كانت الدرجة الثانية، ولا عن خمسين ومائة قرش إن كانت الدرجة الأولى، وإما أن يتجر بالقرآن فيقرأه في المآتم والبيوت كما أنذره بذلك أبوه في وقت من الأوقات.
فلم يكن للفتى بد إذن من أن يمضي في طريقه الأزهرية حتى يبلغ غايتها. وكانت هذه الطريق تتشعب إلى شعبتين إذا قضى الطالب ثلاثة أعوام أو أربعة في الأزهر؛ إحداهما علمية: وهي الاختلاف إلى الدروس والتنقل في مراحل العلم، وكان الفتى ماضيا فيها، أقبل عليها مشغوفا بها، ثم فترت همته، ثم ازدراها وانصرفت عنها نفسه حين استيأس من الأساتذة وساء ظنه بالشيوخ.
والثانية مادية: وكانت تتألف من مراحل ثلاث: مرحلة المنتسب، ومرحلة المنتظر، ومرحلة المستحق. أما مرحلة المنتسب: فهي المرحلة التي يبدأ الطالب بها حياته الأزهرية بعد أن يتم تقييده في سجلات الأزهر. ولم يكن له بد من أن ينتسب إلى أحد الأروقة، وقد انتسب صاحبنا كما انتسب أخوه إلى رواق الفشنية. وأما مرحلة المنتظر: فقد كانت المرحلة الثانية، ينتقل إليها الطالب بعد أن يقيم أعواما في الأزهر، وسبيله إلى ذلك ورقة يكتبها ويرفعها إلى شيخ الرواق يعين فيها ما أنفق في الأزهر من عام وما حضر فيه من درس، ويشهد على صدقه فيما سجل فيها شيخان من شيوخه. ويطلب إلى شيخ الرواق أن يقيد اسمه بين أسماء المنتظرين. حتى إذا خلا مكان بين المستحقين للجراية ارتقى إليه فبلغ المرحلة الثالثة ونال جرايته رغيفين أو ثلاثة أو أربعة، على اختلاف بين الأروقة في ذلك.
فلم يكن بد لصاحبنا من أن يرقى إلى مرحلة المنتظرين، وقد كتب الورقة وختمها بالجملة التي كانت شائعة إذ ذاك: «جعلكم الله ملجأ للقاصدين.»
وشهد شيخان أنه لم يقل في هذه الورقة إلا حقا. وذهب إلى الشيخ في داره فرفع إليه الورقة بعد أن قبل يده وانصرف. فانتظر وطال الانتظار، ولم يظفر بالجراية قط في هذا الرواق، ولكن ارتقاءه إلى مرحلة المنتظرين أرضى أباه وملأ فمه فخرا على كل حال.
وبينما كان ينتظر في طائل أو في غير طائل خرج الأستاذ الإمام من الأزهر في تلك القصة المعروفة، وبعد تلك الخطبة المشهورة التي ألقاها الخديوي على بعض العلماء.
وكان الفتى يظن أن تلاميذ الشيخ - وكانوا كثيرين يكتظ بهم الرواق العباسي في كل مساء - سيحدثون حدثا، وسينبئون الخديوي بأن شباب الأزهر قد تغيروا، وبأنهم سيذودون عن شيخهم، وسيبذلون في سبيل ذلك لا أوقاتهم وحدها بل أرواحهم أيضا.
ولكن الشيخ ترك الأزهر واتخذ دارا للإفتاء؛ فلم يزد تلاميذه على أن حزنوا وتحدثوا بالأسف فيما بينهم وبين أنفسهم، وزار قليل منهم الشيخ في داره بعين شمس، وانصرف عنه أكثرهم، وانتهى الأمر عند هذا الحد. فامتلأت نفس الفتى حزنا وغيظا، وساء ظنه بالطلاب كما ساء ظنه بالشيوخ، ولم يكن مع ذلك قد عرف الأستاذ الإمام أو قدم إليه.
وبعد ذلك بقليل توفي الأستاذ الإمام، فاضطربت مصر لوفاته، وكانت البيئة الأزهرية أقل البيئات المصرية اضطرابا لهذا الحادث الجلل. وأسف تلاميذ الشيخ، ولعل قليلا منهم سفحوا بعض الدموع، ولكنهم أقبلوا بعد الصيف على دروسهم، كأن الشيخ لم يمت، أو كأن الشيخ لم يكن، لولا أن الخاصة من تلاميذه كانوا يذكرونه بالخير بين حين وحين.
وكذلك عرف الفتى في ألم لاذع ولأول مرة في حياته الناشئة أن ما يقدم إلى عظماء الرجال من ألوان الإكبار والإجلال وضروب التملق والزلفى لغو لا طائل تحته ولا غناء فيه، وأن وفاء الناس ينحل في أكثر الأحيان إلى كلام لا يفيد.
وزاد سوء الظن بالناس في نفس الفتى قوة ما لاحظه في بعض البيئات من انتهاز وفاة الشيخ فرصة للاتجار باسمه، واستغلال الصلة به، يتوسلون إلى ذلك بالشعر حينا وبالنثر حينا آخر، وبالإعلان في الصحف والمجلات دائما.
ولكن الفتى أحس شيئا آخر زاد به انحرافا عن الأزهر وانصرافا عن شيوخه وطلابه، أحس أن الذين بكوا الشيخ صادقين وحزنوا عليه مخلصين لم يكونوا من أصحاب العمائم، وإنما كانوا من أصحاب الطرابيش، فوجد في نفسه ميلا خفيا إلى أن يقرب من أصحاب الطرابيش هؤلاء، وإلى أن يتصل ببيئاتهم بعض الاتصال. ومن له بذلك وهو فتى ضرير قد فرضت عليه الحياة الأزهرية فرضا فلم يجد عنها منصرفا!
وكان الأستاذ الإمام شيخا لرواق الحنفية، فلما خرج من الأزهر أو لما خرج من الحياة أصبح خلفه على الإفتاء خلفا له على الرواق أيضا.
كان ابن المفتي الجديد أستاذا لصاحبنا الفتى، سمع عليه في صباه شرح السيد الجرجاني على إيساغوجي في المنطق، وكان يقوم عن أبيه بأمر الرواق، فأغرى الفتى بالانتساب إلى رواق الحنفية والانتظار فيه، وكانت الجراية في رواق الحنفية أيسر منالا وأكثر عدد أرغفة منها في غيره من الأروقة، ولم يكن الانتساب إلى رواق الحنفية أيام الأستاذ الإمام سهلا ولا يسيرا وإنما كان الامتحان سبيلا إليه. وقد احتفظ المفتي الجديد بهذه السنة، وكان ابنه هو الذي يمتحن المتقدمين للانتساب في موعد بعينه في العام، فقيل لصاحبنا الفتى: ما لك لا تنتسب إلى هذا الرواق وقد انتسب إليه أخوك من قبل وأصحابه النجباء أيام الأستاذ الإمام، وهم يأخذون منه جراياتهم أربعة أرغفة لكل واحد منهم في كل يوم؟ وزين ذلك له وحثه عليه أخوه وأصحابه. وأرسل إلى الامتحان ذات مساء ومعه كتاب إلى الممتحن. فلما أدخل الفتى على الممتحن حياه وأخذ منه الكتاب فنظر فيه ثم ألقى عليه سؤالا ورد الفتى جواب السؤال خطأ أو صوابا لم يدر، ولكن الممتحن قال له: «انصرف يا علامة!» فانصرف راضيا، ولم يمض إلا وقت قليل حتى أصبح الفتى مستحقا ونال رغيفين في كل يوم، فكثر الخبز في الغرفة، وفرحت الأسرة في الريف.
على أن الفتى لم ينل رغيفين فحسب، وإنما نال معهما خزانة في الرواق كانت آثر عنده من الرغيفين، فقد كان يستطيع إذا دخل الأزهر في الصبح أن يذهب إلى خزانته فيضع فيها نعليه ورغيفيه أو أحدهما، ويقضي نهاره حرا لا يعنى بهاتين النعلين اللتين كان يبذل جهدا غير قليل لحمايتهما من عدوان الخاطفين والسارقين، وما أكثر ما كانت تسرق النعال في الأزهر! وما أكثر ما كانت تلصق على جدران الأزهر من حول الصحن أوراق يعلن فيها أصحابها أن نعالهم قد ضاعت، وأن من ظفر بها فردها إلى صاحبها في مكان كذا، أو رواق كذا، فله الأجر والثواب، ومن احتفظ بها متعديا قطعه الله من هذا المكان!
كان الفتى إذن سعيدا بخزانته ورغيفيه، ولكنه لم يكن سعيدا بما كان يحصل من العلم أو يسمع من الدرس، وقد كان يكره نفسه إكراها على أن يسمع بعد الفجر درسا في التوحيد كان يلقيه الشيخ راضي رحمه الله، وكان يقرأ كتاب «المقاصد»، ويسمع في الصبح درس الفقه على الشيخ بخيت وكان يقرأ كتاب «الهداية»، ويسمع في الظهر درس البلاغة على الشيخ عبد الحكم عطا وكان يقرأ «شرح السعد».
وكان درس الفقه يسلي الفتى ويلهيه بما كان يسمع فيه من غناء الشيخ إذا خلى الطلاب بينه وبين الغناء، وحدة الشيخ ونكته الأزهرية إذا قطع الطلاب عليه غناءه فجادلوه في بعض ما كان يقرأ أو كان يقول. وربما كان الشيخ ينشد طلابه أحيانا من شعره إذا صفا وطابت نفسه للإنشاد. وقد حفظ عنه الفتى بيتا من الشعر لم ينس قط صوت الشيخ وهو يتغنى به مترنحا:
كأن عمته من فوق هامته
شنف من التبن محمول على جمل
وقد روى الفتى هذا البيت لأخيه وأصحابه فتضاحكوا وتذاكروا شعر الشيخ وتناشدوا بعضه. وروى الفتى إلى البيت السابق بيتا آخر ليس أقل منه طرافة وظرفا، وهو مطلع قصيدة قالها الشيخ رحمه الله في رثاء بعض العلماء، وهو:
خطب جليل بعد موتك يا نبي
فقد الأئمة كالإمام المغربي
وقد روى المصريون جميعا عن الشيخ بعد ذلك العهد بأعوام طوال بيتا آخر لم ينسه ظرفائهم بعد، وقد سار فيهم كما تسير الأمثال، وهو:
إنا مع الأمرا والوفد والوزرا
على وفاق له في القلب تأييد
وكان الفتى ربما جادل الشيخ فأطال الجدال. وقد أسرف الجدال مرة في الطول حتى تأخر الدرس عن إبانه، وتصايح الطلاب من جوانب المسجد الحسيني بالشيخ أن حسبك فقد نفد الفول. فأجابهم الشيخ في غنائه الظريف: لا والله لا نقوم حتى يقتنع هذا المجنون. ولم يكن بد للمجنون من أن يقتنع؛ فقد كان هو أيضا حريصا على أن يدرك الفول قبل أن ينفد.
وكان درس البلاغة أثيرا عند الفتى، لا لما كان يحصل فيه من علم؛ فقد مضى منذ وقت طويل إقبال الفتى على الدروس في الأزهر لتحصيل العلم، وإنما كان يقبل عليه أداء للواجب وقطعا للوقت والتماسا للفكاهة. وكان درس البلاغة أثيرا عنده؛ لأنه كان يجد فيه هذه الفكاهة، ولأن الشيخ - نضر الله وجهه - كان سمح النفس رضي الخلق مخلصا في درسه للعلم وللطلاب، ولأنه بعد ذلك كان يكلف نفسه في الفهم والإفهام جهدا عظيما وعناء ثقيلا، وكان إذا بلغ منه الجهد رفه على نفسه بهذه الجملة يوجهها إلى طلابه بين حين وحين، في لهجة منياوية عذبة مضحكة: «فاهمين يا سيادي؟»
وكان إذا انتصف الدرس أشفق على نفسه وعلى الطلاب فقطع القراءة والتفسير وأقام دقائق صامتا لا ينطق، وأقبل على نشوقه فالتهم منه بأنفه ما استطاع في تؤدة وروية وأناة. وكان الطلاب ينتهزون هذه الفرصة ليطفئوا ما كان يتأجج في بطونهم من نار الفول والطعمية والكراث بقدح من أقداح الشراب الذي كان يطوف به الباعة عليهم في أثناء الدروس، ويدعونهم دعاء لطيفا بهذا النقر الخفيف الذي كان يمس به الزجاج فيبعث إلى الآذان صوتا خفيفا ظريفا.
وفي ذات يوم كان الفتى يستريح مع بعض أصحابه أثناء هذه السكتة، وكان الشيخ مقبلا على نشوقه والطلاب على شرابهم، وإذا أحد المشدين يأتي فيدعو الفتى وصاحبيه في رفق إلى غرفة شيخ الجامع.
ولكن هذه قصة لم يأت وقتها بعد، وإن كان الناس قد عرفوها منذ وقت بعيد، وقد قام الفتى وصاحباه عن الدرس ثم لم يعودوا إليه بعد ذلك.
وفي هذا الوقت أو قريبا من هذا الوقت، وقعت قصة دخل فيها الفتى ومضى فيها إلى غايتها، ولكنها قضت في نفسه على كل أمل في أن يظفر بنجاح في الأزهر قليل أو كثير.
غضب القصر على شيخ كبير من شيوخ الأزهر، فمنع الشيخ من إلقاء دروسه، ورأى الناس أن في هذا المنع ظلما للشيخ وعدوانا على حقوق الأزهر، ولكنهم لم يصنعوا شيئا، وكان الأزهريون أشدهم فتورا وخضوعا. ولكن صديقا من أصدقاء الفتى - كانت له فيما أقبل من الأيام مواقف مشهورة يحمدها له الناس - أقبل عليه ذات يوم فقال له: ألست ترى فيما حل بشيخنا ظلما وعدوانا؟ قال الفتى: بلى، وأي ظلم وأي عدوان! قال له الصديق: ألا تشارك في الاحتجاج على هذا الظلم؟ قال الفتى: وكيف السبيل إلى ذلك؟ قال الصديق: نجمع نفرا من أصدقائنا الذين كانوا يسمعون دروس الشيخ ونسعى إليه نتمنى عليه أن يمضي في إلقاء دروسه علينا في بيته، فإذا قبل انتفعنا بالدرس وأعلنا ذلك في الصحف، فعرف الظالمون للأزهر أن بين الأزهريين من لا يقرون الظلم ولا يذعنون له، فقال الفتى: هذا حسن.
واجتمع نفر من طلاب الشيخ فسعوا إليه بما أرادوا، وأجابهم إلى ما طلبوا، فأعلنوا ذلك في الصحف، وأعلنوا أن الشيخ سيقرأ لهم «سلم العيون» في المنطق، و«مسلم الثبوت» في الاصول، يقسم الأسبوع بين هذين الكتابين.
وبدأ الشيخ دروسه في بيته، وكثر الطلاب المقبلون على هذه الدروس حين علموا بها، ورضي هؤلاء الشباب عن أنفسهم وعن شجاعتهم، وعاد إلى الفتى شيء غير قليل من الأمل.
ولكنه في ذات يوم جادل الشيخ في بعض ما كان يقول، فلما طال الجدال غضب الشيخ وقال للفتى في حدة ساخرة: «اسكت يا أعمى ما أنت وذاك!» فغضب الفتى وأجاب الشيخ في حدة: «إن طول اللسان لم يثبت قط حقا ولم يمح باطلا.» فوجم الشيخ ووجم الطلاب لحظة، ثم قال الشيخ لطلابه: «انصرفوا اليوم فهذا يكفي.»
ولم يعد الفتى منذ ذلك اليوم إلى دروس الشيخ، بل جهل كل ما كان من أمرها.
وكذلك عاد الفتى إلى يأسه من الأزهر، ولم يبق له أمل إلا في درس الأدب الذي آن وقت للتحدث عنه وعن آثاره البعيدة في حياة هذا الشاب.
الفصل التاسع عشر
لم يكد الصبي يبلغ القاهرة ويستقر فيها حتى سمع ذكر الأدب والأدباء، كما سمع ذكر العلم والعلماء، سمع حديث الأدب بين هؤلاء الطلاب الكبار حين كانوا يذكرون الشيخ الشنقيطي رحمه الله وحماية الأستاذ الإمام له وبره به. وقد وقع هذا الاسم الأجنبي من نفس الصبي موقعا غريبا، وزاد موقعه غرابة ما كان الصبي يسمعه من أعاجيب الشيخ وأطواره الشاذة وآرائه التي كانت تضحك قوما وتغضب قوما آخرين.
كان أولئك الطلاب الكبار يتحدثون بأنهم لم يروا قط ضريبا للشيخ الشنقيطي في حفظ اللغة ورواية الحديث سندا ومتنا عن ظهر قلب. وكانوا يتحدثون بحدته وشدته وسرعته إلى الغضب وانطلاق لسانه بما لا يطاق من القول. وكانوا يضربونه مثلا لحدة المغاربة، وكانوا يذكرون إقامته في المدينة ورحلته إلى قسطنطينية، وزيارته للأندلس، وربما تناشدوا شعره في بعض ذلك. وكانوا يذكرون أن له مكتبة غنية بالمخطوط والمطبوع في مصر وفي أوروبا، وأنه لا يقنع بهذه المكتبة وإنما ينفق أكثر وقته في دار الكتب قارئا أو ناسخا. ثم كانوا يذكرون بعد ذلك متضاحكين قصته الكبرى تلك التي شغلته بالناس وشغلت الناس به، وعرضته لكثير من الشر والألم، وهي رأيه في أن «عمر» مصروف لا ممنوع من الصرف.
وكان الصبي يسمع حديث «عمر» هذا فلا يفهم منه شيئا أول الأمر، ولكنه لم يلبث أن فهمه في وضوح حين تقدم في درس النحو وعرف المصروف والممنوع من الصرف، وعرف غير المتمكن والمتمكن، والمتمكن الأمكن من الأسماء. وكان أولئك الشباب يذكرون مناظرات الشيخ مع جماعات من علماء الأزهر في صرف «عمر» هذا أو منعه من الصرف، ويتحدثون ضاحكين بأن العلماء اجتمعوا للشيخ ذات يوم في الأزهر يرأسهم شيخ الجامع، فطلبوا إليه أن يعرض عليهم رأيه في صرف عمر، فقال الشيخ في لهجته المغربية المتحضرة: لا أعرض عليكم هذا الرأي حتى تجلسوا مني مجلس التلاميذ من الأستاذ، فتردد الشيوخ، ولكن واحدا منهم ماكرا ماهرا نهض عن مجلسه وسعى حتى كان بين يدي الشيخ فجلس على الأرض متربعا، وأخذ الشيخ في عرض رأيه فقال: أنشد الخليل:
يا أيها الزاري على عمر
قد قلت فيه غير ما تعلم
قال الشيخ الجالس مجلس التلميذ بصوته الماكر النحيف: لقد رأيت الخليل أمس فأنشدني البيت على هذا النحو: «يا أيها الزاري على عمر»، ولم يدعه الشيخ الشنقيطي يتم إنشاده، وإنما قطع عليه الإنشاد محتدا وهو يقول: «كذبت! كذبت! لقد مات الخليل منذ قرون طويلة فكيف يمكن لقاء الموتى؟!» وجعل بعد ذلك يشهد الشيوخ على تعمد صاحبهم للكذب، وعلى جهله بالنحو والعروض، وضحك القوم وتفرق المجلس دون أن يقضى في أمر عمر أممنوع من الصرف كما يقول النحاة أم مصروف كما يقول هذا الشيخ الغريب؟ وكان الصبي يسمع هذا الكلام فيحفظه، ويجد اللذة فيما فهم منه، ويعجب بما لم يفهم.
وكان الشيخ يقرأ لبعض الطلاب هذه القصائد التي تعرف بالمعلقات، وكان أخو الصبي وبعض أصدقائه يسمعون هذا الدرس في يوم الخميس أو في يوم الجمعة من كل أسبوع، وكانوا يعدون هذا الدرس كغيره من الدروس، وكذلك سمع الصبي لأول مرة:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وما أسرع ما انصرف هؤلاء الطلاب الكبار عن هذا الدرس الذي لم يسيغوه! ولكن أخا الصبي حاول أن يحفظ المعلقات، فحفظ منها معلقة امرئ القيس ومعلقة طرفة. كان يردد الأبيات بصوت مرتفع والصبي يسمع فيحفظ، ثم لم يلبث أن أشرك الصبي معه في الحفظ. ولكنه لم يتجاوز هاتين المعلقتين وانصرف إلى دروسه الأزهرية الأخرى، واستقرت المعلقتان في نفس الصبي يحفظهما ولا يفهم منهما إلا قليلا.
وكان هؤلاء الطلاب يتحدثون عن درس آخر كان يلقى في الأزهر ليعلم الأزهريين صناعة الإنشاء. وكان يلقيه شيخ سوري من خاصة الأستاذ الإمام، وقد اختلف إليه هؤلاء الطلاب فاشتروا الدفاتر وكتبوا موضوعات الإنشاء، ولكنهم عدلوا عنه بعد قليل كما عدلوا عن درس الشنقيطي، وأقبل أخو الصبي ذات يوم ومعه مقامات الحريري، فجعل يحفظ بعضها رافعا صوته بالقراءة والصبي يحفظ صامتا، ثم أشركه في الحفظ كما أشركه في حفظ المعلقات، ومضيا في ذلك حتى حفظا عشر مقامات، ثم انصرف الشيخ الفتى إلى الأصول والفقه والتوحيد كما انصرف عن المعلقات ودرس الإنشاء.
وأقبل مرة أخرى ومعه كتاب ضخم يسمى «نهج البلاغة» فيه خطب الإمام علي وقد شرحها الأستاذ الإمام نفسه، فجعل يحفظ من هذه الخطب ويحفظ الصبي معه، ثم أعرض عن هذا الكتاب كما أعرض عن غيره بعد أن حفظ الصبي طائفة من الخطب.
وصنع الشيخ الفتى هذا الصنيع نفسه بمقامات بديع الزمان الهمذاني، ولم ينس الصبي قط قصيدة أبي فراس:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر
أما للهوى نهي عليك ولا أمر
فقد أقبل بها أخوه وقد طبعت مشطرة أو مخمسة، شطرها أو خمسها بعض الأزهريين، فجعل يقرأ في هذه القصيدة، ثم لم يلبث أن أعرض عن تشطير الأزهري أو تخميسه وأخذ في حفظ القصيدة نفسها مع أخيه.
وإنما ذكر الصبي هذه القصيدة؛ لأنه صادف في أثنائها بيتا كان يقع في أذنه موقعا غريبا، وهو قول أبي فراس:
بدوت وأهلي حاضرون لأنني
أرى أن دارا لست من أهلها قفر
فقد قرأه الشيخ الفتى وحفظه وأحفظه أخاه: ... ... ... ... لأنني
أرى أن دار الست من أهلها قفر
وكان الصبي يسأل نفسه عن معنى هذا البيت، كما كان يرى غريبا أن تأتي كلمة «الست» في بيت من الشعر، فلما تقدمت به السن وتقدمت به المعرفة أيضا قرأ البيت على وجهه ففهمه، وعرف كذلك أن كلمة «الست» ربما جاءت في شعر المحدثين من العباسيين ونثرهم أيضا.
وكذلك اتصل صاحبنا بالأدب على هذا النحو المضطرب المختلط، وجمع في نفسه أطرافا من هذا الخليط من الشعر والنثر. ولكنه لم يقف عند شيء من ذلك ولم يفرغ له، وإنما كان يحفظ منه ما يمر به حين تتاح له الفرصة، ثم يمضي لشأنه وفناقله.
وفي ذات يوم من أول العام الدراسي أقبل أولئك الشباب متحمسين أشد التحمس لدرس جديد يلقى في الضحى، ويلقى في الرواق العباسي، ويلقيه الشيخ سيد المرصفي في الأدب، وسموا: «ديوان الحماسة».
وكانوا قد فتنوا بهذا الدرس حين سمعوه فلم يعودوا إلى غرفاتهم حتى اشتروا هذا الديوان، وأزمعوا أن يحضروا الدرس وأن يعنوا به وأن يحفظوا الديوان نفسه، وأسرع أخو الصبي كعادته دائما، فاشترى «شرح التبريزي» لديوان الحماسة وجلده تجليدا ظريفا، وزين به دولابه ذاك، وإن كان قد نظر فيه بين حين وحين. وقد جعل أخو الصبي يحفظ ديوان الحماسة ويحفظه لأخيه، وربما قرأ عليه شيئا من «شرح التبريزي»، وكان يقرؤه على نحو ما كان يقرأ كتب الفقه والأصول، ويتفهمه على نحو ما يتفهم هذه الكتب.
وكان الصبي يحس أن هذا الكتاب لا ينبغي أن يقرأ على هذا النحو ولا أن يفهم على هذا النحو. كان الشيخ الفتى وأصحابه يرون «ديوان الحماسة» متنا، و«كتاب التبريزي» شرحا، وكانوا يأسفون على أن أحدا لم يكتب على هذا الشرح حاشية. وكانوا كثيرا ما يقصون حديث الشيخ إليهم وعبثه بهم وتندره على أساتذتهم وعلى كتبهم الأزهرية.
يقصون ذلك ضاحكين منه معجبين به، ماضين على الرغم منه في درسهم الأزهري لا يفترون عنه ولا يقصرون فيه.
وكان صاحبنا يسمع أحاديثهم، فيبتهج لهم أشد الابتهاج، ويشتاق إلى هذا الدرس أشد الشوق. ولكن أولئك الشباب لم يلبثوا أن أعرضوا عن هذا الدرس كما أعرضوا عن غيره من دروس الأدب؛ لأنهم لم يروه جدا، ولأنه لم يكن من الدروس الأساسية في الأزهر، وإنما كان درسا إضافيا من هذه الدروس التي أنشأها الأستاذ الإمام، والتي كانت تسمى دروس العلوم الحديثة؛ وكانت منها الجغرافيا والحساب والأدب، ولأن الشيخ كان يسخر منهم فيسرف في السخرية، ويعبث بهم فيغلو في العبث.
ساء ظنه بهم، فرآهم غير مستعدين لهذا الدرس الذي يحتاج إلى الذوق ولا يحتمل الفنقلة، وساء ظنهم به، فرأوه غير متمكن من العلم الصحيح ولا بارع فيه، وإنما هو صاحب شعر ينشد وكلام يقال، ونكت تضحك ثم لا يبقى منها شيء.
وكانوا مع ذلك حراصا على أن يحضروا هذا الدرس؛ لأن الأستاذ الإمام كان يحميه، ولأن الشيخ كان مقربا من الأستاذ الإمام، ينتهز كل فرصة لينشئ في مدحه قصيدة يرفعها إليه ثم يمليها على الطلاب، ويأخذ بعضهم بحفظها على أنها من جيد الشعر ورائعه، وكانوا يرونها جيدة رائعة؛ لأنها كانت في مدح الأستاذ الإمام.
وقد بذلوا ما استطاعوا من الجهد للمواظبة على هذا الدرس، ولكنهم لم يطيقوا عليه صبرا، فانصرفوا عنه وعادوا إلى شايهم يستمتعون به في الضحى على مهل، وانقطع عن صاحبنا ذكر الأدب بعد أن حفظ من ديوان الحماسة جزءا صالحا. ثم أشيع ذات يوم أن الشيخ المرصفي سيخصص يومين من أيام الأسبوع لقراءة «المفصل» للزمخشري في النحو، فسعى صاحبنا إلى هذا الدرس الجديد. ولم يسمع للشيخ مرة ومرة حتى أحبه وكلف به، وحضر درس الأدب في أيامه من الأسبوع، ولزم الشيخ منذ ذلك الوقت.
وكان الصبي قوي الذاكرة، فكان لا يسمع من الشيخ كلمة إلا حفظها، ولا رأيا إلا وعاه، ولا تفسيرا إلا قيده في نفسه. وكثيرا ما كان يعرض البيت وفيه كلمة قد مضى تفسيرها أو إشارة إلى قصة قد قصها الشيخ فيما قدم من درسه، فكان صاحبنا يعيد على الشيخ ما حفظ من قصصه وتفسيره وما قيد من آرائه وخواطره ونقده لصاحب الحماسة وشراحها، وتصحيحه لرواية أبي تمام، وإكماله للمقطوعات التي كان أبو تمام يرويها.
وإذا الشيخ يحب الفتى ويكلف به، ويوجه إليه الحديث في أثناء الدرس، ويدعوه إليه بعد الدرس فيصحبه إلى باب الأزهر، ثم يدعوه إلى أن يصحبه في بعض الطريق. وقد دعاه ذات يوم إلى أن يبعد معه في السير، حتى انتهى الشيخ وتلميذه هذا وتلاميذ آخرون إلى قهوة فجلسوا فيها، وكان هذا أول عهد الفتى بالقهوات. وقد طال المجلس منذ صليت الظهر حتى دعا المؤذن إلى صلاة العصر، وعاد الفتى سعيدا مغتبطا قوي الأمل شديد النشاط.
ولم يكن للشيخ حديث إلى تلاميذه إذا تجاوز درس الأدب إلا الأزهر وشيوخه وسوء مناهج التعليم فيه. وكان الشيخ قاسيا إذا طرق هذا الموضوع، وكان نقده لاذعا وتشنيعه على أساتذته وزملائه أليما حقا، ولكنه كان يجد من نفوس تلاميذه هوى، وكان يؤثر في نفس هذا الفتى خاصة أبلغ تأثير وأعمقه.
وإذا الفتى يؤثر هذا الدرس على غيره من الدروس شيئا فشيئا، ويختص اثنين من التلاميذ المقربين إلى الشيخ بمودته ثم بوقته. وإذا هم يلتقون إذا كان الضحى فيسمعون للشيخ، ثم يذهبون إلى دار الكتب فيقرءون فيها الأدب القديم، ثم يعودون إلى الأزهر بعد العصر فيجلسون في هذا الممر بين الإدارة والرواق العباسي، يتحدثون عن شيخهم وعما قرءوا في دار الكتب، ويعبثون بشيوخهم الآخرين، ويعبثون بالداخلين والخارجين من الشيوخ والطلاب. فإذا صليت المغرب دخلوا الرواق العباسي فسمعوا درس الشيخ بخيت الذي كان يقرأ في تفسير القرآن مكان الأستاذ الإمام بعد أن توفي.
ولكن الفتية لم يكونوا يسمعون للشيخ الذي يقرأ كما كان يسمع له غيرهم من الطلاب، وإنما كانوا يسمعون له ليضحكوا منه وليقيدوا عليه أغلاطه، وكانت كثيرة ولا سيما حين كان يعرض للغة والأدب، وليشنعوا عليه بهذه الأغلاط بعد الدرس، وليعرضوا هذه الأغلاط من الغد على شيخهم المرصفي، فيقدموا إليه مادة جديدة للتشنيع على أساتذته وزملائه من الشيوخ.
وقد كانت نفوس هؤلاء الفتية ضيقة بالأزهر، فزادها الشيخ ودرسه به ضيقا، وكانت نفوسهم شيقة إلى الحرية، فحط الشيخ ودرسه عنها القيود والأغلال.
وما أعرف شيئا يدفع النفوس، ولاسيما النفوس الناشئة، إلى الحرية والإسراف فيها أحيانا كالأدب، وكالأدب الذي يدرس على نحو ما كان الشيخ المرصفي يدرسه لتلاميذه حين كان يفسر لهم «الحماسة» أو يفسر لهم «الكامل» بعد ذلك؛ نقد حر للشاعر أولا، وللراوي ثانيا، وللشرح بعد ذلك، وللغويين على اختلافهم بعد أولئك وهؤلاء، ثم امتحان للذوق ورياضة له على تعرف باطن الجمال في الشعر أو النثر، في المعنى جملة وتفصيلا، وفي الوزن والقافية وفي مكان الكلمة بين أخواتها، ثم اختبار للذوق الحديث في هذه البيئة التي كان يلقى فيها الدرس، وموازنة بين غلظة الذوق الأزهري ورقة الذوق القديم، وبين كلال العقل الأزهري ونفاذ العقل القديم، وانتهاء من هذا كله إلى تحطيم القيود الأزهرية جملة، وإلى الثورة على الشيوخ في علمهم وذوقهم وفي سيرتهم وأحاديثهم بالحق في كثير من الأحيان، والإسراف والتجني في بعض الأحيان.
ومن أجل هذا لم يثبت حول الشيخ من تلاميذه الذين كثروا أول الأمر إلا نفر قليل، وامتاز منهم هؤلاء الثلاثة خاصة، فكونوا عصبة صغيرة ولكنها لم تلبث أن بعد صوتها في الأزهر، وتسامع بها الطلاب والشيوخ، وتسامعوا خاصة بنقدها للأزهر وثورتها على التقاليد، وبما كانت تنظم من الشعر في هجاء الشيوخ والطلاب، وإذا هي بغيضة إلى الأزهريين مهيبة منهم في وقت واحد.
ولم يكن الشيخ أستاذا فحسب، ولكنه كان أديبا أيضا، ومعنى ذلك أنه كان يصطنع وقار العلماء إذا لقي الناس أو جلس للتعليم في الأزهر، فإذا خلا إلى أصدقائه وخاصته عاش معهم عيشة الأديب، فتحدث في حرية مطلقة عن كل إنسان وعن كل موضوع، وروى لخاصته من شعر القدماء ونثرهم وسيرتهم ما يثبت أنهم كانوا أحرارا مثله، يقولون في كل شيء وفي كل إنسان لا متنطعين ولا متحفظين، كما كان يقول.
وكان أيسر شيء وأهونه أن يذهب الطلاب مذهب شيخهم، ولا سيما إذا أحبوه وأكبروه، ورأوا فيه المثل الأعلى للصبر على المكروه والرضا بالقليل، والتعفف عما لا يليق بالعلماء، والترفع عما كان ينغمس فيه كثير من شيوخ الأزهر من ألوان السعاية والنميمة والكيد والتقرب إلى الرؤساء وأصحاب السلطان.
كان تلاميذ الشيخ يرون منه ذلك رأي العين ويلمسونه بأيديهم، ويعيشون معه، في حين كانوا يزورونه في منزله، ذلك المتهدم الخرب القديم في حارة قذرة من حارات باب البحر يقال لها: «حارة الركراكي»، هناك في أقصى هذه الحارة كان يسكن الشيخ، يسكن بيتا قذرا متهدما، تدخل فيه من بابه، فإذا أنت في ممر ضيق رطب تنبعث فيه روائح كريهة، قد خلا من كل شيء إلا هذه الدكة الخشبية الضيقة الطويلة العارية التي قد أسندت إلى حائط يتساقط منه التراب.
وكان الشيخ ينزل لتلاميذه فيجلس معهم على هذه الدكة، ولكنه يجلس راضيا مطمئنا، يسمع لهم باسما ويتحدث إليهم أرق الحديث وأعذبه وأصفاه وأبرأه من التكلف، وربما كان مشغولا حين يقبل تلاميذه لزيارته، فيدعوهم إلى غرفته، فيصعدون إليه في سلم متهدم، ويسلكون إليه دهليزا خاليا من كل شيء قد انتشر فيه ضوء الشمس، حتى إذا بلغوا غرفته دخلوا على شيخ منحن قد جلس على الأرض، ومن حوله عشرات الكتب يبحث فيها عن مقطوعة يريد أن يتمها، أو بيت يريد أن يفسره، أو لفظ يريد أن يحققه، أو حديث يريد أن يصحح الرأي فيه، وعن يمينه أدوات القهوة.
فإذا دخلوا عليه لم يقم لهم، وإنما تلقاهم مستبشرا فرحا، ثم دعاهم إلى الجلوس حيث يستطيعون، ودعا أحدهم إلى صنع القهوة وإدارتها عليه وعليهم، ثم تحدث إليهم لحظات، ثم دعاهم إلى أن يشاركوه فيما كان بسبيله من بحث أو تحقيق.
ولم ينس الفتى وأحد صديقيه أنهما زارا الشيخ ذات يوم حين صليت العصر، فلما صعدا إليه لقيا شيخا قد جلس على فراش متواضع ألقي في هذا الدهليز، وإلى جانبه امرأة محطمة قد انحنت حتى كاد رأسها يبلغ الأرض والشيخ يطعمها بيده، فلما رأى تلميذيه هش لهما، وأمرهما أن ينتظراه في غرفته شيئا، ثم أقبل عليهما بعد حين وهو يقول ضاحكا راضي النفس: «كنت أعشي أمي.»
كان هذا الشيخ إذا خرج من داره صورة الوقار والدعة، وأمن النفس وطمأنينة القلب وصفاء الضمير. وكان صورة الغنى واليسار، لا يحس من يتحدث إليه إلا رجلا قد يسر عليه في الرزق، فهو يعيش عيشة أمن وهناءة وهدوء.
ولكن تلاميذه وخاصته كانوا يعلمون حق العلم أنه كان من أشد الناس فقرا وأضيقهم يدا، وأنه كان ينفق الأسبوع أو الأسابيع لا يطعم إلا خبز الجراية يغمسه في شيء من الملح، وكان على ذلك يعلم ابنه تعليما ممتازا، ويرعى غيره من أبنائه الذين كانوا يطلبون العلم في الأزهر رعاية حسنة، ويدلل ابنته تدليلا مؤثرا، يصنع هذا كله براتبه الضئيل الذي لم يكن يتجاوز ثلاثة جنيهات ونصف الجنيه. كان من أصحاب الدرجة الأولى، فكان يتقاضى جنيها ونصف جنيه لذلك، وكان الأستاذ الإمام قد كلفه درس الأدب فكان يتقاضى لذلك جنيهين، وكان يستحي أن يقبض راتبه أول الشهر، ويكره أن يختلط بالعلماء وهم يتهافتون على «المباشر» ليتقاضوا منه رواتبهم، فكان يدفع خاتمه إلى تلميذ من خاصته ليقبض له هذا الراتب الضئيل في الضحى ويؤديه إليه بعد الظهر.
كذلك كان يعيش هذا الشيخ، وكان تلاميذه يرونه ويشاركونه في حياته تلك البائسة الحرة الممتازة، وكانوا يرون ويسمعون من أمر شيوخ آخرين ما كان يملأ قلوبهم غيظا وحقدا، ونفوسهم ازدراء واحتقارا، فأي غرابة في أن يفتنوا بشيخهم ويتأثروه في سيرته وفي مذهبه وفي ازدرائه للأزهريين وثورته بما كان لهم من تقاليد!
لم ينكر تلاميذ الشيخ عليه في ذلك العهد إلا أنه انحرف ذات يوم عن الوفاء للأستاذ الإمام حين تولى الشيخ الشربيني مشيخة الأزهر، فنظم الشيخ قصيدة يمدح فيها الشيخ الجديد، وكان تلميذا للشيخ ومحبا له، وكان الشيخ الشربيني خليقا بالحب والإعجاب. وأملى الشيخ المرصفي على تلاميذه قصيدته التي سماها ثامنة المعلقات، والتي عارض بها قصيدة طرفة، فلما فرغ من إملائها والتف حوله تلاميذه، مضى في الثناء على أستاذه، وعرض بالأستاذ الإمام شيئا، فرده بعض تلاميذه في رفق، فارتد أسفا خجلا واستغفر الله من خطيئته.
وكذلك اندفع هؤلاء التلاميذ فيما دفعهم إليه حبهم للشيخ وتأثرهم به، فأسرفوا على أنفسهم وعلى شيخهم أيضا.
لم يكتفوا بهذا العبث الذي كانوا يعبثونه بالشيوخ والطلاب، ولكنهم جعلوا يجهرون بقراءة الكتب القديمة وتفضيلها على الكتب الأزهرية، يقرءون «كتاب سيبويه» أو كتاب «المفصل» في النحو، ويقرءون كتابي عبد القاهر الجرجاني في البلاغة، ويقرءون دواوين الشعراء لا يتحرجون في اختيار هذه الدواوين ولا في الجهر بإنشاد ما كان فيها من شعر المجون أحيانا في الأزهر. ويقلدون هذا الشعر، ويتناشدون ما ينشئون من ذلك إذا التقوا، والطلاب ينظرون إليهم شزرا، ويتربصون بهم الدوائر، وينتهزون بهم الفرص. وربما أقبل عليهم بعض الطلاب الناشئين يسمعون منهم ويتحدثون إليهم، ويريدون أن يتعلموا منهم الشعر والأدب، فيغيظ ذلك نظراءهم من الطلاب الكبار ويزيدهم موجدة عليهم وائتمارا بهم.
وفي ذات يوم كان صاحبنا يعد مع صديقيه درس «الكامل»، فعرضت لهم هذه الجملة من كلام المبرد: «ومما كفرت الفقهاء به الحجاج قوله والناس يطوفون بقبر النبي ومنبره: إنما يطوفون برمة وأعواد.» فأنكر صاحبنا أن يكون في كلام الحجاج ما يكفي لتكفيره، وقال: لقد أساء الحجاج أدبه وتعبيره، ولكنه لم يكفر، وسمع بعض الطلاب ذلك فأنكروه، ثم تناقلوه.
وإن فتياننا الثلاثة لفي مجلسهم حول الشيخ عبد الحكم عطا، وإذا هم يدعون إلى حجرة شيخ الجامع، فيذهبون واجمين لا يفهمون شيئا، فإذا دخلوا على الشيخ «حسونة» لم يجدوه وحده وإنما وجدوا من حوله أعضاء مجلس إدارة الأزهر وهم من كبار العلماء؛ فيهم الشيخ بخيت، والشيخ محمد حسنين العدوي، والشيخ راضي وآخرون، ويلقاهم الشيخ متجهما، ثم يأمر رضوان رئيس المشدين أن يدعو من عنده من الطلاب، فيقبل جماعة من الطلاب فيسألهم الشيخ عما عندهم، ويتقدم أحدهم فيتهم هؤلاء الفتية بالكفر لمقالتهم في الحجاج، ثم يقص من أمرهم الأعاجيب.
وكان هذا الطالب ماهرا حقا؛ فقد أحصى على هؤلاء الفتية كثيرا جدا مما كانوا يعيبون به الشيوخ، ومما كانوا يعيبون به الشيخ بخيت والشيخ محمد حسنين والشيخ راضي والشيخ الرفاعي، وكانوا جميعا حاضرين، فسمعوا بآذانهم آراء هؤلاء الفتية فيهم. وشهد طلاب آخرون بصدق هذا الطالب في كل ما قال. وسئل الفتية فلم ينكروا مما سمعوا شيئا، ولكن الشيخ لم يحاورهم ولم يداورهم، وإنما دعا إليه رضوان فأمره في شدة بمحو أسماء هؤلاء الطلاب الثلاثة من الأزهر؛ لأنه لا يريد مثل هذا الكلام الفارغ. ثم صرفهم عنه في عنف، فخرجوا وجلين قد سقط في أيديهم لا يعرفون ماذا يصنعون، ولا كيف يصورون هذه القصة لأهلهم.
ولم يقف أمرهم عند هذا الحد ولا عند نظر الطلاب إليهم في ضحك منهم وشماتة بهم، ولكنهم أقبلوا بعد صلاة العشاء ليلقوا شيخهم المرصفي وليسمعوا منه درس «الكامل». وأقبل الشيخ، فلقيه رضوان وأنبأه في أدب ولطف بأن شيخ الجامع قد ألغى درس «الكامل»، وبأنه ينتظره في مكتبه إذا كان الغد.
فانصرف الشيخ محزونا، ومضى معه تلاميذه الثلاثة خجلين وجلين، والشيخ يسري عنهم مع ذلك، حتى إذا كانوا في بعض الطريق خطر لهم أن يذهبوا إلى الشيخ بخيت ليستعطفوه ويوسطوه عند شيخ الجامع، وقال لهم شيخهم: «لا تفعلوا، فلن تبلغوا من سعيكم هذا شيئا.» ولكنهم مضوا مع ذلك إلى دار الشيخ بخيت، فلما أدخلوا عليه عرفهم فتلقاهم ضاحكا، ثم سألهم عن جلية أمرهم في فتور، فلما أخذوا يدافعون عن أنفسهم، قال لهم في فتور أيضا: ولكنكم تدرسون «الكامل» للمبرد، وقد كان المبرد من المعتزلة، فدرس كتابه إثم.
وهنالك نسي الفتية أنهم جاءوا مستعطفين، وأخذوا يجادلون الشيخ حتى أحفظوه، وانصرفوا عنه وقد ملأه الغضب وملأهم اليأس ، ولكنهم مع ذلك تضاحكوا من الشيخ وأعادوا بعض كلماته، وتفرقوا وقد تعاهدوا على أن يخفوا الأمر على أهلهم حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
ولقوا شيخهم من الغد، فأنبأهم بأن شيخ الجامع قد حظر عليه قراءة «الكامل»، وكلفه قراءة «المغني» لابن هشام، ونقله من الرواق العباسي إلى عمود في داخل الأزهر.
ثم جعل الأستاذ يعبث بشيخ الجامع، ويزعم لتلاميذه أنه لم يخلق للعلم ولا للمشيخة، وإنما خلق ليبيع العسل الأسود في سرياقوس، وكان قد فقد أسنانه فكان ينطق السين ثاء، وكان يتكلم لغة القاهرة فكان يجعل القاف همزة، ويمد الواو بينها وبين السين، وكان يتكلم هامسا، فلم ينس تلاميذه قط هذه الجملة التي طبعوا بها الشيخ حسونة رحمة الله فسموه: «بائع العثل في ثرياؤوث.»
ولكن بائع سرياقوس هذا كان شديدا حازما وكان مهيبا صارما، يخافه الشيوخ جميعا ومنهم الشيخ المرصفي؛ فقد أخذ يقرأ كتاب «المغني»، وذهب إليه تلاميذه مطمئنين، وما يعنيهم أن يقرأ الشيخ هذا الكتاب أو ذاك، حسبهم أن يقرأ الشيخ وأن يسمعوا منه ويقولوا له وقد سمعوا منه، فلما هم الفتى أن يقول له بعض الشيء أسكته في رفق وهو يقول: «لأ، لأ، عاوزين ناكل عيش.» ولم يعرف الفتى أنه حزن منذ عرف الأزهر كما حزن حين سمع هذه الجملة من أستاذه، فانصرف عنه ومعه صديقاه وإن قلوبهم ليملؤها حزن عميق.
على أنهم لم يرضوا بهذه العقوبة التي فرضها عليهم شيخ الجامع، وإنما فكروا في الطريق التي يجب أن يسلكوها ليرفعوا عن أنفسهم هذا الظلم. فأما أحدهم فقد آثر العافية وفارق صاحبيه واتخذ لنفسه مجلسا في جامع المؤيد بمعزل من العدو والصديق حتى تهدأ العاصفة. وأما الآخر فقص الأمر على أبيه، وجعل أبوه يسعى في إصلاح شأن ابنه سعيا رفيقا، ولكن الفتى لم يفارق صاحبه ولم يعتزل عدوا ولا صديقا، وإنما كان يلقى صاحبه كل يوم فيتخذان مجلسهما بين الرواق العباسي والإدارة، ويمضيان فيما تعودا أن يمضيا فيه من العبث بالطلاب والشيوخ.
وأما صاحبنا فلم يحتج إلى أن يقص الأمر على أخيه، فقد انتهى الأمر إلى أخيه عن طريق لا يعرفها، ولكن أخاه لم يلمه ولم يعنف عليه، وإنما قال له: «أنت وما تشاء فستجني ثمرة هذا العبث وستجدها شديدة المرارة.» ولكن الفتى لم يكن يعرف رفقا ولا لينا؛ فلم يسع إلى أحد ولم يتوسل إلى الشيخ بأحد، وإنما كتب مقالا عنيفا يهاجم فيه الأزهر كله وشيخ الأزهر خاصة ويطالب بحرية الرأي. وماذا يمنعه من ذلك وكانت الجريدة قد ظهرت وكان مديرها يدعو كل يوم إلى حرية الرأي!
وذهب صاحبنا بمقاله إلى مدير الجريدة فتلقاه لقاء حسنا فيه كثير من العطف والإشفاق، وقرأ المقال ثم دفعه ضاحكا إلى صديق له كان في مجلسه يومئذ، فألقى الصديق نظرة على هذا المقال ثم قال غاضبا: لو لم تكن قد عوقبت على ما جنيت من ذنب لكانت هذه المقالة وحدها كافية لعقابك. وهم الفتى أن يرد على هذا الصديق، ولكن مدير الجريدة قال له مترفقا: إن الذي يحدثك هو حسن بك صبري مفتش العلوم الحديثة في الأزهر. ثم قال له: أتريد أن تشتم الشيخ وتعيب الأزهر، أم تريد أن يرفع عنك هذا العقاب؟ قال الفتى: بل أريد أن يرفع عني هذا العقاب، وأن أستمتع بحقي من الحرية. قال مدير الجريدة: فدع لي هذه القصة وانصرف راشدا.
وقد انصرف الفتى، ثم لم يلبث أن تبين وتبين معه صاحباه، أن شيخ الجامع لم يعاقبهم ولم يمح أسماءهم من سجلات الأزهر، وإنما أراد تخويفهم ليس غير.
ومنذ ذلك الوقت اتصل الفتى بمدير الجريدة وجعل يتردد عليه، حتى جاء وقت كان يلقاه فيه كل يوم.
وفي مكتب مدير الجريدة ظفر الفتى بشيء طالما تمناه، وهو أن يتصل ببيئة الطرابيش بعد أن سئم بيئة العمائم، ولكنه اتصل من بيئة الطرابيش بأرقاها منزلة وأثراها ثراء، وكان وهو فقير متوسط الحال في أسرته، سيئ الحال جدا إذا قام في القاهرة، فأتاح له ذلك أن يفكر فيما يكون من هذه الفروق الحائلة بين الأغنياء المترفين والفقراء البائسين.
الفصل العشرون
واشتد ضيق الفتى بالأزهر وأهله وبحياته في القاهرة، غارقا فيما لا يحب، مقصى عما تشتهيه نفسه ويتحرق إليه قلبه، حتى لقد كان يصل إلى القاهرة في أول العام الدراسي، فلا يكاد يستقر فيها حتى يدعو آخره متشددا في الدعاء أو ملحا فيه. والله وحده يعلم كم كان يسعد ويبتهج حين كانت بشائر الصيف تقبل، وحين كانت أرجاء الحي الذي كان يقيم فيه تمتلئ بهذه الروائح الكريهة التي كانت تبعثها حرارة الشمس فتملأ الهواء وتجعل التنفس ثقيلا بغيضا. وحين كان لا يجلس إلى شيخ من شيوخه في درس من دروس الظهر أو درس من دروس المساء إلا أسرع النوم إلى رأسه فخفق به خفقا عنيفا يلفت إليه الطلاب من حوله فيوقظونه جادين أو هازلين.
كان مقدم الصيف يملأ صدره حبورا وبشرا؛ لأنه كان يؤذن بقرب الإجازة والعودة إلى الريف والراحة من الأزهر والأزهريين، ولم يكن يحب الإجازة لهذا وحده، ولم يكن يحبها لأنه سيلقى فيها أهله، ولأنه سينعم فيها بما كان يمتنع عليه في القاهرة من طيبات الحياة، وإنما كان يحب الإجازة لهذا كله ولشيء آخر كان أعظم في نفسه خطرا وأبعد أثرا من هذا كله؛ فقد كانت الإجازة أنفع لعقله وقلبه من العام الدراسي كله.
كانت الإجازة تمكنه من أن يفرغ لنفسه فيفكر - وما أكثر ما كان يفكر! ومن أن يخلو إلى إخوته فيقرأ - وما أكثر ما كان يقرأ وما أشد تنوعه وأعظم فائدته!
كان شباب الأسرة يعودون من معاهدهم ومدارسهم وقد ملئوا حقائبهم بتلك الكتب التي لا تتصل بدراستهم المنظمة، ولا يتاح لهم أن يقرءوها في أثناء العام، وكانت هذه الكتب ألوانا، منها الجد ومنها الهزل، منها ما ألف ومنها ما ترجم، منها القديم ومنها الجديد.
فكان هؤلاء الشباب لا ينفقون أياما في الأسرة حتى يسأموا البطالة ويعافوا الكسل ويقبلوا على كتبهم هذه، فيعكفوا عليها نهارهم وأطرافا من ليلهم، وكان أبوهم الشيخ يحب منهم ذلك ويحمده لهم. وربما ضاق منهم بذلك ولامهم فيه حين كانوا يقبلون على القصص الشعبي فيغرقون في ألف ليلة وليلة، أو في قصص عنترة وسيف بن ذي يزن.
ولكنهم كانوا يقبلون على كتبهم هذه رضيت الأسرة أو سخطت، وكانوا يجدون في هذه الكتب من المتاع واللذة أضعاف ما كانوا يجدون في كتبهم الدراسية، وكانوا يقرءون ما ترجم فتحي زغلول عن الفرنسية، وما كان السباعي يترجم عن الإنجليزية، وما كان جورجي زيدان يكتب في الهلال من مقالات، وما كان ينشر من قصص، وما كان يؤلف من كتب في تاريخ الأدب والحضارة، وما كان يعقوب صروف يكتب في المقتطف، وما كان الشيخ رشيد يكتب في المنار.
وفي الإجازات قرءوا كتب قاسم أمين، وكثيرا من آثار الأستاذ الإمام، وكانوا يقرءون هذه القصص الكثيرة التي كانت تترجم لتلهية القراء، والتي كانوا يفتنون بما كانوا يجدون فيها من صور للحياة تخالف ما عرفوا في ريفهم ومدنهم. وكان هذا كله يغريهم بالمضي في القراءة حتى يسرفوا على أنفسهم، وربما أسرفوا على أسرتهم أيضا؛ فقد كانوا لا يجدون في الصحف والمجلات إشارة إلى كتاب جديد أو كتاب قديم لم يعرفوه إلا كتبوا إلى الناشر يطلبون إليه إرساله إليهم، وما هي إلا أيام حتى يأتي الكتاب أو تأتي الكتب محولة على البريد، وحتى تضطر الأسرة إلى أن تدفع ثمنها سواء أرضيت عن ذلك أم ضاقت به.
وكان صاحبنا يحب الإجازة لأنه كان يفرغ للتفكير في أصدقائه من بعيد، فيكتب إليهم ويتلقى منهم الكتب، ويجد في نفسه لذلك نشاطا وبه لذة لم يكن يجدها حين يلقى أصدقاءه في القاهرة ويتحدث إليهم من قريب.
ثم كان يحب الإجازة لأنه كان يلقى فيها شبابا آخرين غير شباب أسرته، شبابا من بيئة الطرابيش، منهم من كان في المدارس الثانوية، ومنهم من كان في المدارس العالية، قد أقبلوا مثله يلتمسون الراحة بين أهلهم في الريف. وهم يجدون في لقائه والتحدث إليه من اللذة والمتاع مثل ما يجد هو في لقائهم والتحدث إليهم، فكان يسألهم عما يتعلمون ويسألونه عما يتعلم، وربما قرءوا عليه بعض كتبهم، وربما قرأ معهم شيئا من الأدب القديم.
ولكنه أنكر بعض إجازاته أول الأمر؛ فقد حدث حدث في أسرته، فتحولت عن مدينتها التي نشأ فيها الصبي إلى أعلى الإقليم أول الأمر، فأقامت فيه عاما أو عامين، ثم تحولت بعد ذلك إلى أقصى الصعيد، فأقامت فيه أعواما طوالا. وكان صاحبنا شديد الحزن على مدينته القديمة، شديد الضيق بهذه الأماكن الجديدة التي لا عهد له بها، والتي لم يكن يستطيع أن يذهب فيها عن يمين أو شمال، ولكنه اطمأن أخيرا إلى مدينته تلك في أقصى الصعيد حتى ألفها أشد الإلف وكلف بها أعظم الكلف، وأصبحت له وطنا ثانيا، مع أن زياراته الأولى لهذه المدينة قد آذته وشقت عليه.
ذهب إليها مع الأسرة كلها لزيارة أبيه الشيخ، وكان قد بدأ عمله فيها وحيدا. فلما دبر أمره واستقر به المقام دعا الأسرة إلى أن تنتقل إليه، وصادف ذلك إجازة الصيف، فانتقلت الأسرة ومعها الفتى. ركبت القطار منتصف الليل، وبلغت تلك المدينة في الساعة الرابعة من غد، وكانت المدينة جديدة، وكان القطار لا يقف فيها إلا دقيقة واحدة، وكانت الأسرة ضخمة يقودها أكبر أبنائها، وفيها النساء والأطفال، ومعها متاع ضخم عظيم، فلما دنا القطار من المحطة أقبل كبار الأسرة على النساء والأطفال والمتاع يقربون ذلك كله من باب العربة، حتى إذا وقف القطار دفعوا ذلك كله دفعا إلى الأرض، ثم تواثبوا من ورائه، ومضى القطار ولم ينسوا فيه إلا أخاهم هذا الضرير.
وقد ذعر الفتى حين رأى نفسه وحيدا عاجزا عن أن يقضي في أمره بشيء. ولكن جماعة من السفر رأوا عجزه وحيرته، فرفقوا به وجعلوا يهدئونه، حتى إذا وقف القطار في أول محطة أنزلوه وأسلموه إلى صاحب التلغراف وعادوا إلى قطارهم.
وقد عرف الفتى بعد ذلك أن الأسرة بلغت دارها في مدينتها الجديدة، فجعلت تزور الدار وتتفقد حجراتها وغرفاتها، وتقر كل شيء في مكانه، ثم أقبل الشيخ عليها فجلس يتحدث إلى هذا وذاك من أبنائه وإلى هذه وتلك من بناته.
ثم جرى عرضا ذكر الفتى بعد أن مضى على وصول الأسرة وقت غير قصير، فلما سمع الشيخ اسم الفتى ارتاع وارتاعت أمه وارتاع إخوته، وهرول الشباب منهم إلى مكتب التلغراف، ولكنهم لم يبلغوه حتى وجدوا النبأ بأن أخاهم في المحطة المجاورة ينتظر من يأتي ليرده إليهم، فأرسلوا إليه من جاء به ردفا على ظهر بغلة كانت تسعى هادئة مرة مهملجة به مرة أخرى، فتضيف في قلبه فرقا إلى فرق وذعرا إلى ذعر.
ولم ينس الفتى قط مجلسه عند صاحب التلغراف، وكان شابا نشيطا كثير الضحك كثير المزاح، وقد اجتمع إليه جماعة من موظفي المحطة، فلما رأوا عنده هذا الفتى أنكروه ثم عرفوا أمره، فأظهروا العطف عليه والرقة له. وقد رأوا شيخا ضريرا، فما شكوا في أنه يحسن قراءة القرآن أو يحسن الغناء، وهم يطلبون إليه أن يغني لهم شيئا، فإذا أقسم لهم أنه لا يحسن الغناء طلبوا إليه أن يقرأ لهم شيئا من القرآن، فإذا أقسم لهم أنه لا يحسن التصويت بالقرآن، ألحوا عليه وأبوا إلا أن يسمعوه، واضطر الفتى إلى أن يقرأ القرآن خجلا وجلا مستحييا ضيقا بالحياة لاعنا للأيام، وإذا صوته يحتبس في حلقه، وإذا الدموع تنهمر على خديه وإذا القوم يرفقون به وينصرفون عنه، ويتركونه وحيدا أو كالوحيد حتى يأتي من يرده إلى أسرته.
آذت هذه القصة الفتى في نفسه، ولكنها على ذلك لم تبغض إليه المدينة الجديدة، ولم تزهده في زيارتها، وإنما أحبها وجعلت نفسه تشتاق إليها أشد الشوق كلما دنا الصيف، وإن كان الحر فيها شديدا لا يطاق.
وتغيرت أمور أهل الربع تغيرا شديدا؛ فأما كبار الطلاب فقد ظفر اثنان منهم بدرجة العالمية والتحق سائرهم، ومنهم أخو الفتى؛ بمدرسة القضاء الشرعي لأول إنشائها، وأما الفتى فقد فارقه ابن خالته ذاك الذي كان يعينه على وحدته في الأزهر والربع معا والتحق بدار العلوم.
ونظر الفتى فإذا هو يعود إلى عزلته القاسية المنكرة التي طالما حملته ألوان العذاب في أول عهده بطلب العلم، وإذا أمره يزداد شدة وقسوة، فلن يفرغ له أحد إذا عاد إلى القاهرة بعد انقضاء الصيف، سيذهب أخوه إلى مدرسة القضاء، وسيذهب ابن خالته إلى دار العلوم، وماذا عسى أن يصنع هو وحيدا في الربع؟ وأي نفع له أو لغيره في أن يذهب إلى القاهرة؟ لقد أخذ من العلم حظا لا بأس به، وما عسى أن يفيد من درجة العالمية إن ظفر بها! وأكبر الظن أنه لن يظفر بها؛ فإن نيلها يحتاج إلى جهد عظيم لا يستطيع هو أن يبذله وحده. كذلك قال أخوه للأسرة في يوم من أيام الصيف حين أوشكت الإجازة أن تبلغ أجلها، وقد هم الشيخ الوالد أن يقول شيئا فقطع ابنه عليه الكلام بهذه الحجج المفحمة. ولم تجد أم الفتى ما تقول فأرسلت دموعا صامتة غزارا. ونهض الفتى فمشى متعثرا حتى خلا إلى نفسه في إحدى الحجرات جامدا واجما لا يفكر في شيء.
وكانت ليلة ثقيلة طويلة لقي الفتى فيها من نفسه عذابا شديدا، ثم أصبح لا يقول شيئا ولا يقول له أحد شيئا، فقضى نهارا ثقيلا طويلا، ثم أقبل عليه أبوه الشيخ مع المساء فمسح رأسه وقبله وقال له: ستذهب إلى القاهرة، وسيكون لك خادم خاص، هنالك أجهش الفتى بالبكاء وأجهشت أمه بالبكاء أيضا.
وجاء يوم السفر وخرج شباب الأسرة إلى القطار وفيهم الفتى، وكان أهل الخادم قد ضربوا للأسرة موعدا في المحطة، فهؤلاء الشباب يبلغون المحطة، وهذا القطار يصل ولم يأت الخادم، وهؤلاء شباب الأسرة يركبون القطار وهو يمضي بهم وقد تركوا الفتى فعاد به أبوه إلى الدار وكلاهما واجم حزين.
ويأتى الخادم مع الليل فيعود الفتى إلى استبشاره وابتهاجه، ويسافر مع خادمه الأسود الصغير إلى القاهرة بعد يومين وقد حمل إلى أخيه طعاما وزادا.
وقد بلغ القاهرة وأقام فيها مع خادمه هذا الأسود، يختلف معه إلى دروس الأزهر، ويهيئ له طعام الإفطار، ويقرأ له قراءة محطمة متعثرة أثناء فراغه.
ولكن الجامعة قد أنشئت، وإذا صاحبنا يقبل عليها وينتسب إليها، وإذا هو يختلف مع غلامه الأسود إلى دروس الأزهر مصبحا وإلى دروس الجامعة ممسيا. وإذا هو يجد للحياة طعما جديدا، وإذا هو يتصل ببيئة جديدة وبأساتذة لا سبيل إلى الموازنة بينهم وبين أساتذته في الأزهر.
وقد بعدت الجامعة عن الربع، وبعدت عنه مدرسة القضاء، وبعدت عنه دار العلوم، فلم يبق للجماعة فيه مقام، وإذا هي تتحول عنه إلى بيت جديد أيضا في درب الجماميز.
وإذا الفتى يستأنف حياة لا صلة بينها وبين حياته القديمة إلا أنه كان ربما ألم بالأزهر مرة في الأسبوع أو في الأسبوعين، وإلا أنه كان ربما لقي أصدقاءه من الأزهريين حين كانوا يسعون إلى الجامعة بين حين وحين، وإلا أنه كان يزور الشيخ المرصفي من وقت إلى وقت.
وفي الحق أن الفتى قد قطع الصلة بينه وبين الأزهر في دخيلة نفسه وأعماق ضميره، ولكنه ظل مقيدا في السجلات. ولم يظهر أباه على ما تم عليه عزمه مخافة أن يحزن الشيخ أو ييأس، فما كان يعرف من أمر الجامعة شيئا، وما كان يعنى من أمر الجامعة بقليل أو كثير.
ولكن الفتى عاد مع إخوته إلى مدينتهم تلك في إجازة الصيف، وإنهم لفي قراءتهم ذات يوم وإذا البريد يحمل إلى أخيه كتابا من أحد أصحابه، وإذا هو يقرأ هذا الكتاب ثم يعيد قراءته على أخيه الفتى فيسمع منه عجبا من العجب.
كان الفتى قد أنفق في طلب العلم في الأزهر ثماني سنين، وكان الأزهر قد تعرض لألوان مختلفة من النظام، فلما كان ذلك الصيف أبيح للطلاب المنتسبين أن يزيدوا مدة انتسابهم النظامية، إذا استطاعوا أن يثبتوا أنهم درسوا في الأزهر أو في المعاهد الدينية الأخرى قبل أن يبلغوا السن التي كانت تبيح لهم الانتساب النظامي، وهو اثنتا عشرة سنة، ليتعجلوا تقدمهم للامتحان وظفرهم بالدرجات.
وأعلن هذا الترخيص في أثناء الإجازة، فيسرع هذا الصديق فيكتب إلى المشيخة طلبا باسم الفتى، يزعم فيه أنه قد درس في الأزهر سنتين قبل أن يبلغ السن القانونية، ويعرض هذا الطلب على اثنين من كبار الشيوخ لم يرهما الفتى ولم يرياه قط، لم يسمع لهما الفتى درسا ولم يسمعا منه شيئا ، ولكنهما يقرآن ثم يشهدان بأن الفتى لم يقل إلا حقا، وأي بأس لذلك وما أكثر ما اختلف إليهما من الطلاب! وكيف السبيل إلى أن يعرفا تلاميذهما الذين لا يحصون!
وكذلك عرف الفتى من حيث لا يدري أنه قد أنفق في الأزهر عشرة أعوام وإن لم ينفق فيه إلا ثمانية، وأنه لم يبق بينه وبين التقدم لنيل الدرجة إلا سنتان اثنتان.
فليصل إذن من حبل الأزهر ما انقطع أو ما هم أن ينقطع، وليظل إذن طالبا بالجامعتين: بالجامعة الأزهرية كما كان الأزهر يسمى في ذلك الوقت، وبالجامعة المصرية، وليحي إذن هذه الحياة المشتركة التي يتجاذبه فيها قديم الأزهر في ذلك الحي العتيق بين الباطنية وكفر الطماعين، وجديد الجامعة في ذلك الحي الأنيق من شارع قصر العيني.
فلندعه كما كان موضوعا للصراع بين القديم والجديد، ومن يدري! لعلنا نعود إليه مرة أخرى.
وها أنت ذا يا بني تهجر وطنك ومدينتك ودارك وتفارق أهلك وأصدقاءك، وتعبر البحر في سنك هذه الصغيرة لتطلب العلم وحيدا في باريس.
فدعني أهدي إليك هذا الحديث لعلك ترتاح إليه بين حين وحين إذا أجهدك درسك ووجدت في اللاتينية واليونانية مشقة أو عناء، هنالك ترى لونا لم تعرفه من ألوان الحياة في مصر، وتذكر شخصا طالما ارتاح إلى قربك منه، وطالما وجد في جدك وهزلك لذة لا تعدلها لذة، ومتاعا لا يعدله متاع.
فيك سورسير
يوليو-أغسطس سنة 1939
الجزء الثالث
الفصل الأول
على باب الأزهر
كان صاحبنا الفتى قد أنفق أربعة أعوام في الأزهر، وكان يعدها أربعين عاما؛ لأنها طالت عليه من جميع أقطاره، كأنها الليل المظلم، قد تراكمت فيه السحب القاتمة الثقال، فلم تدع للنور إليه منفذا، ولم يكن الفتى يضيق بالفقر ولا بقصر يده عما كان يريد، فقد كان ذلك شيئا مألوفا بالقياس إلى طلاب العلم في الأزهر الشريف.
وكان الفتى يرى من حوله عشرات ومئات يشقون كما يشقى، ويلقون مثل ما يلقى، وتقصر أيديهم عن أقصر ما كانوا يحبون، قد اطمأنوا إلى ذلك، وألفته نفوسهم، واستيقنوا أن الثراء والسعة وخفض العيش أشياء تعوق عن طلب العلم، وأن الفقر شرط للجد والكد والاجتهاد والتحصيل، وأن غنى القلوب والنفوس بالعلم خير وأجدى من امتلاء الجيوب والأيدي بالمال.
وإنما كان يضيق أشد الضيق بهذا السأم الذي ملأ عليه حياته كلها، وأخذ عليه نفسه من جميع جوانبها.
حياة مطردة متشابهة لا يجد فيها جديد منذ يبدأ العام الدراسي إلى أن ينقضي: درس التوحيد بعد أن تصلى الفجر، ودرس الفقه بعد أن تشرق الشمس، ودرس في النحو بعد أن يرتفع الضحى، وبعد أن يصيب الفتى شيئا من طعام غليظ، ودرس في النحو أيضا بعد أن تصلى الظهر، ثم فراغ فارغ كثيف بعد ذلك يصيب فيه الفتى شيئا من طعام غليظ مرة أخرى. حتى إذا صليت المغرب راح إلى درس المنطق يسمعه من هذا الشيخ أو ذاك، وهو في كل هذه الدروس يسمع كلاما معادا وأحاديث لا تمس قلبه ولا ذوقه، ولا تغذو عقله، ولا تضيف إلى علمه علما جديدا، فقد تربت في نفسه تلك الملكة كما كان الأزهريون يقولون، وأصبح قادرا على أن يفهم ما يكرره الشيوخ من غير طائل.
وكان الفتى يفكر في أن أمامه ثمانية أعوام أخرى، سيعدها ثمانين عاما، كما عد الأعوام الأربعة التي سبقتها، وفي أن عليه أن يختلف إلى هذه الدروس كما تعود أن يفعل، وأن يعيد ويبدئ في هذا الكلام، الذي لا يسيغه ولا يجد فيه غناء.
وفي أثناء هذا كله ذكر اسم الجامعة، فوقع في نفسه أول الأمر موقع الغرابة الغريبة؛ لأنه لم يسمع هذه الكلمة من قبل، ولم يعرف إلا الجامع الذي كان ينفق فيه بياض النهار وشطرا من سواد الليل. فما عسى أن تكون الجامعة؟ وما عسى أن يكون الفرق بينها وبين جامعه ذاك أو جوامعه تلك الكثيرة التي كان يختلف فيها إلى شيوخه؟ فما أكثر ما كان بعض الشيوخ ينأون بدروسهم وطلابهم عن الأزهر، ويؤثرون أنفسهم بمسجد من هذه المساجد الكثيرة في الحي! وكان تنقل الفتى بين هذه المساجد يرفه عنه بعض الترفيه.
على أنه لم يلبث أن فهم كلمة الجامعة هذه فهما مقاربا، وعرف أنها مدرسة لا كالمدارس، وأحس أن مزيتها الكبرى عنده أن الدروس التي ستلقى فيها لن تشبه دروس الأزهر من قريب أو بعيد، وأن الطلاب الذين سيختلفون إليها لن يكونوا من المعممين وحدهم، بل سيكون فيهم المطربشون، وعسى أن يكونوا أكثر عددا من أصحاب العمائم؛ لأن هؤلاء لن يعدلوا بعلمهم الأزهري علما آخر، ولن يشغلوا أنفسهم بهذه القشور التي يضيع فيها أبناء المدارس - كما كانوا يسمونهم في تلك الأيام - أوقاتهم.
وكان نبأ الجامعة هذا إيذانا للفتى بأن غمته تلك توشك أن تكشف، وبأن غمرته تلك توشك أن تنجلي، فقد يتاح له أن يسمع غير ما تعود أن يبدئ فيه ويعيد من علمه ذاك الممل، وقد أقام الفتى مع ذلك على شك ممض يؤذي نفسه أشد الإيذاء، ولا يستطيع أن يصرح به لأحد من أصدقائه أو ذوي خاصته.
أتقبله هذه الجامعة بين طلابها حين يتم إنشاؤها أم ترده إلى الأزهر ردا غير جميل لأنه مكفوف، وليس غير الأزهر سبيلا إلى العلم للمكفوفين؟ كان هذا الشك المؤلم يؤرق ليله ويقض مضجعه، ولم يكن يناجي به إلا نفسه. كان يستحي أن يتحدث عن آفته تلك إلى الناس، وكان يؤذيه أشد الإيذاء أن يتحدث الناس عنها إليه، وما أكثر ما كانوا يفعلون!
عاش إذن بين خوف ملح ورجاء ضئيل يعتاده بين حين وحين، فيتيح لنفسه شيئا من راحة وروح، حتى إذا أنشئت الجامعة وعلم الفتى علمها ذهب عنه الخوف، وملأ الأمل نفسه رضا وبهجة وسرورا. واختلف إلى دروسه في الأزهر ذات يوم فلم يسمع من شيوخه شيئا، ولم يفهم عنهم شيئا، كان في شغل عنهم وعن دروسهم بما سيكون حين يقبل المساء، ولأول مرة سمع درس الأدب في الضحى فكان حاضرا كالغائب، ويقظا كالنائم، ولم ينتظر أن تصلى العصر، وإنما سعى إلى الجامعة في أعقاب درس البلاغة مع زميليه، فأدى كل منهم ذلك الجنيه الذي لم يكن بد من أدائه ليؤذن له بالاستماع إلى الدروس. وكان غريبا عند هؤلاء الفتية أن يشتروا العلم بالمال وإن كان قليلا، فهم لم يتعودوا ذلك ولم يألفوه، وإنما تعودوا أن يرزقوا أرغفة في كل يوم ليطلبوا العلم في الأزهر، وقد وجدوا بعض ما يقيم الأود، وكان أداء ذلك الجنيه عليهم عسيرا، ولكنهم أحبوا دروس الجامعة بمقدار ما وجدوا من العسر في أداء ثمنها.
واستمع الفتى لأول درس من دروس الجامعة في الحضارة الإسلامية، فراعه أول ما راعه شيء لم يكن له بمثله عهد في الأزهر؛ فهذا أحمد زكي بك يبدأ الدرس بهذه الكلمات التي لم يسمعها الفتى من قبل: «أيها السادة: أحييكم بتحية الإسلام، فأقول: السلام عليكم ورحمة الله.»
وإنما كان الفتى يسمع في الأزهر كلاما آخر لا يتجه به الشيوخ إلى الطلاب، وإنما يتجهون به إلى الله عز وجل فيحمدونه ويثنون عليه، ولا يحيي فيه الشيوخ طلابهم، وإنما يصلون فيه على النبي وعلى آله وأصحابه أجمعين!
ثم راع الفتى بعد ذلك أن الأستاذ لم يقل في أول درسه: «قال المؤلف رحمه الله»، وإنما استأنف الدرس يتكلم من عند نفسه ولا يقرأ في كتاب. وكان كلامه واضحا لا يحتاج إلى تفسير، وكان سويا مستقيما لا قنقلة فيه ولا اعتراض عليه، وكان غريبا كل الغرابة، جديدا كل الجدة، ملك على الفتى عقله كله وقلبه كله، فشغل عن صاحبيه، وشغل عمن كان حوله من الطلاب، وما كان أكثرهم! حتى إذا أوشك الدرس أن ينقضي، أعلن الأستاذ أنه سيعيد هذا الدرس بعد دقائق ليتاح للطلاب الكثيرين الذين لم يتح لهم دخول الغرفة أن يسمعوه، وانصرف الفوج الأول من الطلاب، ولكن صاحبنا لم يرم، وإنما أقام في مكانه حتى سمع الدرس مرة أخرى.
لم ينم الفتى من ليلته تلك، وسمع المؤذن يدعو إلى صلاة الفجر فلم ينهض من فراشه، وإنما تثاقل وتثاقل، ولم يخرج من غرفته إلا حين ارتفع الضحى، ولولا درس الأدب في الرواق العباسي لظل في غرفته حتى يقبل المساء.
وقد سمع الفتى درس الأدب غير حفي به أول الأمر، ولكن الشيخ سأله عن شيء فلجلج الفتى وسخر منه الشيخ، وسأله عن هذين المقطفين اللذين ركبا في رأسه ماذا يصنع بهما؟ يريد بالمقطفين أذنيه. ومنذ ذلك الوقت أقبل الفتى على درس الأدب هذا كما كان يقبل عليه من قبل، فلم يضيع مما قال الشيخ حرفا.
وسمع بعد ذلك درس النحو فلم يمنح الأستاذ إلا أحد مقطفيه هذين، ولعله لم يمنحه مقطفه كله، إنما كان يعيش لساعة المساء، ويتعجل ذلك الدرس الذي سيسمعه من أحمد زكي بك عن الحضارة المصرية القديمة. وقد سمعه فلم تسعه الأرض على رحبها؛ سمع أشياء لم تكن تخطر له على بال، ولم يكن يتصور أنها قد كانت، أو أن الناس يمكن أن يتحدثوا بمثلها.
وكان تحرقه إلى درس اليوم الثالث أشد وأقوى من تحرقه إلى الدرسين اللذين سبقاه، فسيكون الأستاذ إيطاليا، وسيتحدث باللغة العربية، إيطالي يتحدث إلى المصريين في العلم بلغتهم العربية، وفي شيء لم يسمع الفتى وأترابه الأزهريون به قبل يومهم ذاك، ولم يفهمه الفتى وأترابه حين سمعوه، أنكرته آذانهم، وأنكرته نفوسهم وأذواقهم أيضا، وكان اسم هذا الشيء الغريب: «أدبيات الجغرافيا والتاريخ».
ما كلمة الأدبيات هذه؟ وكيف تكون في الجغرافيا والتاريخ؟ وقد أقبل الفتية على الدرس فلم يفهموا شيئا؛ لأنهم لم يسمعوا شيئا.
كان الأستاذ أغنالسيو جويدي شيخا كبيرا نحيف الصوت ضئيله جدا لا يبلغ عنه أقرب الطلاب إليه مجلسا. وكان الطلاب كثيرين، وكانت ضآلة الصوت تغريهم بالضجيج، فضاع الدرس الأول في غير طائل بعد أن تعب الأستاذ في إلقائه، وتعب الطلاب في محاولة الاستماع له، واضطرت الجامعة إلى أن تختار من الطلاب أرفعهم صوتا وأفصحهم نطقا ليبلغ عن الأستاذ كما يبلغ أحد المصلين عن الإمام حين تقام الصلاة.
ولم ينفق الفتى ثلاثة أيام منذ افتتاح الجامعة حتي تغيرت حياته تغيرا فجائيا كاملا.
الفصل الثاني
كيف سقطت في امتحان العالمية!
لم يكد صاحبنا يتصل بالجامعة حتى رثت الأسباب بينه وبين الأزهر، فأصبح لا يمنحه من الوقت إلا أقصره، ولا يعطيه من الجهد إلا أيسره، ولم تكن الجامعة وحدها هي التي صرفته عن الأزهر، وإنما صرفه عنه قبل ذلك زهده فيه، وضيقه به، وملله من أحاديثه المعادة، وقد انصرف صاحباه عن الأزهر أيضا: ذهب أحدهما إلى كلية الفرير يعلم فيها اللغة العربية، وذهب الآخر إلى المطبعة الأميرية يصحح فيها ما كانت تطبع من الكتب، فلم يبق لصاحبنا في الأزهر أرب، وقد ضاق حتى بأحب ما كان في الأزهر إلى نفسه، وهو المدرس الشيخ سيد المرصفي، فأعرض عنه كل الإعراض، لا زهدا فيه، ولا نفورا منه، ولكن سخطا على الشيخ رحمه الله؛ لأنه أذعن لشيخ الأزهر وأسرف في الإذعان، وأعرض عن معابثة تلاميذه، وتوهم أن الجواسيس قد أرصدت له، وبثت عليه، فتحفظ في كل ما كان يقول، وكره أن يسمع من تلاميذه بعض ما كانوا يأخذون فيه إذا جلسوا إليه من عبث الشيوخ وخوض في حديثهم! وقال للفتى ذات يوم حين أخذ في بعض ذلك: «لا، لا، لا، دعنا نأكل العيش!» فتركه الفتى يأكل العيش ... وأصبح لا يلقاه إلا يوم الجمعة يسعى إليه في بيته، فينفق معه الساعات حلوة حرة، يقول فيها ما يشاء، ويسمع ما يشاء الشيخ أن يقول، وما أكثر ما كان الشيخ يقول!
ومنذ ذلك الوقت أيضا سلك الفتى في حياته طريقا لم يكن يقدر أن سيتاح له سلوكها، فاتصل بالجريدة ومديرها الأستاذ لطفي السيد، وقويت الصلة بينهما حتى كان يلقاه مرات في كل أسبوع، وكان يلقى عنده من شيوخ المطربشين وشبابهم قوما كثيرين، وكانت أحاديث الأستاذ وزائريه تفتح للفتى أبوابا من العلم والمعرفة لم تكن تخطر له ببال من قبل، ولم يكن يقدر وجودها فضلا عن اتصاله بها من قريب أو بعيد.
واتصل الفتى كذلك بالشيخ عبد العزيز جاويش رحمه الله فأكثر الاختلاف إليه والاستماع له، وما هي إلا أن أخذ يجرب نفسه في الكتابة، كما جرب نفسه في الشعر بين يدي أستاذه المرصفي. ولم يكد الفتى يأخذ في الكتابة حتى عرف بطول اللسان والإقدام على ألوان من النقد، قلما كان الشباب يقدمون عليها في تلك الأيام، ولكنه كان نقدا محافظا غاليا في المحافظة، إلا أن يعرض لشئون الأزهر، فهنالك كان يخرج حتى عن طور الاعتدال، ويغلو في العبث بالشيوخ، ويجد التشجيع كل التشجيع على ذلك من الشيخ عبد العزيز جاويش، وربما وجد منه إغراء بذلك وحثا عليه. وكان صاحبنا موزعا بين مذهبين من مذاهب الكتابة في ذلك الوقت، أحدهما: مذهب الاعتدال والقصد، ذلك الذي كان الأستاذ لطفي السيد يدعوه إليه ويزينه في قلبه، والآخر: مذهب الغلو والإسراف، ذلك الذي كان الشيخ عبد العزيز جاويش يغريه به ويحرضه عليه تحريضا، وكان الفتى يستجيب للمذهبين جميعا، فإذا اقتصد في النقد نشر في الجريدة، وإذا غلا نشر في صحف الحزب الوطني.
ولم ينس الفتى قط كلمة كتبها فأورثته ألما لاذعا وحزنا ممضا، واضطرته إلى أن يسعى معتذرا متوسلا بالصديق إلى من كتبت فيه هذه الكلمة. كان ذلك حين اختصم الناس حول سؤال من أسئلة الامتحان في الشهادة الثانوية في الأدب، فكان ممن شارك في هذه الخصومة زميل أزهري من زملائه كان يعلم في كلية الفرير، وكان هذا الزميل ينتمي إلى أسرة كبيرة ويعد انتماءه إليها من مفاخره، ولكنه لم يكن من هذه الأسرة إلا لأن أباه كان من عتقائها، فلما رد صاحبنا عليه نسبه إلى الأسرة وبين طبيعة انتسابه إليها لم يرد إيذاء زميله، وإنما أعجبه هذا التعريض فاستجاب له، ولم يراجع نفسه فيه إلا حين قرأه مطبوعا في الصحيفة، ولامه فيه صاحباه، هنالك أسقط في يده ولم يرض زميله إلى بعد جهد وعناء. وقد رضي الزميل وصفح، ولكن الفتى لم ينس هذا الإثم قط، وما أكثر ما ازدرى نفسه، وحاول أن يأخذها بألا تضع كلمة في مقال حتى تفكر وتقدر وتتجنب الإيذاء ما وجدت إلى ذلك سبيلا!
ولم يكن هذا الندم كل ما جر عليه طول اللسان من ألم، فما أكثر ما كان يكلف بالنقد فيمضي فيه مؤمنا به حريصا عليه لا يحسب لعواقبه حسابا.
ثم تمضي الأيام في إثر الأيام ، وإذا هو قد نسي ما كتب، وشغل عنه بأشياء أخرى، ولكن الناس لم ينسوه وإنما حفظوه له، وقيدوه عليه، وأخذوه به حين سنحت الفرصة. وطول اللسان هو الذي قطع الصلة قطعا حاسما بين صاحبنا وبين الأزهر، ودفعه دفعا إلى حياته التي أتيحت له، وعرضه لسخط أي سخط، وحزن أي حزن، وعناء أي عناء. والغريب أنه قد تلقى السخط والحزن والعناء باسما موفور الرضا، طيب النفس، فلم تتعلق نفسه قط بالجلوس إلى عمود من أعمدة الأزهر، ولا بإلقاء الدرس في حلقة من حلقاته.
لم يأس إذن على انقطاع الصلة بينه وبين الأزهر، وإنما ملأ قلبه الحزن والأسى حين عرف سخط أبيه الشيخ، وحزن أمه التي كان يختصها بالحب والبر والحنان.
كان ذلك حين أنشأ الشيخ رشيد رضا رحمه الله شيئا سماه مدرسة الدعوة والإرشاد، وأعلن أن هذه المدرسة ستعد طلابها من الأزهريين لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام، ولإرشاد المسلمين أنفسهم إلى دينهم الصحيح المبرأ من أوهام القرون وأباطيلها. وقد ضاق المجددون من أبناء الأزهر بهذه المدرسة أشد الضيق، وسخطوا عليها أعظم السخط. رأوا فيما أحاط بإنشائها من الظروف انحرافا عن الوفاء للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده من رجل كان يرى نفسه أقرب تلاميذ الشيخ إليه، وأخصهم به وأوفاهم له، فقد عطف الخديو على هذه المدرسة وأعانها وأغرى شيوخ الأزهر بتأييدها. ورأى تلاميذ الأستاذ الإمام أن في عطف الخديو على هذه المدرسة وإعانته لها ما أثار في نفوسهم الريب فنفروا الناس منها، وأطلقوا ألسنتهم فيها، وعابوا على الشيخ رشيد أنه ثاب إلى من أخرج الأستاذ الإمام من الأزهر وعرضه لكثير من الشر والأذى وأغرى به الشيوخ، حتى أذاعوا عن الشيخ ما أذاعوا من السوء، ونالوه بما نالوه من المكروه.
وفي ذات يوم أقام الشيخ رشيد وأصحابه حفلا بهذه المدرسة، واجتمعوا حول مائدة العشاء في فندق من فنادق القاهرة يقال له: فندق «سافوي»، ونشرت بعض الصحف أنباء زعمت فيها أن أكواب الشمبانيا أديرت حول هذه المائدة، وكان جماعة من شيوخ الأزهر يتقدمهم شيخهم الأكبر قد شهدوا هذا العشاء، ورأوا ما أدير فيه من الأكواب فلم ينكروا بالعمل ولا بالقول.
هنالك ثارت ثائرة المخلصين للأزهر، فلهجوا بالشيوخ وقالوا فيهم فأكثروا القول. ودافع المدافعون عن الشيوخ بأن زجاجات فتحت في ذلك العشاء وكان لفتحها فرقعة، ولكنها لم تكن زجاجات الشمبانيا، وإنما كانت زجاجات الكازوزة! ولكن خصوم الشيوخ من أبناء الأزهر لم يقبلوا هذا الدفاع، ولم يصدقوه، وإنما مضوا يلهجون ويقولون في الشيوخ فيكثرون القول، وكان صاحبنا الفتى أطولهم لسانا، وأجرأهم قلما، وأجرحهم لفظا. عاب الشيوخ شعرا ونثرا، ونشر عبد العزيز جاويش له ذلك في صحيفة «العلم» فرضي المجددون وأغرقوا في الرضا، وسخط المحافظون وأسرفوا في السخط، وتناقل أولئك وهؤلاء هذه الأبيات الثلاثة من شعر الفتى الذي لم ينسبه إلى نفسه، وإنما زعم أنه تلقاه في البريد:
رعى الله المشايخ إذ توافوا
إلى سافواي في يوم الخميس
وإذ شهدوا كؤوس الخمر صرفا
تدور به السقاة على الجلوس
رئيس المسلمين عداك ذم
ألا لله درك من رئيس
ثم مضت الأيام وتتابعت فيها الأحداث، حتى إذا دار العام رأى الفتى نفسه يتهيأ للامتحان في الأزهر لينال درجة العالمية. وقد تلقى الفتى ما كان يسمى حينئذ بالتعيين، وهو الدروس التي يجب أن يعدها ليلقيها أمام لجنة الامتحان، ويثبت لمناقشة الممتحنين فيها.
فاستعد الفتى وأحسن الاستعداد، وحفظ فأحسن الحفظ، حتى إذا لم يبق بينه وبين شهود الامتحان إلا سواد الليل، وأقبل عليه شيخه المرصفي رحمه الله فأنبأه هذا النبأ العجيب الذي لم يحمله إليه في ضوء النهار، وإنما حمله إليه في ظلمة الليل، بعد أن صليت العشاء.
قال الشيخ: إذا أصبحت يا بني فاستقل من الامتحان ولا تحضره من عامك هذا، فإن القوم يأتمرون بك ليسقطوك.
قال الفتى: وما ذاك؟!
قال الشيخ: تعلم أني عضو في لجنة الامتحان التي ستحضر أمامها غدا، والتي يرأسها الشيخ دسوقي العربي، فقد دعي رئيس اللجنة إلى الشيخ الأكبر وأمر بإسقاطك مهما تكن الظروف.
قال الفتى: ولكني سأحضر أمام لجنة أخرى يرأسها الشيخ عبد الحكم عطا.
قال الشيخ: فإن هذه اللجنة لن تجتمع؛ لأن رئيسها أبى أن يسمع للشيخ الأكبر حين أمره بإسقاطك، فلما ألح الشيخ الأكبر عليه ألح هو في الإباء، فلما خيره الشيخ الأكبر بين إسقاطك وبين ألا تجتمع لجنته، آثر ألا تجتمع اللجنة، وقال: إنما هو غداء وثلاثون قرشا!
وأبى الفتى أن يستقيل على رغم إلحاح الشيخ المرصفي عليه في ذلك، ونام ليله هادئا موفورا، واستقبل صباحه راضيا مسرورا، وغدا على لجنة الامتحان، وكانت مجتمعة في مكان في الدراسة لا يعرف الفتى أقائم هو أم درس فيما درس من المنازل والدور.
غدا على لجنة الامتحان فألقى التحية، وجلس، وكان أعضاء اللجنة يشربون الشاي.
قال الرئيس للفتى: هل أفطرت؟
قال الفتى: نعم.
قال الرئيس: فأتمم هذا الكوب الذي شربت نصفه لتحصل لك البركة.
وأخذ الفتى من الشيخ كوبه مبتسما، وشرب ما فيه متكرها، ثم أخذ في الدرس الأول فأنفق فيه ساعتين ونصف ساعة، ولقي فيه من المناقشة أشدها، ومن الجدال أعنفه. وفي أثناء ذلك دخل الشيخ الأكبر، فلم يسلم، وإنما قال: حرام عليك يا شيخ دسوقي، حرام عليك، ارفق به! ارفق به! ثم انصرف.
ولم يرفق الشيخ دسوقي بالفتى، وإنما أضاف شدة إلى شدة، وعنفا إلى عنف، وانقضى الدرس الأول، وقيل للفتى: اذهب فاسترح.
وخرج الفتى فإذا كرسي قد وضع إلى جانب الباب، وجلس عليه الشيخ الأكبر كأنه ينتظر شيئا.
ولم يكد يرى الفتى حتى دعا شيخا من الشيوخ كان هناك وقال له: خذه يا شيخ إبراهيم فاسقه فنجانا من القهوة!
وفي انتظار هذا الفنجان أقبل من حمل المحفظة إلى الفتى إيذانا بأنه قد سقط، وبأن اللجنة لا تريد أن يتم ما بقي له من الدروس.
الفصل الثالث
أثر اختفاء المرأة
وعاش الفتى وصاحباه أعواما غرباء عن الأزهر قريبين منه، يلمون به بين حين وحين، إن أتيح لهم ذلك، فيجلسون في مجلسهم ذاك بين الإدارة والرواق العباسي، ويتندرون كما أحبوا أن يفعلوا دائما بالمقبلين على الأزهر والخارجين منه، وبالشيوخ والطلاب. وربما قرأ عليهم أحدهم الزيات في هذا الكتاب أو ذاك من كتب الأدب القديمة أو الجديدة، وربما قرأ هذه الصحيفة أو تلك من صحف المساء، فأخذوا في حديث السياسة وخطوبها، أو في ذكر كتاب تلك الأيام وشعرائها، يلمون بهذا كله ولا يمعنون فيه، فقد كانوا في تلك الساعات لا يكرهون شيئا كما كانوا يكرهون أخذ الأمور مأخذ الجد.
كانوا يقصدون إلى الأزهر ليلهوا ويلعبوا، لا ليعملوا ويجدوا، فقد استقر في نفوسهم أن للمجد مكانا غير الأزهر، هو الجامعة إذا كان المساء، وهو دار الكتب أثناء النهار. وربما شاقهم طعام الأزهر، فذهب ثالثهم الزناتي فاشترى لهم من هذا الطعام، وأقبلوا عليه كلفين به ساخرين منه، ومن الذين يعيشون عليه، ومن أنفسهم حين كانوا يعيشون عليه. فقد تغيرت أحوالهم شيئا؛ عمل أحدهم مدرسا في كلية الفرير، وعمل الآخر مصححا في المطبعة الأميرية، وأصبح لكل منهما مرتب في آخر الشهر يتيح له شيئا من سعة، وينأى به عن حياة الأزهر تلك القاسية الجافية، وعن طعام الأزهر ذلك الخشن الغليظ. ولم يكن صاحبنا الفتى معلما ولا مصححا، ولم يكن له مرتب في آخر الشهر أو أوله، ولكن حياته مع ذلك لانت بعض اللين. فقد ظل الشيخ يرسل إليه وإلى أخيه وابن خالته ما تعود أن يرسل من الزاد والنفقة على اتساع فيهما قليل. وأضيف إلى ذلك ما كان أخو الفتى يأخذه من مدرسة القضاء في كل شهر، وما كان ابن خالته يأخذه من دار العلوم في كل شهر أيضا. وكان كلاهما يصيب غداءه في المدرسة التي يختلف إليها. وكان صاحبنا قد خلي بينه وبين ما يتاح له من طعام أثناء النهار، ليس لينا ولا رقيقا، ولكنه خير من طعام الأزهر على كل حال. وأتيح للفتى أن يصيب من الطعام المطبوخ مرتين في الأسبوع، فكان طعام الأزهر بالقياس إليه خشنا غليظا، وكان ربما استطرفه بين حين وحين.
وقد جعل هؤلاء الفتية الثلاثة يحيون حياة الأدباء في تلك الأيام. وكانت حياة الأدباء في تلك الأيام مزاجا غريبا من متعة تختلس بين حين وحين، ومن بؤس نفسي يفرضونه على أنفسهم، وإن لم تفرضه عليهم الحياة؛ فالأديب عندهم وعند غيرهم في تلك الأيام بائس بطبعه، طامح بطبعه إلى النعيم، يتخذ البؤس لنفسه عشيرا، ويجعل النعيم لنفسه حلما، ويختلس المتعة القصيرة بين حين وحين إن أتيح أن يخرج من حياته المألوفة إلى رياضة في الضواحي، أو تنزه في الحدائق، أو جلسة في قهوة من القهوات.
وكانت حياة الأديب فيما وراء ذلك ألوانا من الرضا والسخط تأتيه من قراءاته الكثيرة المختلفة، قوامها أن يفكر كما كان يفكر القدماء الذين يقرأ آثارهم ويشعر كما يشعرون، ويسير في الناس كما كانوا يسيرون. وقد ألح أولئك الفتية في قراءة الشعر الجاهلي والإسلامي والعباسي وحفظه، كما ألحوا في قراءة أخبار الشعراء والكتاب وعلماء اللغة، فعاشوا عيشة أولئك الناس في دخائل نفوسهم، وإن لم يستطيعوا أن يعيشوها في حياتهم الواقعة؛ لأن الظروف كانت تحول بينهم وبين ما كانوا يريدون من ذلك، وهم قرءوا شعر أبي نواس وأصحابه، وقرءوا شعر الغزلين العذريين، فاستحبوا من الغزل ما استحب أولئك الشعراء، وذهبوا فيه مذاهبهم المختلفة، حافظ منهم من حافظ فآثر شعر العذريين وغزلهم، وجدد منهم من جدد فآثر شعر العباسيين وغزلهم، وخلقوا لأنفسهم مثلا للجمال يتغزلون فيها ويشببون بها، ولم يكن للمحافظين منهم بد من أن يخترعوا مثلهم العليا اختراعا، فقد كانت الحياة تحول بينهم وبين لقاء الغواني. ولكن المجددين كانوا خيرا منهم حظا، فلم يكن من الممتنع أن يلقوا في الأزهر أو خارج الأزهر بعض الوجوه الصباح، وأن يتخذوا لغزلهم موضوعات لا يخترعها لهم الخيال، وإنما تعرضها عليهم الحياة.
وكذلك وجد بين هؤلاء الفتية من كان يذهب مذهب جميل وكثير، وكان الحرمان المطلق محتوما عليه؛ كما كان منهم من يذهب مذهب أبي نواس وأصحابه، وكان حظه من الحرمان أقل، ونصيبه من النعيم أكثر، فهو كان يستطيع أن يلقى أصحاب الوجوه الصباح، وأن يقول لهم ويسمع منهم، ويهيم بهم، ويقول فيهم الشعر، ويذهب في هذا الشعر المذاهب، وربما ورطه هيامه وشعره وورط معه صاحبيه في الشر القليل أو الكثير.
وكان ثالث هؤلاء الفتية نواسي الشعر ونواسي الهوى، وما أسرع ما ألف أفرادا من ذوي الوجوه الحسان، واطمأن إليهم وأكثر من لقائهم، يسعى إليهم وحده في مجالسهم، وربما دعا أحدهم إلى مجلسه مع صاحبيه، وصاحباه يضحكان منه ويعبثان به أول الأمر، ثم يرثيان له ويلحان عليه بالنصح بعد ذلك، يؤدون إليه ما يحبون من العبث به والنصح له، بالحديث مرة وبالشعر مرة أخرى. ولكنه لا يحفل بعبثهما ولا بنصحهما، وإنما يمضي مع هواه لا يلوي على شيء، حتى أصبح حديث أترابه، وحتى أقبل الفتية ذات يوم إلى مجلسهم ذاك من الرواق العباسي فوجدوا بعض الزارين على عبثهم قد كتب لهم على الجدار الذي كانوا يستندون إليه هذين البيتين اللذين كتبهما شاعر قديم لأبي عبيدة معمر بن المثنى:
صلى الإله على لوط وشيعته
أبا عبيدة قل بالله آمينا
فأنت عندي بلا شك بقيتهم ... ... ... ... ...
ولم يكد صاحبا الفتى يريان هذا الشعر حتى أخذهما ما يشبه الصاعقة، وضحك صاحبنا، وأغرق في الضحك، وثاب صاحباه إلى مثل ما كان فيه، فضحكا معه وأغرقا في الضحك أيضا، ولكن بغضهم لزملائهم من طلاب الأزهر زاد أضعافا مضاعفة، وجعل الفتى النواسي يبحث عن كاتب هذين البيتين بدون أن يصل من بحثه إلى شيء، ولكنه رجح لغير سبب أن خصمه إنما هو ذلك الطالب الأسود الذي كان ينافسه في دروس النحو، والذي كان يبغضه أشد البغض، فاتخذه لنفسه عدوا، وجعل يتعمد إيذاءه كلما وجد إلى إيذائه سبيلا، فكان لا يراه - وما أكثر ما كان يراه - إلا رفع صوته بهذين البيتين اللذين حفظهما فيما زعم عن أبيه:
في الهند طير ناطق
سبحان من قد ألهمه
يقول في تسبيحه
ابن الأمه ما ألأمه
ومنذ ذلك الوقت أسرف ذلك الفتى النواسي على نفسه وعلى صاحبيه وعلى زملائه من الطلاب، فكان يتتبع سيئاتهم وأغلاطهم، ويزيد فيها ويضيف إليها، ويقول في ذلك الشعر، حتى أصبح هجاء. وكان لا يحتفظ بهجائه لنفسه ولصاحبيه، وإنما يجهر به كلما وجد إلى الجهر به سبيلا. وربما احتال حتى ينشد شعره ذاك بأرفع صوته ليسمعه من قيل فيهم من الطلاب. ثم عظم في نفسه الوهم واستأثر بها حب الشر، فكان كلما رأى أحدا ينظر إليه فيطيل النظر، أو ينظر إلى بعض أصحابه أولئك الحسان اتخذه لنفسه عدوا وهجاه. ثم بدا له أن الهجاء وحده لا يغني عنه شيئا، فعمد إلى شر منه، وجعل يكتب إلى إدارة الأزهر وإلى الشيخ الأكبر خاصة، الرسائل في كل يوم، يسعى بها عنده في هؤلاء الطلاب الذين اتخذهم لنفسه عدوا.
وضاق الشيخ الأكبر بهذه الرسائل التي جعلت تصب عليه في كل يوم كما ينصب المطر من السماء، وإذا الإدارة تعلق ذات يوم في لوحة الإعلانات تنبيها تدعو فيه الطلاب إلى أن يكفوا عن هذه الخطة التي ينكرها الخلق ويحرمها الدين، وهي السعي بالسوء في الشيوخ والطلاب عند المشيخة. وقد قرأ الفتى النواسي هذا التنبيه ذات يوم بين هذه الإعلانات الكثيرة التي كان الطلاب يعلقونها يعلنون فيها أن نعالهم قد ضاعت منهم، وأن من وجدها فليردها إلى صاحبها، وأن من سرقها فهو جدير بأن يغضب الله عليه ويقطعه من هذا المكان.
قرأ الفتى النواسي هذا التنبيه بين تلك الإعلانات، فامتلأ قلبه غبطة وابتهاجا، وزعم أنه قد فاز فوزا عظيما؛ لأنه ضايق الشيخ وأحرجه، وألح في كتابة رسائله تلك إمعانا في مضايقة الشيخ وإحراجه، ولم يكف عن ذلك إلا حين كف صاحباه عن الإلمام بالأزهر مخافة سوء العاقبة، واضطر هو إلى أن يهجر الأزهر كما هجره صاحباه.
على أن صاحبنا الفتى لم يلبث أن شغل - أو كاد يشغل - عن صاحبيه بياض النهار، فقد كان يخلص لحياته هذه الجديدة التي أخذ يحياها منذ قرأ لنفسه أول مقال نشرته له الصحف. أرضاه ذلك عن نفسه وأطمعه في المزيد منه، فجعل يكتب في الجريدة رغبة في الكتابة أحيانا، وتقربا بها إلى مدير الجريدة أحيانا أخرى، وجعل مدير الجريدة يرضى عن فصوله، ويغريه بالكتابة، ويحثه عليها حثا، ويعلمه القصد في اللفظ والأناة في التفكير.
وما هي إلا أن جعل يقربه إليه، ويدعوه إلى زيارته حتى أصبح الفتى ملازما لمكتب المدير، يلم به في أكثر أيام الأسبوع حين يرتفع الضحى، فلا يحجب عنه، وإنما يلقاه الأستاذ المدير هاشا له، مرحبا به، آخذا في التحدث إليه والاستماع منه، فاتحا له أبوابا من التفكير، لم تكن تخطر له على بال، خائضا معه في حديث الأدب القديم، راويا له من الشعر ما كان يحفظ وما لم يكن قد سمعه من قبل، حتى استأثر بقلب الفتى وعقله وحتى أصبح للفتى أستاذان يختصهما بحبه وإعجابه، أحدهما يذكره بأئمة البصرة والكوفة وهو الشيخ سيد المرصفي، والآخر يذكره بفلاسفة اليونان الذين سمع أسماءهم في الأزهر وجعل يدرس أطرافا من فلسفتهم في الجامعة، وهو لطفي السيد.
وكان الفتى يختلف مع ذلك إلى الشيخ عبد العزيز جاويش رحمه الله، فيسمع له صوتا عذبا وحديثا لينا رقيقا، ويرى من وراء هذا اللين وتلك العذوبة عنفا أي عنف إن ذكرت السياسة، أو ذكر الأزهر وشيوخه، أو ذكر بعض الكتاب الظاهرين الذين لا يكتبون في صحف الحزب الوطني. وكان يحبب العنف إلى الفتى ويرغبه فيه، ويزين في قلبه الجهر بخصومة الشيوخ والنعي عليهم في غير تحفظ ولا احتياط. فهو كان يرى أنهم آفة هذا الوطن يحولون بينه وبين التقدم بما كانوا يلجون فيه من المحافظة ويعينون عليه الظالمين بممالأتهم للخديو، ومصانعتهم للإنجليز.
وكان بغضه لسعد زغلول رحمه الله معروفا يتحدث به الناس، هجاه بمقالاته المشهورة التي جعل عنوانها: «ظلموك يا سعد»، وهجاه هجاء منكرا في بعض الشعر الذي لم ينشره؛ لأنه كان أعنف من أن ينشر.
وقد أنشدني قصيدة قالها في السجن، وقد بلغه أن سعدا قد يعود إلى الوزارة أو يصبح رئيسا لمجلس الوزراء، لم أحفظ منها إلا مطلعها وهو بشع كما ترى:
إن صح ما أنهى الرواة لمسمعي
فلسوف تصبح تحت حكم الأقرع
وعلى الشيخ عبد العزيز جاويش رحمه الله يقع نصيب غير قليل من ثقل تلك الفصول الطوال السمجة التي كتبها الفتى، فشغل به الأدباء والمثقفين حينا، ثم لم ينقطع استخذاؤه لها وضيقه بها وخجله منها كلما ذكرت له، وكان موضوعها نقد «نظرات» المنفلوطي رحمه الله، وكان عنوانها: «نظرات في النظرات».
قرأ الفتى الفصول الأولى من نظرات المنفلوطي راضيا عنها، معجبا بها، ثم لم يلبث أن سئمها وانصرف عنها. ولكنه لم يكد يراها مجموعة في كتاب حتى ضاق بها أشد الضيق، وكتب يعيبها ويغض منها. وفرح الشيخ عبد العزيز جاويش بما كتب الفتى أشد الفرح، واستزاده من الكتابة، وحرضه عليها وألح في التحريض، حتى ألقى في روعه ألا يدع فصلا من فصول المنفلوطي إلا اختصه بفصل من النقد. وكان الفتى قديم المذهب في الأدب لا ينظر منه إلا إلى اللفظ، ولا يحفل من اللفظ إلا بمكانه من معجمات اللغة، فكان عيب المنفلوطي عنده أنه يخطئ في اللغة ويضع الألفاظ في غير مواضعها، ويصطنع ألفاظا لم تثبت في «لسان العرب» ولا في «القاموس المحيط».
وما أسرع ما انزلق الفتى من هذا النقد السخيف إلى طول اللسان وشيء من الشتم لم تكن بينه وبين النقد صلة. ولم ينس الفتى مقالا دفعه ذات مساء إلى الشيخ عبد العزيز جاويش، فلم يكد يقرأ أوله حتى طرب له وأبى إلا أن يقرأه بصوته العذب على من يحضر مجلسه ذاك، وابتهج الفتى حين سمع الثناء، وأحس بالإعجاب، واستيقن أنه أصبح كاتبا ممتازا، ثم لم يذكر بعد ذلك أول هذا المقال حتى طأطأ من رأسه ومن نفسه، وسأل الله أن يتيح له التكفير عن ذنبه ذاك العظيم، وكان أول المقال: «عم صباحا أو مساء، واشرب هواء أو ماء، واستأجر من تشاء لما تشاء فقد وضح الحق وبرح الخفاء.»
كان بعض تبعة هذا السخف يقع على الشيخ عبد العزيز جاويش، ولكن للشيخ عبد العزيز جاويش فضلا على الفتى أي فضل، فهو الذي ألقى في روع الفتى فكرة السفر إلى أوروبا حين قال له ذات يوم: «لا بد من أن نصنع شيئا لإرسالك إلى فرنسا عامين أو ثلاثة أعوام.» لم يكد الفتى يسمع هذه الألفاظ حتى استقر في نفسه أن ليس له بد من عبور البحر على أي نحو من الأنحاء، وقد لاحظ الفتى فيما بعد أن أحاديثه تلك عن المنفلوطي قد شغلت الناس حتى تحدث إليه فيها كل من كان يلقاه، إلا رجلا واحدا لم يشر إليها قط على كثرة ما كان يلقى الفتى، وعلى كثرة ما كان يتحدث إليه، وهو مدير الجريدة لطفي السيد.
فهم الفتى - ولكن متأخرا - أن لطفي السيد لم يرض قط عن هذه الفصول، ولو قد رضي عنها، وعن بعضها، لتحدث إليه فيها، وهو الذي كان كثيرا ما يشجع الفتى فيتنبأ له مرة بأنه سيكون موضعه من مصر موضع فولتير من فرنسا، ويقول له مرة أخرى: أنت أبو العلائنا، يتعمد إثبات الألف واللام على رغم الإضافة في اسم أبي العلاء، ثم يضحك ويغرق في الضحك حين يرى تنكر الفتى للجمع بين الإضافة وأداة التعريف.
أصبح الفتى كاتبا بفضل هذين الرجلين: لطفي السيد وعبد العزيز جاويش، وأصبح كاتبا لشيء آخر: وهو أنه أثناء الأعوام العشرة الأولى من كتابته في الصحف لم يكتب إلا حبا للكتابة ورغبة فيها، لم يكسب بها درهما ولا مليما.
الفصل الرابع
عندما خفق القلب لأول مرة!
على أن فضل الشيخ عبد العزيز جاويش على الفتى لم يقف عند هذا الحد، وإنما تجاوزه فأمعن في تجاوزه، فهو الذي عرف الفتى إلى جماهير الناس ووقفه بين أيديهم ذات صباح منشدا للشعر، كما كان يفعل الشعراء المعروفون، وحافظ منهم خاصة، في بعض المناسبات العامة.
كان الناس قد ألفوا الاحتفال برأس العام الهجري كلما انقضى عام هجري، وأقبل عام جديد. وكان الشيخ عبد العزيز جاويش يحرص على أن يكون للحزب الوطني احتفاله بهذا اليوم، فأقام حفلة ذات عام في مدرسة مصطفى كامل، واحتشد لهذا الحفل عدد ضخم من الناس شبابا وكهولا وشيبا، وكان الفتى قد أنشأ فيما بينه وبين نفسه قصيدة يستقبل بها عيد الهجرة، وأنشدها أمام الشيخ عبد العزيز جاويش، فرضي عنها وحثه على أن يقول أمثالها.
فلما كان هذا الحفل شهده الفتى مع الشاهدين، ولكنه لم يكد يتخذ مكانه بين الناس، حتى أقبل من أخذ بيده وأجلسه على المنصة. ولم يقدر الفتى في نفسه إلا أن الشيخ عبد العزيز جاويش قد أراد أن يرفق به ويتلطف له ويقربه من مجلسه، فرضي عن ذلك كل الرضا، وعده فضلا من الشيخ عظيما، وألقيت الخطب وصفق المصفقون، ولم يرع الفتى إلا أن سمع اسمه يعلن إلى الناس، ورأى نفسه يدعى إلى إنشاد قصيدته العصماء! فلبث في مكانه جامدا واجما لا يدري ماذا يصنع، ولا يعرف كيف يقول، وأقبل من أخذ بيده، وهم الفتى أن يمتنع حياء وخجلا، ولكن الذي أخذ بيده جذبه جذبا شديدا وجعل الذين من حوله يدفعونه وينهضونه حتى أنهضوه وجروه جرا إلى المائدة. واستقبل الفتى بتصفيق شديد منحه قوة وجرأة، فأنشد قصيدته في صوت ثابت ممتلئ، ولكنه لم يكن يستقر في موقفه، وإنما كان جسمه يرتعد ارتعادا، واستقبلت قصيدته أحسن استقبال وأروعه حتى خيل إلى الفتى أنه قد أصبح حافظا أو قريبا من حافظ.
ثم مرت الأعوام وتبعتها الأعوام، واختلفت على الشيخ وعلى الفتى خطوب أي خطوب، وتعاقبت أحداث في مصر أي أحداث! وجلس الفتى ذات مساء إلى صديق له كريم، وقد جاوز الفتى سن الشباب والكهولة، وأخذ في ذكر الصبا وأيام الطلب، وأنسي الشيخ شبابه وصباه وشغل عن حياته الماضية، وأعرض عن الشعر كل الإعراض بعد أن استبان له أنه لم يقل الشعر قط، وإنما قال سخفا كثيرا. وإذا الصديق الكريم يذكره بموقفه ذاك في مدرسة مصطفى كامل وإنشاده قصيدته تلك، ويذكر له مطلع تلك القصيدة، فيرثي الشيخ لما أضاع من شبابه وما أنفق من جهده في غير طائل ولا غناء.
ثم لم يقف الشيخ عبد العزيز جاويش بالفتى عند هذا الحد، ولكنه علمه الكتابة في المجلات؛ فقد أنشأ مجلة «الهداية»، وطلب إلى الفتى أن يشارك في تحريرها، ثم ترك له - أو كاد يترك له - الإشراف على هذا التحرير، وكان له الفضل كل الفضل فيما تعلم الفتى من إعداد الصحف وتنسيق ما ينشر فيها من فصول. ولم تخل «الهداية» من جدال عنيف دفع إليه الفتى دفعا، وكان خصمه الشيخ رشيد رضا، وقد أسرف الفتى على نفسه وعلى الشيخ رشيد في ذلك الجدال، وكتب أحاديث استحى منها فيما بعد حين ذكرت له، ولكن الشيخ عبد العزيز كان عنها راضيا وبها كلفا، وقد أجاز نشرها وشجع الفتى على المضي فيها. كان يمقت من الشيخ رشيد ممالأته للخديو وانحرافه عن طريق الأستاذ الإمام، وما دفع إليه من إعجاب بنفسه واغترار بثناء الناس عليه وإعجابهم به.
ثم أضاف الشيخ إلى كل هذا الفضل فضلا آخر وقع من نفس الفتى موقع الماء «من ذي الغلة الصادي» أرضاه عن بعض حاله، وأكبره في نفسه شيئا، وأشعره بأن قد أتيح له أن يجلس مجلس المعلم، وأن يكون له تلاميذ كثيرون بعد أن حال الأزهر بينه وبين ذلك.
فقد أنشأ الشيخ عبد العزيز جاويش مدرسة ثانوية كما أنشأ مصطفى كامل مدرسة، وكلف الفتى أن يعلم فيها الأدب على ألا ينتظر على ذلك أجرا؛ فالمدرسة عمل وطني لا أجر عليه لمن يشارك فيه. ولم يكن الشيخ يفيد من هذه المدرسة شيئا، وربما أنفق عليها من رزقه وكلف نفسه في سبيل ذلك شيئا من الحرمان، وربما ألح على بعض الأغنياء وأوساط الناس حتى استكرههم على أن يعينوه على نفقاتها ببعض المال. وقد أقبل الفتى على تعليمه ذاك فرحا به مبتهجا له، يرى فيه شفاء لغيظه من الأزهر، ويرى فيه مع ذلك مشاركة في بعض الخير.
ثم لم يلبث هذا كله أن انقطع فجأة، صرف الشيخ عنه بأحداث السياسة، ثم اضطر إلى أن يهاجر من مصر على غير انتظار لهجرته، ولم يره الفتى منذ ودعهم ليلة سفره إلا بعد أعوام طوال، بعد أن عاد عودته تلك، فقد سافر من مصر فجأة، وعلى غير علم من أهلها، وعاد إلى مصر فجأة، وعلى غير علم من أهلها أيضا.
وهو على كل حال قد أعان الفتى على الخروج من بيئته تلك المغلقة إلى الحياة العامة، وعلى أن يكون له اسم معروف. ومثل ذلك فعل الأستاذ أحمد لطفى السيد؛ فعرف الفتى إلى كثيرين من الذين كانوا يلمون بمكتبه في الجريدة من الشيوخ والشباب. وفي مكتبه اتصل برفاق له أحباء عمل معهم فيما بعد، ولقي معهم خطوبا أي خطوب، عرف عنده هيكل ومحمود عزمي والسيد كامل، وكامل البنداري وأترابا لهم كثيرين. وعرف بفضله لونا من المعرفة لم يكن يقدر أنه سيتاح له في يوم من الأيام؛ فقد لقي عنده ذات يوم تلك الفتاة التي كان الناس يتحدثون عنها فيكثرون الحديث، لا لأنها كانت جميلة فاتنة، ولا لأنها كانت جذابة خلابة، ولكن لأنها كانت طامحة ملحة في الطموح، ظفرت لأول مرة بالشهادة الثانوية، وكانت أول فتاة ظفرت بها، وهي نبوية موسى.
وكان الفتى قد لقي السيدات في بيئته تلك الريفية، ولكنه لم يلق منهم القارئة الكاتبة البرزة التي تظهر في مجالس الرجال وتحاورهم، فتلج في المحاورة وتخاصمهم فتعنف في الخصام، قبل أن يلقى تلك الفتاة.
واحتفل ذات مساء في حجرة من حجرات الجامعة القديمة بتكريم خليل مطران رحمه الله، وكان الخديو قد أهدى إليه وساما. وكان شقيق الخديو الأمير محمد على رئيسا لهذا الاحتفال، وكان الشعراء سينشدون فيه الشعر، وكان الخطباء سيلقون فيه الخطب، فاعتذر الفتى إلى أستاذه في الجامعة من حضور الدرس، ولم يكن يكره شيئا كما كان يكره التخلف عن الدروس، وآثر شهود ذلك الحفل. وفيه سمع كثيرا من الشعر وكثيرا من الخطب، فلم يحفل بشيء مما سمع، لم يعجبه شعر حافظ في ذلك المقام، مع أنه كان كثير الإعجاب بشعر حافظ، ولم تعجبه قصيدة مطران؛ لأنه لم يفهم منها شيئا، ولم يذق منها شيئا، وربما أحس فيها إسرافا من الشاعر في التضاؤل أمام الأمير الذي أهدى إليه ذلك الوسام؛ فقد شبه نفسه بالنبتة الضئيلة، وشبه الأمير بالشمس التي تمنحها الحياة والقوة والنماء. لم يرض الفتى عن شيء مما سمع إلا صوتا واحدا سمعه فاضطرب له اضطرابا شديدا وأرق له ليلته تلك، كان الصوت نحيلا ضئيلا، وكان عذبا رائقا، وكان لا يبلغ السمع حتى ينفذ منه في خفة إلى القلب فيفعل به الأفاعيل. ولم يفهم الفتى من حديث ذلك الصوت العذب شيئا، ولم يحاول أن يفهم من حديثه شيئا، شغله الصوت عما كان يحمل من الحديث، وكان صوت الآنسة مي التي كانت تتحدث إلى جمهور من الناس للمرة الأولى. ولم يستطع الفتى حين أصبح من ليلته تلك أن يمتنع عن السعي إلى مدير الجريدة، وقد جلس إليه فقال له وسمع منه. ثم ما زال يدور بحديثه حتى انتهى إلى حفل مطران، وحتى انتهى من حفل مطران إلى ذكر تلك الفتاة التي تحدثت فيه، والتي لم يسمع الفتى عنها قبل يومه ذاك. وقد سأله مدير الجريدة عما قالت الفتاة فلم يحسن ردا، وإنما لجلج في القول. وأثنى الأستاذ على مي، وأنبأ الفتى بأنه سيقدمه إليها في يوم قريب، وابتهج الفتى بهذا الوعد وإن لم يعرب عن ابتهاجه، وظل يرقب البر به. ولكن الأستاذ نسيه، واستحيا الفتى أن يذكره فحمل نفسه على المكروه، وما أكثر ما كان يحملها على المكروه! وأعرض عن ذكر مي، واجتنب حديثها إلى الأستاذ، ومضت أيام وأشهر وظفر الفتى من الجامعة بدرجة الدكتوراه، وأعطى مدير الجريدة رسالته عن أبي العلاء، فقرأها ورضي عنها، ولكنه لم يردها إلى الفتى، وإنما قال له: إنما سترد إليك رسالتك بعد أيام؛ لأن الآنسة مي قد طلبت أن تقرأها، وسمع صاحبنا ذكر مي، فبدا عليه فيما يظهر شيء من وجوم، وكأن الأستاذ لاحظ ذلك فذكر وعده القديم وقال للفتى في رفق: ألم أعدك بتقديمك إليها؟
قال الفتى: أكاد أذكر ذلك.
قال الأستاذ: فالقني مساء الثلاثاء فسنزورها معا.
وفي مساء الثلاثاء رأى الفتى نفسه لأول مرة في حياته في صالون فتاة تستقبل الزائرين من الرجال، حفية بهم، معاتبة لهم في رشاقة أي رشاقة، وفي ظرف أي ظرف، وفي حديث عذب يخلب القلوب ويستأثر بالألباب.
وطال المجلس وكثر الزائرون، ودارت أكواب الشاي والفتى في مكانه لا يكاد يحس من ذلك شيئا، قد ملك الوهم والوجل عليه أمره كله، فهو لم يشهد مثل هذا المجلس قط، وليس له عهد بمثل ما يجري في مثل هذه المجالس من المراسم ولا بما يتبع فيها من التقاليد والعادات، فهو منكر نفسه، منكر من حوله وما حوله، إلا شخصين اثنين، هما: الأستاذ لطفي السيد والآنسة مي.
وقد أخذ الزائرون في الانصراف، ورغب الفتى فيه ليخلص من حرجه، وأشفق منه حرصا على صوت مي وحديثها، ولم يحاول أن ينصرف، فما كان له أن يحاول ذلك قبل أن يؤذنه به الأستاذ.
وقد انصرف الزائرون جميعا وخلا للأستاذ وتلميذه وجه مي، فخاضت مع الأستاذ في بعض الحديث، وأثنت للفتى على رسالته في أبي العلاء، فأغرقت في الثناء، واستحيا الفتى شيئا، ولم يحسن أن يشكر لها ثناءها. ولكن الأستاذ يطلب إلى الفتاة أن تقرأ عليه مقالها ذاك، فتتردد الفتاة شيئا، ثم تقدم بعد أن تعلن إلى الفتى أنها تقرأ على الأستاذ هذا المقال؛ لأنه هو الذي يعلمها العربية ويعلمها الكتابة.
قال الفتى في صوت مختنق ولفظ مجمجم: كما يعلمني أنا.
قالت مي: فنحن إذن زميلان.
وقرأت المقال، وكان عنوانه «وكنت في ذلك المساء هلالا.»
وسحر الفتى، ورضي الأستاذ، وانصرفا بعد حين، وفي نفس الفتى من الصوت ومما قرئ شيء كثير!
الفصل الخامس
أستاذي يدعو علي بالشقاء!
وكانت حياة الجامعة في أول عهد المصريين بها عيدا متصلا يحيونه إذا أقبل المساء من كل يوم، حين يزدحمون على غرفات الدرس على اختلاف منازلهم من الفقر والغنى، وعلى اختلاف حظوظهم من الثقافة، وعلى اختلاف أزيائهم أيضا. فكان منهم الغني المترف والفقير الذي لا يجد ما ينفق، وكان منهم القاضي والطبيب والطالب والموظف والمجاور في الأزهر الشريف.
وكان منهم غير أولئك قوم لم يأخذوا من العلم إلا بأيسر أسبابه، ولكنهم كانوا يختلفون إلى هذه الدروس والمحاضرات ليروا ويسمعوا ويمتعوا أنفسهم إن أتيح لهم المتاع. وقد جعلت غرفات الجامعة تضيق بهؤلاء المختلفين إليها والمزدحمين عليها. وعجز الأساتذة عن أن يسمعوا هذه الأعداد الضخمة التي كانت تكتظ بها الغرفات، فقرر بعضهم أن يلقي محاضرته مرتين. ولم ير الطلاب بهذا بأسا، كانوا يستبقون ليسمعوا الأستاذ في محاضرته الأولى، فمن حيل بينه وبين ذلك انتظر المحاضرة الثانية. وكانوا ينتظرون في أبهاء الجامعة وحديقتها، وكان أهل السعة منهم يذهبون إلى قهوة كوبري قصر النيل القريبة، فيشربون أو يطعمون، حتى إذا قرب موعد المحاضرة أسرعوا إليها مشغوفين بها إلى أقصى غايات الشغف. واضطرت الجامعة إلى أن تنظم دخول غرفات الدرس، فلا تأذن به إلا لمن قدموا بطاقات الانتساب، وصدت بذلك عددا غير قليل من الذين كانوا يسعون إلى هذه الدروس كما كانوا يسعون إلى المحاضرات العامة.
وأقبل الفتى ذات مساء بصحبة غلامه الأسود، فلما بلغ الغرفة أظهر بطاقته، وقد كان بها ضنينا وعليها حريصا، وقيل له: تستطيع أن تدخل، فأما غلامك هذا فلا حق له في الدخول.
وأظهر الفتى شيئا من ضيق، ولكن صاحب الباب لم يحفل بضيقه ولا بإنكاره، ولا بتوسل من كان حوله من الطلاب، ولا بحاجته إلا أن يصحبه هذا الغلام حتى يجلسه في مكانه ثم يرجع أدراجه فينتظر من وراء الباب حتى ينقضي الدرس.
واضطر الفتى إلى أن يفزع إلى السكرتير العام أحمد زكي بك شاكيا، وصحبه بعض الطلاب الساخطين على جهل صاحب الباب وعنفه وغلظة ذوقه. وأدخل الفتى وأصحابه على السكرتير العام، وقصوا عليه قصتهم، ولكنهم لم يجدوا عنده شيئا، وإنما قال لهم في هدوء: النظام هو النظام.
وهم بعض الطلاب أن يجادله في ذلك فقال له متجهما: وماذا نصنع وقد أراد الله لصاحبك ألا يشهد هذه المحاضرات؟
وانصرف أولئك النفر من الطلاب ساخطين على السكرتير العام سخطا أشد وأعظم من سخطهم على صاحب الباب، وقالوا للفتى: لا بأس عليك، سنصحبك نحن إلى مجلسك.
وصحبوه إلى مجلسه متلطفين له متحببين إليه، وردوه إلى غلامه بعد انقضاء الدرس، وجعلوا منذ ذلك اليوم لا يرون الفتى مقبلا حتى يحيطوا به من قريب، فإذا بلغ باب الغرفة أخذ أحدهم بيده ، وصحبه إلى مجلسه، ثم رده إلى غلامه بعد ذلك، ولو أطاع الفتى نفسه في ذلك المساء لانصرف عن الجامعة ولحرم على نفسه الاختلاف إلى دروسها.
ولكن الجامعة كانت أحب إليه وآثر عنده من كبريائه تلك السخيفة.
وهو على ذلك لم ينم ليلته تلك، وإنما أنفقها مسهدا محزونا، يذكر كيف لقي مثل هذه القسوة حين أراد أن ينتسب إلى الأزهر في آخر الصبا وأول الشباب، وحين تقدم لأداء الامتحان في حفظ القرآن، فقال له أحد ممتحنيه: اقرأ يا أعمى سورة الكهف!
وذكر الفتى بعد سنين قصته هذه في الجامعة، وقصته تلك في الأزهر، حين دخل غرفة الدرس لأول مرة في جامعة مونبلييه، فسمع الأستاذ يقول لصاحبه: أيكون زميلك هذا مكفوفا!
قال الزميل: نعم.
قال الأستاذ: فإني أراه قد دخل الغرفة دون أن يرفع قلنسوته.
وكان الفتى حديث عهد بأوروبا لم يعرف بعد أن الناس يرفعون قلانسهم حين يدخلون مكانا مسقوفا، وأنهم يحضرون الدروس حاسري الرءوس.
وكذلك قضي على الفتى أن يستقبل طلبه العلم في الأزهر والجامعة المصرية والجامعة الفرنسية بكلمة عن آفته تلك تؤذي نفسه وتفرض عليه ليلة ساهرة، ثم يعرض عنها بعد ذلك؛ لأنه لم يكن يرى بدا مما ليس منه بد، وما أكثر ما ذكر بيت أبي العلاء:
وهل يأبق الإنسان من ملك ربه
فيخرج من أرض له وسماء؟!
وما أسرع ماكان الفتى ينسى هذه الكلمات المؤذية بعد أن يشتري هذا النسيان بليلة ينفقها مسهدامحزونا! ثم يقبل بعد ذلك على ما لم يكن بد من الإقبال عليه من العلم في الأزهر، وفي الجامعة المصرية، وفي جامعات فرنسا.
كان الفتى يرى حياته في الجامعة عيدا متصلا، كما كان يراها غيره من المصريين، ولكنها كانت بالقياس إليه عيدا تختلف فيه ألوان اللذة والغبطة والرضا والأمل، كانت تخرجه من بيئته تلك الضيقة المقلقة في الأزهر، وفي حوش عطا أو درب الجماميز إلى بيئة أخرى واسعة لا حد لسعتها؛ فهي كانت تتيح له أن يملأ رئتيه من الهواء الطلق حين يسعى إلى الجامعة وحين يعود منها، وأن يملأ عقله من العلم الطلق الذي لا يقيده تحرج الأساتذة الأزهريين فيما كانوا يلقون من الدروس، ولا يفسده الإسراف في القنقلة والجدال حول هذا اللفظ أو ذاك، وإضاعة الوقت في الإعراب حين لا يكون بين الدرس وبين الإعراب صلة.
وكانت هذه البيئة تتيح له كذلك علما يخلق نفسه خلقا جديدا لا يتصل بالنحو ولا بالفقه ولا بالمنطق ولا بالتوحيد، وإنما يذهب به مذاهب مختلفة في الأدب وفي ألوان من التاريخ لم يكن يقدر أنه سيعرفها في يوم من الأيام. ولم ينس الفتى يوما خاصم فيه ابن خالته الذي كان طالبا في دار العلوم ولج بينهما الخصام، فقال الدرعمي للأزهري: ما أنت والعلم! إنما أنت جاهل لا تعرف إلا النحو والفقه، لم تسمع قط درسا في تاريخ الفراعنة! أسمعت قط اسم رمسيس أو إخناتون؟!
وبهت الفتى حين سمع هذين الاسمين، وحين سمع ذكر هذا النوع من التاريخ. واعتقد أن الله قد كتب عليه حياة ضائعة لا غناء فيها. ولكنه يرى نفسه ذات ليلة في غرفة من غرفات الجامعة يسمع الأستاذ أحمد كمال رحمه الله يتحدث عن الحضارة المصرية القديمة، ويذكر رمسيس وإخناتون وغيرهما من الفراعنة، ويحاول أن يشرح للطلاب مذهبه في الصلة بين اللغة المصرية القديمة وبين اللغات السامية، ومنها اللغة العربية.
ويستدل على ذلك بألفاظ من اللغة المصرية القديمة يردها إلى العربية مرة وإلى العبرية مرة وإلى السريانية مرة أخرى، والفتى دهش ذاهل حين يسمع كل هذا العلم، وهو أعظم دهشة وذهولا حين يلاحظ أنه يفهمه ويسيغه في غير مشقة ولا جهد.
وهو يعود إلى بيته ذلك المساء وقد ملأه الكبر والغرور، ولا يكاد يلقى ابن خالته حتى يرفع كتفيه ساخرا منه ومن دار علومه تلك التي كان يستعلي بها عليه. وهو يسأل ابن خالته أتتعلمون اللغات السامية في دار العلوم؟! فإذا أجابه بأن هذه اللغات لا تدرس في المدرسة أخذه التيه، وذكر العبرية والسريانية ثم ذكر الهيروغليفية، وحاول أن يشرح لزميله كيف كان المصريون القدماء يكتبون، وتنقلب الآية ويصبح المغلوب غالبا والغالب مغلوبا.
ويمضي العام الأول من الحياة الجامعية عيدا كله، لا يحس الفتى سأما منه أو ضيقا به، وإنما يحس الحزن الممض حين تبدو طلائع الصيف.
وينفق الإجازة كلها مفكرا فيما سمع، ومشوقا إلى ما سيسمع في العام المقبل، ومتسائلا عمن يبقى من الأساتذة الذين عرفهم ومن يدعى من أساتذة لم يعرفهم. ثم لا يلبث أن تستأثر الجامعة بعقله كله وجهده كله، وأن تشغله عن كل شيء آخر؛ فقد أقبل أساتذة جدد ملكوا عليه أمره واستأثروا بهواه، فهذا الأستاذ كارلو نالينو المستشرق الإيطالي يدرس باللغة العربية تاريخ الأدب والشعر الأموي. وهذا الأستاذ سنتلانا يدرس بالعربية أيضا، وفي لهجة تونسية عذبة، تاريخ الفلسفة الإسلامية وتاريخ الترجمة خاصة. وهذا الأستاذ ميلوني يدرس باللغة العربية كذلك تاريخ الشرق القديم، ويتحدث إلى الطلاب عن أشياء لم يتحدث عنها أستاذ قبله في مصر؛ فهو يفصل تاريخ بابل وآشور، ويذكر الكتابة المسمارية، ويتحدث عن قوانين حامورابي، والفتى يفهم عن هؤلاء الأساتذة كل ما يقولون، لا يجد في فهمه التواء أو عسرا، وهو لا يكره شيئا كما يكره انتهاء الدروس، ولا يتشوق إلى شيء كما يتشوق إلى ما سيستقبل منها.
وهذا أستاذ ألماني، هو الأستاذ ليتمان، قد أقبل يتحدث إلى الطلاب عن اللغات السامية والمقارنة بينها وبين اللغة العربية، ثم يأخذ في تعليمهم بعض هذه اللغات. وإذا الفتى يخرج من حياته الأولى خروجا يوشك أن يكون تاما لولا أنه يعيش بين زملائه من الأزهريين والدرعميين وطلاب مدرسة القضاء وجه النهار وشطرا من الليل.
ولكن عقله قد نأى عن بيئته هذه نأيا تاما، واتصل بأساتذته أولئك اتصالا متينا، فكلهم قد عرفه، وكلهم قد آثره بالحب والرفق والعطف، وكلهم قد أدناه من نفسه، ودعاه إلى أن يزوره في فندقه، وأحب أن يقول له ويسمع منه. ولم ينس الفتى موعدا ضربه لأستاذه سنتلانا ذات صباح، ليحضر معه درسا من دروس الأزهر، وقد أقبل الأستاذ إلى حيث كان ينتظره تلميذه أمام الرواق العباسي، وذهب مع الفتى إلى درس الشيخ الأكبر الشيخ سليم البشرى رحمه الله، وكان يلقي درسه في التفسير مع الصباح بالرواق العباسي، وجلس الأستاذ والتلميذ بين الطلاب، وأخذ الشيخ يفسر آية كريمة من سورة الأنعام هي قول الله عز وجل:
ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون .
وفسر الشيخ رحمه الله فأحسن التفسير، وخاض في حديث الجبر والاختيار، وجعل يرد على الجبريين ويدفع مقالتهم، ويأخذ الفتى في حوار الشيخ على عادة الأزهريين، فيسمع الشيخ له ويرد عليه ردا لا يقنعه، ويأبى الفتى إلا اللجاج، فينهره الشيخ بهذه الكلمات: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن! الله أكبر على العلم والإيمان، حضرتك مسلم؟
ويهم الفتى أن يجيب، ولكن الشيخ ينهره في سخرية غاضبة قائلا: اسكت يا شيخ جاتك الكلاب خلينا نقرأ.
ثم يمضي في حديثه غير حافل بالفتى، ولكن الفتى يهم أن يتكلم، وإذا أستاذه الإيطالي يمس كتفه مسا متصلا، وهو يقول له هامسا بعربيته التونسية العذبة: اسكت، اسكت، ليضربك!
يميل بالضاد إلى الظاء، ويرى الفتى نفسه مغرقا في ضحك خفي، لا يدري أكان مصدره سخرية الشيخ منه أم رفق الأستاذ الإيطالي به وإشفاقه عليه؟!
فإذا انتهى الدرس ذهب الفتى بأستاذه الإيطالى إلى إدارة الأزهر، واستأذن له على الشيخ الأكبر، فأذن له، وتلقاه حفيا به متلطفا له في الحديث، ثم ينظر إلى الفتى فيسأله في رفق: أأنت الذي كان يجادل في الدرس؟
قال الفتى: نعم.
قال الشيخ متضاحكا: ما شاء الله! ما شاء الله! فتح الله عليك وأشقاك بتلاميذك كما يشقى بك أساتذتك!
الفصل السادس
أساتذتي
ولم تكن حياة الجامعة عيدا متصلا رائع الإمتاع لمكان الأساتذة الأجانب فيها فحسب، بل كان فيها أساتذة مصريون يضيفون إلى روعتها روعة وإلى إشراقها إشراقا. ولم ينس الفتى طائفة من هؤلاء الأساتذة كان لهم في حياته أبعد الأثر وأعمقه؛ لأنهم جددوا علمه بالحياة وشعوره بها وفهمه لقديمها وجديدها معا، وغيروا نظرته إلى مستقبل أيامه، وأتاحوا لشخصيته المصرية العربية أن تقوى وتثبت أمام هذا العلم الكثير الذي كان يأتي به المستشرقون، وكان جديرا بأن يحول هذا الفتى تحويلا خطيرا يفنيه في العلم الأوروبي إفناء، ولكن أساتذته المصريين هؤلاء أتاحوا له أن يأوي إلى ركن شديد من الثقافة الشرقية الخالصة، وأتاحوا لمزاجه أن يأتلف ائتلافا معتدلا من علم الشرق والغرب جميعا. وكان الأساتذة المصريون يختلفون فيما بينهم اختلافا شديدا، كان منهم المطربشون والمعممون والذين سبقت العمامة إلى رءوسهم ثم انحسرت عنها وجاء مكانها الطربوش.
وكان منهم الصارم الحازم الذي لم يكن ثغره يعرف الابتسام إلا قليلا، والمازح الباسم الذي لم يكن وجهه يعرف العبوس إلا نادرا. وكان منهم ذو العلم العميق العريض الذي يبهر ويسحر ويذكر القلوب والعقول، وذو العلم الضحل والثقافة الرقيقة الذي يخلب باللفظ ثم لا يكون وراء لفظه الخلاب شيء ذو بال.
وكان منهم من يخلب بلفظه العذب ودعابته الساحرة وعلمه الغزير. كان منهم إسماعيل رأفت رحمه الله، ذلك الذي لم يكن يعرف من طلابه إلا أنهم يحملون رءوسا يجب أن يصب العلم فيها صبا. فكان يقبل عليهم عابسا وينصرف عنهم عابسا، لا يلقي إلى أحدهم كلمة، وإنما يأخذ مجلسه ويبسط أوراقه ويأخذ في القراءة حتى تنتهي ساعة الدرس لا يقطعها إلا حين يفسر ما قد يحتاج إلى التفسير، وحين يلقي على الطلاب هذا السؤال الذي تعود أن يلقيه في دار العلوم - وقد كان أستاذا فيها: فاهمين يا مشايخ؟
وقد سمع الفتى منه وصف أفريقيا على اختلاف أقطارها وعلى اختلاف ما يكون لهذا الوصف من صور يتصل بعضها بطبيعة الإقليم، ويتصل بعضها الآخر بالسياسة والاقتصاد ونظم الحياة الاجتماعية وأجناس السكان.
وقد سمع الفتى فيما بعد دروسا مختلفة في الجغرافيا من أساتذة ممتازين في جامعات فرنسا، فلم يحس لأحدهم فضلا على أستاذه ذلك المصري العظيم.
وكان من هؤلاء الأساتذة حفني ناصف رحمه الله، وكان ابتساما كله، وفكاهة كله، وتواضعا كله، على غزارة في العلم، وأصالة في الفقه بما كان يدرس من الأدب العربي القديم، وكان الطلاب يكلفون به أشد الكلف، ويطمعون فيه أعظم الطمع؟ وكان بعضهم ربما انصرف عن دروسه ليجلس إليه في قهوة كوبري قصر النيل التي كان يجلس فيها ساعة قبل الدرس من يوم الخميس من كل أسبوع.
وكان الطلاب يأبون عليه أن يختم دروسه في آخر العام دون أن يزيدهم على المقرر درسين أو دروسا. وكان الفتى لسانهم حين كانوا يرغبون إليه في ذلك. وكان الفتى يطلب إليه المزيد من الدرس نثرا حينا وشعرا حينا مستعطفا مرة ومنذرا مرة أخرى. وكان رحمه الله قد شرح كتاب «الكافي في العروض» حين كان طالبا في الأزهر. وكان يخجل من هذا الشرح ويكره أشد الكره أن ينسب إليه، فكان الفتى يقسم له في آخر العام لئن لم يضف إلى المقرر دروسا لينسبن إليه «شرح الكافي» في مقال ينشره في الجريدة. وكان رحمه الله يستجيب فيضيف درسين، وربما أضاف أربعة دروس.
وكان أروع صورة عرفها الفتى لتواضع الأستاذ، أنه لم يتكلف قط ذلك الوقار المصنوع الذي يتكلفه بعض الأساتذة حين يرقون إلى مجلسهم في غرفة الدرس، وإنما كان يخلط نفسه بطلابه كأنه واحد منهم لولا أنه كان يكبر أكثرهم سنا، فقد كان بين طلابه من تقدمت به السن كثيرا.
وقرأ الفتى ذات يوم في الجريدة حديثا لأحد القراء يطرح فيه موضوعا لمسابقة شعرية، ويجعل لهذه المسابقة جائزة هي كتاب «الأمالي» لأبي علي القالي، ويحكم بين المستبقين الأستاذ حفني ناصف وتلميذه ذاك الفتى. وأنكر صاحبنا أن يقرن إلى أستاذه، وأحس شيئا من غرور، ولكن يجلس ذات مساء في بيته بدرب الجماميز مع جماعة من رفاقه يأخذون في بعض ما كانوا يخوضون فيه من حديث، وإنهم لفي ذلك وقد تقدم بهم الليل وإذا الباب يطرق عليهم. فإذا أدخل الطارئ، وجم الفتى ودهش الرفاق؛ فلم يكن الطارق إلا الأستاذ حفني بك ناصف، قد جمع شعر المستبقين في الجريدة، وسعى به إلى تلميذه في بيته ذاك في الطبقة السادسة من تلك الدار التي كان يسكنها، وقال له في رفق عذب: «أتيت لأخلو إليك ساعة نفرغ فيها من قضية هؤلاء المستبقين.»
وكان من بين الأساتذة المصريين الشيخ محمد الخضري رحمه الله؛ كان يدرس التاريخ الإسلامي، وقد سحر الفتى بعذوبة صوته وحسن إلقائه وصفاء لهجته، وأحب دروسه في السيرة، وفي تاريخ الخلفاء الراشدين وفتوحهم، وفي تاريخ الفتن ودولة بني أمية والصدر الأول من دولة العباسيين. وكان يظن أن ليس فوق علم الأستاذ علم، ولكنه لم يكد يسمع دروس التاريخ في أوروبا حتى عرف أن الأستاذ رحمه الله كان ينقل دروسه نقلا من كتب القدماء في غير نقد ولا تعمق، وفي أيسر ما كان يمكن من فقه التاريخ.
وكان من الأساتذة المصريين أستاذان أحبهما الفتى أشد الحب، وعبث بهما أشد العبث، واستغل سذاجتهما ووداعتهما أشنع الاستغلال. كان أحدهما الشيخ محمد المهدي رحمه الله، أقبل يدرس الأدب العربي بعد حفني ناصف، فكان الفرق بين الأستاذين خطيرا بعيد المدى؛ كان أحدهما عميق العلم، وكان الآخر أبعد ما يكون عن العمق، كان أحدهما سمحا لا يتكلف ولا يتصنع، وكان الآخر متكلفا متفاصحا لا يتكلم إلا العربية الفصحى مغربا فيها يملأ بها فمه، وربما أضحك منها طلابه. وكان يقدم السيجارة إلى الفتى، فإذا هم الفتى أن يشعلها قال له: «انتظر يا بني حتى ألفها لك!» ولم يكد الطلاب يسمعون هذه الكلمة حتى يغرقوا في ضحك لا يستخفون به، وكان الأستاذ يضحك معهم ويغرق في الضحك!
وكان الفتى جريئا عليه يجادله في الدرس فيرهقه من أمره عسرا، وربما أضحك منه الطلاب؛ لأنه كان لا يحقق ما يروي من الشعر، ولأن الفتى كان يرده إلى الصواب، فيظهر عليه الاضطراب. وقد حاول أن يصده عن هذا الجدال، ويصرف أترابه عن هذه الجراءة، فدعاهم ذات يوم إلى الغداء في داره، وقدم إليهم من طيبات الطعام ما لم يكن لأكثرهم به عهد، وظن أنه قد ردهم إلى شيء من الحياء. ولكنه لم يلبث أن تبين أنه لم يزد على أن أطمعهم في نفسه، ورغبهم في طعامه، وزادهم عليه اجتراء. وكانت سيرة الفتى مع هذا الأستاذ الكريم مسرفة على الفتى وعلى الأستاذ جميعا حتى أوشكت أن تترك في حياة الفتى آثارا منكرة.
وضع الفتى رسالته التي تقدم بها للدكتوراه، ونقد فيها أستاذه مصرحا باسمه، وكان الأستاذ من الممتحنين، فضاق بهذا النقد، وأبى في أثناء المداولة أن يمنح الفتى درجة الامتياز، ولم يكن سبيل إلى هذه الدرجة إلا إذا أجمع عليها الممتحنون؛ فاضطرت اللجنة إلى أن تنزل بالفتى من درجة فائق إلى جيد جدا.
وسافر الفتى إلى أوروبا فأقام بها عاما، ثم عاد منها في خطوب سيأتي حديثها.
وفي أثناء إقامته في مصر ذهب إلى الجامعة واستمع لدرس الأستاذ الشيخ مهدي، ثم خرج فكتب عن هذا الدرس مقالا في مجلة «السفور»، نقد الأستاذ فيه نقدا مرا ممضا. وأسرع الأستاذ فكتب إلى مجلس الجامعة شاكيا من هذا التلميذ المتمرد، طالبا إلغاء بعثته عقابا له على هذا التمرد، وكان أن أمر المجلس بالتحقيق مع الفتى، وكلف ثروت باشا وعلوي باشا رحمهما الله والأستاذ أحمد لطفي السيد، سؤال الفتى عن هذا المقال، فلم ينكر من مقاله شيئا، ولم ير لأحد الحق في أن يعاقبه على نقد حر بريء، لم يرد به إلا الخير، ولم ير لأحد حقا في أن يسأله في هذا النقد. وتضاحك المحققون، وكلف مجلس الجامعة الأستاذ أحمد لطفي السيد أن يصلح بين الأستاذ الغاضب والتلميذ المتمرد، فحضر الأستاذ لطفي السيد ذات مساء درس الشيخ، ثم دعاه ودعا التلميذ إلى العشاء، وفي العشاء كان الصلح، وعاد الفتى بعد ذلك إلى أوروبا موفورا.
وكان الأستاذ الآخر الذي ملأ الجامعة فكاهة ودعابة، وملأ الطلاب عبثا به واجتراء عليه، وملأ بطون الطلاب من طعامه، وهو الشيخ طنطاوي جوهري رحمه الله.
كان يدرس الفلسفة الإسلامية بعد الأستاذ محمد سلطان وبعد الأستاذ سنتلانا خاصة. وكان يتكلم كثيرا ولا يقول شيئا، وكانت كلمات الجمال والجلال والبهاء والكمال والروعة والإشراق أكثر الكلمات جريانا على لسانه منذ يبدأ الدرس إلى أن يتمه. وكان لا ينطق بكلمة منها إلا مد ألفها فأسرف في المد، وربما أخذه شيء من ذهول وهو يمد هذه الألف فيغرق الطلاب في ضحك يخافت به بعضهم ويجهر به بعضهم الآخر؛ ويفيق الأستاذ من ذهوله على هذا الضحك، فيلوم الطلاب لا على أنهم يضحكون، بل على أنهم لا يشاركونه في الإعجاب بجمال الطبيعة وجلال الكون وبهاء القمر حين يرسل ضوءه المشرق على صفحة النيل، ويمد ياء النيل فيسرف في مدها ويأخذه ذهول يرد الطلاب إلى ضحك متصل.
وفي ذات يوم ختم الأستاذ دروس العام، وقرر الطلبة قبل الدرس أن يكون الفتى لسانهم في شكر الأستاذ على دروسه القيمة، واشترطوا عليه أن يشكر الأستاذ بكلام غير مفهوم، واشترط عليه الأستاذ إبراهيم مصطفى ألا تخلو جملة من حديث الشكر هذا الذي يجب أن يكون طويلا من إحدى هذه الكلمات الست: الجمال والجلال والبهاء والكمال والروعة والإشراق.
وقبل الفتى هذه الشروط كلها، فخطب وأجاد، ولكنه لم يقل شيئا، ورضي الأستاذ كل الرضا، وقال للفتى: لا يكافئ هذه الخطبة الرائعة إلا ديك رومي، ولكنك لن تأكله وحدك، وإنما يشاركك فيه زملاؤك جميعا، فإذا كان يوم الجمعة فأنتم تعرفون أين أقيم!
ولم يكن الأساتذة المصريون وحدهم هم الذين يملأون الجامعة فكاهة ودعابة، ويتعرضون لعبث الطلاب وجراءتهم الماجنة، وإنما كان الأساتذة الأجانب مصدرا من مصادر الفكاهة وموضوعا من موضوعات العبث. كانت لهجتهم العربية تملأ أفواه الطلاب بالضحك، وكان منهم الذين يلوون ألسنتهم بالعربية يقلدون هذا الأستاذ أو ذاك من أساتذتهم الإيطاليين أو الألمانيين. ولم ينس الفتى يوما قرر فيه الطلاب أن يضربوا عن درس الأستاذ نالينو الإيطالي؛ لأن إيطاليا أعلنت الحرب على تركيا، وأرسلت سفنها غازية لطرابلس، فأزمع الطلاب أن يجتمعوا في غرفة الدرس، حتى إذا أقبل الأستاذ وارتقى إلى مجلسه خرجوا من الغرفة وتركوه فيها وحيدا. وقد أتم الطلبة ما قرروا، فتركوا الأستاذ وحيدا في غرفة الدرس، ووقفوا أمام الغرفة ينتظرون ما يكون من أمره؛ ولبث الأستاذ في الغرفة دقائق ثم خرج، فأقبل على تلاميذه وقال لهم في لهجة عربية صحيحة فصيحة يلتوي بها لسانه بعض الشيء: مثلكم مثل الرجل الذي أراد أن يغيظ امرأته فخصى نفسه!
وكان السهم صائبا، وكان أثره لاذعا ممضا، ومنذ ذلك اليوم لم يفكر طلاب الجامعة في الإضراب، ومنذ ذلك اليوم استقر في نفس الفتى بغض شديد لإضراب الطلاب عن الدروس مهما تكن الظروف.
وكانت دروس الآداب الإنجليزية والفرنسية تلقى في الجماعة ويشهدها الذين يحسنون هاتين اللغتين من الطلاب، ويتجنبها الفتى لأنه لم يكن يعرف لغة أجنبية. ولكن الجامعة نظمت ذات يوم، وفرضت فيها الامتحانات، وفرض فيها العلم بلغة أجنبية من هاتين اللغتين. وأقبل الفتى ذات يوم مع زميله المرصفي - وللمرصفي حديث طويل سيأتي في إبانه - فاتفقا على أن يسمعا درس الأدب الفرنسي، ليعرفا كيف تكون هذه اللغة، فدخلا غرفة الدرس ولبثا فيها ساعة كاملة لم يفهما فيها حرفا مما سمعا، ولم يميزا منه إلا لفظا واحدا هو لافونتين الذي كان يتردد كثيرا جدا على لسان الأستاذ.
ثم انصرفا بعد ذلك ولم يحفظا من أمر هذه الساعة إلا أنهما سمياها سجن لافونتين. وقد كان لهذه الساعة مع ذلك في حياتهما أثر أي أثر؛ فأما المرصفي فعدل عن الجامعة، وأعرض عنها وعن دروسها وامتحاناتها، واتخذها مكانا يلقى فيه الصديق، ويتفكه فيه بالعبث من بعض الأساتذة.
وأما الفتى فأزمع أن يتعلم الفرنسية حتى لا يعود إلى سجن لافونتين، وكانت له في تعلم هذه اللغة خطوب أي خطوب.
الفصل السابع
كيف تعلمت الفرنسية!
كان أول عهد الفتى بدرس اللغة الفرنسية أن حدثه بعض صديقه من الأزهريين بأن مدرسة مسائية أنشئت في مكان قريب من الأزهر، تدرس فيها هذه اللغة لمن يريد أن يتعلمها من المجاورين.
وكان للشيخ عبد العزيز جاويش رحمه الله يد في إنشاء هذه المدرسة لم يحققها الفتى تحقيقا واضحا، ولكنه ذهب إلى المدرسة فيمن ذهب إليها من الطلاب، وسمع الدرس الأول من دروسها، ألقاه كهل مصري كان يحسن أن يلوي لسانه في النطق بالحروف، وكان الفتى يبهره هذا النطق، ولكنه لم يفهم من هذا الدرس شيئا، فقد كان الأستاذ يرسم الحروف على اللوحة وينطق بها، ويأخذ الطلاب بأن ينطقوا بهذه الحروف كما سمعوها منه، وبأن ينظروا إليها مرسومة، وينقلوها فيما أمامهم من الأوراق، وظل الفتى واجما لا يرى الحروف ولا يرسمها، ولم يسأله الأستاذ أن ينطق بها، وإنما كان يسأل من عن يمينه ومن عن شماله، ويمر به هو بدون أن يلوي عليه.
وضاق الفتى بذلك أشد الضيق، ولكنه لم يستطع أن يقول شيئا، ثم تفرق الطلاب وهم الفتى أن ينصرف، ولكن يدا توضع على كتفه وصوتا يطلب منه الانتظار، وإذا هو الأستاذ قد استوقف الفتى، حتى إذا خلا إليه قال له: ليس لك أرب في حضور هذه الدروس، ولكني أرى فيك حرصا على تعلم هذه اللغة وأحب أن أعينك على ما تريد، فالقني إن شئت في قهوة كوبري قصر النيل نتحدث في هذا الموضوع.
وضرب له موعدا لهذا اللقاء، ولم يكادا يلتقيان حتى تعارفا، وإذا بينهما صلة قديمة، فقد كان أبو هذا الأستاذ قاضيا شرعيا في المدينة التي نشأ فيها الفتى، وعليه قرأ الفتى ألفية ابن مالك، كان يختلف إليه في المحكمة ضحى كل يوم، ويقرأ عليه بابا من أبواب الألفية، وقد اتصلت المودة بين الأستاذ الكهل وتلميذه الفتى. ولكن دروس هذا الأستاذ لم تغن عن التلميذ شيئا، فقد كان يحب كتابا وشعراء من الفرنسيين، فإذا خلا إلى الفتى قرأ عليه من آثار هؤلاء الكتاب والشعراء وترجم له بعض ما يقرأ، فيزيد شوق الفتى إلى العلم بلغة هؤلاء الكتاب والشعراء لروعة ما كان ينقل إليه من آثارهم، وقد سمع الفتى من أستاذه أسماء كانت تسحره وتبهره وتملك عليه أمره كله، سمع اسم لامارتين وألفريد دي موسيه وألفريد دي فيني وشاتوبريان؛ فكان موقع هذه الأسماء غريبا، وكان ما ينقل إليه من كلامهم أشد غرابة من أسمائهم يبعد الفتى عن الأدب العربي وعن الشعر القديم خاصة، ويدفعه إلى عالم آخر مجهول لا يحقق الفتى منه شيئا، ولكنه يهيم بالاضطراب فيه كل الهيام، وقد اضطر آخر الأمر إلى أن يبحث عن معلم يلقنه أوليات هذه اللغة تلقينا منظما منتجا، وما زال يبحث عنه حتى دل عليه.
فأقبل على دروسه كل يوم من الساعة الثانية إلى منتصف الخامسة، واستبقى مع ذلك مودة أستاذه ذاك، فكان يلقى أستاذه النظامي كل يوم في موعده المحدد، فيتعلم منه الأوليات، ويلقى أستاذه الآخر مرتين في الأسبوع إذا أقبل الليل ليسمع منه نثرا وشعرا ينقل إليه بعض معانيهما.
وكان الأستاذ النظامي رجلا غريب الأطوار حقا، كان شيخا قد نيف على السبعين وقد حطمته السنون، وكان ألبانيا، وكان قذرا تنبو عنه العيون، وكان معدما لا يجد ما يقوته، وكان يصيب غداءه مع الفتى كل يوم ثم لا يأخذ منه أجرا لدروسه. وكان سريع التعب لا يكاد يتحدث إلى الفتى دقائق حتى يدركه الإعياء فيغفى لحظة ثم يفيق ليأخذ فيما كان فيه، ثم يعود إلى الإغفاء، ثم يعود بعد ذلك إلى الإفاقة.
وكذلك كان الفتى يختطف دروسه اختطافا بين يقظة الأستاذ ونومه، وربما أحس الأستاذ شدة الحر إذا أقبل الصيف وأراد أن يتبرد، فوقف الدرس، وذهب إلى الحمام، فصب على نفسه من ماء الدش ما شاء الله أن يصب، ثم عاد إلى تلميذه وقد أحدث شيئا من نشاط، ولكنه لا يكاد يمضي في درسه حتى تأخذه سنته تلك، فيضطر التلميذ إلى الانتظار به حتى يفيق.
على أن هذا الأستاذ لم يلبث أن ضاق به أخو الفتى أشد الضيق؛ كان يأتى إذا دنت الساعة الثانية وينصرف إذا انتصفت الساعة الخامسة، ويترك في البيت من قذارته آثارا غلاظا، بعضها حي يؤذي، وبعضها ميت يمض، حتى شكا الخادم وضاق أخو الفتى بما كان يرى، وبما كان يسمع، وصرف الأستاذ صرفا رقيقا.
والتمس صاحبنا لنفسه أستاذا آخر، وجعل ينتقل بين معلم ومعلم، ويجد في هذا التنقل مشقة أي مشقة، ومتاعا أي متاع. تأتى المشقة من أجر الدروس الذي لم يكن له بد من أن يؤديه إلى معلميه، ويأتى المتاع من اختلاف هؤلاء المعلمين، وتباين أطوارهم وخصائصهم حين كانوا يتحدثون إليه، ويلقون علمهم عليه، حتى لقي الفتى ذات يوم في الجامعة فتى كان قد ظفر بالشهادة الثانوية وتعلم في مدرسة الفرير، فكان متقنا للفرنسية. ولم يكد يتحدث إليه حتى ذكر صباه كله، فقد كان هذا الفتى ابن ملاحظ الطريق الزراعية في مدينته، وكان يختلف مع أخته إلى الكتاب الذي حفظ الفتى فيه القرآن. فقد لقي الفتى إذن رفيق صباه، ويسر له تعلم اللغة الفرنسية في غير مشقة ولا عناء، وأي شيء أيسر من أن يتعلم الفرنسية لا يدفع على تعلمها أجرا وإنما يعلم رفيقه بعض قواعد النحو والصرف!
وبفضل هذا الرفيق محمود سليمان رحمه الله خطا الفتى في درس الفرنسية خطوات بعيدة، علمه رفيقه كما تعلم هو في المدرسة. قرأ معه الكتب الأولى، وما زال يتدرج به من كتاب إلى كتاب حتى رأى نفسه ذات يوم يقرأ مع رفيقه قصة كانديد لفولتير، يتعثر في فهمها تعثرا شديدا متصلا، ولكنه يفهم منها شيئا، ورأى الفتى نفسه يختلف إلى دروس الأدب الفرنسي فتفوته أشياء ويصيب أشياء، والأستاذ يعطف عليه ويرفق به، ورفيقه يعينه على فهم ما يفوته؛ وإذا هو يتقدم في الدرس تقدما حسنا، ويشعر أن أمر اللغة الفرنسية قد أصبح يسيرا، فليس له بد من أن يحسنها، وهو قادر على أن يحسنها إن مضت أموره على ما يحب.
ومنذ ذلك الوقت أصبحت الجامعة بالقياس إليه وسيلة بعد أن كانت غاية، فقد ألقى الشيخ عبد العزيز جاويش في روعه فكرة السفر إلى أوروبا، وإلى فرنسا خاصة، فما له لا يفكر في هذا السفر؟ وما يمنعه أن يبتغي إليه الوسيلة؟ والغريب أن هذه الفكرة مازجت نفسه، وأصبحت جزءا من حياته، وجعل ينظر إليها لا على أنها حلم يداعبه نائما أو يقظان، بل على أنها حقيقة يجب أن تكون. وأغرب من هذا أن الفتى جعل يتحدث بسفره إلى أوروبا كما يتحدث الإنسان عن أمر قد صحت عزيمته عليه، وقد تهيأت له أسبابه. وكان يتحدث إلى إخوته وإلى أخواته إذا أقبل الصيف بسفره إلى أوروبا قريبا، وكان يغيظ أخواته بأنه سيقيم في أوروبا أعواما، ثم يعود منها وقد اختار لنفسه زوجا فرنسية متعلمة مثقفة تحيا حياة راقية ممتازة، ليست جاهلة مثلهن، ولا غافلة مثلهن، ولا غارقة في الحياة الخشنة الغليظة مثلهن، وكان أخواته يتضاحكن حين يسمعن منه هذا الحديث وربما أضحكن به أم الفتى وأباه.
وكان الفتى يقول لهن: «اضحكن اليوم فسترين غدا!»
وفي ذات يوم قرأ صاحبنا في الصحف إعلانا من الجامعة تطلب فيه إلى الشباب أن يستبقوا إلى بعثتين من بعثاتها في فرنسا، إحداهما لدرس التاريخ، والأخرى لدرس الجغرافيا، ولم يكد يفرغ من قراءة هذا الإعلان حتى استقر في نفسه أنه صاحب إحدى هاتين البعثتين، وأنه سيعبر البحر إلى باريس لدرس التاريخ في السوربون، وإذا هو يكتب إلى رئيس الجامعة الأمير أحمد فؤاد هذا الكتاب:
دولتلو أفندم رئيس الجامعة المصرية
أرفع إلى دولتكم وإلى مجلس إدارة الجامعة، أني قرأت في الصحف إعلان الجامعة، أنها سترسل طالبين إلى أوروبا لدرس التاريخ وتقويم البلدان، وأنا شديد الحرص على أن أكون أحد هذين الطالبين، وعلى أن توجهني الجامعة إلى فرنسا لدرس التاريخ، واعتقادي أن الجامعة إنما تجعل مقياسها في اختيار الطلبة الكفاءة الحقيقية، وعلى ذلك أتشرف بأن أؤكد لدولتكم ولمجلس الإدارة أن الجامعة قد جعلتني - فيما أعتقد - كفئا لخدمتها بما علمتني من علم نافع، وما أدبتني به من أدب مفيد.
وأنا على يقين أن الجامعة ستستفيد مني كثيرا إن قبلتني خادما لها، وهي لن تجني مني إلا ثمر غرسها الطيب في مصر وفي أوروبا.
نعم، إن الشروط التي تشترطها الجامعة في طلبة الإرساليات ينقصني بعضها، فإني لم أحصل على الشهادة الثانوية، كما أنني مكفوف البصر. ولكني أعتقد أن نقصان هذين الشرطين لا يضرني شيئا، فأما الشرط الأول: فلا يضرني نقصانه؛ لأن ما سمعته في الجامعة من العلم، وما أديته فيها من الامتحان، وما أحرزته من الدرجات العظمى في جميع العلوم التي امتحنت فيها، وهي علوم الجامعة كلها إلا الآداب الأجنبية، وما تشرفت به في إثر ذلك من رضا مجلس الإدارة عني، وثناء الأساتذة غائبهم وحاضرهم على كل ذلك، يقوم مقام الشهادة الثانوية، ويزيد عليها من غير شك ولا ريب، ولا سيما أني شارع في تعلم الفرنسية حتى إني لأفهم بها غير قليل، وقد أتممت منها مقدارا يمكنني من دخول الجامعة في فرنسا بعد أشهر أقضيها هناك. ويضاف إلى ذلك أني أتممت في الجامعة درس تاريخ الشرق القديم، ونلت فيه الدرجة العظمى، ودرس تاريخ الإسلام، ونلت فيه أعظم درجة نالها طالب في الجامعة، ليس بيني وبين النهاية إلا درجة واحدة. وأتممت درس اللغات القديمة السامية، ونلت فيها الدرجة العظمى أيضا، وتلك مزية لم تجتمع لأحد من الطلبة المصريين في مصر، ولست أريد أن أتمدح بهذا، وإنما أريد أن أتحدث بفضل الجامعة علي، وأن هذا الفضل يجعلني أكثر الناس كفاءة لدرس التاريخ وخدمة الجامعة فيه.
أما الشرط الثاني: وهو فقدان البصر فليس يمنعني أن أسمع دروس الأساتذة ولا أن أؤديها، أي ليس يمنعني أن أكون طالبا وأستاذا، وإذا كان قضاء الله قد قضى علي هذه البلية فقد عوضنى منها خيرا، وأنا أجل المجلس عن أن يتخذ بلية كهذه عقبة تحول بيني وبين ما أريد من الخير لنفسي وللجامعة.
حقا إن الجامعة إذا قبلت هذا الطلب فستضطر إلى أن تزيد في نفقتي ما يمكنني من الاستعانة بمن يكون معي في فرنسا، ولعمري لئن فعلت ذلك، فليس بضائر لها، بل هو يدل على كرم نفس وعلى تضحية في معونة من يحتاج إلى الإعانة والتعضيد. على أني مستعد لأن تسترد الجامعة مني بعد عودتي من أوروبا ما أنفقته علي زيادة على النفقات العادية تأخذه من مرتبي أقساطا، وما أظن الجامعة تكره أن تتفضل علي بهذا القرض الجميل.
لذلك كله أرفع إلى دولتكم وإلى مجلس الإدارة هذا الطلب راجيا أن تتفضلوا بقبوله، ولكم الشكر الجميل والثناء المحمود.
طه حسين
طالب بالجامعة المصرية
وعرض هذا الكتاب على مجلس الجامعة فلم يلق منه إلا الرفض؛ لأن صاحبه لا يحمل الشهادة الثانوية، بحكم آفته التي امتحن بها ، ولأن إرساله إلى أوروبا سيكلف الجامعة نفقات إضافية تعين الفتى على أن يكون له رفيق يعينه على الاختلاف إلى الجامعة وقراءة ما يحتاج إلى قراءته من الكتب، ولكن هذا الرفض لم يفل عزم الفتى ولم يثبط همته، وإذا هو يكتب إلى رئيس الجامعة هذا الكتاب الجديد:
دولتلو أفندم رئيس الجامعة المصرية
أرفع إلى دولتكم وإلى مجلس الإدارة أني كنت قد طلبت إلى الجامعة الإذن لي في أن أكون من إرساليتها في أوروبا، ورفض المجلس هذا الطلب في جلسته الأخيرة لأنه يخالف قانون الإرسالية، وإني لأعلم حق العلم قبل أن أرفع طلبي ذلك إلى دولتكم وإلى المجلس أنه يخالف القانون، ولكني طلبت الاستثناء ورغبت فيه لما بينت في ذلك الطلب من رغبتي في العلم وحرصي على خدمة الجامعة، ولما اكتسبت بفضل الجامعة علي من المزايا التي تؤهلني لبلوغ هذه المنزلة؛ ولست أنكر على المجلس رفضه لهذا الطلب فإنه لم ينفذ إلا القانون، وما كان تنفيذ القانون بالأمر الذي ينكر أو يعاب، غير أني أعيد هذا الطلب إلى المجلس راغبا في أن يعيد النظر فيه، فإنه لم يرفض ذلك الطلب بالماضي إلا لأمرين مجتمعين أو كل منهما على حدة:
الأول:
أني لا أحمل الشهادة الثانوية لأني مكفوف البصر، ولكن المجلس أجل عندي من أن يحسب لهذا الأمر حسابا، فإنه لا يمنعني أن أكون طالبا وأستاذا، بدليل أن المجلس نفسه يقبلني طالبا منتسبا في الجامعة؛ أسمع دروسها، وأجوز امتحاناتها، وأنال شهادتها، وإذا كانت الطبيعة قد حالت بيني وبين كثير من نعيم الحياة، فما ينبغي أن تكون الجامعة عونا للطبيعة على حرماني لذة الانتفاع بالعلم والنفع به، مع أنها تعلم أني على ذلك أقدر ما أكون.
الثاني:
احتياج الجامعة إذا أرسلتني إلى أن تنفق علي أكثر من نفقتها العادية على طلابها في أوروبا، وأنا أعترف بأن للجامعة الحق في تقدير هذا المانع المالي ومراعاته، وأن لها ألا تشتري خدمتي بهذا الثمن الغالي؛ لأني لا أستحقه، ولأنها لا تجده.
ولذلك أتشرف بأن أرفع إلى المجلس من جديد أني لا أطلب من النفقات إلا المقدار الذي يطلبه غيري من الطلاب، وعلي أن أقوم بما أحتاج إليه مما يزيد على هذا المقدار، فلعل ذلك كله يشرفني بقبول المجلس طلبي هذا مقدرا حرصي على طلب العلم في غير مصر مع ما أحتمله في سبيل ذلك من الآلام والعناء، فإن هذا أدعى إلى قبول الطلب وتقريره مع الشكر الجميل والثناء الجزيل.
5 مارس سنة 1913
طه حسين
وكأن المجلس قد ضاق بهذا الكتاب الجديد، فرفضه كما رفض الكتاب الأول، وسبب الرفض بأن الفتى لا يعرف اللغة الفرنسية حق معرفتها.
وأراد المجلس أن يهون هذا الرفض على الفتى، فصاغه في صيغة التأجيل حتى يحسن هذه اللغة مطمئنا إلى أنه لن يجد إلى إحسانها سبيلا، تحول بينه وبين ذلك آفته تلك، ويعينها على ذلك فقر الفتى وإصفار يده من المال، فلم يزدد الفتى إلا عزيمة وتصميما، وكتب إلى رئيس الجامعة بعد شهور هذا الكتاب الثالث:
صاحب السعادة رئيس الجامعة المصرية
أعود الآن فأرفع إلى سعادتكم وإلى مجلس إدارة الجامعة رغبتي في السفر إلى أوروبا لدرس العلوم الفلسفية أو التاريخية موفدا من قبل الجامعة، بعد أن رفضت هذا الطلب في السنة الماضية؛ فقرر مجلس الإدارة تأجيل سفري إلى هذه السنة ريثما أقوى في اللغة الفرنسية، وإذا كنت قد وصلت من هذه اللغة إلى مقدار لا بأس به، وسأتقدم في هذه السنة لامتحان شهادة العالمية في قسم الآداب، فأنا أرجو أن يتفضل مجلس الإدارة فيوفي لي وعده الكريم مع الشكر والثناء.
19 يناير سنة 1914
طه حسين
واضطر مجلس الجامعة إلى نوع من التحدي؛ فقرر النظر في إيفاد الفتى إلى أوروبا إذا ظفر بشهادة العالمية (الدكتوراه).
ولم يكن أحب إليه من هذا التحدي، فأقبل على العناية بالدرس وإعداد الرسالة للامتحان، وتقدم لهذا الامتحان وظفر بإجازة الدكتوراه، ولهذا كله حديث يطول.
الفصل الثامن
ثلاث تجارب
واتصلت أسباب الفتى بثلاثة من الصديق غير صاحبيه: الزناتي والزيات، كان لكل واحد منهم أثر أي أثر في حياته الجامعية، وكان لاثنين منهم أثر بعيد عميق في حياته بعد أن جاوز طور الطلب وأصبح أستاذا ومؤلفا، عرف أحد هؤلاء الثلاثة في الجامعة، كان يختلف مثله إلى دروسها، ولم يكن أزهري النشأة، وإنما كان من فئة المطربشين، كان متوقد الذهن، نافذ الذكاء، قوي الذاكرة، محبا للدرس. وكان إلى ذلك حلو الروح، رقيق الصوت، ساحر الحديث، وقد ألفه الفتى في دروس اللغات السامية، وبفضله استطاع أن يفرغ لهذه الدروس، ويحسن العناية بها، ويحفظ كثيرا من النصوص السريانية عن ظهر قلب. كان رفاقه الأزهريون ينفرون من هذه الدراسات ويكرهون أن يثقلوا على أنفسهم بها. وكان ذلك الصديق لها محبا وبها كلفا، فكان يلقى الفتى في دروس الأستاذ ليتمان فيكتب عن الأستاذ كل ما كان يقول، وكان يخلو إلى صديقه بعد ذلك فيعيد معه الدرس والاستظهار.
ولم ينس الفتى يوما احتفل فيه طلاب الجامعة بوداع أستاذهم ليتمان في آخر العام بفندق من فنادق مصر الجديدة، وشهد هذا الاحتفال أساتذة الجامعة من المصريين والمستشرقين؛ وخطب الطلاب مثنين على أساتذتهم، فأكثروا، ثم قام هذا الصديق فأثنى على الأساتذة المستشرقين، وعلى الأستاذ ليتمان خاصة، ولكنه لم يخطب باللغة العربية ولا بلغة أوروبية، وإنما ألقى كلمته باللغة السريانية، وتصور رضا الأساتذة الأجانب عنه وإعجابهم به واغتباط الأستاذ ليتمان بما أتيح له من نجح، وبأن تلميذا من تلاميذه المصريين قد استطاع أن يخطب بهذه اللغة القديمة التي لا تجري بها الألسنة إلا في بعض الكنائس وفي قاعات الجامعات بين الأساتذة والطلاب.
وقد رأى الفتى أستاذه ليتمان بعد ذلك مرات كثيرة في مواطن مختلفة، فلم يحس عنده مثل هذه السعادة إلا في موطنين اثنين: أحدهما؛ في ليدن بهولندا عندما سمع تلميذه الفتى يلقي بحثه في مؤتمر المستشرقين، فلم يملك دموعه التي أخذت تفيض على وجهه بين الزملاء، والآخر: في كلية الآداب بجامعة القاهرة عندما شارك تلميذه في امتحان السيدة سهير القلماوي لدرجة الماجستير، وأعلن مفاخرا بعد فوزها بالدرجة أنه مغتبط سعيد؛ لأنه يشارك في تخريج هذه الفتاة التي يعدها حفيدته، لأنها ابنة تلميذه ذاك الفتى، وما أكثر ما تحدث بعد ذلك بأنه جد في علم له ابن وله حفدة.
أما الصديق الثاني: فقد كان أزهريا مبغضا لدروس الأزهر، شديد النفور منها، قليل الإلمام بمجالس الشيوخ، غير حفي بالجامعة ولا مكترث لها ولا مختلف إليها، ولم يعرفه الفتى في الأزهر ولا في الجامعة، وإنما عرفه في قهوة الكلوب المصري قريبا من سيدنا الحسين، وكان غريب الأطوار، يضحك من نفسه، وربما أغرى الناس بالضحك منه.
كان من أهل القرن الثالث أو الرابع، وكان يعيش في القرن الرابع عشر للهجرة، كان قليل الاحتفال بزيه وشكله وبزته، يهمل هذا كله إهمالا ظاهرا، ربما تكلفه ممعنا في مخالفة الناس، وكان معنيا باللغة يجد في إتقانها ويتتبع غريبها، فيحفظه ويحصي نوادره، وكان مع ذلك شغوفا بالحياة الحديثة يأخذ منها طيباتها حين تتاح له، ويكره أن يتعمقها أو يعرف دقائقها، وحاول أن يتعلم الفرنسية فلم يحسن منها إلا تحية الصباح وتحية المساء وجملا قصارا، يلقيها بعض الناس إلى بعض حين يلتقون، ثم ضاق بها فأعرض عنها، واكتفى من الحياة الحديثة بما كان يصيب من طيباتها بين حين وحين.
وكان قد أقبل من أقصي الصعيد، واحتفظ بلهجته تلك فلم يكد يغير منها شيئا، وكان ربما أضفى هذه اللهجة على تلك الجمل الفرنسية التى كان يلقيها فيضحك منها ويضحك الناس.
وبفضل هذا الصديق استطاع الفتى أن يقرأ آثار أبي العلاء عندما حاول أن يضع رسالته لنيل درجة الدكتوراه من الجامعة. كان يغدو عليه في داره بدرب الجماميز إذا كان الضحى، فلا يفارقه إلا إذا أقبل الليل، وكان يقرأ له اللزوميات وسقط الزند وما شاء مما حفظ عن أبي العلاء، كان يقرؤه متغنيا به غناء عذبا. وكان الفتى يسمع منه ويحفظ عنه، ويطرب لإنشاده وغنائه، وما زال كلما قرئ عليه شعر أبي العلاء لم يسمع صوت قارئه، وإنما يسمع صوت صديقه ذاك مترنما بهذا الشعر في صوته ذاك العذب الذي كان يضطرب بين الخشونة واللين.
ولم يذكر الفتى كم مرة قرأ شعر أبي العلاء ونثره مع صديقه ذاك، ولكنه عرف أنه قرأه مرات كثيرة وتأثر به أعمق التأثر، وآمن به أشد الإيمان، واستيقن أن حياة أبي العلاء تلك هي الحياة التي يجب عليه أن يحياها ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
ورأى الفتى نفسه ذات يوم مستعدا لإملاء رسالته، فتجرد صديقه ذاك للكتابة، وجعل الفتى يملي، والصديق يكتب، فإذا احتاج إلى الاستشهاد بشعر أبي العلاء أو نثره أو بما شاء الله أن يستشهد به من كلام القدماء، بحث الصديق له عن هذه النصوص وأثبتها في مواضعها من الرسالة، وفي أشهر قليلة تم الإملاء وتمت الكتابة. وقرأ الصديق على صاحبه رسالته متغنيا بنثرها وشعرها، كما كان يتغنى بنثر أبي العلاء وشعره، واطمأن الفتى إلى رسالته، وأزمع أن يقدمها إلى الجامعة، ولكن كيف السبيل إلى تقديمها وليس عنده منها إلا هذه النسخة التي كتبها الصديق، وعليه أن يقدم منها نسخا خمسا؟
وهنا يظهر الصديق الثالث فيحمل عن الفتى ثقل هذا العناء، وكان هذا الصديق الثالث أزهري النشأة أيضا، ولكنه كان من طراز آخر مخالف كل المخالفة لمن عرف الفتى في الأزهر والجامعة من الرفاق، كان حسن الصورة، وسيم المنظر، رائق الشكل، معنيا بزيه أشد العناية، يتكلف فيه الأناقة وينسق بين ألوانه تنسيقا، وكان شديد عذوبة الصوت، ممعنا في خفة الروح، ظريفا لبقا مترفا إلى حد ما. كان أبوه شيخا كريما ميسرا عليه في الرزق، مبسوط اليد في الإنفاق على ابنه ذاك، ولكنه كان على ذلك معتدلا محافظا على التقاليد. وكان ابنه طموحا إلى مزيد من نعيم الحياة، وما أباح الله من طيباتها، فلم يكفه ما كان أبوه يعطيه من المال، فسعى حتى أصبح مدرسا في كلية الفرير، ليضيف نفقة إلى نفقة، وليحسن العناية بنفسه وزينته، وكان أبوه يرى ذلك فلا يصده عنه، وإنما ينظر إليه مبتسما مشجعا، يرى أن خير ما يصنع الشباب إنما هو الجد والعمل والاعتماد على النفس وكسب المال، ما وجدوا إلى كسبه سبيلا. وكان الفتى ورفاقه ينظرون إلى هذا الصديق في شيء من الإعجاب به والرثاء له؛ يعجبون به لثرائه وظرفه، ويرثون له لأنه لم يكن يحب الدرس، ولم يكن يتعمق لونا من ألوان العلم، وإنما كان يلم بهذا كله إلماما، يختلف إلى دروس الأزهر ليسخر من الشيوخ والطلاب، ويختلف إلى دروس الجامعة ليقى أترابه وليتحدث عن الجامعة بين زملائه من المصريين والفرنسيين في كلية الفرير. وكان يضحك من كل شيء، ومن كل إنسان، ويتندر بكل شيء وبكل إنسان، ويرى الحياة فكاهة حلوة يجب أن يأخذ الإنسان منها خير ما فيها.
كان في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة من عمره، وحدثته نفسه بأن ليس له من الزواج بد، فلما كلم أسرته في ذلك سخرت منه وهزئت به، وقال له أبوه في دعة ورضا: ما زال بينك وبين الزواج وقت طويل وعمل ثقيل.
ولكن الفتى صمم على الزواج، وأزمع أن يكره أهله على أن يزوجوه، وكان له ما أراد؛ لأنه اصطنع الجنون إذا دخل داره، فكان عاقلا بين رفاقه في الأزهر والجامعة، وكان مجنونا إذا أغلق الباب من دونه في منزله ذاك عند سيدنا الحسين، كان لا يكاد يدخل الدار حتى يؤذن أهله بمقدمه رافعا صوته ما استطاع بهذه الكلمة التي كانت تخيفهم كل الخوف: «جنان»، ثم يأخذ في تحطيم ما يستطيع تحطيمه، وفي إفساد نظام الدار حتى يضطر أهله إلى اصطناع شيء من القوة لرده إلى بعض الهدوء، وما زال يعقل بين رفاقه ويجن بين أهله حتى أصبح زوجا، وحتى رزق الولد، قبل أن يبلغ العشرين.
وأقبل ذات يوم على رفاقه متحديا أيهم يستطيع أن يؤرخ له بالشعر مولد الصبية التي ولدت له صباح ذلك اليوم، فلما لم يجد عند رفاقه شيئا أنشدهم شعره الذي ختمه بتاريخ مولد تلك الصبية، ثم دعاهم إلى غداء أعده لهم، فأطمعهم في نفسه منذ ذلك اليوم، وكانوا كلما أرادوا أن يدعوهم إلى غداء أو عشاء تملقوه بالشعر، يجدون قليلا ويعبثون في أكثر الأحيان، ويستجيب لهم هو دائما.
وأقبل ذات يوم لا يملك نفسه من الإغراق في الضحك حتى ظن به أصحابه الجنون، وحدثهم بعد أن أفاق بأن الذين رأوه بين داره وبين الأزهر ظنوا به الجنون أيضا. وكان مصدر إغراقه في الضحك أن اجتمعت له طائفة حسنة من الجنيهات، فاشترى لنفسه خاتما له فص من ألماس نفيس، ورأى أبوه هذا الخاتم، فلما سأله عن ثمنه أنبأه بأنه اشتراه بأربعين جنيها، فقال الشيخ ساخرا: لقد فسد الزمان! ما رأيت قبل اليوم قط فتى يحمل في أصبعه أربعين إردبا من القمح.
وجعل الفتى يتصور هذا المقدار الضخم من القمح وقد كدس بعضه على بعض، وأقبل هو فحمله بأصبع واحدة، وكانت هذه الصورة هي التي أغرته بالضحك، ودفعته إليه حتى عرضته لتهمة الجنون.
لقي هذا الصديق صاحبه الفتى ذات مساء في قهوة الكلوب المصري. وكان الفتى ذاهلا يفكر في رسالته كيف يقدمها إلى الجامعة وليس عنده منها إلا النسخة التي أملاها، وهو لا يعرف كيف يكتب النسخ الأربع الأخرى. فلما عرف صديقه منه ذلك قال له متضاحكا: «هون عليك ... فلن تنقضي أيام حتى تقدم رسالتك إلى الجامعة.» ثم أصبح فاشترى أداة من أدوات الطبع على البلوظة، واستأجر ناسخا كتب الرسالة بالحبر الذي يلائم تلك الأداة، وأعد من الرسالة نسخا قدمت إلى الجامعة، وأصبح الفتى أول طالب مصري يرشح نفسه في الجامعة المصرية للظفر بدرجة الدكتوراه.
وأقبلت بشائر الصيف، وحدد اليوم الذي تناقش فيه رسالة الفتى. وأقبل الفتية الأزهريون في مساء ذلك اليوم على الجامعة يحيطون بصديقهم مشجعين له، يحيون في نفسه الأمل ويزينون في قلبه المستقبل الذي ينتظره، إلا ذاك الصديق الذي طبع له الرسالة؛ فقد كان يتحدث إليه حديث المنذر المحذر، لا حديث المشجع المؤمل، ينذره بقسوة الممتحنين، ويحذره من أن يكون له في الجامعة يوم كيومه في الأزهر، ويؤكد له أنه ليس مستعدا لأن يقدم له بعد رسوبه في الامتحان الثاني صينية المكارونة تلك التي قدمها إليه بعد رسوبه في الأزهر.
ولكن الفتى لم يرسب في هذه المرة، وإنما ثبت لأساتذته الذين جادلوه وألحوا عليه في الجدال ، وظفر منهم بعد لأي بدرجة الدكتوراه.
وسجلت الجامعة هذا الامتحان ونجاح الفتى فيه بهذا المحضر:
في الساعة الخامسة من مساء يوم الثلاثاء خامس مايو سنة 1914 اجتمعت بدار الجامعة لجنة امتحان العالمية المؤلفة من الأستاذ محمد الخضري رئيسا، والأستاذين محمد المهدي ومحمود فهمي المدرسين بالجامعة، والأستاذين إسماعيل رأفت بك وعلام سلامة المندوبين من نظارة المعارف العمومية أعضاء لامتحان ... الطالب بالجامعة المصرية، وكان اجتماعها بهيئة علنية.
ناقشت الطالب في رسالته التي قدمها في تاريخ أبي العلاء المعري، ثم في العلمين اللذين اختارهما، وهما: الجغرافيا عند العرب، والروح الدينية للخوارج، واستمرت المناقشة ساعتين وسبع دقائق. وبعد نهاية الاختبار اجتمعت للمداولة فيما يستحقه الطالب من الدرجات، فقررت أنه يستحق: (أ)
درجة جيد جدا في الرسالة. (ب)
درجة فائق في الجغرافيا عند العرب. (ج)
درجة فائق في الروح الدينية للخوارج.
وفي منتصف الساعة الثامنة أعلنت هذه النتيجة للجمهور وسط قاعة الامتحان.
رئيس لجنة الامتحان
محمد الخضري
5 مايو سنة 1914
وتلقت الجماعة الضخمة التي كانت تضيق بها القاعة هذا الإعلان بالتصفيق الشديد الملح، ثم وقف علوي باشا رحمه الله فأعلن أنه تبرع بجائزة قدرها عشرون جنيها لأول طالب تخرج في الجامعة المصرية، فاتصل التصفيق. ثم تفرق الجمع، وانصرف الفتى مع رفاقه فأنفقوا ساعات في بيت الزيات لم يتحدثوا فيها إلا بأمر الرسالة والامتحان وما أتيح لصديقهم من فوز.
ولم ينم الفتى من ليلته تلك ... حال الابتهاج بينه وبين النوم، وهو يعلم أنه ما أحس السعادة قط كما أحسها في ذلك اليوم وفيما تلاه من الأيام، لا لأنه ظفر بهذه الدرجة الجامعية، ولا لأنه كان أول ظافر بها، ولا لهذه الاحتفالات التي أقيمت له، ولا لكثرة ما تحدثت الصحف عنه وعن فوزه، ولا للعشرين جنيها التي أجازه بها علوي باشا، والتي كانت تزيد على مرتب أبيه عن شهر كامل ملؤه الجد والكد والعناء، بل لشيء آخر بعيد عن هذا أشد البعد، قريب منه أشد القرب؛ وهو أنه قد قبل تحدي الجامعة وظفر بدرجة الدكتوراه، وأصبح سفره إلى فرنسا دينا له على الجامعة ليس لها بد من أن تؤديه إليه.
وكانت حياته في الأشهر التي أنفقها في مصر قبل أن يعبر البحر حلما حلوا متصلا، ولكنها على ذلك لم تخل من أيام شداد.
الفصل التاسع
الفلسفة المفسدة!
ولم تمض أيام بعد فوز صاحبنا في الامتحان، حتى دعته الجامعة، وأنبأته بأنه سيشرف بالمثول بين يدي الحضرة العلية الخديوية من غد، إذا كانت الساعة الخامسة بعد الظهر، وأن عليه أن يتهيأ للسفر إلى الإسكندرية ظهر الغد، وسيقدمه إلى الجناب العالي، حضرة صاحب السعادة أحمد شفيق باشا الذي سيسافر إلى الإسكندرية في نفس الموعد وفي نفس القطار.
وجم الفتى لهذا النبأ وجوما معقدا حقا، كان فيه السرور والغرور، وكان فيه الخوف والفرق، وكانت فيه حيرة أي حيرة ... فليس قليلا على ذلك الفتى الأزهري الفقير الضرير أن يرقى في هذه السرعة إلى حيث يلقى صاحب العرش، وأين هو من صاحب العرش؟ ... وأين صاحب العرش منه؟!
وكيف السبيل إلى الإسكندرية ومع من يسافر؟! وغلامه ذاك الأسود لا يحسن أن يصاحبه في شوارع القاهرة إلا في كثير من الجهد والعناء، فكيف بمصاحبته إلى هذه المدينة البعيدة الغريبة التي تقوم على ساحل البحر في أقصى الأرض؟ وكيف يصاحبه إلى القصر، وكيف يكون دخوله على الأمير؟
ثم في أي هيئة يدخل على الأمير؟! أفي ثيابه تلك الرثة التي لم يكن يرضى عنها ولا يطمئن إليها ولا يظهر فيها لنظرائه إلا في شيء من الكره والحياء! أم في ثياب أخرى تليق بلقاء الأمير، ومن له بهذه الثياب؟ وماذا يصنع بعد أن يخرج من القصر؟ وأين يقضي ليلته في هذه المدينة الغريبة؟ ومن له بما تحتاج إليه هذه الرحلة من النفقات؟ وهو لا يملك إلا قروشا لا تتجاوز العشرة، ولا سبيل له إلى أن يطلب من أخيه شيئا، فلم يعرف أخوه قط كيف يكون عنده أكثر من جنيه ينفق منه حتى إذا أتى عليه تكلف الاقتراض من صديقه هذا أو ذاك، حتى يكون أول الشهر.
ازدحمت هذه الخواطر على الفتى فشغلته عن أن يرجع الجواب على سكرتير الجامعة، حين ألقى إليه هذا النبأ السعيد وكأن السكرتير قد أحس شيئا من حيرته فقال له متلطفا: وسيكون سفرك إلى الإسكندرية ورجوعك منها على نفقة الجامعة.
فابتسم الفتى في مرارة، ولم يزد على أن شكر ثم انصرف.
ورآه مساء ذلك اليوم راضيا مغتبطا في الكلوب المصري، يضحك ملء شدقيه، فقد لقى صديقه ذلك الموسر الذي كان يحمل في أصبعه أربعين إردبا من القمح، لقيه ولم يطلب إليه شيئا، وإنما أنبأه بأنه مسافر من الغد في صحبة شفيق باشا للتشرف بلقاء الأمير، قال الصديق مبتهجا: فسأكون رفيقك في هذه الرحلة، وستريح غلامك هذا الذي أثقلت عليه في هذه الأيام.
ثم سكت لحظة كأنه كان يفكر في شيء، وأحس الفتى - وإن لم ير - أن صديقه كان ينظر إليه نظرة فاحصة ... ثم انقطع الصمت، وقال الصديق: ألم يعلن علوي باشا أنه قد أجازك بعشرين جنيها؟
قال الفتى: بلى.
قال الصديق: فهلم معي، فليس لك بد من ثوب تلقى فيه الأمير.
قال الفتى: وأي ثوب؟
قال الصديق: اصحبني، ولا عليك.
ثم مضى معه إلى حيث اشترى له معطفا من هذه المعاطف التي كان الأزهريون يسمونها الكاكولا، ولم يكد الفتى يدخل فيها ويجمع طرفيها على صدره بأزراره تلك حتى أحس كأن شخصه قد تغير، وكأنه قد خرج من طور من أطوار حياته، ودخل في طور جديد.
ولم يرد الفتى أن يبرح القاهرة دون أن يلقى أستاذه لطفي السيد، فسعى إليه حين ارتفع الضحى من الغد، وتلقاه الأستاذ حفيا به، فضمه إليه وقبله، وقال: امض مصاحبا، واذكر أنك في أول الطريق.
ورأى الفتى نفسه في قطار الإسكندرية، وفي الدرجة الأولى التي لم يعرفها قبل ذلك اليوم. ورأى نفسه بين صديقه ذاك وبين شفيق باشا رئيس الديوان الخديوي، وهم يأخذون في أطراف من الحديث، والباشا يقص عليهما فنونا من حياته حين كان طالبا يختلف إلى دروس العلوم السياسية في باريس أو في لوزان. والفتى يسمع ويرى نفسه مختلفا بعد وقت يقصر أو يطول إلى دروسه في السوربون، وتعرض له في باريس خطوب لا تشبه الخطوب التي عرضت له حين كان يختلف إلى دروسه في الأزهر أو في الجامعة.
فإذا بلغ القطار مدينة الإسكندرية ذهب الفتى وصاحباه، إلى القصر في عربة فخمة كانت تنتظر الباشا في المحطة، والفتى ينكر نفسه، وينكر هذا الترف الذي لا عهد له به، وهو في الوقت نفسه حائر ذاهل يفكر فيما سيسمع من الأمير وفيما سيقول له.
وقد أدخل على الأمير، فإذا هو يلقى رجلا كغيره من الرجال الممتازين الذين كان يلقاهم في الجامعة من أعضاء مجلسها، وإذا هذا الرجل يلقاه في سماحة سمحة بريئة من التكلف، وإذا هو يأخذ بيده فيجلسه على أريكة ويجلس عليها إلى جانبه، مهنئا له بفوزه، متمنيا له الخير والنجح فيما يستقبل من الأيام، سائلا إياه بعد ذلك عما يريد أن يصنع بعد أن ظفر بدرجته تلك.
قال الفتى: سأحاول السفر إلى فرنسا لأدرس الفلسفة أو التاريخ.
قال الأمير: إياك والفلسفة! فإنها تفسد العقول!
وكان الإنكار قد ظهر على وجه الفتى، فمضى الأمير قائلا: بل هي لا تفسد العقول وحدها، ولكنها تفسد الذوق أيضا؛ لقد ذهبت إلى باريس منذ سنتين، واستقبلني الطلاب المصريون هناك، وكانوا جميعا حاسري الرءوس في أيديهم قلانسهم إلا واحدا منهم كان حاسر الرأس كزملائه، ولكنه لم يكن يمسك قلنسوة وإنما كان يمسك طربوشا في يده ... فلما سألت عن هذا الفتى أنبئت بأنه منصور فهمي، وبأنه يدرس الفلسفة، فعلمت أن الفلسفة قد أفسدت عليه عقله وذوقه جميعا، فصاحب الطربوش لا يرفعه عن رأسه ولا يأخذه بيده حين يلقى الخديو، وصاحب القلنسوة لا يتركها على رأسه وإنما يأخذها بيده في مثل هذا المقام، ولكن صاحبنا كان يدرس الفلسفة!
ثم أغرق في ضحك متصل، والفتى مغرق في الوجوم.
فلما سكت عنه الضحك، قال وهو يضع يده على ركبة الفتى: ستسافر إلى فرنسا، ولكن لا تدرس الفلسفة وعليك بالتاريخ فإنه علم عظيم.
ثم أعرض عن الفتى وأخذ يتحدث إلى شفيق باشا في رطانة تركية لم يفهم منها الفتى قليلا ولا كثيرا، ووقف بعد دقائق، فوقف الفتى وصحبه شفيق باشا إلى خارج الغرفة حيث كان ينتظره صديقه ذاك.
فودعه شفيق باشا وأسلمه إلى صاحبه وعاد هو إلى الأمير.
وانسل الصديقان من القصر، لا يحفل بهما أحد ولا يلتفت إليهما أحد، وخرجا من القصر فلم يجدا عربة تنتظرهما، وإنما مضيا أمامهما يقص الفتى على صديقه حديث الأمير إليه، والصديق يضحك، ثم يقول: هلم إلى مكتب التلغراف لننبئ الجامعة بانتهاء المقابلة، ثم نخلص لأنفسنا.
قال الفتى: فسننبئ الجامعة غدا حين نعود.
قال الصديق: اسكت يا أحمق، فإن هذه البرقية ستكون أعظم خطرا وأبعد أثرا من المقابلة نفسها، سيقرؤها أعضاء مجلس الإدارة، وستقضي على ترددهم في إرسالك إلى فرنسا.
وذهبا إلى مكتب التلغراف، وكتب الصديق إلى الجامعة هذه البرقية، لم يؤامر فيها الفتى، وإنما قرأها عليه بعد أن انصرفا من المكتب:
حضرة سكرتير الجامعة المصرية بالقاهرة
لبثنا في حضرة الجناب العالي ربع ساعة لقينا فيه من لطف الملك وعطفه على الجامعة وعلينا ما أطلق ألسنتنا بالحمد له والثناء عليه.
طه حسين
وأنفق الصديقان ساعات حلوة في الإسكندرية، يهيمان على ساحل البحر، ويأخذان في ألوان من الحديث فيها قليل من جد وكثير من العبث، واستكشف الفتى في صديقه خصلة لم يكن يعرفها منه، وهي الإسراف على نفسه في الأكل، فلم يكن يلقى شيئا يؤكل مما يحمله الباعة المتجولون إلا اشترى منه وأقبل عليه يزدرده ازدرادا، والغريب أنه أقبل على عشائه كأنه لم يأكل قبله شيئا. ثم قضيا ليلتهما في فندق تيمن الصديق باسمه، وقال لصاحبه: فأل حسن! ستسافر إلى فرنسا لأن الفندق يتسمى باسمها، وينسب إليها.
ولم يبلغ الفتيان مدينة القاهرة، حتى قال الصديق لصاحبه: إذا أدى إليك علوي باشا جائزته فاذكر أنك مدين لي بستة جنيهات، واحذر أن تبطئ في أدائها إلي!
وكان قبض هذه الجائزة أثقل على الفتى من لقائه للأمير، فقد دعي إلى العشاء على مائدة علوي باشا، مع أساتذته الذين امتحنوه ، فجلس إلى المائدة، ولكنه لم يصب من الألوان التي قدمت إليه شيئا، كان شديد الحياء بطبعه، وكانت المهابة تملك نفسه وتفسد عليه أمره كله. وكان لا يدري ماذا يصنع بشخصه كله وقد وضعت أمامه أدوات المائدة فلم يكد يمسها حتى أدركه منها ذعر شديد ... ماذا يصنع بالملعقة؟ وماذا يصنع بالشوكة والسكين؟! وكيف يتصرف بها؟ أليس الخير كل الخير في أن يلبث في مكانه هادئا ساكنا لا يعرض نفسه لسخرية أو إشفاق؟
وظل في مكانه هادئا ساكنا أيضا لا يحرك يدا ولا لسانا.
وأقبل الأساتذة على طعامهم غير هيابين ولا وجلين ولا مترددين ولا حافلين بهذا الفتى الجالس بينهم كأنه التمثال! قد انعطف أعلاه على أسفله، وهو مغرق في السكون والصمت لا يصنع شيئا ولا يقول شيئا. كان يستحي أن يحرك يده أو لسانه، وكان يستخذي من سكونه وصمته، وكان يتعجل مر الساعات ويتمنى أن تعود إليه حريته حين يرد إلى غلامه ذاك الأسود الذي كان ينتظره غير بعيد. وكان علوي باشا وحده يلح عليه في أن يصيب من هذا اللون أو ذاك، فلما استيأس منه، قال في صوت حزين: أرجو أن يكون خادمك قد أعد لك ما يعشيك.
وقد فرغ القوم من طعامهم، وأخذوا في أطراف من الحديث، وشاركهم الفتى في بعضها، ثم قام الباشا فأدار مفتاحا في خزانة وجذب إليها درجا من أدراجها ثم أعاد إغلاقها، ثم أقبل على الفتى فدس في يده ورقة تصبب جبينه لها عرقا، فلما أصبح عرف أنها كانت الشيك الذي دعي إلى العشاء ليتسلمه.
وأدى الفتى دينه، وأجاز خدم الجامعة كما أجازه علوي باشا، وبقي له جنيهات تسعة سطا عليها أخوه فلم يبق له منها شيئا!
على أن هذا كله لم ينس الفتى حقه عند الجامعة، فهي قد علقت سفره على أن يفوز بالدرجة، وقد فاز بها، فيجب أن تبر الجامعة بوعدها، والفتى يكتب إليها هذا الكتاب:
صاحب العطوفة رئيس الجامعة المصرية
قد عرضت منذ حين على الجامعة المصرية أن توفدني إلى أوروبا لأدرس فيها التاريخ والفلسفة، فكلفتني تعلم الفرنسية، ثم قبلت الطلب وعلقت تنفيذه بنيلي شهادة العالمية، وإذ كنت قد فرغت من هذا كله بحمد الله فلم يبق إلا أن يحدد مجلس الإدارة موعد السفر وتكتب الجامعة بذلك لأعد له عدته.
لذلك رفعت إلى عطوفتكم هذا الطلب راجيا أن تتفضلوا بقبوله ولكم الشكر أفندم.
18 مايو 1914
طه حسين
وبدأت الجامعة البر بوعدها، فقررت ضم الفتى إلى بعثتها بباريس وأرسلت إليه هذا الكتاب:
حضرة المحترم الدكتور
اطلع مجلس الإدارة على العريضة المقدمة من حضرتكم بتاريخ 18 مايو سنة 1914 فقرر انضمامكم إلى إرسالية الجامعة بباريس لدراسة التاريخ، وأن يكون سفركم في الأسبوع الأول من شهر أغسطس القادم.
وهذا إخطار لحضرتكم بذلك، واقبلوا وافر تحياتي.
رئيس الجامعة المصرية
وكذلك تحقق هذا الحلم السعيد الذي داعب نفس الفتى وداعبته نفسه أعواما، وأصبح صاحبنا عضوا في بعثة الجامعة. وتقرر أن يعبر البحر على الباخرة لوكس في الثامن من شهر أغسطس، وسافر الفتى إلى أقصى الصعيد حيث كانت تقيم أسرته ليودع أبويه، فأقام في أسرته أسابيع كانت تثير في نفسه كثيرا من الشجون، فقد كان يرى أباه مبتهجا أشد الابتهاج بسفر ابنه إلى أوروبا بعد أن ابتهج أشد الابتهاج كذلك بفوز ابنه بدرجته الجامعية.
كان يتحدث بذلك إلى أهله، وكان يتحدث به إلى الناس، وكان كثيرا ما يقول لأولئك وهؤلاء: لله في خلقه شئون! هذا أضعف بني وأخفهم علي حملا وأقلهم نفقة، قد أتيح له ما لم يتح لإخوته الأقوياء المبصرين الذين كلفوني من النفقة ما أطيق وما لا أطيق، لم تتحدث الصحف عن واحد منهم، ولم يقابل الخديو واحدا منهم، ولم يخطر لي ولا لواحد منهم أنه قد يسافر إلى أوروبا كما سافر إليها أبناء الأغنياء. وكان قصارى ما تمنيت لابني هذا أن يجلس إلى عمود في الأزهر ليلقي الدروس على بعض طلابه، فإذا هو مسافر إلى باريس تلك التي نسمع من أحاديثها الأعاجيب!
وكانت أم الفتى راضية عما أتيح لابنها من النجاح، ولكن رضاها كان مرا ثقيلا. كانت تفكر في حال ابنها وفيما سيعرض له من الخطوب في بلاد الغربة، وفيما سيتكلف من الجهد ويحتمل من المشقة، وكانت كلما رأت ابتهاجه وابتهاج أبيه ثقل عليها هذا التفكير، وربما استخفت بدموعها حتى لا تنغص على الأسرة هذا الابتهاج.
وأقبل الفتى ذات يوم إلى القاهرة يتهيأ للسفر البعيد، ولكنه لا يكاد يأخذ في ذلك حتى ينقلب فرحه حزنا وسروره ألما ولوعة؛ فقد أعلنت الحرب، واستردت الجامعة طلابها من أوروبا، ووقفت إرسال البعثة الجديدة واضطر الفتى إلى أن ينتظر ... ماذا ينتظر؟ وإلى متى يكون هذا الانتظار: أيقصر أم يطول؟
الفصل العاشر
أستاذ جامعي بخمسة جنيهات!
وكانت تلك الأيام الطوال الثقال التي قضاها صاحبنا في القاهرة مروعا ملتاعا بعد أن حالت خطوب الحرب بينه وبين ما كان يريد؛ فقد أسلمته هذه الصدمة القاسية إلى هم متصل ذاد عنه النوم، فلم يكن يذوقه إلا حين يسفر الصبح ويستيقظ الطير، وقد بلغ منه الجهد غايته، وانتهى به العناء إلى أقصاه، بعد ليل مسهد وفكر مشرد ونفس قلقة عرفت كيف تنسل من ماضيها الثقيل، ووقفت أمام المستقبل المظلم حائرة لا تعرف كيف تنفذ منه إلى ما كتب لها فيه من سعادة أو شقاء.
في تلك الأيام كان الفتى فارغ النفس والقلب، ليست أمامه غاية يسعى إليها، ولا أرب يطمع فيه. يصبح فلا يجد أمامه عملا ينفق فيه بياض النهار، ويمسي وقد ثقلت عليه الراحة، فلا يحس من التعب والجهد ما يغريه بالنوم أو يغري به النوم. يرى نفسه بعد أن جاوز العشرين لا يزال عيالا على أبيه الذي أثقلته نفقة البنين، وعلى أخيه الذي جعل يعمل في الجمعية الخيرية الإسلامية منتظرا ذلك المنصب الذي جد وكد في سبيله، وهو منصب القضاء الشرعي. في تلك الأيام أبغض صاحبنا نفسه، ومل حياته، وزاده درسه لأبي العلاء بغضا لنفسه، وتبرما بحياته، وإغراقا في التشاؤم المظلم الذي لا قرار له. ورأى نفسه ذات يوم وقد انتهى به التشاؤم والضيق إلى حيث ندم على ما فرط في جنب الأزهر وشيوخه حتى حيل بينه وبين درجة العالمية تلك التي كان يسخر منها أشد السخر، ويزهد فيها أعظم الزهد، بعد أن صرفت عنه فلم يحاول أن يستأنف السعي إليها.
وما أكثر ما كان يردد في نفسه ذلك الحديث المر: «لو قد ظفرت بتلك الدرجة لكان لي عمل أغدو إليه، ومورد أعيش منه، ولما أثقلت بهذه الحياة البغيضة على قوم من حقهم أن توضع عنهم الأثقال، وتخف عليهم الأعباء.»
والغريب أنه كان يخترع لنفسه هذه الحياة المرة البغيضة اختراعا، فهو لم يشعر من أبيه ولا من أخيه ببعض ما كان يجد في نفسه من الحزن والضيق واليأس. ولم يلاحظ أن أحدهما ضاق من عنايته به أو رعايته له، وإنما جرت الصلة بينه وبين أسرته مطردة كما كانت تجري من قبل لم يتغير فيها شيء، ولم ينب به مكانه في بيته ذاك ولا مكانه في القاهرة بين صديقه، وإنما هو الذي كان يضيق باطراد الصلة وامتداد حياته على هذا النحو بدون أن يتغير قليلا أو كثيرا.
فيم إذن كد وشقي وتكلف من الدرس والامتحان، وظفر بما ظفر به من النجح؟ وفيم كثر الحديث عنه والاحتفاء به؟ وفيم كانت هذه الأحلام الحلوة والآمال العراض؟ أكان هذا وسيلة إلى هذه الحياة الفارغة التي يحياها، وإلى أن يصبح آخر الأمر كلا على أسرته أينما توجهه لا يأت بخير؟
بهذا كله كان يناجي نفسه إن أتيحت له الخلوة في النهار، وحين تفرض عليه الخلوة إليها في الليل، وهو على ذلك لا يظهر لأحد شيئا من ضيقه وتبرمه ويأسه، وإنما يلقى الناس كما تعود أن يلقاهم باسما لهم وللحياة، آخذا معهم في أطراف من الحديث مختلفة، كأنه لم يكن يائسا ولا شقيا ولا محزونا.
ثم يخطر له ذات يوم خاطر يخرجه من الملل واليأس، ويدفعه لا إلى الأمل بل إلى محاولة الأمل. فما الذي يمنعه أن يعلم في الجامعة بعد أن تعلم فيها؟ وأن يختلف إليها أستاذا بعد أن اختلف إليها طالبا؟ وأن يكون شأنه معها كشأنه مع الأزهر لو ظفر بدرجته، وهو لا يريد من الجامعة أجرا، فما ينبغي أن يكون عيالا عليها، وليست هي بالغنية ولا بالمحتاجة إليه. وإنما يريد أن يشغل نفسه عن نفسه، وأن يشعر الناس أنه يستطيع أن ينفع نفسه وينفعهم، وأن وجوده في هذه الدنيا ليس عبثا ولا لغوا، وهو يكتب إلى رئيس الجامعة هذا الكتاب:
صاحب العطوفة رئيس الجامعة المصرية
كانت هذه الحرب الحاضرة مؤخرا لي عن السفر إلى باريس والالتحاق بطلبة إرسالية الجامعة، كما قرر مجلس الإدارة، وإذ كنت خريج الجامعة، وقد استفدت منها وتخصصت لها، وأنا مضطر إلى أن أبقى بمصر ريثما تنتهي هذه الحرب، فقد أردت أن أمضي هذه السنة في تدريس تاريخ الآداب العربية في الجامعة بغير أجر. وأعتقد أني قادر بمعونة الله وقديم فضل الجامعة على أن أفيد الطلاب ونفسي بهذا الدرس فائدة حسنة، وأبعث في الآداب وتاريخها شيئا من الحياة غير قليل، فإذا راق هذا الاقتراح لمجلس الإدارة، فأنا أرجو أن يتفضل فيقررني «كذا» مدرسا لهذه المادة في الجامعة ريثما تنتهي الحرب، وله الشكر والجميل.
وعرض هذا الكتاب المغرور على مجلس الجامعة في السادس عشر من سبتمبر من ذلك العام، فقبل الطلب ورفض ما عرض صاحبه من المجانية، وكلف علوي باشا رحمه الله شيئين: أحدهما؛ أن يشكر للفتى تبرعه بهذا الدرس، والثاني: أن يقدر له مكافأة تلائم حاله، وتلائم طاقة الجامعة.
وأخذ علوي باشا يساوم الفتى في هذه المكافأة، فعرض عليه أول ما عرض أن تكون مكافأته بمقدار ما يكون من إقبال الطلاب على درسه، وأن تفرض الجامعة على الذين يختلفون إلى هذا الدرس رسما يسيرا، ثم يجمع ما يحصل من هذه الرسوم ويدفع إلى الأستاذ الفتى، وزعم علوي باشا لصاحبنا أن بعض الجامعات الألمانية تسير هذه السيرة مع الأساتذة المبتدئين، ولكن صاحبنا اعتذر من قبول هذا العرض؛ لأنه يجعله مدينا لطلابه دينا مباشرا بما يرزق من مرتب آخر الشهر.
قال علوي باشا: وإذن فستعطيك الجامعة مكافأة قدرها خمسة جنيهات في كل شهر، وهي أكثر مما كان الأزهر يعطيك لو جلست فيه مجلس الأستاذ.
واستخذى الفتى من هذا الحديث كله فلم يرجع على علوي باشا جوابا، وإنما انصرف عنه محزون القلب كئيب النفس كاسف البال، راضيا مع ذلك شيئا من رضا، فقد أصبح له عمل ينفق فيه وقته وجهده، وليس بقليل أن يقال عنه: إنه أستاذ في الجامعة. وأقبل على الأدب وتاريخه يعد دروسه فيهما. وقرر أن يختار للدرس في عامه الأول تاريخ الأدب الأندلسي، وما هي إلا أن غرق في «نفح الطيب» وما إليه من كتب الأدب العربي في الأندلس، فنسي نفسه ونسي الناس، ولكنه لم ينس البعثة إلى باريس، ولم ينس الحرب التي تحول بينه وبين باريس. وكيف السبيل إلى نسيان الحرب وأنباؤها المروعة تصبحه وتمسيه في كل يوم؟
وإنه لغارق في الأدب الأندلسي يقرؤه مع صديقه ذاك الذي قرأ معه أبا العلاء، ويقرؤه مع خادمه كلما غاب عنه صديقه ذاك، وإذا الجامعة تدعوه فيذهب إليها عجلا وجلا ذات ضحى، وهناك يلقى علوي باشا رحمه الله فيستقبله باسما له رفيقا به، وينبئه بأنه مسافر بعد أيام إلى فرنسا، فقد انجلت الغمرة بعض الانجلاء، وانهزم الألمان أمام باريس، وسعى ممثلو فرنسا في مصر عند الحكومة وعند الجامعة لتعيدا طلابهما إلى الجامعات الفرنسية.
ومنذ ذلك اليوم أقبل الفتى على تهيئة نفسه للسفر مستأنفا حياته تلك التي كانت تملؤها الأحلام العذاب، والآمال العراض. ويقبل اليوم الموعود فيسافر الفتى من القاهرة ومعه أخ له يرافقه في سفره، ويحيا معه في فرنسا، ليتم درسه هناك، ويعين أخاه على الحياة الشاقة في تلك البلاد الغريبة النائية. وقد أبت الجامعة أن تحتمل من نفقة هذا الأخ قليلا أو كثيرا، فاضطر الأخوان إلى أن يعيشا بمرتب واحد على ما في ذلك من ضيق وشدة، وقبلت الأسرة أن تعينهما بشيء من مال يسير بين حين وحين، وعلى غير نظام مطرد.
وفي الرابع عشر من شهر نوفمبر أبحر الفتى من الإسكندرية، ومعه أخوه وطالبان من طلاب البعثة الجامعية كان لهما في حياته في فرنسا شأن أي شأن.
فأما أحدهما: فكان قد نيف على الأربعين، وكان غريب الأطوار حقا، كان قد ظفر بالشهادة الثانوية، وعمل في ديوان من دواوين الحكومة، وانتسب إلى مدرسة الحقوق الفرنسية. فكان يغدو على مكتبه ويروح إلى مدرسة الحقوق حتى ظفر بدرجة الليسانس الفرنسية من جامعة باريس. وكان مرتبه ضئيلا، ولكنه كان يحسن التدبير والاقتصاد، فيؤدي رسوم المدرسة، ويسافر إلى باريس في كل عام لأداء الامتحان. حتى إذا أتم الدرس طمع في أكثر من الدرجة التي ظفر بها، واتصل بعلوي باشا فقص عليه قصته، وتأثر الباشا بهذه القصة، وقدر أن هذا الفتى يجب أن يكون حريصا على العلم محبا له مشغوفا به، ما دام قد تكلف في طلبه كل هذا العناء، وقتر على نفسه في الرزق كل هذا التقتير حتى ظفر بهذه الدرجة التي أتيحت له. وجعله علوي باشا عضوا في البعثة الجامعية ليمضي في درس الحقوق حتى ظفر بدرجة الدكتوراه، لم يحفل بتقدم سنه، ولم يفرض عليه امتحانا أو شيئا يشبه الامتحان.
وأما الآخر: فكان قد نيف على الثلاثين، وكان قد تخرج في دار العلوم، وتقدم لمسابقة الجامعة فظفر فيها، وأرسل إلى فرنسا للتخصص في الأدب العربي، فأقام فيها سنين متصلة، ثم رد إلى مصر حين أعلنت الحرب، ثم أعيد إلى فرنسا بعد أن انجلت عنها الغمرة الأولى، وكذلك لم يشعر الفتى وأخوه بشيء من الوحشة في هذا السفر بفضل هذين الرفيقين. وكان سفرا غير قاصد، فيه كثير من جهد، وفيه شيء من خطر أيضا.
فقد اختيرت لسفر البعثة سفينة فرنسية فقيرة حقيرة رخيصة، وكان اختيارها لونا من الاقتصاد. وكان اسمها «أصبهان»؛ وكانت على بؤسها وفقرها مرحة تحب الرقص في البحر، وتحسن اللعب على أمواجه ولا تحفل بما يلقى ركابها من عقاب حبها للرقص واللعب. وكانت تؤثر المهل على العجل، وتفضل الأناة على السرعة، وكانت السفن تعبر البحر بين الإسكندرية ومارسيليا في أربعة أيام، فأما أصبهان فكانت تحب البحر وتؤثر أن تعبره في ثمانية أيام لا في أربعة. وصعد الفتى إلى «أصبهان» يتعثر في جبته وقفطانه، ولم يكد يبلغ غرفته في الدرجة الثانية ويسمع الجرس المؤذن بقرب إقلاع السفينة حتى خرج من جبته وقفطانه، وتخفف من عمامته، ودخل في ذلك الزي الأوروبي ... وشغله دخوله في ذلك الزي عن إقلاع السفينة واندفاعها في طريقها هادئة أول الأمر، مضطربة بعد ذلك أشد الاضطراب. ورأى الفتى نفسه حين أقبل المساء وقد فارق مصر، ودفع إلى مغامرته تلك التي عرف أولها ولكنه لم يعرف ما يكون بعد أولها هذا من الأحداث والخطوب.
والحق أنه لم يفكر في الأحداث ولا في الخطوب، ولا في أول المغامرة ولا آخرها، وإنما شغل بزيه الجديد ساعة وبعض ساعة، ثم شغل باضطراب السفينة بعد ذلك، فلم يفرغ منه إلا حين أتمت السفينة رحلتها وانتهت به إلى مارسيليا ذات مساء بعد ثمانية أيام طوال حافلة بالفزع والروع والضيق. •••
وقد لزم الفتى غرفته تلك منذ دخل السفينة إلى أن خرج منها، ولم يذهب إلى غرفة المائدة، وكيف يذهب إليها وهو لا يحسن الحركة في هذه السفينة التي لا تستقر، ولا يعرف الجلوس إلى موائد الطعام، ولا يحسن استعمال تلك الأدوات التي يستعملها الناس حين يطعمون، ولا يستطيع أن يأكل أمام المسافرين من الأوروبيين بيديه كلتيهما أو إحداهما، كما كان يصنع في مصر؛ فليس له بد إذن من أن يصيب طعامه في غرفته. وكان الرفاق قد وكلوا به خادما من خدم السفينة يحمل إليه غداءه وعشاءه، وقد أعدا إعدادا حسنا؛ ليصيب منهما حاجته. فكان الخادم يحمل إليه الطعام في موعده، فيضعه بين يديه ثم ينصرف عنه، ويغلق باب الغرفة من دونه، ثم يعود إليه بعد حين ليحمل ما وضع بين يديه من أطباق. وكان كلما عاد لحمل هذه الأطباق قال الفتى في ضحكة حزينة جملة بعينها لا يغير منها حرفا حتى حفظها الفتى ولم ينسها: «ما أقل ما تصيب من الطعام!» وأفاق السفر ذات ليلة مذعورين، فقد اضطربت السفينة اضطرابا عنيفا مفاجئا، وكثرت فيها الجلبة، ثم وقفت السفينة فجأة، وجعلت الريح تعصف من حولها، واشتد اصطخاب الموج، وصوت بعض النساء، وعرف المسافرون أن عطبا قد أصاب محرك السفينة، ولم يشك أحد في أن الخطر قريب.
وبينما كان السفر في ذعرهم وروعهم، كان الرفيق الدرعمي مقبلا على ذقنه يعمل فيها الموسى، حتى إذا فرغ من ذلك دخل في ثياب النهار كما تعود أن يدخل فيها قبل أن يخرج من غرفته في كل يوم، ثم أقبل على الفتى متكلفا ضحكا يغالب به الروع، فلما رآه مستلقيا في سريره قال متضاحكا: وإنك لتستقبل الآخرة على هذه الحال!
قال الفتى: وما تريد أن أصنع؟
قال الدرعمي: فإني كرهت أن أستقبل الموت في قميص، فحلقت ذقني، واتخذت زينتي لأغرق كريما لا يضحك الناس مني.
ثم اندفع في ضحك يائس وأخذ يتغنى في شعر البردة كما يتغنى فيه بعض أصحاب الطرق:
أمن تذكر جيران بذي سلم
مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
وإنه لفي هذا العبث، وإذا اضطراب الناس يهدأ، فقد عرفوا أن في السفينة من المهندسين والعمال من يستطيعون إصلاح ما أصاب محركها من عطب، وأنها ستستأنف سيرها بعد ساعات، وما أسرع ما استحال الروع إلى ضحك ولعب وابتهاج!
وتستأنف السفينة سيرها وقد سكنت، فهي لا تعصف، وسكن الموج فهو لا يقصف، ومضت السفينة في طريقها هادئة مستأنية، كأن رشدها قد ثاب إليها، وكأنها هي قد ثابت إليه. وتبلغ مارسيليا مساء ذلك اليوم، فيهبط صاحبنا من السلم لا يتعثر في جبته وقفطانه، ولكن نفسه هي التي كانت تتعثر في هذه الحياة الجديدة التي يستقبلها، ولا يعرف كيف يلقاها، ولا كيف يحمل أعباءها، ولا كيف ينفذ من مشكلاتها.
ويبلغ الرفاق مدينة مونبلييه التي أمرتهم الجامعة أن يطلبوا العلم فيها عامهم ذاك، ولا يذهبوا إلى باريس حتى يؤذن لهم في الذهاب إليها، وهم يبلغون تلك المدينة مع الليل، وهم يجهلون من أمرها كل شيء، ولكن رفيقهم ذاك الذي نيف على الأربعين وحلب الدهر أشطره كما كان يقول، وجعل نفسه رئيسا لهم بحكم السن، يقودهم إلى فندق حقير فقير كسفينتهم تلك التي عبرت بهم البحر، فإذا استقروا في هذا الفندق وعبث بهم البرد أقبل الدرعمي متضاحكا وهو يقول للفتى:
أوتل مثل وجه الكلب لكن
لخاطر سلطن اصبر شويه
وسلطن هذا هو اسم الرفيق سلطان الذي قادهم إلى الفندق، ولكن ضرورة الشعر حذفت ألفه ليستقيم الوزن، وما أكثر ما تحذف ضرورات الشعر من الحروف!
الفصل الحادي عشر
الفتى في فرنسا
واستقبل الفتى حياته في مدينة مونبلييه سعيدا بها إلى أقصى ما تبلغ السعادة، راضيا عنها كأحسن ما يكون الرضا. فقد حقق أملا لم يكن يقدر أنه سيحققه في يوم من الأيام.
وكان يكفيه أن يفكر في صباه ذلك البائس الذي قضاه مترددا بين الأزهر وحوش عطا، تشقى نفسه فى الأزهر، ويشقي نفسه وجسمه فى حوش عطا، حياة مادية ضيقة عسيرة كأقسى ما يكون الضيق والعسر، وحياة عقلية مجدبة فقيرة كأشد ما يكون الإجداب والفقر، ونفس مضيعة بين عسر الحياة المادية وفقر الحياة المعنوية. ثم يوازن بين حياته تلك وبين الحياة الجديدة التى أخذ يحياها فى هذه المدينة الفرنسية، لا يحس جوعا ولا حرمانا، يحمل إليه فطوره إذا أصبح ناعما لينا لا خشونة فيه ولا غلظ. فإذا جاءت أوقات الطعام في وسط النهار وفي آخره، وجد في اختلاف الألوان وتنوعها ما يذكره بطعامه ذاك المتشابه حين كان يغمس خبزه في عسله ذاك الأسود مصبحا وممسيا، وحين كان يحب أن يتخفف من طعامه ذاك أحيانا ويخالف عن حلاوته البغيضة إلى شيء آخر، فلا يجد إلا ذلك الطعام الغليظ الذي كان الأزهريون يعيشون عليه في تلك الأيام. فإذا أحب أن يتفكه فلا منصرف له عن البليلة في الصباح والتين الغارق في الماء إذا كان المساء أو الضحى. وأين ذلك الطعام الغليظ من هذه الألوان المترفة الرقيقة التي كانت تعرض عليه في غدائه وعشائه في غير تقتير ولا تضييق، وفي كثير من إلحاح الخدم وأصحاب الفندق عليه في أن يصيب منها أكثر مما أصاب.
ويذهب إلى الجامعة فيسمع فيها ما شاء الله أن يسمع فيها من دروس الأدب والتاريخ واللغة الفرنسية، لا يسمع درسا إلا أحس أنه قد علم ما لم يكن يعلم، وأضاف إلى علمه القديم علما جديدا. وهو على قلة حظه من إحسان اللغة الفرنسية لم يكن يجد كثيرا من المشقة، ولا يبذل كثيرا من الجهد، ليفهم ما كان الأساتذة يلقون من الدروس فهما يغنيه ويرضيه. كان الفتى يوازن بين حياته هذه الجديدة وحياته تلك القديمة، ويقيس ما بينهما من الفرق العظيم، فيرى نفسه أسعد الناس وأعظمهم حظا من النجح والتوفيق. وهو مع ذلك لم يكن ميسرا عليه في الرزق، وإنما كان عليه أن يدبر مرتبه ذاك الذي لم يكن يتجاوز اثني عشر جنيها لينفق منه على نفسه وعلى أخيه. وقد تهيأ له ما أراد من ذلك في غير تكلف ولا عناء. كانت الحياة الفرنسية في تلك الأيام هينة ميسرة، تتيح لفتيين أجنبيين مثله ومثل أخيه أن يعيشا بهذا المرتب الضئيل عيشة راضية حين تقاس إلى ما كانا يلقيان في مصر من قسوة الحياة وشظفها.
ثم لم يلبث الفتى أن فكر في أنه لم يعبر البحر إلى فرنسا ليتردد بين الفندق والجامعة، وإنما أقبل إلى هذا البلد الغريب ليدرس ويحصل ويجوز الامتحان، ويظفر بالدرجات الجامعية التي لم يظفر بها أحد قبله من مواطنيه. فلم يكن له بد من أن يظفر بدرجة الليسانس، ولم يكن إلى الظفر بتلك الدرجة سبيل في تلك الأيام إذا لم يحسن الطالب لغتين لم يكن من إحسانهما بد، إحداهما: لغة الدرس وهي اللغة الفرنسية التي كان الفتى قد أخذ منها بحظ يسير، والأخرى: لغة قديمة كان الفتى يسمع عنها ولا يحققها ولا يعرف إلى العلم بها سبيلا، وهي اللغة اللاتينية. •••
وقد أخذ الفتى يتهيأ لإتقان الفرنسية من جهة، وتعلم اللاتينية من جهة أخرى، فالتمس لنفسه معلما خاصا يعينه من ذلك على ما كان يريد. وقد جعل رفاقه يبحثون له عن المعلم الذي يلائمه حتى قيل لهم: إن صاحبكم مكفوف، وليس له بد من أن يتعلم كتابة المكفوفين وقراءتهم، ليستطيع أن يعتمد على نفسه في تحصيل ما يريد أن يحصل من العلم.
ثم قيل لهم: إن في تلك المدرسة من مدارس المكفوفين أستاذا ضريرا قد يعين صاحبكم على حاجته، فسعوا إلى هذا الأستاذ، وقدموا إليه صاحبهم. وأعلن الأستاذ إليهم أنه زعيم بأن يعلم رفيقهم الكتابة والقراءة الفرنسية واللاتينية جميعا، ولم يطلب على هذا إلا أجرا ضئيلا فى نفسه، ولكنه كان ثقيلا على هذين الأخوين اللذين كانا يعيشان بمرتب شخص واحد.
وقد قبل الفتى مع ذلك أن يشق على نفسه وعلى أخيه، وأن يؤدي إلى الأستاذ أجره الذي طلبه، وكتب إلى الجامعة يستعينها فلم تبخل عليه بالعون، وقامت عنه بأداء هذا الأجر.
وأقبل الفتى على الكتابة البارزة يتعلمها، فلم يلبث أن أحسنها، ولكنه عندما حاول أن ينتفع بها في درسه لم يجد إلى الانتفاع بها سبيلا؛ فلم تكن الكتب التي كان يحتاج إلى قراءتها قد طبعت على هذه الطريقة الخاصة، وكان ربما أتيح له الكتاب المطبوع على هذه الطريقة، فلا يكاد يأخذ في قراءته حتى يضيق بهذه القراءة أشد الضيق، وينفر منها أعظم النفور، فهو قد تعود أن يأخذ العلم بأذنيه لا بأصبعه، وهو من أجل ذلك يجد المشقة كل المشقة في تتبع هذه النقط البارزة حتى يؤلف منها الكلمة، ثم يؤلف من الكلمة وأمثالها جملة، ثم يؤلف من هذه الجملة وأمثالها كلاما يمكن أن يعمل فيه عقله وفهمه وبصيرته. وإذا هو يجد في ذلك عسرا أي عسر، ويسأم ذلك أشد السأم وأقساه، ويرى أنه يستطيع أن يحصل من طريق أذنيه في اللحظات القصيرة ما يحتاج إلى الوقت الطويل والملل الثقيل ليحصله من طريق أصابعه. وهو يعدل عن الكتابة البارزة وعن القراءة بالأصابع إلى طريقته التي ألفها إلا في درس اللاتينية، فقد كان حريصا على أن يتعلم هذه اللغة في أناة ومهل، وكانت هذه الطريقة في الكتابة والقراءة تواتيه وتلائم ابتداءه درس هذه اللغة وحاجته إلى الريث والأناة.
على أنه لم يكد يتقدم في درس اللاتينية قليلا حتى سئم القراءة بأصابعه، وآثر الاستماع على تلمس الحروف، وأحس الحاجة إلى قارئ يقرأ عليه ما يريد في اللاتينية والفرنسية جميعا، ولم يستغن عن أستاذه ذاك الذي كان يعلمه هاتين اللغتين، واستحى أن يطلب إلى الجامعة عونا جديدا، فقتر على نفسه أشد التقتير وأقساه، وعاش عيشة فيها شيء من غلظة وخشونة، ولكنها كانت على كل حال خيرا من حياته التي ألفها في مصر. •••
على أن الأيام أبت إلا أن تشق عليه وترهقه من أمره عسرا؛ فقد كان يعيش مع أخيه عيشة راضية على ما فيها من قسوة ومشقة، وكانا يدبران أمرهما تدبيرا ملائما لطاقتهما المالية؛ ولكنهما لم يلبثا أن اختلفا واشتد بينهما الاختلاف، حتى أصبحت حياتهما خصاما متصلا وشقاء ملحا، وحتى اضطر إلى أن يفترقا ... يسكن كل واحد منهما في منزل غير الذي يسكنه أخوه، ويلتقيان بين حين وحين، وقد اضطرهما ذلك إلى المبالغة في التقتير على أنفسهما؛ فليست النفقات التي يقتضيها افتراقهما في المسكن، كالنفقات التي كانا يحتملانها حين كانا يسكنان في غرفة واحدة، ويختلفان إلى مائدة واحدة.
وكذلك اشتدت قسوة الحياة على هذين الأخوين الغريبين، ولكنها لم تنل من صبرهما، ولم تصرفهما عن جدهما في الدرس والتحصيل. ولم تكن حياة الفتى على ذلك النحو مبغضة إليه، ولا ثقيلة عليه من جميع وجوهها، وإنما كانت مزاجا من الجد الصارم والهزل الباسم، يلتقيان أحيانا فيحيا الفتى حياة ليست حلوة ولا مرة، ولكنها تمر في أول النهار، وتحلو في آخره حين كان الفتى يلقى رفاقه ويسمع لأحاديثهم، ويقضي بينهم فيما كان يعرض لهم من المشكلات، وما أكثر ما كان يعرض لهم من المشكلات، ومن مشكلات الحب والغرام خاصة!
وكيف تريد فتية من المصريين على أن يعيشوا في فرنسا ويختلفوا إلى القهوات والأندية وبعض ما يقام من الحفلات بدون أن يداعبوا الحب أو يداعبهم الحب، وبدون أن تقسو عليهم دعابة الحب بين حين وحين؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يمنع صديقين من أن تروقهما فتاة واحدة، وإذا هما يلتمسان إلى لقائها الوسيلة. فإذا أتيح لهما هذا اللقاء ابتغيا عندها مواقع الرضا، ثم لا يلبث أن يكون بينهما التنافس، ثم الخصومة، ثم التلاحي، ثم الفرقة، أيهما ظفر عند صاحبتهما بالرضا فهو عدو لصاحبه الذي أخلفه الظن، وكذبه الأمل، ولم يقع من نفس الحسناء ما كان يرجو من موقع الرضا والارتياح. ولا تلبث هذه الخصومة بين الرفيقين أن تتجاوز الحب إلى غيره من ألوان الحياة التي كانا يتعاونان عليها ويشتركان فيها، وإذا صاحبنا يصبح قاضيا بين رفاقه في شئون الحب، وليس له أرب فيه ولا سبيل إليه، وأنى له بشيء من ذلك وهو المكفوف الذي لا يحسن شيئا حتى يعينه عليه معين، وهو لا يرى وجوه الحسان، ولا يعرف كيف يتحدث إليهن، أو كيف يبتغي إلى رضاهن الوسائل! فهو يغدو على الجامعة مصبحا، فإذا راح إلى منزله آخر النهار لم يبرحه حتى يسفر له صبح الغد. والرفاق يلمون به في آخر النهار وأول الليل، فيختصمون بين يديه ويتخذونه حكما بينهم، وهو يصلح بين المختصمين مرة ويقضي لبعضهم على بعض مرة. •••
ولكن الليل لا يكاد يتقدم حتى يتفرق عنه رفاقه جميعا، وإذا هو يخلو إلى نفسه هذه الخلوة المرة التي لا يجد عليها معينا، قد جلس وحده في غرفته تداعب نفسه الخواطر المختلفة الكثيرة، فيها ما يسر، وفيها ما يسوء، فيها ما يحيي الأمل، وفيها ما يملأ القلب يأسا وقنوطا.
وما يزال الفتى جالسا في مجلسه ذاك من غرفته تعبث به خواطره هذه المختلفة لا يسأل عنه سائل ولا يلم به ملم، وإنما هي الوحدة المطلقة القاسية التي كانت تذكره وحدته في غرفته في حوش عطا، حين لم يكن يؤنسه إلا صوت الصمت وما كان يتردد فيه أحيانا من أزيز بعض الحشرات.
وربما أسرفت عليه القسوة حتى تنتهي به إلى أقصاها فيمتنع عليه النوم، ويأبى الأرق إلا أن يكون له حليفا، وإنه لفي ذلك وإذا بابه يطرق، وقد كاد الليل يبلغ ثلثيه، فإذا أذن للطارق بالدخول فتح الباب، وأقبل عليه أحد رفاقه وقد أخذ من عبث الشباب بأعظم حظ ممكن ، وهو لا يريد أن يأوى إلى سريره حتى يتحدث ببعض عبثه إلى صاحبه. فإذا فرغ من حديثه وانصرف ترك صاحبنا وقد انتهى به الحزن والضيق إلى غايتهما، وإذا هو يقضي ليلة بيضاء لا يذوق فيها للنوم طعما، فإذا أصبح غدا على حياة فاترة لا خير فيها لعقله ولا لجسمه.
وهو على ذلك وعلى ضيق ذات يده، وعلى المشقة الشاقة التي كان يلقاها في الاختلاف إلى الجامعة والانتفاع بما كان يسمع من الدروس، راض عن حياته كل الرضا، مطمئن إليها أشد الاطمئنان لا يتمنى إلا أن يمضي فيها حتى ينتهي إلى ما قدر له من غاية. وهو واثق بأنه سيبلغ من هذه الحياة ما يريد؛ سيحسن الفرنسية، بل هو قد أخذ يحسنها ويطلق بها لسانه في غير مشقة، وسيتعلم اللاتينية، وسيتهيأ للامتحان. ومن يدري لعله أن يكون أول طالب مصري يظفر في يوم من الأيام بدرجة الليسانس في الآداب.
وإنه لفي هذه الحياة الحلوة المرة القاسية اللينة التي يحبها أحيانا كأشد ما يكون الحب، ويضيق بها أحيانا أخرى كأشد ما يكون الضيق، وإذا الحياة تبتسم له فجأة في يوم من أيام الربيع ابتسامة تغير حياته كلها تغييرا.
وإذا هو لا يعرف الوحدة ولا يجد الوحشة حين يخلو إلى نفسه إذا أظلم الليل، وكيف تجد الوحدة أو الوحشة إلى نفسه سبيلا، وكيف تبلغه تلك الخواطر التي كانت تؤذيه وتضنيه وتؤرق ليله، وفي نفسه صوت عذب رفيق يشيع فيه البر والحنان، ويقرأ عليه هذا الأثر أو ذاك من روائع الأدب الفرنسي القديم؟ •••
يرحم الله أبا العلاء، لقد ملأ نفس الفتى ضيقا بالحياة وبغضا لها، وأيأسه من الخير، وألقى في روعه أن الحياة جهد كلها، ومشقة كلها، وعناء كلها. وإذا هذا الصوت يذود عن نفس الفتى كل ما ألقى فيها أبو العلاء من ظلمة التشاؤم واليأس والقنوط، كأنه تلك الشمس التي أقبلت في ذلك اليوم من أيام الربيع، فجلت عن المدينة ما كان قد أطبق عليها من ذلك السحاب الذي كان بعضه يركب بعضا ، والذي كان يقصف ويعصف حتى ملأ المدينة أو كاد يملؤها إشفاقا وروعا.
وإذا المدينة تصبح كلها إشراقا ونورا.
سمع الفتى ذلك الصوت يقرأ عليه شيئا من شعر راسين ذات يوم. فأحس كأنه خلق خلقا جديدا، ومنذ تلك الساعة التي سمع فيها ذلك الصوت لم يعرف اليأس إلى نفسه سبيلا.
ولم يعرف الفتى أنه أحب الحياة قط كما أحبها في الثامن عشر من شهر مايو في ذلك العام.
ولم يعرف أنه أقبل على الدرس كما أقبل عليه منذ ذلك اليوم.
ولم يعرف أنه انتفع بالاختلاف إلى الجامعة والقراءة في الكتب كما جعل ينتفع بهما منذ ذلك اليوم أيضا ... حتى حين انقطع عنه ذلك الصوت العذب البر الرفيق لمقدم الصيف.
فقد كان الصوت يصحبه دائما، لا يكاد يخلو إلى نفسه في ليل أو نهار إلا سمعه يقرأ عليه هذا الكتاب أو ذاك، في تلك النبرات التي كانت تسبق إلى قلبه فتملؤه رضا وغبطة وسرورا.
وإنه لفي هذه السعادة المتصلة، وإذا صاحبه الدرعمي يقبل عليه ذات صباح مظلم الوجه والنفس والصوت، فينبئه بأن كتابا قد وصل إليه من الجامعة تنبئه فيه بأن طلاب البعثة جميعا يجب أن يعودوا إلى مصر، وأن يأخذوا إليها أول سفينة تتاح لهم بعد قراءة هذا الدعاء.
وقد سمع الفتى حديث صاحبه فأغرق في ذهول عميق، ثم أفاق بعد وقت لم يدر أقصر أم طال، وإذا هو يرى آماله العذاب قد استحالت في أقصر لحظة إلى آمال كذاب، ويرى حياته المشرقة الباسمة الحلوة قد أصبحت ظلمة عابسة مرة ممضة. ولكنه على ذلك لم يستسلم لليأس، وإنما أخذ يتعلق بالوهم، فيبرق إلى من كان يعرف من الصديق القادرين على أن يسعوا له في الخير عند الجامعة أو عند السلطان، ويبرق إلى القصر، وينتظر ما يعود به البرق عليه، وإذا البرق لا يعود عليه إلا بالإلحاح في الدعاء أن يعود إلى مصر في غير إبطاء.
ويرى الفتى نفسه ذات يوم من شهر سبتمبر يسعى مع رفيقه الدرعمي إلى السفينة، وكلاهما محزون كاسف البال، كأنه لا يسعى للعودة إلى الوطن، وإنما يساق إلى الموت.
الفصل الثاني عشر
الصوت العذب
وكانت أيام السفينة الستة طوالا ثقالا قد ألقى عليها الحزن غشاء شاحبا بغيضا. فلم يجد الصاحبان فيها للذة السفر وراحته طعما، وإنما كان الهم يصبحهما ويمسيهما، وكانت خيبة الأمل حديثهما في النهار حين يلتقيان، وحديث نفسيهما في الليل حين يفترقان. وما لهما لا يشقيان بهذه العودة المفاجئة، وأحدهما قد أنفق في باريس أعواما طوالا ثم لم يحقق من آماله شيئا، وإنما هم ولم يفعل، فتعلم الفرنسية واختلف إلى الدروس، وأخذ يتهيأ لإعداد رسالته التي ينال بها درجة الدكتوراه، وإذا الحرب ترده عن ذلك ردا، فإذا عاد إلى فرنسا واستأنف ما كان فيه من استعداد للرسالة والامتحان ردته الأزمة المالية التي أدركت الجامعة إلى وطنه خائبا فارغ اليدين لم يصنع شيئا ولم يظفر بشيء.
ولو قد التمس لنفسه عملا حين تخرج في دار العلوم ولم يتكلف ما تكلف من السفر والغربة، لكان فى ذلك الوقت معلما فى هذه المدرسة أو تلك من مدارس الدولة، ولكنه يرى نفسه ضائعا لا يكاد يدنو من الغاية حتى يصد عنها صدا، تصده الحرب مرة، وتصده الأزمة المالية مرة أخرى، وهو يعود إلى مصر ليعيش فيها فارغا لا يدري ماذا يعمل، ولا يعرف كيف يكسب القوت؟
وأما الآخر فقد جد وكد واحتمل المشقة والعناء، وداعب الأحلام والآمال، حتى إذا أشرف على البعثة ولم يكن يقدر أنه سيشرف عليها رده عنها إعلان الحرب، فعاش أشهرا عيالا على أبيه وأخيه وذاق مرارة الحياة التي لا تغني عنه وعن غيره شيئا، ثم أتيحت له البعثة فأقبل على عمله مغتبطا سعيدا يكاد يخرجه النشاط من إهابه. وقد حاول من أمور الدرس ما أتيح له فيه كثير من التوفيق، حتى ظن أنه بالغ ما يريد، ثم عرض له في أثناء إقامته في فرنسا ما أحيا في نفسه آمالا لم تكن تخطر له ببال؛ فهو قد عرف أنه يستطيع أن يكون كغيره من الناس، بل خيرا من كثير من الناس، يحيا حياة فيها رضا وغبطة، وفيها نعمة وبهجة، وفيها سكون إلى هذه الرحمة التي كان قد استيأس منها والتي كان أبو العلاء قد ألقى في روعه أنه لن يذوقها ما عاش، وإذا الأيام تدنيه منها أو تدنيها منه.
وإنه لفي حياته تلك الراضية الناعمة على ما كان فيها من خشونة وعسر، وإذا الجامعة تدعوه إلى مصر ليعود إليها كما خرج منها، كأنه لم يداعب الأمل إلا ليتجرع مرارة اليأس كأبغض ما تكون مذاقا.
وهو قد عرف التبطل والفراغ في أشهره تلك التي قضاها في مصر، بعد أن أعلنت الحرب، وهو يعود ليلقى التبطل والفراغ مرة أخرى في مصر.
أف لهما من رفيقين بغيضين! ولقد كان يقطع الأمد بين مونبلييه ومارسيليا أثناء ليلته تلك الثقيلة وليس في نفسه إلا شيء واحد، هو هذا الصوت العذب الذي طالما قرأ عليه آيات الأدب الفرنسي، وهو الآن يناجيه في حزن أليم ... وإذن فلن نلتقي بعد أن ينقضي الصيف!
وقد صحبه هذا الصوت أيام السفينة يناجيه مناجاة اليأس مرة، ومناجاة الأمل مرة أخرى، يشفق عليه من الأحداث، ويمنيه الانتصار والخروج منها. ويتحدث إليه بأنها الغمرات ثم ينجلين، وبأن لكل أزمة غاية، وبعد كل حرج فرجا، وهو مضطرب بين هذه الابتسامات المضيئة الخاطفة التي لا تكاد تعرض له حتى تنصرف عنه، وهذا الحزن الجاثم المقيم الذي لا يفارقه إلا ريثما يعود إليه!
وتبلغ السفينة ثغر الإسكندرية، وإذا الوطن زاهد في هذين الصاحبين البائسين، لا يريد أن يلقاهما ولا أن يضمهما بين ذراعيه؛ فقد كانت الحرب قائمة، وكانت قيودها شدادا ثقالا، وكان أمر مصر إلى غير أهلها، وكان أمر الثغور خاصة ضيقا حرجا، قد فرضت عليه رقابة أي رقابة، فلا تكاد السفينة تستقر في مرساها، ولا يكاد الصاحبان يحاولان الهبوط بها، حتى يردا عن ذلك ردا شديدا، فلم يكن يكفي أن يصل المصري إلى وطنه ليدخله، وإنما كان يجب أن ينتظر ويطول انتظاره حتى يؤذن له بالدخول.
وقد انتظر الصاحبان حتى تستأذن السلطة في السماح لهما بترك السفينة والنزول إلى أرض الوطن، وأبرقا إلى الجامعة وإلى من يعرفان من الصديق يتعجلان هذا الإذن. ولكن الأمور لم تكن تجري في يسر وإسماح، وإذا هما يقيمان في السفينة يوما ويوما، وصنع الله لهما في هذين اليومين أن كانا فيهما مضطربين أشد الاضطراب، يريدان أن تفتح لهما أبواب الوطن، ويتمنيان في أعماق ضمائرهما أن تظل مغلقة، وأن تعود بهما السفينة إلى مارسيليا.
ولكن ماذا يصنعان في مارسيليا؟
وكيف يعيشان في فرنسا؟
بل كيف يعيشان في السفينة نفسها في أثناء عودتهما إلى مارسيليا؟ ومن لهما بثمن هذه العودة؟
ولكن أبواب الوطن تفتح لهما بعد لأي، والوطن يتلقاهما كئيبا، فيضيف إلى حزنهما حزنا وإلى شقائهما شقاء.
وقد أقام صاحبنا في القاهرة قريبا من ثلاثة أشهر لا يعرف أنه شقي في حياته كلها كما شقي فيها، ولا أنه سعد في حياته كلها كما سعد فيها. ولكن شقاءه كان طويلا ملحا، وسعادته كانت سريعة خاطفة. كان يشقى بالتبطل والفراغ والبؤس، وكان يسعد بذلك الصوت العذب الذي كان يناجيه بين حين وحين، وربما أيقظه من نومه مفزعا، مسرورا مع ذلك بهذا الفزع. وكان يسعد بهذه الرسائل التي كانت تصل إليه بين حين وحين فيها كثير من الأمل المشفق، وكثير من التشجيع على احتمال النائبات، وربما اشتملت بعض هذه الرسائل على زهرة قد جففت وأرسلت إليه ليحملها كما تحمل التمائم ولتذكره إن عرض له النسيان - وشهد الله ما عرض له النسيان قط.
في هذه الأشهر الثلاثة شكا الفتى كما لم يشك قط في حياته، شكا شعرا ونثرا حتى لامه في ذلك بعض الصديق، وقال له قائلهم: أين الصبر؟ وأين الإجمال؟ وأين الشجاعة والاحتمال؟ وأين ذهب عنك الحياء حتى كتبت في بعض الصحف هذين البيتين:
الحمد لله على أنني
قد صرت من دهري إلى شر حال
لا أملك القوت ولا أبتغي
ما فاتني منه بذل السؤال
وقال له قائلهم أيضا: املك عليك نفسك، فإنك إن تكن تشكو الزمان إلى الزمان فهو لن يسمع لك؛ لأن الزمان أصم غبي غافل ذاهل، لا يعرف بنيه ولا يسمع لهم، وإن كنت تشكو الزمان إلى الناس، فالناس مشغولون عنك بأنفسهم، وهم بين رجلين: عاطف عليك، ولكنه لا يقدر لك على شيء، وقادر على معونتك، ولكنه لا يحفل بك ولا يلقي إليك بالا، ولو قد أهدى إليك العون لما قبلته منه، فما أرى أنك ترضى لنفسك هذا الهوان.
ولكن صاحبنا لم يقلع عن شكايته؛ لأنه لم يكن يشكو الزمان إلى الزمان، ولا يشكو الزمان إلى الناس، ولا ينتظر من الزمان ولا من الناس شيئا، وإنما كانت الشكوى غناء نفسه المحزونة وباله الكئيب.
في تلك الأيام كان عبد الحميد حمدي رحمه الله يصدر جريدة «السفور» في كل أسبوع، ويطلب إليه وإلى غيره من الصديق أن يعينوه بالكتابة فيها، فكان صاحبنا يرسل إليه حديث نفسه ذلك المر.
وكان يتردد على الجامعة ويسمع بعض دروسها، فسمع ذات يوم درس الأستاذ المهدي رحمه الله، وكان له مع الأستاذ تلك الخطوب التي رويت في حديث مضى، والتي كادت تفصله من بعثة الجامعة لولا أن أعضاء مجلس الإدارة كانوا أفقه وأذكى من أن يستجيبوا للأستاذ رحمه الله.
وفي تلك الأيام طلب عبد الحميد حمدي إلى الفتى أن ينشر كتابه عن أبي العلاء، فاستجاب الفتى لذلك سعيدا محبورا. وجد في ذلك تسلية لبعض همه، وشغلا لبعض وقته، وإرضاء لغروره الذي كان في حاجة إلى بعض الرضا، بعد أن أسرفت الأيام في القسوة عليه، وأي رضا للغرور أعجب إليه وآثر في نفسه من أن يظهر له كتاب في أيامه تلك الشداد؟
وقد نشر الكتاب، ولكن صاحبنا لم يفد من نشره مالا قليلا أو كثيرا، ولم يفد منه رضا قليلا أو كثيرا، فقد أعجل عن هذا كله، دعاه علوي باشا ذات يوم، وأنبأه - في رفق به وعطف عليه لم ينسهما قط - أن أزمة الجامعة قد انفرجت، وأن عليه أن يتأهب للسفر، فسيبحر مع صاحبه الدرعمي وغيره من أعضاء البعثة بعد أيام.
ثم أنبأته الجامعة بعد ذلك بأنه سيتشرف مع زملائه أعضاء البعثة بلقاء السلطان حسين كامل.
وقد أتيح لهم هذا اللقاء في ضحى يوم من الأيام، ذهبوا إلى القصر يقودهم علوي باشا، وأدخلوا على السلطان، فلقيهم لقاء حسنا، وألقى على الفتى سؤالا لم يعرف كيف يرد عليه.
سأله: من أول من رفع شأن التعليم في مصر؟
فوجم الفتى ولم يرجع جوابا.
قال السلطان وهو يضرب على كتفه وينطق في لهجة تركية: جنة مكان إسماعيل باشا.
ثم صرف الرفاق، ولم يكادوا يخرجون من غرفة الاستقبال حتى أنبأهم منبئ بأن السلطان قد تفضل وأجاز كل واحد منهم بخمسين جنيها.
وخلص الرفاق بعد أن خرجوا من القصر نجيا؛ فقرروا أن يهدوا جوائزهم إلى الجامعة معونة لها واعترافا ببعض ما قدمت إليهم من جميل، وكانوا بهذا القرار سعداء حقا كأنما أهدوا إلى أنفسهم خيرا عظيما ومعروفا جزيلا.
وهم يسعون إلى علوي باشا رحمه الله ليرفعوا إليه قرارهم ذاك، منتظرين أن يسمعوا منه رضا عنهم وثناء عليهم وتشجيعا لهم على أن يكونوا أخيارا، ولكن علوي باشا يلقاهم ويسمع منهم، ثم يغرق في ضحك متصل، ثم يقول لهم: ما هذا الكلام الفارغ؟! خذوا أموالكم واذهبوا، فاعبثوا بها في باريس أيها الحمقى! فمن حقكم أن ترفهوا عن أنفسكم أياما بعدما لقيتم في هذه الأشهر من عناء طويل ثقيل!
ثم يسكت حينا ثم يقول: فإذا أصبحتم أغنياء فاستأنفوا ما أقدمتم عليه من خير، وما أراكم تفعلون يومئذ، فستعرفون قدر المال.
وانصرف الرفاق عن علوي باشا لا يعرفون أكانوا راضين؛ لأنه قد حفظ عليهم أموالهم لينفقوها في باريس؟ أم كانوا ساخطين لأنه لم يقبل منهم تبرعهم ذاك الذي أقدموا عليه مخلصين؟
ويفد الرفاق صباح يوم إلى الجامعة ليأخذوا منها تذاكر السفر، ولكن صاحبنا يسمع ما يؤذيه أشد الأذى وأمضه.
فقد أبت شركة السياحة أن تصرف له تذكرة السفر إلا بإذن خاص من المفوضية الإيطالية، فقد كان الرفاق سينزلون في نابولي، وكانت الشركة تخشى ألا يؤذن لصاحبنا بالنزول في إيطاليا لأنه ضرير ولا يحسن السعي في اكتساب الرزق.
وظن الفتى، وفي قلبه حزن أي حزن ولوعة أي لوعة، أنه سيرد عن السفر مرة ثالثة، ولكن الأستاذ لطفي السيد والأمير أحمد فؤاد ييسران له سفره، ويصبح من غد فيركب القطار إلى بورسعيد، ويصعد إلى سفينة هولندية تعبر به البحر إلى نابولي.
وما أعظم الفرق بين سفره هذا إلى نابولي وعودته تلك إلى الإسكندرية! كان لا يملك نفسه من الفرح والمرح والسرور، وكان كل شيء يضحكه ويغريه بالبهجة والاغتباط حتى حين أقبل الخادم عليه وعلى صاحبه الدرعمي بعد أن تقدم الليل قليلا فقال لهما: إذا سمعتما الجرس فأسرعا إلى اتخاذ منطقة النجاة ثم أسرعا إلى الزورق المخصص لكما.
قال الدرعمي: وفيم هذا كله؟
قال الخادم: فإنك تعلم أن الحرب قائمة، وأننا لا نأمن من أن تعرض لنا في الطريق إحدى الغواصات، ثم انصرف.
وأخذ صاحبنا الدرعمي يعول شاكيا باكيا ذاكرا أمه التي لن يراها ولن تراه، والفتى مغرق في ضحك لا يكاد ينقضي.
ولم تعرض للسفينة غواصة، ولم يلق المسافرون كيدا، وإنما بلغوا مدينة نابولي ذات صباح؛ ولم يكادوا يطئون الأرض الإيطالية حتى ألح صاحبنا على صديقه الدرعمي في الإسراع إلى مكتب البريد.
وهناك وجد رسالتين كانتا تنتظرانه من باريس، فقرأهما عليه صديقه مرة ومرة، فلما طلب منه قراءتهما للمرة الثالثة، قال له منكرا: إليك عني، فإن في مدينة نابولي ما هو أنفع لنا وأجدى علينا من ترديد هذا الكلام الذي حفظناه عن ظهر قلب!
وأنفقا في نابولي يوما سعيدا، حتى إذا كان الليل، ركبا القطار إلى باريس.
الفصل الثالث عشر
في الحي اللاتيني
وكان صاحبنا مقسم النفس بين السعادة المشرقة والشقاء المظلم في أثناء سفره هذا الطويل منذ ترك القاهرة إلى أن بلغ باريس.
كان سعيدا لأن الغمرة قد انجلت عنه، فاتصل من إقامته في فرنسا ما انقطع، وأذن الله له في أن يتم ما بدأ من الدرس، ويحاول تحقيق ما كان يداعب من الآمال، ويسمع من جديد ذلك الصوت العذب يقرأ عليه روائع الأدب الفرنسي وأوليات التاريخ اليوناني الروماني، ويعينه على درس اللاتينية.
وليس هذا كله بالشيء القليل، وبعض هذا كان جديرا أن ينسيه كل ما لقي من جهد، وكل ما احتمل من عناء، ولكنه كان يحمل في نفسه ينبوعا من ينابيع الشقاء لا سبيل إلى أن يغيض أو ينضب إلا يوم يغيض ينبوع حياته نفسها؛ وهو هذه الآفة التي امتحن بها في أول الصبا، شقي بها صبيا، وشقي بها في أول الشباب. وأتاحت له تجاربه بين حين وحين أن يتسلى عنها، بل أتاحت له أن يقهرها ويقهر ما أثارت أمامه من المصاعب وأنشأت له من المشكلات، ولكنها كانت تأبى إلا أن تظهر له بين حين وحين أنها أقوى منه، وأمضى من عزمه، وأصعب مراسا من كل ما يفتق له ذكاؤه من حيلة.
والغريب من أمره وأمرها أنها كانت تؤذيه في دخيلة نفسه وأعماق ضميره. كانت تؤذيه سرا ولا تجاهره بالخصومة والكيد، لم تكن تمنعه من المضي في الدرس، ولا من التقدم في التحصيل، ولا من النجح في الامتحان حين يعرض له الامتحان، وإنما كانت أشبه شيء بالشيطان الماكر المسرف في الدهاء الذي يكمن للإنسان في بعض الأحناء والأثناء بين وقت ووقت، ويخلي له الطريق يمضي فيها أمامه قدما، لا يلوي على شيء. ثم يخرج له فجأة من مكمنه ذاك هنا أو هناك، فيصيبه ببعض الأذى، وينثني عنه كأنه لم يعرض له بمكروه بعد أن يكون قد أصاب من قلبه موضع الحس الدقيق والشعور الرقيق، وفتح له بابا من أبواب العذاب الخفي الأليم.
كان حين ركب السفينة لأول مرة وخرج من زيه ذاك الأزهري ودخل في زيه الأوروبي الجديد قد نسي شيئا واحدا لم يحسب له حسابا لأنه لم يكن يخطر له ببال، نسي بصره ذاك المكفوف، وأجفانه تلك التي كانت تتفتح ولكن على الظلمة المظلمة.
وكان قد قرأ فيما قرأ من أحاديث أبي العلاء أنه كان يقول: إن العمى عورة. وفهم هذا كما فهمه أبو العلاء نفسه. فكان يتحرج في كثير من الأشياء أمام المبصرين ، وكان يستخفي بطعامه وشرابه كما كان يستخفي بهما أبو العلاء حتى لا يظهر المبصرون منه على ما يثير الإشفاق والرثاء، أو السخرية.
ولم يخطر له قط أن الحياة الحديثة تفرض عليه أن يستر أجفانه تلك التي لا تغني عنه شيئا سترا ماديا. وقد أنفق أيامه في السفينة الأولى على هذا النحو، ولكنه لم يلق كيدا؛ لأنه لبث تلك الأيام قابعا في غرفته لا يتجاوز بابها مهما تكن الظروف، إلا أن يضطر إلى ذلك اضطرارا، فكان لا يخرج في تلك الحال إلا حين يتقدم الليل.
فلما بلغ مارسيليا نبهه رفاقه في تلطف أي تلطف أن تقاليد الفرنسيين تقضي على مثله أن يضع على أجفانه تلك غطاء من زجاج أسود، واشتروا له غطاء من تلك الأغطية الزجاجية السود التي يتقي بها المبصرون ضوء الشمس، ولم يؤذه تنبيه الرفاق له إلى ذلك وإنما رأى فيه تجديدا، وارتاح إليه بعض الارتياح، وكاد يعفى من الشقاء بعينيه المظلمتين، ثم لم يفكر في شيء من أمرهما ولا من غطائهما ذاك الأسود حتى عاد إلى مصر. وفي مصر لقيه أكبر إخوته رحمه الله، وكان مطربشا ميالا إلى الترف على ضيق ذات يده وضآلة مرتبه، فلما رآه أنكر غطاء عينيه وقال: إنه رخيص حقير لا يليق بمثلك.
قال الفتى: وما علي أن يكون رخيصا أو حقيرا، فما ينبغي لمثلي أن يزين بمثل هذا الغطاء.
قال أخوه: ولكن غطاءك هذا لا يزيد ثمنه على قرشين اثنين، وأنا مهد إليك خيرا منه؛ أستر لعينيك وأليق بمكانتك بين الذين تلقاهم من الرفاق والصديق، وبين الذين تزورهم من أصحاب المكانة الظاهرة في مصر.
ثم أهدى إليه غطاء ذهبيا، وعزم عليه ليتخذنه مكان ذلك الغطاء الرخيص الحقير.
واستجاب الفتى لأخيه شاكرا رفقه به وعطفه عليه، وأقام في مصر ما أقام يحمل على أنفه وأذنيه ذلك الغطاء الذهبي الذي لم يكن رخيصا ولا حقيرا. ولكن عودته إلى أوروبا تتقرر ويغدو على الجامعة ذات يوم فيقرأ عليه كتابان، ثم يروح إلى منزله فيقرأ عليه كتاب ثالث، كان قد حمله البريد صباح ذلك اليوم، وتملأ هذه الكتب الثلاثة قلب صاحبنا غما وهما وبغضا للحياة وضيقا من الناس، وتلقي على نفسه ووجهه غشاء صفيقا من الكآبة ينكره الرفاق.
وينكره علوي باشا رحمه الله حين يراه وهو يركب القطار، ويرى على وجهه هذا الغشاء الكئيب، فيهمس في أذنه: مالي أراك محزونا كئيبا، وقد كنت أقدر أن أراك اليوم أشد ما تكون ابتهاجا وإشراقا، ألا يسرك أن تعود إلى فرنسا؟
ولم يجب الفتى، ولكن دمعتين تنحدران على خديه.
وإذا علوي باشا يضمه إليه، ويقبل جبهته قبلة ملؤها الحنان والبر لم ينسها قط.
ثم يهمس في أذنه: أقسم لك يا بني ما عاد صديقك هذا - يريد الدرعمي - إلى فرنسا إلا من أجلك ... ثق بالله ولا تخف شيئا!
ويمضي القطار وقد سكت البكاء عن الفتى، ولكن هذه الكتب الثلاثة لم تسكت عنه، وإنما رافقته في أثناء سفره كله ملحة عليه بالعذاب، حتى لكانت جديرة أن تبغض إليه نفسه لولا ذلك الصوت العذب كان يناجيه بين حين وحين، فيرد إلى نفسه المروعة شيئا من أمن، وإلى قلبه اليائس شيئا من أمل.
كان أول هذه الكتب الثلاثة من علوي باشا إلى أكبر إخوته ذاك المطربش ينبئه فيه بأن الظروف المالية للجامعة قد فرضت عليها أن ترد بعثتها إلى مصر كارهة، وأنه حريص أشد الحرص على أن يتم أخوه درسه؛ لأنه يتوسم فيه خيرا، ويكره أن يعود قبل أن يحقق أمله من السفر إلى فرنسا، ويقترح عليه أن ترسل الأسرة نصف المرتب الذي كانت الجامعة تمنحه للفتى، ويتبرع هو بالنصف الآخر حتى يبلغ الفتى أربه، ويعود وقد ظفر بالدرجات الجامعية الفرنسية، ويصبح أستاذا في الجامعة.
وكان هذا الكتاب جديرا أن يملأ قلب الفتى سرورا ورضا وشكرا لعلوي باشا، ذلك الذي كان الناس يكثرون الحديث عن حرصه على المال وإشفاقه من إنفاقه في غير موضعه، وهو يتبرع بمقدار من المال في كل شهر ليعين هذا الفتى المكفوف على أن يبلغ من الدرس في أوروبا ما كان يريد.
نعم، كان هذا الكتاب جديرا أن يملأ قلب الفتى سرورا وبشرا وشكرا لذلك الرجل الكريم النبيل، ولكن رد أخيه على هذا الكتاب محا من قلبه كل سرور وكل بشر، وإن لم يمح منه الشكر الدائم والاعتراف بالفضل والجميل لذلك الرجل الكريم. كان رد أخيه بشعا حقا؛ كان يشكر فيه للباشا فضله وكرمه، ويعتذر فيه عن الأسرة بأنها فقيرة لا تستطيع أن تستجيب لما تراد عليه، فمرتبه هو ضئيل لا يبلغ العشرين جنيها، وله بنون ينفق عليهم. ووالده شيخ يعمل على تقدم سنه، ويتقاضى مرتبا لا يزيد على مرتبه هو إلا قليلا، وله بنون آخرون ينفق على تعليمهم في المدارس، وكم كانت الأسرة تتمنى أن تعين هذا المسكين على أن يتم درسه لو وجدت إلى ذلك سبيلا! وهي تطلب إلى الباشا أن يستعين بالسلطان على تعليم هذا البائس، فإن لم يجد إلى ذلك سبيلا فليرده إلى مصر وليستبق رعايته له وعطفه عليه.
وكذلك رأى الفتى رجلا غريبا مستعدا للقيام ببعض نفقته في أوروبا، وأخا قريبا كارها لبعض ما يطلب إليه من ذلك. والغريب أنه لم ينبئ بأمر هذا التبرع من علوي باشا أباه ولا أخاه الشيخ، وإنما كتم القصة عن الأسرة كلها، وكان له رحمه الله عذره في هذا الكتمان؛ فقد كان أبوه يرسل إليه بين حين وحين جنيهات تبلغ العشرة مرة، وتزيد عليها مرة أخرى، ويكلفه أن يرسلها إلى أخويه في أوروبا معونة لهما على الحياة، فكان يتلقى هذه الجنيهات، فإذا استقرت في يده لم يسهل عليه إرسالها إلى أوروبا، وإنما أنفقها في بعض شأنه هو.
أما الكتاب الثالث: فكان من أكبر إخوته ذاك يودعه ويتمنى له النجح والتوفيق، ويسترد غطاء عينيه الذهبي؛ لأنه كان شديد الحاجة إليه.
وما أيسر ما رد الفتى ذلك الغطاء الذهبي، وعاد إلى غطائه ذاك الرخيص الحقير الذي لم يكن ثمنه يزيد على قرشين اثنين. ولكن كتاب أخيه في أمر ذلك الغطاء قد أضاف إلى حزنه حزنا، وإلى ألمه ألما. وعاد إلى فرنسا سعيدا محبورا، ولكنه مع ذلك كان مزودا بمقدار من الشقاء غير قليل.
ولم ينس صاحبنا قط أنه أجلس في مكانه من القطار حين بلغ روما وقد انتصف الليل، فلم يبرح مكانه ذاك إلى جانب النافذة إلا حين بلغ القطار باريس بعد ثلاثين ساعة كاملة لم يتحرك، وإنما كان أشبه بمتاع قد ألقي في ذلك الموضع، وانتظر حتى يبلغ القطار غايته لينقل إلى موضع آخر. لم يتحرك، وكان أشبه شيء بالمتاع، ولكنه كان متاعا مفكرا، يفكر مرة فيما حفظ من قول أبي العلاء: إن العمى عورة، وقد فهمه الآن على وجهه وهو يرفع يده بين حين وحين ليتحقق من أن ذلك الغطاء الرخيص الحقير ما زال يستر عينيه اللتين كان يجب أن تسترا.
ويفكر مرة أخرى في الفقر والغنى، وفي الذين لا يعرفون كيف ينفقون ما يتاح لهم من المال، فيكدسونه أكداسا أو ينثرونه نثرا فيما لا يجدي عليهم ولا على غيرهم شيئا. والذين لا يجدون ما ينفقون ليقيموا أودهم ويستروا جسمهم ويستروا عورة العمى حين تفرض عليهم آفته. وفي الذين تسمو هممهم إلى أكثر من إقامة الأود وستر الجسم وتغطية العينين المظلمتين إلى الاغتراب في طلب العلم، ثم لا يجدون أيسر ما يحتاجون إليه في ذلك؛ يبخل عليهم القادرون ويبخل عليهم الأقربون، ويهم بالإحسان إليهم بعض الأخيار فيردون عن ذلك ردا.
ويفكر مرة ثالثة في ذلك الصوت العذب الذي كان ربما ألم به بين حين وحين مواسيا له مترفقا به، قارئا عليه هذا الفصل أو ذاك من هذا الكتاب الفرنسي أو ذاك، منبئا له بين ذلك بأنه ينتظره في باريس ليقرأ عليه، وما أكثر ما سيقرأ عليه!
لبث في مكانه ذاك لم يبرحه ثلاثين ساعة كاملة، يعرض الرفاق عليه الطعام حين يأتي موعده فيرده في رفق ولكن في تصميم، ويعرض عليه الرفاق الشراب بين وقت ووقت فيرده في رفق وفي تصميم أيضا. ويريد الرفاق أن يراجعوه في ذلك فيجدون منه إعراضا وصمتا، حتى ظنوا به الظنون، وحتى يقول له رفيقه الدرعمي: ما رأيت كاليوم رجلا لا يخاف البحر على هوله وعلى ما كان يذكر من أمر الغواصات، فإذا ركب القطار امتلأ قلبه رعبا ورغب حتى عن الطعام والشراب. أشجاعة حين كان يستحب الجبن، وجبن حين يصبح الجبان مثيرا للهزء والسخرية؟ ما الذي تخاف من القطار؟ إن قطار أوروبا كقطار مصر لا فرق بينهما، ألم تأكل قط حين ركبت القطار في مصر؟
ثم ينصرف عن هذا الحديث إلى غنائه ذاك الذي كان يتغنى به أمام بعض الفتيات الفرنسيات، فيرضين عنه أشد الرضا، ويعجبن به أشد الإعجاب، ولا يلقينه إلا تمنين عليه أن يعيد عليهن غناءه ذاك، وكن يسمينه «أعرابي»، فيقلن له في إلحاح: غن لنا «أعرابي»!
يلغين العين ويلثغن بالراء ويقصرن الألف وبين الباء، ويرتاح صاحبنا إلى إلحاحهن فيندفع في غنائه على نحو ما يصنع بعض المنشدين في الأذكار:
يارب صل على الهادي
واغفر ما أنت به أعلم
أعرابي جاء إلى الهادي
معه ضب لا يتكلم
يوقع هذا الغناء على نغم مرقص، وكان الفتى لا يسمعه إلا أغرق في ضحك متصل، وكان ربما تمنى عليه بين حين وحين أن يغني له أعرابي، ينطقها كما ينطق بها الفتيات الفرنسيات. ولكنه في ذلك القطار لم ينشط حتى لهذا الغناء، واستيأس منه صديقه الدرعمي، فخلى بينه وبين ما أحب من السكون والصمت. وأعرض عنه كما كان يعرض عن متاعه، يرمقه بين حين وحين ليأمن عليه من السرقة والضياع، ولكنه لا يتحدث إليه ولا يعرض عليه شيئا، حتى إذا بلغ القطار باريس في أول الضحى أقبل على الفتى متضاحكا وهو يقول: سننقل المتاع الصامت الهامد أولا، ثم ننقل المتاع الحي الناطق بعد ذلك!
وأسلم الأمتعة إلى الحمالين ثم أقبل على الفتى كأنه يريد أن يحمله، ولكن الفتى نهض ومضى معه كأنه لم يسكن ثلاثين ساعة كاملة.
وبعد قليل كان الفتى في غرفة جميلة رائعة بفندق من فنادق الحي اللاتيني، ولم يكد يستقر في غرفته حتى أصلح من شأنه، وتهيأ لاستقبال شخص طالما نازعته نفسه إلى لقائه منذ شهور، وطالما أشفق من ألا يلقاه أبدا.
ويطرق الباب طرقا رفيقا في آخر الضحى، فإذا أذن بالدخول دخل عليه شخصان لم يكد يسمع صوت أحدهما حتى انجلى عنه حزنه، وانجاب عنه يأسه، وانصرف عنه الهم، كأنه يستأنف حياة جديدة لم يحيها من قبل، ولم لا؟ لقد بدأ منذ ذلك اليوم حياة ليس بينها وبين حياته الأولى سبب أو صلة.
الفصل الرابع عشر
قصة حب
كانت حياة الفتى في باريس حلوة مرة ويسيرة عسيرة، لم يعرف فيها سعة ولا دعة، ولكنه ذاق فيها من نعمة النفس وراحة القلب ورضا الضمير ما لم يعرفه من قبل وما لم ينسه قط. كانت حياته المادية شاقة، ولكنه احتمل مشقتها في شجاعة ورضا وسماح. لم يكن مرتبه يتجاوز ثلاثمائة من الفرنكات، كان يدفع ثلثيه في اليوم الأول أو الثاني من كل شهر؛ ثمنا لمسكنه وطعامه وشرابه. وكان يدفع نصف الثلث الذي كان يبقى له أجرا لسيدة كانت تصحبه إلى السوربون مصبحا وممسيا؛ ليسمع فيها دروس التاريخ على اختلافها، وتقرأ له بين ذلك ما شاء الله من الكتب حين لا يخلو له ذلك الصوت العذب الذي كان قد رتب له ساعات بعينها في النهار؛ ليقرأ له فيها روائع الأدب الفرنسي. وكان يستبقي فضل مرتبه بعد ذلك؛ لينفق منه على ما يعرض من حاجاته اليومية. فأما أمر كسوته فقد تركه إلى الله لأن مرتبه لم يكن يتسع له.
وأنفق السنة الأولى من حياته في باريس لا يخرج من بيته إلا إلى السوربون، فكان سجينا أو كالسجين. لم يذكر قط أنه خرج من باريس إلى ضاحية من ضواحيها في أيام الراحة التي كان رفاقه ينفقون فيها أيام الآحاد. ولم يذكر قط أنه اختلف إلى قهوة من قهوات الحي اللاتيني التي كان رفاقه الجادون يلمون بها بين حين وحين. وكان أكثر الطلاب المصريين يختلفون إليها أكثر مما كانوا يختلفون إلى الجامعة. وإنما كان يلزم بيته في أيام الراحة لا يفارقه، وربما خلا إلى نفسه اليوم كله في غرفته، إلا أن يلم به ذلك الصوت العذب فيقضي معه ساعة من نهار.
وكان يسمع أنباء المسارح ومعاهد الموسيقى واللهو، وكانت نفسه ربما نازعته إلى بعض هذه المسارح ليسمع هذه القصة أو تلك، ولكنه كان يرد نفسه في يسر إلى القناعة والرضا. وكيف السبيل إلى غير ذلك وهو لا يستطيع أن يذهب وحده إلى حيث يريد، ولا يستطيع أن يدعو غيره إلى مرافقته، ولا يريد أن يكلف غيره من الناس عناء مرافقته من جهة، وتحمل ما تقتضيه هذه المرافقة من النفقات من جهة أخرى. ولم تكن ذكرى أبي العلاء تفارقه في لحظة من لحظات اليقظة إلا أن يشغل عنها بالاستماع إلى الدرس أو إلى القراءة، كان يذكر دائما قول أبي العلاء في آخر كتاب من كتبه أنه رجل مستطيع بغيره، وكان يرى نفسه مستطيعا بغيره دائما، ويحتمل في سبيل ذلك من غيره - هذا الذي يتيح له الاستطاعة - ألوانا من المشقة وفنونا من الأذى بدون أن ينكر منها شيئا؛ فهو مكره على احتمالها إكراها، وهو مخير بين أن يقبل ما يكره من غيره من الذين كانوا يعينونه على ما يريد أو يرفضه، فيضطر إلى العجز المطلق اضطرارا، ويضيع حياته في باريس؛ بل حياته كلها في باريس أو غير باريس. وكيف السبيل له إلى أن يذهب إلى السوربون ليسمع الدروس فيها إذا لم تعنه على ذلك هذه السيدة التي لم يكن من معونتها بد، والتي كانت ترفق به أحيانا وتعنف به أحيانا أخرى؟ وربما صحبته من البيت إلى الجامعة بدون أن تلقي إليه كلمة أو يسمع لها صوتا، وإنما كانت تعطيه ذراعها وتمضي معه صامته كأنما تجر متاعا لا ينطق ولا يفكر، حتى إذا بلغت قاعة الدرس أجلسته إلى مائدة من موائدها، وانصرفت عنه إلى خارج القاعة فانتظرت حتى إذا فرغ الأستاذ من درسه أقبلت عليه فأقامته من مجلسه، ومضت به إلى بيته، حتى إذا انتهت به إلى غرفته أدخلته فيها وأغلقت من دونه الباب، وهي تقول له في صوت خاطف: «إلى اللقاء في ساعة كذا من النهار.»
وربما اعتذرت هذه السيدة من مهمتها بعد أن تجد له سيدة أخرى تقوم مقامها، فكانت هذه السيدة الثانية ثرثارة تؤذيه بحديثها المتصل أكثر مما كانت تلك تؤذيه بصمتها الملح.
على أن عجز الفتى لم يكن مقصورا على ذهابه إلى الجامعة وعودته منها، وإنما كان عاما شاملا يمس الفتى في أشد الأشياء لزوما له، فهو كان يستحي من كل شيء ويكره أن يثير الضحك منه أو الرثاء له والإشفاق عليه. وكان شرطه حين سكن في البيت الذي أقام فيه ألا يشارك أهله في طعامهم، وإنما يخلو إلى طعامه الذي يحب أن يحمل إليه في غرفته حين يأتي وقته، فكان الطعام يحمل إليه ويوضع بين يديه ثم يخلى بينه وبينه فيصيب منه ما يستطيع لا ما يريد، يحسن ذلك أحيانا ويخطئه أحيانا أخرى. وربما وضع بين يديه من ألوان الطعام ما لا يحسن تناوله فيتركه مؤثرا العافية، محتملا في سبيلها ما قد يتعرض له أحيانا من ألم الجوع.
وظل الفتى على هذه الحال أشهرا، ولكن الله رفق به بعد ذلك فأتاح له من كان يهيئ له طعامه ويعلمه كيف يرضي منه حاجته.
واتخذ الفتى زي الأوروبيين، وما أسرع ما تعلم الدخول فيه والخروج منه، إلا شيئا واحدا لم يحسنه أعواما طوالا، وهو هذا الرباط السخيف الذي يديره الناس حول أعناقهم ثم يعقدونه بعد ذلك من أمام عقدة يتأنقون فيها قليلا أو كثيرا!
لم يفتح الله على صاحبنا بتعلم هذا الجزء من زيه، فكان أخوه يدير له هذا الرباط حول عنقه ما عاشا معا في مونبلييه.
فلما افترقا حار الفتى في أمره، ولكن صديقه الدرعمي أخرجه من هذه الحيرة، واشترى له أربطة مهيأة لا تحتاج إلى عناء، وإنما تدار حول العنق في يسر ويجمع بين طرفيها في يسر أيضا، وقد هيئت عقدتها فليس محتاجا إلى أن يتكلف عقدها وتسويتها والتأنق القليل أو الكثير فيها. ولكنه كان مضطرا إلى ألا يفكر مطلقا في الملاءمة بين هذه الأربطة وبين ما كان يتخذ من ثياب. وربما اتخذ منها رباطا واحدا يديره حول عنقه في كل يوم ويمضي على ذلك الأسابيع المتصلة. وربما لاحظ هذا الرفيق أو ذاك من رفاقه اختلافا بين ثوبه ورباط عنقه. وربما أعانه صديقه الدرعمي فتقدم إليه في أن يغير هذا الرباط واختار له ما يلائم زيه مما كان عنده من هذا السخف الذي لم يفهم له معنى قط.
وكذلك عاش الفتى عامه الأول أو أكثر هذا العام، مضطربا في هذه الحياة المادية المختلطة المعقدة من جميع نواحيها. وربما كان يجد بعض الألم في ذلك، ولكنه كان يمر به مرا سريعا لا يقف عنده ولا يفكر فيه إلا قليلا. كان يعزيه عن ذلك إقباله على الدرس، وإحساسه الانتفاع به والتقدم فيه، وشعوره بأنه قد أخذ يفهم الفرنسية في غير مشقة ولا عسر، ويقرأ كتب التاريخ والأدب والفلسفة، فلا يجد في فهمها جهدا ولا عناء. قد انقطع لذلك انقطاعا تاما، فهان عليه منه ما كان صعبا، ويسر له منه ما كان عسيرا.
ولم تكن حياته العقلية أقل تعقيدا والتواء من حياته المادية، فلم يكد يختلف إلى دروس التاريخ والأدب في السوربون حتى أحس أنه لم يكن قد هيئ لها، وأنه لا يفهمها ولا يسيغها كما كان ينبغي أن تفهم وتساغ، وأن درسه الطويل في الأزهر وفي الجامعة لم يهيئه للانتفاع بهذه الدروس.
وكانت آماله عراضا، فكان ينبغي أن يتخذ إليها أسبابها. وأول هذه الأسباب أن يعد نفسه لفهم الدروس التي تلقى في الجامعة، وسبيل هذا الإعداد أن يقرأ في أقصر وقت ممكن ما كان التلاميذ الفرنسيون ينفقون الأعوام الطوال في درسه بمدارسهم الثانوية، فليس له بد إذن من أن يكون تلميذا ثانويا إذا أوى إلى بيته، وطالبا جامعيا إذا اختلف إلى دروس السوربون.
وما أسرع ما نظر في برنامج المدارس الثانوية الفرنسية، واستخلص منه ما يحتاج إليه، وأزمع أن يدرس منه التاريخ والجغرافيا والفلسفة، وهذه الخلاصات الموجزة التي كانت تلقى إلى التلاميذ عن الآداب الأجنبية الأوروبية قديمها وحديثها .
قد أقبل على ذلك كله في عزم لا يعرف الضعف، وتصميم لا يعرف التردد ولا الفتور، واستطاع في وقت قصير أن يحصل من هذا كله ما يحصله التلميذ الذي كان يتقدم إلى الشهادة الثانوية مطمئنا إلى أن الممتحنين لن يردوه عن هذه الشهادة خزيان أسفا.
واستقامت له دروسه في السوربون فجعل يفهمها ويسيغها كما كان يفهمها ويسيغها زملاؤه الفرنسيون. واختار لنفسه أستاذا من أساتذة المدارس الثانوية يعلمه اللغة الفرنسية تعليما منظما، فلم يكن يكفيه أن يفهم إذا سمع، وأن يفهم الناس عنه إذا تحدث إليهم، وإنما كان يجب عليه أن يحسن العلم بحقائق هذه اللغة ودقائقها وأن يكتبها كتابة لا تنبو عمن يقرؤها.
وكان يقدر أن الأساتذة في السوربون، سيكلفونه بعض الواجبات المكتوبة، كما كانوا يكلفون غيره من الطلاب. فلم يكن له بد إذن من أن يتهيأ لتحرير هذه الواجبات حين تطلب إليه على وجه لا يعرضه للسخرية والازدراء. وما أكثر ما كان الأساتذة يسخرون من طلابهم إذا كتبوا لهم الواجبات فقصروا في بعض نواحيها!
وكان الأساتذة يقرءون بعض هذه الواجبات، يختارون من بينها للقراءة أشدها تعرضا للنقد، ثم يأخذون في هذا النقد على نحو لاذع ممض يحرضون به الطلاب على أن يحسنوا العناية حين يكتبون. وكانت سخريتهم بالمقصرين تضحك الزملاء وتخرجهم أحيانا عن أطوارهم.
فكره الفتى أن يتعرض لبعض هذه السخرية، ولكنه تعرض ذات يوم لشر منها؛ كلفه أستاذ تاريخ الثورة الفرنسية فيمن كلف من زملائه كتابة موضوع عن الحياة الحزبية في فرنسا بعد سقوط نابليون. فأقبل على هذا الموضوع فدرسه كما استطاع في الكتب التي نبه إليها الأستاذ، وفكر فيه كما استطاع أيضا. ثم كتب عنه ما أتيح له أن يكتب، وقدمه إلى الأستاذ في اليوم الموعود. وجاء يوم النقد فاستعرض الأستاذ ما قدم إليه من الواجبات ناقدا ساخرا منددا متندرا موبخا بعض الطلاب أحيانا، حتى إذا ذكر اسم الفتى لم يزد على أن ألقى إليه واجبه معقبا بهذه الجملة المرة التي لم ينسها قط: «سطحي لا يستحق النقد.» وكان لهذه الكلمة وقع لاذع في نفس الفتى أمضه بقية يومه، وأقض مضجعه حين أقبل الليل، وأشعره بأنه لم يتهيأ بعد كما ينبغي ليكون طالبا في السوربون، فألح في درس الفرنسية، وكلف نفسه في هذا الدرس من الجهد الثقيل والعناء المتصل ما كاد يصرفه عن غيره من الدروس، وأعرض عن المشاركة في كتابة الواجبات حتى تتم له أداة هذه الكتابة وهي اللغة الفرنسية.
وبينما كان الفتى يمتحن بأثقال هذه الحياة المادية والعقلية العسيرة، مجاهدا ما استطاع الجهاد، مروعا بين حين وحين بهذا اليأس الذي كان يتراءى له من وقت إلى وقت فيشقيه ويضنيه، فتح له باب من أبواب الأمل لم يكن يقدر أنه سيفتح له في يوم من الأيام؛ ألمت علة طارئة بصاحبة ذلك الصوت العذب الذي كان نعيمه الوحيد في حياته الشاقة المظلمة، فأقبل يعودها وجلس يتحدث إليها، ثم لم يدر كيف التوى به الحديث، ولكنه سمع نفسه يلقي إليها في صوت أنكره هو قبل أن تنكره هي؛ أنه يحبها.
ثم سمعها تجيبه بأنها هي لا تحبه.
قال: وأي بأس بذلك؟
إنه لا يريد صدى ولا جوابا وإنما يحبها وحسب.
فلم تجبه، وغيرت مجرى الحديث، وانصرف عنها بعد ساعة، وقد استقر في نفسه أن حياته ستسلك منذ ذلك اليوم طريقا جديدة.
وليس من شك في أن نفسه كانت قد تعلقت بذلك الصوت العذب ثم بصاحبته منذ وقت طويل ... وإلا فما جزعه حين اضطر إلى العودة إلى مصر؟ وما ابتهاجه بهذه الرسائل التي كانت تصل إليه؟ وما شوقه العنيف إلى العودة إلى فرنسا ليسمع فيها ذلك الصوت؟ وما خروجه عن طوره حين وجد الرسالتين اللتين كانتا تنتظرانه في نابولي؟ وما إلحاحه على صاحبه الدرعمي في أن يقرأ عليه هاتين الرسالتين مرة ومرة ومرة حتى أمله؟ ثم ما حرصه على أن يسمع هذا الصوت في باريس؟ وما نزوله في بيته ذاك الذي كان يسمع فيه هذا الصوت يتردد في كل ساعة من ساعات النهار، ويلقى فيه صاحبة الصوت حين يريد لقاءها دون أن يتكلف لذلك جهدا أو سعيا أو انتظارا؟ وما سعادته بأنه كان يقيم في هذا البيت غير بعيد من ذلك الشخص الذي كان يلقي عليه تحية الصباح، حين يخرج من غرفته ذاهبا إلى السوربون، ويلقي عليه تحية المساء حين يتقدم الليل ويأوى أهل البيت إلى مضاجعهم، ويقرأ عليه بين ذلك ما شاء الله من آيات الأدب الفرنسي؟
ولكن حبه كان يستحي حتى من نفسه فينكرها، وكان الفتى يخفي شعوره ذاك في أبعد ما يمكن أن يستقر في أعماق ضميره، ويكره أن يتحدث به إلى نفسه، وقد استيقن أنه لم يخلق لمثل هذا الشعور، وأن مثل هذا الشعور لم يخلق له ... وأين هو من الحب؟ وأين الحب منه؟
إنما كتب عليه أن يعيش كما عاش مثله الأعلى ذلك الذي وقف حياته منذ قرون طوال في دار من دور المعرة على الدرس ممعنا فيه، غير معني إلا به، محرما على نفسه ما أباح الله للناس من طيبات الحياة.
كان الفتى يطوي نفسه على شعوره ذاك يائسا منه ومن عواقبه، راضيا بما يتاح له من سماع ذلك الصوت ومن الحديث إلى صاحبته حين يتاح له الحديث إليها، واثقا بأن هذا أقصى ما يمكن أن يساق إليه من النعيم ... غير طامع في أكثر منه، وكان واجدا على الحياة والظروف؛ لأنها تحول بينه وبين أكثر منه.
ولكن العلة الطارئة التي ألمت بصاحبته، والصوت العذب الذي أدركه الضعف وشاع فيه الفتور، والإشفاق من الألم والجهد، على ما كان يكره له أن يحس الألم أو يحمل ثقل الجهد. كل ذلك ملك عليه أمره، وملأ عليه قلبه، وأنساه تحفظه وتحرجه، وأجرى على لسانه تلك الكلمة التي أنكرها. وليس غريبا بعد ذلك أنه لم يجد حزنا ولا شقاء ولم يحس لوعة ولا ألما حين بلغ مسمعه الرد على كلمته تلك موئسا مقنطا، فهو لم يكن ينتظر إلا اليأس والقنوط، قد وطن نفسه عليهما وعزى نفسه عنهما بما كان يمعن فيه من الدرس والتحصيل.
وهو قد انصرف عن صاحبته في ذلك اليوم راضيا عن نفسه ساخطا عليها. راضيا عنها؛ لأنها قالت ما لم يكن بد من أن يقال، ساخطا عليها؛ لأنها عرضته بهذه الكلمة لشر عظيم، فهي قد عرضته لإشفاق تلك الفتاة عليه ورثائها له وضيقها به. ومن يدري لعلها تريد أن تصرفه عنها صرفا، وأن تلقي بينها وبينه حجابا يقطع تلك الأسباب العذاب التي كانت تتيح لهما اللقاء والاستمتاع العقلي والشعوري بما كانا يقرأان معا من آيات الأدب الفرنسي.
ومن يدري لعل هذه الكلمة التي ألقاها في تدبر وعن غير إرادة أن ترده إلى تلك الظلمة المظلمة التي ظن أنه قد خرج منها، وأن تضطره في يوم قريب أو بعيد إلى أن يترك ذلك البيت ويلتمس له مسكنا آخر لا يسمع فيه ذلك الصوت، ولا يلقى فيه ذلك الشخص، ولا يجد فيه شعور الرضا والنعيم ... وإنما يجد فيه شعورا آخر كله سخط مر وحزن ممض وألم مفسد للحياة.
عاش صاحبنا بين هذا السخط وذلك الرضا أياما لم يكد ينتفع فيها بقراءة أو درس، ولم يكد يذوق فيها للحياة طعما.
ولكنه يلقى صاحبته بعد أن انجلت عنها غمرة العلة، فإذا هي كعهده بها لم تتغير، لم تزدد إقبالا عليه، ولم يجد منها إعراضا عنه ولا نفورا منه. وإنما هي تلقاه كما تعودت أن تلقاه رفيقة به عطوفا عليه، وتقرأ له كما تعودت أن تقرأ له، وتبين له ما يشكل عليه في أثناء القراءة، كما تعودت أن تفعل من قبل، فيرده ذلك إلى شيء من الأمن، ثم إلى شيء من الدعة وراحة البال. وتنقضي أيام، وإذا ذلك الشعور الخفي العميق الذي ظهر فجأة في ساعة من الساعات ثم استحيا وعاد إلى مستقره ذاك من أعماق الضمير، يظهر مرة أخرى، ولكن في تحفظ وتردد وأناة، لا يتحدث إلى الفتاة بشيء، ولا يتحدث إلى الفتى بشيء حين يلقاها، وإنما يكمن في مستقره من أعماق الضمير.
حتى إذا تقدم الليل وخلا صاحبنا إلى نفسه، وهم أن يستقبل النوم خرج ذلك الشعور من مكمنه، وذاد النوم عن صاحبه، وجعل يسامره حتى يوشك الصبح أن يسفر، ثم يعود إلى مكمنه ذاك، ويسلم الفتى إلى نوم قصير.
ولم تلبث آثار هذا الأرق المتصل أن تظهر، وأن يلحظها أهل البيت، وتلحظها معهم ذات الصوت العذب، وهم يسألونه عن أمره فيلتوي بالجواب، وهم يريدون أن يعرضوه على الطبيب فلا يستجيب لما يريدون، وإنما يزعم لهم أن ليس به بأس.
وما يزال هذا شأنه حتى يظهر عليه بعض الضر، وتسأله الفتاة ذات يوم - وقد خلت إليه تقرأ عليه بعض ما كانا يقرأان - فيريد أن يلتوي بالجواب، فتلح عليه، وإذا هو ينبئها مريدا أو غير مريد بأمره كله.
فتسمع له، ثم تسكت عنه، ثم تأخذ في القراءة حتى إذا أتمتها وهمت أن تنصرف قالت له في رفق: وإذن فماذا تريد؟
قال الفتى: لا أريد شيئا.
قالت: فإني قد فكرت فيما أنبأتني به، وأطلت فيه التفكير، ولم أنته بعد إلى شيء، وقد أوشك الصيف أن يظلنا وسنفترق، فاصبر حتى إذا كان افتراقنا فستتصل بيننا الرسائل كما تعودنا أن نفعل، فإذا قرأت في بعض رسائلي أني أدعوك إلى أن تنفق معنا بقية الصيف فاعلم أني قد أجبتك إلى ما تريد، وإن لم تقرأ هذه الدعوة حتى ينقضي الصيف فاعلم أنها الصداقة الصادقة بينك وبيني ليس غير.
ولم يسعد الفتى بشيء قط كما سعد بهذا الحديث، وكانت آية سعادته أنه أطرق ولم يقل شيئا.
وأقبل الصيف وكان الافتراق، وذهبت هي إلى قرية في أقصى الجنوب، وأقام هو في باريس، واتصلت بينهما الرسائل، ولكنها قبل أن تفارقه كلفت زميلة لها أن تكون هي الكاتبة القارئة لرسائلهما حتى لا يطلع على هذه الرسائل زميل من زملائه.
واتصل الفراق شهرا ... ولكن رسالة تصل إليه في آخر هذا الشهر وفيها الدعوة المرتقبة إلى أن يقضي معها ومع أسرتها بقية الصيف. وإذن فقد تحقق أمله، أو كاد أن يتحقق، وهو يعلن إلى زملائه المصريين أنه سيترك باريس إلى حيث يقضي الصيف مع تلك الأسرة، وهم يصدونه عن ذلك مشفقين عليه.
ولكنه مصر على ما أراد، فيصحبه صديقه الدرعمي ذات مساء إلى حيث يضعه في القطار، ويوصي به بعض من فيه، وينصرف عنه ويدعه وحيدا، وينفق الفتى ليلا في القطار، لا يدري أقصر أم طال؛ لأنه لم يفكر في أثنائه إلا في هذا اللقاء الذي سيكون حين يرتفع الضحى ويبلغ القطار غايته، وإذا الصوت العذب يدعو صاحبنا في رفق وعطف وحنان، ويشعر بأنه منذ اليوم سيخلق خلقا جديدا.
الفصل الخامس عشر
المرأة التي أبصرت بعينيها!
واستأنف الفتى حياة جديدة، بأوسع معاني هذه الكلمة وأعمقها! كان يرى نفسه في كلمة أبي العلاء حين قال: إنه إنسي الولادة، وحشي الغريزة.
كان يرى نفسه إنسانا من الناس ولد كما يولدون، وعاش كما يعيشون، مقسم الوقت والنشاط فيما يقسمون فيه وقتهم ونشاطهم. ولكنه لم يكن يأنس إلى أحد، ولم يكن يطمئن إلى شيء، قد ضرب بينه وبين الناس والأشياء حجاب ظاهره الرضا والأمن، وباطنه من قبله السخط والخوف والقلق واضطراب النفس، في صحراء موحشة لا تحدها الحدود، ولا تقوم فيها الأعلام، ولا يتبين فيها طريقه التي يمكن أن يسلكها، وغايته التي يمكن أن ينتهي إليها.
ولكنه ينظر ذات يوم فإذا هو قد أخذ يتخفف قليلا قليلا من غريزته تلك الوحشية القلقة، ويحس شيئا من الأنس الرفيق إلى بعض الناس، ثم يحس هذا الأنس يقوى في نفسه من يوم إلى يوم، وإذا هو لا يطمئن إلى ذلك الشخص الحبيب إليه الكريم عليه، وإنما يطمئن إلى غيره من الناس أيضا.
كان يرى نفسه غريبا أينما كان وحيثما حل، لا يكاد يفرق في ذلك بين وطنه الذي نشأ فيه، وبين غيره من الأوطان الأجنبية التي كان يلم بها؛ لأن ذلك الحجاب الصفيق البغيض الذي ضرب بينه وبين الدنيا منذ أول الصبا كان محيطا به، يأخذه من جميع أقطاره في كل مكان، فكان الناس بالقياس إليه هم الناس الذين يسمع أصواتهم، ويحس بعض حركاتهم، ولكنه لا يراهم ولا ينفذ إلى ما وراء هذه الأصوات التي كان يسمعها والحركات التي كان يحسها.
كان غريبا في وطنه، وكان غريبا في فرنسا، وكان يرى أن ما يصل إليه من حياة الناس ليس إلا ظواهر لا تكاد تغني عنه شيئا.
وكانت الطبيعة بالقياس إليه كلمة يسمعها ولا يعقلها، ولا يحقق من أمرها شيئا، كأنما أغلق من دونها بالقياس إليه باب لا سبيل له إلى النفوذ منه. كان ينكر الناس وينكر الأشياء، وكان كثيرا ما ينكر نفسه ويشك في وجوده!
كانت حياته شيئا ضئيلا نحيلا رقيقا لا يكاد يبلغ نفسه. وكان ربما تساءل بين حين وحين عن هذا الشخص الذي كان يحسه مفكرا مضطربا في ضروب من النشاط ما هو؟ وما عسى أن يكون؟ وكان ذلك ربما أذهله عن نفسه وقتا يقصر أو يطول، فإذا ثاب إليها أو ثابت إليه أشفق من هذا الذهول وظن بعقله الظنون، وتساءل: أيجد الناس من الذهول عن أنفسهم مثل ما يجد، ويحسون من إنكار أنفسهم مثل ما يحس؟!
كانت حياته حيرة متصلة كلما خلا إلى نفسه، وكان لا يملك أمره إلا حين كان يتحدث إلى الناس أو يسمع لهم أو يختلف إلى الدروس، أو يصغي لما كان يقرأ عليه. فأخذ كل هذا ينجاب عنه وأخذ يدخل في الحياة كأنه لم يعرفها من قبل، وكان ذلك الشخص الحبيب إليه الكريم عليه هو الذي أخرجه من عزلته تلك المنكرة، فألغى في رفق وفي جهد متصل أيضا ما كان مضروبا بينه وبين الحياة والأحياء والأشياء من الحجب والأستار!
كان يحدثه عن الناس فيلقي في روعه أنه يراهم وينفذ إلى أعماقهم، وكان يحدثه عن الطبيعة فيشعره بها شعور من يعرفها من قرب.
كان يحدثه عن الشمس حين تملأ الأرض نورا، وعن الليل حين يملأ الأرض ظلمة، وعن مصابيح السماء حين ترسل سهامها المضيئة إلى الأرض، وعن الجبال حين تتخذ من الجليد تيجانها الناصعة، وعن الشجر حين ينشر من حوله الظل والروح والجمال، وعن الأنهار حين تجري عنيفة، والجداول حين تسعى رشيقة، وعن غير ذلك من مظاهر الجمال والروعة ومن مظاهر القبح والبشاعة فيمن كان يحيط به من الناس، وفيما كان يحيط به من الأشياء.
فكان يخيل إليه أنه يكشف له عن حقائق كانت مستخفية عليه، ولم تكن غريبة بالقياس إليه، كأنه قد عرفها في الزمان الأول البعيد، ثم نسيها دهرا طويلا، فهو يذكرها بعد أن طال عهده بها.
وكذلك أخذت تثوب إليه ثقته بنفسه وراحته إلى غيره، وأخذ ينجلي عنه الشعور بالغربة، والضيق بالوحدة والسأم من العزلة. وليس من شك في أنه قد صدق كل الصدق وأعرب عن ذات نفسه في غير تكثر ولا غلو حين قال في بعض ما كتب إن فتاته تلك قد جعلت شقاءه سعادة، وضيقه سعة وبؤسه نعيما وظلمته نورا.
ولم ينفق الفتى وصاحبته صيفهما ذاك فيما تعود الفتيان المحبون أن ينفقوا فيه أيام حبهم الأولى من تلك الحياة الهائمة التي تخلص من المشقة وتتخفف من الجهد وتفرغ لرضا النفوس وغبطة القلوب والذهاب مع الخيال الهائم في كل مذهب.
وإنما عرفا أن وقتهما أضيق من الفراغ للحب ونعيمه، فوقت الفتى في فرنسا محدود، وعليه واجبات يجب أن تؤدى، وله مهمة يجب أن تتم، وهو مسئول عن هذا كله أمام جامعة في مصر لا تعرف السماح ولا المزاح مع الذين ترسلهم إلى أوروبا ليطلبوا العلم فيها.
ولها الحق كل الحق في ذلك، فهي إنما ترسلهم إلى أوروبا ليتعلموا لا ليحبوا، وليجدوا في طلب العلم لا ليتعلقوا بأسباب الخيال.
وما أكثر ما ذكر الفتى أشهر الصيف تلك في أقصى الجنوب الفرنسي، وما جاء بعدها من الشهور في باريس، فرضي عن صاحبته وعن نفسه رضا لا تشوبه شائبة من سخط أو إنكار.
وانظر إلى فتاة وفتى في أول عهدهما بالخطبة ينفقان أكثر النهار في درس اللاتينية حين يصبحان، وفي قراءة الترجمة الفرنسية لمقدمة ابن خلدون حين يرتفع الضحى.
فإذا جاء وقت الغداء ألما بالمائدة فأصابا شيئا من طعام، ثم أقبلا على تاريخ اليونان والرومان فقرأا منه ما شاء الله أن يقرأا.
فإذا كانت الساعة الخامسة انصرفا عن تاريخ اليونان والرومان إلى الأدب الفرنسي فقرأا منه ما شاء الله أن يقرأا كذلك، لا ينصرفان عن القراءة إلا ريثما يخرجان للتروض خارج القرية التي يعيشان فيها، ينفقان في تروضهما ذاك ساعة أو أقل من ساعة، ثم يعودان إلى المائدة فيصيبان شيئا من طعام ثم تجتمع الأسرة كلها إلى كتاب يقرؤه عليها ذلك الصوت العذب.
حتى إذا تقدم الليل شيئا تفرقت الجماعة، وأوى كل واحد منها إلى غرفته، وخلا صاحبنا إلى نفسه يذكر ماضيه الغريب، وينعم بحاضره السعيد، ويفكر في مستقبله المجهول.
ينفق في ذلك أكثر الليل مؤرقا لا يكره الأرق ولا يدعو النوم. ولكن النوم يغلبه على أمره من آخر الليل، فإذا أسفر له الصبح استقبل يومه آخذا في الدرس كما فعل من أمس.
وعلى هذا النحو أنفق الأشهر الأولى لخطبته، ثم يعود مع الأسرة إلى باريس فيستأنف فيها حياته الجامعية مختلفا إلى السوربون حين يصبح وحين يمسي، خاليا إلى قارئته بين ذلك وإلى أستاذ الفرنسية يوما وأستاذ اللاتينية يوما آخر، مقدرا عسر المهمة التي تكلفها وبعد الغاية التي يسعى إليها.
وكان قد أزمع أن يظفر قبل كل شيء بدرجة الليسانس ثم يتقدم لدرجة الدكتوراه بعد ذلك، ولم يكن الطلاب المصريون إلى ذلك الوقت يحاولون الظفر بدرجة الليسانس هذه؛ لأنها كانت تكلف الذين يطلبونها عناء ثقيلا ... كانت تكلفهم إتقان الفرنسية أولا ليؤدوا الامتحان التحريري فيما يدرسونه من العلم، وليؤدوه كما يؤديه الطلاب الفرنسيون، يكتبون ما يرادون على كتابته في لغة فرنسية مستقيمة لا عوج فيها ولا خطأ. وكانت تكلفهم درس اللاتينية ليؤدوا فيها امتحانا تحريريا كذلك.
ولم تكن اللاتينية تدرس في مصر لا في المدارس الثانوية ولا في المدارس العالية.
فكان المصريون يرون أنهم لن يستطيعوا مجاراة زملائهم من الطلاب الفرنسيين في هذه اللغة التي لم يسمعوا بها قبل وصولهم إلى فرنسا، على حين كان الطلاب الفرنسيون يدرسونها ست سنين في مدارسهم الثانوية، ثم يدرسونها في الجامعة قبل أن يتقدموا لامتحان الليسانس.
من أجل ذلك كان المصريون يعرضون عن درسها إعراضا لا تكلف فيه، ويعرضون بالطبع عن درجة الليسانس التي لا سبيل إليها من غير هذه اللغة.
وكان ثلاثة من المصريين قد أزمعوا أن يقهروا هذه الصعوبة، ويقتحموا هذه العقبة، ويدرسوا اللغة اللاتينية، ويظفروا بدرجة الليسانس مهما يكلفهم ذلك من الجهد والعناء. فأما أحدهم: فقد جد وكد وتقدم للامتحان فأخفق، ثم أخذ يستعد ليؤدي الامتحان في العام المقبل، ولكن الأسباب تقطعت بينه وبين ذلك؛ أدركته العلة فاضطرب أمره، واختلط عقله، ورد إلى مصر فأنفق فيها أياما كئيبة يائسة، فاستأثرت به رحمة الله فأراحته من أثقال الحياة.
وأما الآخر: فكان الأستاذ الدكتور صبري السوربوني.
وقد جد وكد وتقدم للامتحان مرة ومرة، ولكن عقدة اللاتينية أدركته، فكان إذا أقبل على الامتحان وتلقى النص اللاتيني الذي يجب أن يترجمه إلى الفرنسية ألقى عليه نظرة سريعة، ثم طواه وقدم إلى الممتحنين صفحة بيضاء لم يمسها خطأ أو صواب. وانصرف ضاحكا يتمثل ببيت لاتيني قديم يصور اليأس والقنوط، ولكنه لم يعرف يأسا ولا قنوطا، ولم يذعن لعقبة أو صعوبة، وإنما حاول وطاول وألح في المحاولة والمطاولة حتى تقدم للامتحان ذات يوم وتلقى النص اللاتيني فلم ينظر فيه نظرة سريعة، وإنما أقبل عليه فترجمه وقدم إلى الممتحنين صحفا أتاحت له الفوز والنجح.
وكان صاحبنا ثالث هذين الزميلين، وكان قد عرف من أمر صاحبيه ما يحتملان من مشقة وما يبذلان من جهد، وما يلقيان من إخفاق، فلم يفل ذلك من عزمه، وإنما مضى في درس اللاتينية في بيته وفي السوربون مصمما على أن يظفر بهذه الدرجة مهما يكن دونها من العقاب.
ولكن مشكلة خطيرة عرضت له، وكانت خليقة أن تفسد عليه أمره كله، ولم يكن بينها وبين الدرس صلة، فهو قد خطب تلك الفتاة إلى نفسها وإلى أسرتها، وقد قبلت الفتاة خطبته بعد تردد طويل، وقبلتها الأسرة بعد امتناع وإباء، ولكن صاحبنا لم ينس إلا شيئا واحدا، وهو أنه قد أعطى الجامعة قبل أن يسافر إلى أوروبا ذلك العهد الذي كان يعطيه أعضاء البعثة جميعا قبل سفرهم ألا يتزوج في أثناء إقامته في الخارج طالبا للعلم.
وهو لم ينقض هذا العهد؛ لأنه خطب ولم يتزوج ولكنه عجل إلى الزواج، فليس له بد إذن من استئذان الجامعة أو نقض العهد الذي أعطاه لها، وقد أزمع أن يستأذنها، وكتب إليها في ذلك، ولكنه كان يطيل التفكير في عواقب هذا الكتاب، كان يرجح ألا تأذن له الجامعة، وكان يسأل نفسه فيطيل السؤال عما يكون من أمره إن رفضت الجامعة الإذن له فيما يريد.
وكان ذلك ربما نغص عليه حياته من حين إلى حين، ولكن الجامعة كانت أرأف به وأرحم له مما قدر، فأذنت له بعد خطوب لم يعرفها إلا بعد أن أتم درسه وعاد إلى مصر. أذنت له الجامعة إذن، ولكنه هو لم يأذن لنفسه ولم تأذن له الفتاة حتى يظفر بدرجة الليسانس هذه التي لم يظفر بها مصري بعد، وحتى يشعر الجامعة بأنه صاحب جد ونشاط وإنتاج لا صاحب لعب وكسل واشتغال بنفسه عما يجب عليه من الدرس والتحصيل.
والغريب من أمر صاحبنا أنه لم يكن في ذلك العام يتهيأ لامتحان الليسانس وحده، وإنما كان في الوقت نفسه يعد رسالته للدكتوراه، وقد زاده إذن الجامعة له بالزواج جدا وكدا ونشاطا، حتى كان العام الأول لخطبته غريبا حقا، كلف فيه نفسه وخطيبته من الأمر أعسره وأشده مشقة.
ولم ينس الفتى قط ولم تنس صاحبته، أنهما كانا يخرجان بين حين وحين في أيام الآحاد من باريس يطلبان النزهة والتروض، فلم يخرجا قط وحدهما وإنما صحبهما دائما كتاب من هذه الكتب الثقال التي ترهق القارئين فيها من أمرهم عسرا؛ والذين يعرفون كتب أوجست كونت ويقدرون ما فيها من العسر الذي يتصل بمعانيها وألفاظها وأسلوبها، يرحمون هذين الخطيبين اللذين كانا يختلفان إلى هذه الغابة أو تلك من الغابات التي تحيط بباريس، فيأويان إلى ظل شجرة من أشجارها ويأخذان في هذه القراءة العسيرة الشاقة المرهقة التي لم يكن بينها وبين ما كان يملأ قلبيهما من الحب والأمل سبب قريب أو بعيد.
وقد أقبلت بوادر الصيف من ذلك العام وجعل الفتى يستعد للامتحان، ثم دفع إليه في شهر يونيو فلم يتردد ولم يتلكأ، وإنما أقدم في عناد أي عناد، لم يكن واثقا بنفسه ولا مطمئنا إلى نتيجة هذه المغامرة التي يقدم عليها، ولكنه كان يقول لنفسه إن أتيح لى النجح فرمية من غير رام، وإن كتب علي الإخفاق فما أكثر الذين يخفقون!
وكان مزمعا إن ظفر بالنجح أن يبرق به إلى الجامعة، وإن كتب عليه الإخفاق أن يكتمه ويجعله سرا بينه وبين نفسه إن أمكن أن يكتم الإخفاق في الامتحان، ومن حوله زملاؤه المصريون يرقبونه رفاقا به مشجعين له عاطفين عليه.
وقد أتيح له النجح ... وكان الأستاذ الدكتور صبري السوربوني هو الذي أقبل ذات مساء فرحا يكاد يخرجه الفرح عن طوره، مكدودا يقطع الإعياء تنفسه لشدة ما جرى بين السوربون وبين بيت الفتى، ولشدة ما أسرع في صعود السلم إلى بيت الفتى في الطبقة السادسة، فلم يكد يفتح له الباب حتى أعلن لمن فتحه له أن زميله قد ظفر بدرجة الليسانس، ولم يدخل وإنما رجع أدراجه ولم يرد أن يستريح.
وكان الزميل الكريم قد تقدم للامتحان، ولم يكن ينظر في النص اللاتيني حتى طواه وقدم صحفه البيضاء ضاحكا متمثلا ببيته اللاتيني ذاك الذي يصور اليأس والقنوط، فكان رائعا حقا أن يكون ابتهاجه بفوز زميله بهذه الدرجة العسيرة أملك له وأشد استئثارا به من إخفاقه هو في الامتحان!
وألقى نبأ النجح إلى الفتى، فلم يصدقه حتى صحبته خطيبته إلى السوربون وقرأت له اسمه بين أسماء الناجحين، ثم لم تعد به إلى البيت حتى حجزت أمكنة للأسرة كلها في بيت موليير تكافئ بذلك صديقها وخطيبها على هذا النجح الذي لم يكن مرتقبا.
وأصبح الفتى من غده فأبرق إلى الجامعة، ولم يمض يومان حتى أبرقت إليه الجامعة تهنئه وترسل إليه مكافأة قدرها عشرون جنيها.
في ذلك اليوم قرر الخطيبان أن يتما زواجهما قبل رحلة الصيف إلى الجنوب.
الفصل السادس عشر
طلب تأجيل الامتحان للزواج!
وكان أمر الفتى في عامه الدراسي ذاك عجبا كله، فهو لم يتهيأ لامتحان الليسانس وحده على ما فيه من عسر ومشقة، وإنما جعل يعد رسالته للدكتوراه عن فلسفة ابن خلدون الاجتماعية. فقرأ لذلك ما شاء الله أن يقرأ في اللغتين العربية والفرنسية، وترجمت له نصوص أخرى من لغات أوروبية مختلفة، ثم أخذ في إملاء رسالته، يقول هو وتكتب صاحبته، وتقوم في أثناء ذلك ما يعوج من لغته الفرنسية. ولا يكاد يفرغ من إملاء فصل من فصول هذه الرسالة حتى يعيد قراءته، ثم يعرضه على أستاذه المستشرق الفرنسي كازانوفا، فإذا أقره أخذ في إملاء الفصل الذي يليه. ولم تكن الجامعة قد فرضت عليه هذه الرسالة، بل لم يكن بين هذه الرسالة وبين برنامجه الدراسي سبب؛ فهو قد أرسل ليدرس التاريخ، وكلف الحصول على درجة الليسانس، وتطوع هو بهذه الرسالة لأنه سمع دروس الاجتماع التي كان يلقيها الأستاذ دوركيم، فشغف بهذا العلم أي شغف، وأراد أن تكون له مشاركة فيه، وأن يشرف الأستاذ على هذه المشاركة. فاتفق معه على موضوع الرسالة، وعلى أن يكون هو مشرفا عليها من الناحية الفلسفية، وأن يشاركه في الإشراف مستشرق يحسن العلم بالشئون العربية والإسلامية، فكان كل فصل من هذه الرسالة يقرؤه أستاذان؛ يقرؤه الأستاذ المستشرق أولا، ثم يقرؤه الأستاذ دوركيم بعد ذلك.
ولما استقام أمر هذه الرسالة للفتى كتب إلى الجامعة ينبئها بما صمم عليه، وبأن هذا لن يغير من برنامجه المرسوم شيئا، بل ينبئها بأنه يزمع أن يضيف إلى هذا البرنامج المرسوم شيئا آخر: يريد - إن ظفر بالليسانس - أن يظفر بالإجازة التي تليه، وهي دبلوم الدراسات العليا. واستأذن الجامعة في أن يتهيأ لنيل درجة دكتوراه الدولة في التاريخ، على أن ذلك يستلزم أن تمتد إقامته في أوروبا أربعة أعوام بعد حصوله على الليسانس والدبلوم.
فكتبت إليه الجامعة تأذن له بنيل الدبلوم إن استطاع بعد الليسانس، وتعفيه من دكتوراه الدولة في التاريخ؛ لأنها تطيل إقامته في أوروبا وتكلف الجامعة من النفقات أكثر مما تطيق.
ثم أذنت له بتقديم رسالته عن ابن خلدون لنيل دكتوراه الجامعة، وذكرته بالعهد الذي قطعه على نفسه قبل أن يسافر من مصر وهو: ألا يقدم رسالة إلى جامعة أجنبية مهما يكن موضوعها إلا بعد أن تقرأها الجامعة المصرية وتأذن في تقديمها، وكان الصديق الكريم الدكتور منصور فهمي هو الذي اضطر الجامعة إلى أن تأخذ طلابها في أوروبا بأن يعطوا على أنفسهم هذا العهد.
والناس لم ينسوا بعد ما أثارت رسالة الدكتور منصور التي حصل بها على الدكتوراه من ضجيج وعجيج أثارا سخط الهيئات الرسمية أولا، وسخط الرأي العام بعد ذلك. واضطر الصديق الكريم إلى أن ينأى عن مصر قريبا من عام، ولا يعود إليها إلا حين اضطرته الحرب إلى أن يعود، وحيل بينه وبين التعليم في الجامعة أعواما، حتى إذا كانت الحركة المصرية سنة تسع عشرة وتسعمائة وألف، وما نشأ عنها من الأحداث ومن تحرر العقول، أذن له بما كان ينبغي أن يؤذن له فيه منذ أتم درسه في فرنسا، وكان ثروت باشا رحمه الله هو الذي أذن له في ذلك.
ولم ينس الفتى مساء يوم من الأيام جلس فيه بين زملائه إلى بعض الأساتذة في الجامعة حين كان طالبا، وإنه لمصغ إلى الأستاذ وإذا يد تمسه مسا رفيقا ثم تحاول إقامته مكانه، فيلتفت فينبئه صوت بأن الذي يريد أن يقيمه هو علوي باشا، فيستجيب الفتى لهذه اليد وهو يشفق في نفسه من بعض الشر، فهو قد أقيم مرة من درسه في الأزهر مع صاحبين له ليقدما للمحاكمة أمام شيخه الأكبر الشيخ حسونة رحمه الله. وقد سأل الفتى إلى من سيقدم، وفيم يمكن أن يحاكم هذه المرة، ورأى الفتى نفسه قد أجلس على كرسي وقيل له: إنك أمام مجلس إدارة الجامعة، وإن المجلس يريد أن يسألك عن بعض الأمر، وإذا صوت رقيق يتحدث إليه في رفق، فينبئه أولا باسمه: عبد الخالق ثروت، ويسأله بعد ذلك عن حكم الدين في أشياء تليت عليه من رسالة لطالب من طلاب الجامعة في أوروبا.
قال الفتى: فإنه لا يملك الإفتاء في أمور الدين.
قال محدثه: فإنا نريد أن نعرف رأيك.
قال الفتى وهو يبسم في شيء من غضب ساخر: كنت أظن أنني في الجامعة حيث لا يحاسب الناس على آرائهم، فإذا أنا أراني في الأزهر لا أسأل عن رأي نفسي وإنما أستفتى في رأي غيري من الناس.
قال صوت غليظ: رده يا علوي باشا إلى درسه فلن نأخذ منه شيئا.
ورد الفتى إلى درسه لم يصحبه في عودته علوي باشا وإنما صحبه خادم من خدم الجامعة.
ومنذ أثار الدكتور منصور ذلك الضجيج أقامت الجامعة نفسها رقيبا على رسائل طلابها، وأخذت عليهم العهد ألا يقدموا رسائلهم إلى الجامعات الأجنبية حتى تأذن لهم هي في ذلك بعد أن تقرأ الرسائل وتقرها. فلما استأذنها الفتى في تقديم رسالة عن ابن خلدون ذكرته بعهده ذاك، فوفى به وأرسل نسخة من الرسالة بعد أن أتمها، وأحالها مجلس الإدارة إلى الأستاذ أحمد لطفي السيد فقرأها ورضي عنها، وأذنت الجامعة في تقديمها إلى السوربون.
ولم ينقض شهر يوليو من ذلك العام حتى كان الفتى قد نجح في الليسانس من جهة، وأذنت له السوربون في طبع رسالته توطئة لمناقشتها بعد الصيف.
وقد تخفف الفتى من عبئين ثقيلين؛ عبء الليسانس وما فيه من امتحان اللغة اللاتينية، وعبء الرسالة وما فيها من رقابة الجامعة والإذن في تقديمها. على أن فوزه بالليسانس لم يكن كاملا، فهو قد نجح في الامتحان التحريري نجاحا حسنا، ولكنه كان قد شق على نفسه بالاستعداد لهذا الامتحان وكتابة الرسالة، وهو بعد ذلك مشغول متصل التفكير في زواجه الذي أذنت به الجامعة والذي كان يجب أن يتم في ذلك الصيف.
فخادع الفتى نفسه شيئا، وقرر أن يرجئ الامتحان الشفهي إلى الدور الثاني في أول العام الدراسي، وما هي إلا أن يعرض نفسه على طبيب فيشهد كتابة بأنه مكدود الأعصاب محتاج إلى الراحة، ويقدم هذه الشهادة إلى السوربون فتؤجل ما بقي من امتحانه إلى شهر نوفمبر، ويفرغ الفتى لنفسه وخطيبته، وما كان يعنيهما من أمر الزواج.
فإذا كان اليوم التاسع من أغسطس من ذلك العام، أصبحا زوجين حين انتصف النهار، وتركا باريس إلى الجنوب حين أقبل الليل، ولم يفرغا مع ذلك لحياتهما الجديدة في أثناء الصيف، وإنما استقرا في مدينة هادئة من مدن الجنوب، وأقبلا فور استقرارهما على ما لم يكن بد من الإقبال عليه وهو الاستعداد للامتحان الذي يجب أن يؤدى بعد شهرين.
وكان الاستعداد عسيرا حقا، فلم يكن بد لطالب الليسانس في التاريخ من أن يكون مستعدا بعد نجاحه في الامتحان التحريري لأن يسأل فيما يريد الأساتذة أن يسألوه فيه من تاريخ العصور القديمة، وتاريخ القرون الوسطى، والتاريخ الحديث، والتاريخ المعاصر، والجغرافيا، والفلسفة، ولغة أوروبية غير اللغة الفرنسية، وحسبك بهذا كله عبئا ثقيلا وعناء طويلا، وحسبك به أو بالاستعداد له نعيما يلائم حياة عروسين قد أتما زواجهما منذ أيام!
وهما مع ذلك يقبلان على هذه المحنة الثقيلة لا يضيقان بها ولا ينفران منها، وإنما يصبحان في التاريخ ويمسيان في الجغرافيا ويلمان بالإنجليزية بين ذلك، ويتركان أمر الفلسفة إلى الله وإلى ذاكرة الفتى، وما يمكن أن يكون قد استقر فيها مما سمع في السوربون أثناء العام.
وينقضي الصيف ويعود الزوجان إلى باريس، ويقبل صاحبنا على الامتحان مشفقا منه أعظم الإشفاق، مروعا به أشد الروع لا يخاف التاريخ القديم، وإنما يخاف أشد الخوف أساتذة التاريخ الحديث والتاريخ المعاصر، ولا يكاد يذكر الجغرافيا حتى يجن جنونه، فقد كان واثقا بأنه مخفق فيها من غير شك، وقد كتب عليه أن يرضى في يوم من أيام الامتحان كل الرضا مصبحا وأن يسخط فيه كل السخط ممسيا.
وأقبل من ضحى ذلك اليوم على أستاذ تاريخ القرون الوسطى وكان من أعظم أساتذة السوربون قدرا، وهو الأستاذ شارلي ديل، فإذا الأستاذ قد كتب على أوراق صغيرة أسئلة كثيرة وضعها أمامه، وجعل الطلاب كلما أقبل واحد منهم على الأستاذ يرمقونه ويرقبون ما يسعفه به الحظ، ويقبل صاحبنا ترافقه زوجه، فإذا أخذت ورقة ودفعتها إلى الأستاذ نظر فيها ثم ابتسم ثم قال في صوت عذب: لقد أسعدك الحظ بمرافقة هذه الآنسة، حدثني إذن عن الإمبراطورية العربية أيام بني أمية، وما أرى إلا أنك تعرفها خيرا مما أعرفها.
واندفع الفتى في حديثه لا يلوي على شيء حتى وقفه الأستاذ قائلا: حسبك فقد ظفرت بالدرجة العليا.
في ذلك اليوم لم يعد الزوجان إلى البيت ليصيبا غداءهما، وإنما ألح الفتى على صاحبته في أن يرفها عن نفسيهما بتناول الغداء في مطعم من مطاعم الحي اللاتيني، يجدان فيه من لين الطعام ما لم يكن مقدرا أن يجداه إن عادا إلى البيت. وكانت صاحبته تكره له أن يسرف فيما يبقى له من مرتبه بعد أداء ما عليه فيه من الحق، فامتنعت عليه وألحت في الامتناع، ولكنه ما زال بها حتى استجابت له، فأصابا في ذلك اليوم غداء قلما كانا يصيبان مثله في سائر أيامهما.
وعادا بعد ذلك إلى السوربون، وإن قلب الفتى ليخفق فرقا وقلقا؛ وكيف لا وهو مقبل على امتحان الجغرافيا بعد قليل؟ وكان قد قدر في نفسه أن الأستاذ الذي سيمتحنه لن يراه مقبلا عليه حتى يرفق به ويعرف أن مثله لا ينبغي أن يسأل إلا فيما يفهمه العقل وتحفظه الذاكرة بدون أن يحتاج إلى الإبصار، يسأله في الجغرافيا السياسية أو الاقتصادية أو البشرية، ولا يسأله في الجغرافيا الطبيعية مثلا. ولكن الأستاذ يدعوه فيسعى إليه ويجلس بين يديه، ويقول الأستاذ في هذه المداعبة الرفيقة التي يتكلفها الممتحنون عادة: مسيو حسين، صف لي مجرى نهر الرون.
ويسمع الفتى هذا السؤال فيسرع إليه الوجوم، ولكن العناد يسبق الوجوم إلى عقله وقلبه جميعا، وإذا هو يرفض الإجابة عن هذا السؤال في صوت لا تردد فيه ولا اضطراب.
قال الأستاذ متلطفا: فإن من الحق عليك أن تجيب حين تسأل.
قال الفتى: ولكني لن أجيب.
قال الأستاذ: فقد اكتفيت.
ودعا طالبا آخر.
فانصرف صاحبنا محزونا مدحورا، مستيقنا أنه قد أخفق في الامتحان، وأن نجحه في أول الصيف قد ذهب هباء، مشفقا في الوقت نفسه على صاحبته من هذا الحزن الذي سيسعى إليها من غير شك، ولكن صاحبته تخرج به من هذه الغرفة مترفقة به قائلة له في ابتسامة عذبة: وما رأيك في فنجان من القهوة تتهيأ به للقاء أستاذ الفلسفة! وقال: وفيم لقاء هذا الأستاذ وقد ذهب الامتحان كله هباء؟
قالت متضاحكة: لا عليك، فقد كان هذا الممتحن غليظ الطبع قليل الحظ من الذوق.
وما زالت به حتى سقته القهوة، ثم عادت به إلى السوربون، فلقي أستاذ الفلسفة وسمع منه وقال له غير محقق في نفسه شيئا مما سمع أو مما قال.
وراحا إلى بيتهما وهو يضمر اليأس ويظهره، وهي تظهر الأمل، والله يعلم ما كانت تضمر.
وتكلف صاحبنا أن يشغل نفسه عن التفكير في الامتحان بالتفكير في مناقشة الرسالة التي تم طبعها وقدمت إلى السوربون، والتي سيحدد لمناقشتها فيما كان يقدر موعد قريب.
ولم تتحدث إليه صاحبته في أمر هذا الامتحان، وإنما جعلت تتحدث إليه في أشياء كثيرة ليس بينها وبين السوربون وعنائها صلة، ثم تقبل عليه ذات يوم فلا تكلمه ولا تلقي إليه تحيتها وإنما تقبله ثم تهمس في أذنه: لقد نجحت!
ولم يصدق الفتى ما سمع حتى أنبأته بأنها عائدة من السوربون حيث أعلنت أسماء الناجحين وفيها اسمه.
وعلم الفتى بعد ذلك أن الأستاذ ريمونجون أستاذ الجغرافيا لم يكن غليظ الطبع ولا قليل الحظ من الذوق، فلم يمنحه الصفر الذي كان يستحقه، وإنما منحه درجتين اثنتين ليعصمه من الإخفاق إن أتيح له النجح في غير الجغرافيا من مواد الامتحان.
وتريد الظروف بعد سنين أن يعقد في مصر مؤتمر للجغرافيا، وأن يكون هذا الأستاذ من الذين مثلوا وطنهم في هذا المؤتمر، وأن يلقاه صاحبنا في حفلة من حفلات الشاي التي تكثر حول المؤتمرات، فإذا قدم إليه صافحه وأطال النظر إليه وإلى صاحبته ثم قال متضاحكا: يخيل إلي أني رأيتك!
قال الفتى مغرقا في الضحك: نعم رأيتني، وكدت تضيع علي درجة الليسانس.
قال الأستاذ: الآن ذكرتك ... ولعلك راض عني؛ لأني لم أعطك الصفر الذي كنت له أهلا!
ولم يضحكا وحدهما، وإنما ضحك معهما من كان حولهما من الناس.
وكذلك خلص الفتى من مشكلات الليسانس، وأقبل على الرسالة يتهيأ لمناقشتها مستريح القلب هادئ النفس راضي الضمير، ولكنه لم يلبث أن روع بوفاة الأستاذ دوركيم المشرف الفلسفي على رسالته، وكان الفتى لأستاذه محبا وبه معجبا إعجابا يوشك أن يبلغ الفتون، فأدركه للخطب فيه حزن عميق، ولكن للحياة حقائقها وتبعاتها، وليس بد لهذه الرسالة من أن تناقش، وليس بد لمناقشتها من فيلسوف متخصص في الاجتماع.
وقد استطاعت السوربون أن تندب لمناقشة الفتى في رسالته أستاذا من أساتذتها كان من تلاميذ الأستاذ الفقيد وهو الأستاذ بوجليه. وكذلك تم الاستعداد للمناقشة، ولكن الدكتوراه الجامعية في فرنسا لا يكفي فيها أن تقدم الرسالة وأن تناقش، بل يجب أن يناقش الطالب قبل ذلك في موضوعين يختاران له قبل اليوم الموعود ليتهيأ للخوض فيهما.
ويتصل الفتى بأساتذته الذين سيمتحنونه ليعرف منهم هذين السؤالين، فأما الأستاذ المستشرق فلم يقترح شيئا واكتفى برسالة الطالب عن ابن خلدون، وأما الأستاذ الفيلسوف فاقترح على الفتى موضوعا رآه في أول الأمر عسيرا أشد العسر، ثم لم يلبث أن رآه يسيرا كل اليسر بعد أن عرف الموضوع الثاني الذي اقترحه أستاذ التاريخ، اقترح الأستاذ الفيلسوف: «علم الاجتماع كما يتصوره أجوست كونت»، واقترح أستاذ التاريخ - وكان من مؤرخي الرومان وهو الأستاذ جوستوف بلوك - «القضايا التي رفعت على حكام الأقاليم كما يصورها بلينوس الشاب في رسائله».
وقال الأستاذ وهو يلقي هذا الموضوع إلى الفتى: وأريد أن أناقشك في النصوص فلا تكتف بفهم التاريخ.
في ذلك اليوم عاد الفتى إلى أهله يرعد من الخوف والسخط جميعا. كان يظن أنه قد فرغ من اللغة اللاتينية وعنائها، وإذا أستاذ التاريخ ذاك يرده إليها ويفرض عليه أن يدرس طائفة من رسائل ذلك الكاتب اللاتيني القديم.
وأقبل الفتى على رسائل ذلك الكاتب فقرأها كلها مترجمة إلى الفرنسية أولا، واستخرج منها الرسائل التي تمس موضوعه فعاد إليها يدرسها في نصوصها اللاتينية درسا دقيقا عميقا؛ لأنه كان يعرف الأستاذ، ويعلم أنه لا يحب المزاح ولا يكتفي بالقليل.
ولم يرتعد الفتى في امتحان قط إلا في هذا الامتحان حين أخذ الأستاذ يناقشه في هذه الرسائل، ونسي حكام الأقاليم وقضاياهم، ولم يحفل إلا بالنص اللاتيني من حيث هو نص أدبي يجب فهمه أولا وذوقه ثانيا وتحليله ونقده بعد ذلك.
ولولا فضل من شجاعة واستحياء من الرفاق ومن زوجه التي كانت تشهد الامتحان ومن سائر النظارة لاصطكت أسنانه ذعرا وهلعا، ولكنه ثبت للخطب على كل حال، وإن رأى الأساتذة والنظارة أن فرائصه كانت ترتعد، وأنه كان شديد الاضطراب، وثابت نفسه إليه حين سكت عنه أستاذ التاريخ وأخذ أستاذ الفلسفة في مناقشته وجرت ريح الامتحان له رخاء حتى رفعت الجلسة.
وخلت اللجنة للمداولة وعادت بعد لحظات فأعلن إليه رئيسها، وهو أستاذ التاريخ، أن الكلية ترشحه لدرجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف الممتازة ومع تهنئة اللجنة.
ولأول مرة سمع الفتى تصفيق النظارة من الفرنسيين لشخصه المتضائل الضعيف.
وعاد إلى أهله جذلان فرحا، وظن أن قد حطت عنه أثقال الدراسة، وأن ما بقي له منها لن يكون شيئا ذا بال.
ولكن الأيام كشفت له عن أنه كان مغاليا في تفاؤله بل مسرفا في الغلو؛ فقد بقي عليه أن يظفر بدبلوم الدراسات العليا، وأراد حظه أن يعد رسالته لهذا الدبلوم بإشراف أستاذ التاريخ ذلك الذي أرهقه من أمره عسرا.
الفصل السابع عشر
يوم سقطت القنبلة على بيتي!
ولم يمهل صاحبنا نفسه بعد أن فرغ من امتحان الدكتوراه إلا أياما قليلة، ثم أقبل على درس أستاذ التاريخ ذاك كما تعود أن يفعل منذ أقام في باريس، وكان على هذا الدرس حريصا ولصاحبه محبا، بل كان إعجابه بصاحب هذا الدرس عظيما، فلما انتهى الأستاذ من درسه سعى إليه صاحبنا خزيان وجلا، وأنبأه بأنه يود لو أذن له في أن يهيئ بإشرافه رسالة في التاريخ القديم ينال بها دبلوم الدراسات العليا.
وقد قبل الأستاذ طلب تلميذه أحسن قبول، وضرب له موعدا بعد درس الغد ليتحدث معه في موضوع هذه الرسالة، وانصرف الفتى راضيا مشفقا؛ راضيا عن العمل مع هذا الأستاذ العظيم، مشفقا من مشقة هذا العمل، فقد كان الأستاذ معروفا - على حبه لتلاميذه - بالشدة عليهم وتكليفهم من الأعمال أشقها وأشدها عسرا ومحاسبتهم بعد ذلك حسابا لا رفق فيه.
ولقي الفتى أستاذه من الغد فقال له متضاحكا: لقد وجدت لك موضوعا قيما حقا؛ لأنه سيتيح لك من القراءة ما ستنعم به أحسن النعيم موقعا في النفوس.
قال الفتى متشوقا: وما ذاك؟!
قال الأستاذ: ستدرس القضايا التي أقيمت في روما على حكام الأقاليم الذين أهانوا جلال الشعب الروماني وغضوا من شرفه، كما صورها المؤرخ العظيم تاسيت، وأؤكد لك أنك ستسعد بقراءة هذا المؤرخ كما لم تسعد قط بقراءة مؤرخ أو أديب.
ثم أحصى له طائفة من الكتب يجب أن يقرأها، وطائفة أخرى يجب أن يرجع إلى بعض فصول فيها، ولم يستطع صاحبنا أن يناقش الأستاذ أو يجادله في هذا الموضوع العسير، وإنما سمع وأطاع، وانصرف قلقا مستخذيا.
ثم فكر حين خلا إلى نفسه في هذه الكتب التي ينبغي أن يقرأها أو يراجع فصولا فيها، فرأى أنه لا يستطيع أن يستعيرها؛ لأن مثل هذه الكتب لا تعار من مكتبة الجامعة لكثرة حاجة الطلاب إليها، وليس له بد إذن من شرائها، وفي شرائها المعضلة الكبرى، فثمنها لا يقل عن المرتب الذي يتقاضاه أثناء شهرين كاملين!
وكتب إلى الجامعة يستعينها على شراء هذه الكتب، فأبت عليه، وكانت الجامعة شديدة البخل على طلابها، تكرهها ظروفها المالية على ذلك إكراها، فهي لم تكن تعينهم على ما يعرض لهم من المرض، ولا على ما يحتاجون إليه من الكتب. وإنما كانت تعطيهم مرتباتهم وأجور ما يحتاجون إليه من الدروس الخاصة إذا تبينت أن ليس لهم من هذه الدروس بد، ثم تخلي بينهم وبين حياتهم يصنعون بها ما يريدون، أو تصنع هي بهم ما تريد. وعلى الطلاب مع ذلك أن يثبتوا جدهم في الدرس وتقدمهم فيه، فإن ثبت لها تقصير أو قصور فليس بد للطالب من أن يعود إلى مصر ويوفر ما تنفقه الجامعة عليه من المال .
وقد راجع صاحبنا الجامعة في أمر هذه الكتب فأذنت له - بعد خطوب - في أن يشتريها وينتفع بها على أن تكون ملكا للجامعة ترد إليها بعد عودته إلى مصر.
وكذلك أخذ يتهيأ لهذا الموضوع الخطير، وأي شيء أخطر بالقياس إلى مصري مثله لم يعرف اللاتينية إلا بأخرة، ولم يسمع في مصر إلا دروس الأزهر في علومه الموروثة ودروس الجامعة التي ليس بينها وبين تاريخ اليونان والرومان صلة - أي شيء أخطر بالقياس إلى مصري مثله من العكوف على هذا المؤرخ الروماني العظيم العسير يقرؤه ويحصي ما فيه من أخبار هذه القضايا، ثم يفهم هذه القضايا من نواحيها القانونية الخالصة، ثم يعرضها بعد ذلك عرضا واضحا مستقيما؟! لقد أحس في نفسه شيئا من الندم على أنه لم يختر لرسالته موضوعا في التاريخ العربي الذي يحسنه، والذي لا يكلفه قراءة في اللاتينية ولا فيما يشبه اللاتينية، ولكنه قد ورط نفسه في هذا الموضوع، وليس له بد من أن ينفذ من مشكلاته، مهما يكلفه ذلك من جهد أو عناء.
وإنه لما بدأ في قراءته تلك العسيرة، إذا حدث يحدث ذات ليلة فيقطع هذه القراءة فجأة، ويضطره إلى أن يترك باريس، ويفر بنفسه وبزوجه إلى جنوب فرنسا، طلبا للأمن واجتنابا للخطر، وكان ذلك حين انتصفت ليلة من ليالي فبراير أو كادت تنتصف، وكان كل شيء هادئا من حول صاحبنا، وكان قد انصرف عن القراءة وأوى إلى مضجعه، وأخذ النوم يسعى إليه أو أخذ هو يسعى إلى النوم، ولكن النذير بالغارة الجوية يوقظ أهل البيت جميعا، وصاحبنا شجاع لا يحفل بالغارة ولا يريد أن يظهر أهل البيت منه على ذعر أو شيء يشبه الذعر، فهو يأبى أن ينهض من مضجعه ساخرا من الغارة والمغيرين، وما أكثر ما سمع أهل باريس هذا النذير! وما أكثر ما اهتم له المهتمون، وسخر منه الساخرون، وانجلت غمرته عن باريس دون أن تلقى منه كيدا! فما يمنع هذه الغارة أن تكون كغيرها من سابقاتها؟ وصاحبنا معتد بنفسه معتز بشجاعته، يرى أهل البيت من حوله يتهيئون للهبوط من طابقهم السادس ليئووا إلى مخبئهم ذاك، وهو ثابت في مضجعه لا يريم، ولكنه يسمع فجأة صوتا مروعا، وينظر فإذا هو يهبط مع الهابطين مسرعا، لا يحفل بما يمكن أن يلقاه من عقبات، ولا يثوب إلى نفسه إلا بعد أن استقر في مجلسه من المخبأ بين اللاجئين إليه من أهل الحي، وهو مستخذ في نفسه، ومستخذ من أهله، ولكن ماذا يصنع وقد كانت الغريزة أقوى من عقله وإرادته جميعا؟
وتنجلي الغمرة، ويأوي الناس إلى مضاجعهم، فإذا أصبحوا رأوا شرا عظيما، فقد سقطت القنابل في الحي اللاتيني نفسه، ودمرت أبنية قريبة من الدار التي كان يسكنها صاحبنا، وهو يحس آثار هذا التدمير في طريقه مصبحا إلى السوربون، ويسمع من أنبائه الشيء الكثير، ولم يخطر له أن في هذا الحادث ما يضطره إلى ترك باريس والهجرة إلى الجنوب، ولكن ظروف زوجه تفرض عليه ذلك بأمر الطبيب، فيهاجر معها إلى مونبلييه مقدرين أن يقيما فيها إلى أن يصل الطفل الذي كانا ينتظرانه، ثم يعودا بعد ذلك إلى باريس.
وهم صاحبنا بعد أن استقر في مونبلييه أن يدرس الحقوق ويتخرج في القانون، يبدأ الدرس في فرنسا ويتمه في مصر بعد أن يعود إليها. ولكن إعداد رسالته تلك شغله عن ذلك، وما أكثر ما لام نفسه وشق عليها في اللوم بأنه لم يتم ما حاول من دراسة القانون! فقد ألمت به في حياته محن وخطوب.
وكان ينظر فيرى نفسه مسئولا عن أسرة فيها صبيان بريئان لم يخاصما السلطان ولم يثيرا غضبه، وعن زوج بريئة غريبة لا شأن لها بما كان يحدث في مصر من الأحداث، ويرى نفسه مع ذلك اضطر إلى شيء يشبه العجز عن رعاية هذه الأسرة والقيام بحقها عليه في تلك الأيام. وكان يذكر رغبته في درس القانون، وكان يقدر أنه لو فعل لاستطاع أن يتجنب التبطل وأن يعصم هذه الأسرة مما كانت تتعرض له من البؤس والضيق، ولكن هذا حديث لم يأت وقته بعد.
أقبل الفتى إذن على درسه، وأقبل في الوقت نفسه على درس اللغة اليونانية، وشاركته زوجه في هذا الدرس، فكانت حياتهما في مونبلييه راضية حقا، فيها نعيم العقل بهذا الإمعان في الدرس والأخذ في كل يوم بسبب جديد من أسباب المعرفة. وفيها نعيم الأمل بانتظار هذا الطفل الذي كان يسعى إلى الحياة في أناة ورفق، وفيها نعيم الرضا بالقليل والقناعة بالرزق الذي مهما يكن مقترا فيه فقد كان يقيم الأود ويعصم من الحاجة ويرضي الزوجين عن نفسهما؛ لأنهما يحسنان التدبير والاحتمال، وكان ربما تعرضا لبعض الهم حين يوشك الشهر أن ينقضي، ويوشك ما بين أيديهما من المال أن ينفد، فيثبتان لذلك في صرامة لا تعرف اللين وشدة لا تعرف الدعة حتى تنجلي عنهما الغمرة ويعود إليهما اليسير العسير مع أول الشهر، إن جاز أن يوصف اليسير بأنه عسير.
وكان الفتى قد أرسل نسخا من رسالته عن ابن خلدون إلى صديق له في مصر بقيت له بعد أن أخذت السوربون خمسين ومئة نسخة، وأخذت الجامعة عشرين نسخة، وأهدى إلى بعض الرفاق والأصدقاء عددا آخر من النسخ، وبقى له نحو مئة نسخة من هذه الرسالة، فأرسل إلى صديقه ذاك رحمه الله ليتصرف فيها كما يحب، ومضى على إرسال هذه النسخ وقت غير قصير حتى نسيها الفتى، ولكنه يتلقى ذات ضحى كتابا من صديقه ذاك ومعه حوالة على أحد المصارف بمقدار من المال لا بأس به كاد يبلغ عشرين جنيها.
ما كان أسعد ذينك الزوجين بهذا الكتاب، وبما حمل إليهما من معونة، كانا في أشد الحاجة إليها! ولا سيما أنه قد قرب مقدم الطفل المنتظر، ولا بد من التهيؤ للقائه، ومن لقائه حين يقبل في إكرام له وعناية به وحفاوة تلائم ما كانا يجدان في مقدمه من السعادة. وكان ربما أدركهما حزن عميق يخفيه كل منهما على صاحبه رفقا به وإشفاقا عليه، فكانت هذه المعونة الطارئة منقذا لهما من هذا العذاب.
وفي يوم من أيام شهر يونيو أقبلت أمينة مع الصبح، واختلط صياحها بغناء الطير المستيقظة، فكان لهذه الموسيقى الحلوة موقع أي موقع في قلب الزوجين أنساهما أو سلاهما عما وجدا في ليلتهما تلك من روع وما تعرضا له من هول.
ولم تجد أمينة أبويها حزينين ولا مهتمين ولا مضيقا عليهما في استقبال زائرهما العزيز؛ فقد أتاح لها ابن خلدون رحمه الله من السعة ما مكنهما من أن يلقيا ابنتهما كأحسن ما يكون اللقاء.
وانقضى الصيف ثقيلا طويلا يضطرب فيه الزوجان بين السعة في أول الشهر والضيق في آخره، ولكنهما يستعينان على السعة والضيق جميعا بتنشيء أمينة من جهة، والجد في إعداد الرسالة ودرس اليونانية من جهة أخرى، ولم يقبل شهر سبتمبر حتى عاد الزوجان ومعهما جوهرتهما إلى باريس.
وكان صاحبنا يقدر أنه سيفرغ الفراغ كله لرسالته إذا استقر في باريس، ليلقى أستاذه من أول العام الجامعي مستعدا للتحدث إليه بما قرأ وما فهم وما يريد أن يفعل، وليتلقى منه ما يمنحه من التوجيه والإرشاد.
ولكنه لا يكاد يبلغ باريس حتى يصرف عن الرسالة صرفا عنيفا، ويشغل عنها شغلا متصلا أكثر من شهرين؛ فهذا رفيق مصري من رفاقه في الدرس، وصديق من أصدقائه قبل البعثة وبعدها، قد ألم به مرض عصبي خطير، وليس له في باريس من يرعاه أو يهتم لشأنه. وقد انتقلت إدارة البعثة الجامعية من باريس إلى لندن فلم يكن بد للفتى من أن يعنى بصديقه وزميله في الدرس، ويقوم منه مقام مدير البعثة. وهو يعرضه على الطبيب بعد الطبيب، ويكتب في شأنه إلى مدير البعثة مرة وإلى الجامعة في القاهرة مرة أخرى. وينفذ أمر الأطباء، فينقل صديقه من باريس إلى حيث يستطيع أن يعيش خارج المدينة في الهواء الطلق والحياة الهادئة التي لا عجيج فيها ولا ضجيج. وهو مضطر إلى أن يزوره بين حين وحين، وقد يدعوه فجأة صاحب الفندق الذي يقيم فيه المريض فيسرع إليه، ويسمع من أنباء صديقه ما يملأ قلبه لوعة وحزنا، ويثير أمامه من المشكلات ما لا يعرف إلى النفوذ منه طريقا. وهو في أثناء هذا كله يتلقى الرسائل المتناقضة من الجامعة ومن مدير البعثات، ويتلقى المال القليل لينفق منه على المريض الذي كان يسرف في الإنفاق، ولم تكن حاجاته تنقضي، ويتلقى في الوقت نفسه من الجامعة مطالبته بتأدية الحساب الدقيق عما أنفق، ولا تنجلي عنه هذه الغمرة حتى يتلقى أمر الجامعة بإعادة الصديق المريض إلى القاهرة.
وفي أثناء هذا كله تضع الحرب أوزارها، وتعلن الهدنة، ويبتهج الفرنسيون ونزلاء فرنسا بمقدم السلم، ولا يكاد صاحبنا يمضي فيما عاد إليه من الدرس بعد تلك المحنة في صديقه الكريم عليه، الأثير عنده، حتى تأتي الأنباء من مصر فتصرفه مرة أخرى عن رسالته وإعدادها صرفا عنيفا، ولكنه لم يكن حزينا ولا مروعا، وإنما كان سعيدا يملأ القلب غبطة والضمير رضا والنفس ثقة وإعجابا، فقد جاءت الأنباء بأن مصر تطلب استقلالها إلى المحتلين المنتصرين.
ثم جاءت الأنباء بأن مصر تلقى من المحتلين عنتا أي عنت وجحودا أي جحود، وبأن بعض المصريين قد أخرجوا عنوة من وطنهم، واتخذوا رهائن في مالطة، وبأن مصر قد غضبت لأبنائها وثارت بأعدائها.
فتقع هذه الأنباء كلها من قلب الفتى ومن قلوب زملائه الطلاب المصريين موقع الماء من ذي الغلة الصادي. ليس الأوروبيون وحدهم إذن هم الذين يثورون غضبا للكرامة الوطنية وطموحا إلى استقلال الوطن، بل إن مصر الأفريقية تثور هي أيضا كما ثار الإنجليز والفرنسيون والأمريكيون وأمم غربية أخرى.
ما أوسع الآمال التي ملأت قلوب أولئك الطلاب الغرباء! وما أعظم الكبرياء التي ملأت نفوسهم! وما أكثر ما أضاعوا من الوقت في أحاديث لا تنقضي عن هذا كله! وما أكثر ما أعرضوا عن الدروس ليفرغوا لحديث الثورة والثائرين!
وكان صاحبنا مؤثرا للعزلة لا يلقى رفاقه المصريين إلا قليلا، فقد كثر لقاؤه لهم وخوضه معهم في أحاديث الثورة والثائرين منذ جعلت الصحف الفرنسية تنشر أنباء مصر وما يجري فيها من الأحداث.
ولكنه على هذا كله لم يهمل الرسالة ولم يعرض عن درس أستاذه المشرف عليها، وإنما مضى في عمله حفيا به حريصا على الجلد فيه، كأن أنباء مصر قد زادته إقداما على إقدام وجدا على جد، وهي على كل حال قد شوقته أشد التشويق إلى أن يتم درسه ويعود إلى مصر ليشهد الأحداث عن كثب؛ ومن يدري لعله يستطيع أن يشارك في بعضها مما يتاح له أن يشارك فيه.
ولم ينس صاحبنا قط كيف كان يتلقى قارئته مع الصبح، فيغرق معها في قراءة الفقه المدني والفقه الجنائي والمدني الروماني في كتابي المؤرخ الألماني العظيم ممش. ولم يكن الفتى يصدق - بعد أن مضت على ذلك السنون - أنه قرأ هذه المجلدات الأحد عشر في وقت قصير على ما في قراءتها من العسر وكثرة ما في هذه المجلدات من التعليقات ومن النصوص اللاتينية.
وما أكثر ما كان يسمع للقارئة وقد حمل أمينة بين ذراعيه ليتيح لزوجه أن تفرغ لما كان ينبغي أن تفرغ له من شئون البيت!
وما أكثر ما كان يملي فصول هذه الرسالة وصبيته بين ذراعيه يمشي بها في غرفته الضيقة ممليا وقارئته تسمع منه وتكتب عنه! وربما طلبت إليه أن يريح نفسه من الإملاء ويريحها من الكتابة دقائق، وأخذت منه الصبية فحملتها ومشت بها في الغرفة وغنت لها بعض ما يغني للأطفال، وأتاحت له بذلك أن يجلس ويستريح، وزوجه في أثناء هذا كله في مطبخها مقبلة على تهيئة الغداء أو العشاء.
وفي ذات يوم يقبل الرفاق فينبئونه بأن سعدا رحمه الله وأصحابه سيصلون إلى باريس، وأنهم يتهيئون لاستقبالهم، ويطلبون إليه أن يشاركهم في ذلك فيعتذر؛ لأنه لا يحسن من هذه الأمور شيئا.
ولكنه ينتظر حتى إذا استقر الوفد في باريس ذهب ذات ضحى إلى حيث كان أعضاؤه يقيمون، فلقي سعدا رحمه الله بعد أن لقي رفاقه، وفيهم أستاذه الرفيق به العطوف عليه أحمد لطفي السيد.
وفيهم صديقه المشجع له الذي طالما شمله بالعناية والرعاية حين كان طالبا في الجامعة، وكاتبا في الجريدة، ثم شمله بالعناية والرعاية حين كان عضوا في البعثة الجامعية بباريس، وهو عبد العزيز فهمي رحمه الله.
وفيهم غير هذين الصديقين الكريمين آخرون كان يعرفهم بأسمائهم، ثم اتصلت المودة بينه وبينهم بعد ذلك، كما اتصلت الخصومة أيضا بينهم وبينه بعد ذلك.
لقي هؤلاء جميعا ومعه زوجه، ثم أذن له في لقاء سعد، وكان لسعد عنده دين منعه الحياء من أدائه، حين كان طالبا في الجامعة وأتيح له أن يؤديه بعد أن كاد يتم دراسته في باريس.
الفصل الثامن عشر
أطول الناس لسانا!
وكان دين سعد عند صاحبنا قديما يرجع تاريخه إلى العام الذي قدم فيه رسالته عن أبي العلاء إلى الجامعة، وظفر بعد مناقشتها بدرجة الدكتوراه، وكثر حديث الصحف والناس عن هذه الرسالة وصاحبها. وفي تلك الأيام قدم عضو من أعضاء الجمعية التشريعية اقتراحا يطلب فيه أن تقطع الحكومة معونتها عن الجامعة؛ لأنها خرجت ملحدا هو صاحب رسالة «ذكرى أبي العلاء».
وكان سعد رحمه الله رئيس لجنة الاقتراحات فيما يظهر، فلما عرض عليه هذا الاقتراح دعا المقترح للقائه، وطلب إليه أن يعدل عن اقتراحه. فلما أبى قال له سعد: إن أصررت على موقفك فإن اقتراحا آخر سيقدم، وسيطلب صاحبه إلى الحكومة أن تقطع معونتها عن الأزهر؛ لأن صاحب هذه الرسالة عن أبي العلاء تعلم في الأزهر قبل أن يتعلم في الجامعة.
واضطر الرجل إلى أن يسترد اقتراحه، وسلمت للجامعة معونتها، ولم يتعرض الفتى لشر، وكان الأستاذ أحمد لطفي السيد هو الذي أنبأ صاحبنا بهذه القصة، وطلب إليه أن يسعى إلى سعد بشكر هذا الجميل، ولكن الفتى استحيا إذ ذاك فلم يسع إلى سعد، وأين هو من سعد؟
فلما أتيح له لقاء رئيس الوفد في باريس شكر له تلك العارفة، وأثنى على جهده الخصب في خدمة مصر وتضحيته في سبيل الوطن والشعب. فسمع منه سعد ولكنه أجابه في فتور وضيق بأن جهده وجهد أصحابه وجهد الشعب كله لن يغني عن الوطن شيئا، ألا ترى إلى كل هذه الأبواب التي غلقت من دوننا؟ وها نحن أولاء قد وصلنا إلى باريس فقطعت علينا الطريق إلى مؤتمر الصلح، وألقيت الحجب الكثاف بيننا وبين ممثلي الدول المشتركة فيه؟
قال الفتى: ولكن هذه الجهود توقظ الشعب ، وتنبهه لحقه، وتدفعه إلى المطالبة به والجهاد في سبيله.
قال سعد محولا الحديث عن مجراه: ماذا تدرس في باريس؟
قال الفتى: أدرس التاريخ.
قال سعد: أومؤمن أنت بصدق التاريخ؟
قال الفتى: نعم، إذا أحسن البحث عنه والاستقصاء له، وتخليصه من الشائبات.
قال سعد: أما أنا فيكفي أن أرى هذا التضليل، وهذه الأكاذيب التي تنشرها الصحف في أقطار الأرض، ويقبلها الناس في غير تثبت ولا تمحيص، لأقطع بألا سبيل إلى تصفية التاريخ من الشائبات، ولأقطع بعد ذلك بألا سبيل إلى استخلاص التاريخ الصحيح من هذه الشائبات، وانظر إلى ما ينشر عنا في مصر وفي باريس، وحدثني كيف تستطيع أن تستخلص منه التاريخ الصحيح؟!
وهم الفتى أن يتكلم، ولكن سعدا مضى في حديثه قائلا: لقد أقبلنا إلى باريس والأمل يملأ نفوسنا فلم نقم فيها أياما حتى استأثر بنا اليأس.
قال الفتى: وكيف نيأس وقد أيقظتم الشعب فاستيقظ، ودعوتموه فاستجاب؟
قال سعد: وماذا يستطيع الشعب أن يصنع وهو أعزل لا يستطيع الدفاع عن نفسه، فضلا عن أن يثور بأصحاب القوة والبأس؟
قال الفتى: هو الآن أعزل، ولكنه سيجد السلاح غدا.
قال سعد: وأين يجده؟
قال الفتى: إن الذين يهربون لنا الحشيش يستطيعون أن يهربوا لنا الأسلحة.
فأغرق سعد في الضحك، وقال وهو ينهض: ألا تعلم أن الذين يراقبون تهريب الحشيش سيراقبون تهريب الأسلحة؟
وانصرف الفتى عن سعد فلم يره إلا بعد عام، بل بعد أكثر من عام، ولم يلقه سعد في تلك الزيارة الثانية بباريس لقاء الهاش له المرحب به، وإنما لقيه في شيء من الفتور، قال له وسمع منه، ولكنه لم يقل شيئا ذا بال، ولم يسمع منه شيئا ذا بال، وإنما كان لقاء قصيرا قوامه المجاملة ليس غير.
وقد عرف الفتى مصدر هذا الفتور، فلم يضق به، ولم يبتهج له، وإنما هز رأسه ورفع كتفيه. وكان مصدر هذا الفتور أن جماعة من تلاميذ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده أحيوا ذكرى وفاة أستاذهم في الجامعة، وخطب صاحبنا في ذلك الحفل فزعم أن مصر مدينة بما أتيح لها من اليقظة لثلاثة رجال لا ينبغي أن تنساهم:
أولهم: الأستاذ الإمام الذي أحيا الحرية العقلية.
والثاني: مصطفى كامل الذي أذكى جذوة الحرية السياسية.
والثالث: قاسم أمين الذي أحيا الحرية الاجتماعية.
وقرأ سعد هذا الحديث فوجد على الفتى؛ لأنه لم يذكره بين هؤلاء العظماء.
وتوالت خطوب السياسة بعد ذلك، وكان صاحبنا أطول الكتاب لسانا وأجرأهم قلما في مهاجمة سعد ونقد سياسته قبل أن يلي الحكم وبعد أن وليه، وبعد أن اضطر إلى اعتزاله. وأصاب الفتى من هذه الخصومة مكروه أي مكروه، ولكنه لقي سعدا بعد ذلك للمرة الثالثة والأخيرة في دار شوقي، رحمه الله.
كان شوقي يستقبل الشاعر الهندي العظيم تاجور، وقد دعا لهذا الاستقبال من شاء الله أن يدعوهم من أصحاب الثقافة ورجال السياسة والحكم، وكان صاحبنا أحد المدعوين. وإنه لبين جماعة من أصحابه وإذا سعد بقيا، فيخف الناس جميعا للقائه ويهم صاحبنا أن يتأخر ولكن أصحابه يدفعونه دفعا، وكان أشدهم في ذلك الشيخ عبد العزيز البشري رحمه الله، ويجد الفتى نفسه يصافح سعدا ويسمع سعدا يلقاه لقاء حسنا، ثم يعود الناس إلى أماكنهم ويقيم سعد ساعة أو بعض ساعة ثم ينصرف إلى مجلس النواب، وكان له رئيسا.
وقد كاد الفتى يلقى سعدا مرة أخرى لو أريد الفتى على أن يلقى سعدا مرة أخرى، ولكنه امتنع وألح في الامتناع فلم يتم هذا اللقاء. كان ذلك حين أراد بعض النواب الوفديين أن يثير قصة الشعر الجاهلي مرة أخرى في المجلس، فرده سعد عن ذلك قائلا: لقد انتهى هذا الموضوع فلا معنى للعودة إليه.
قرأ صاحبنا ذلك في الصحف فلم يكد يحفل به أو يلقي إليه بالا، ولكن الأستاذ أحمد لطفي السيد كان مدير الجامعة ورفيقا بصاحبنا. فألح عليه في أن يمر بدار سعد ويترك بطاقته، وعسى أن يلقاه فيشكر له كلمته الطيبة في مجلس النواب، ولكن صاحبنا أبى وأصر على الإباء، وقال: إن سعدا لم يزد على أن أدى واجبه وكف سفيها أحمق من نوابه عن سفهه وحمقه.
واشتد الجدال في ذلك بين الأستاذ وتلميذه ولكنهما لم يصلا إلى شيء، فاحتكما في المساء إلى عبد العزيز فهمي رحمه الله، ولم يلبث هذا أن قضى لصاحبنا في غير مشقة ولا جدال. وما أسرع ما استحال الأمر كله إلى دعابة بين الأستاذين الكبيرين حول ما كان يملأ قلب عبد العزيز فهمي وعقله ويجري على لسانه من سخط على سعد، وإنكار لكل ما كان يصدر عنه من قول أو فعل، لا لشيء إلا لأنه صدر عن سعد.
وكذلك كانت صلة صاحبنا بسعد يسيرة كل اليسر في ظاهرها، عسيرة أشد العسر في حقائقها ودخائلها، جرت على الفتى شرا كثيرا، وأتاحت له مع ذلك خيرا كثيرا، وتقلبت به بين ضروب من الرضا والسخط، وفنون من الأمل واليأس، وألوان من الشدة واللين، ولكن حديث هذا كله لم يأت إبانه بعد.
فلنعد إلى صاحبنا في باريس لنراه مقبلا على حياته، غارقا في مشكلتها، مثقلا بأعبائها، يعد رسالته، ويختلف إلى دروسه، ويلقى أستاذه، ويحتمل ضروبا من الجهد في إجراء حياة أسرته على ما ينبغي أن تجري عليه من السعة اليسيرة التي تقيم الأود ولا تعرض للبأس أو الشقاء.
وأقبل الصيف وقد قدم صاحبنا رسالته إلى السوربون فرضيت عنها. ولكنه لم يرسلها إلى الجامعة، ولم تسأله الجامعة عنها، وإنما أقبل على امتحانه فنجح فيه نجاحا حسنا، وظفر بالدبلوم، وأتم بذلك أداء واجبه الذي كلفته الجامعة أن يؤديه، وآن له أن يعود إلى مصر.
ولكن عودته إلى مصر أثارت بينه وبين المدير الإنجليزي للبعثة خلافا طويلا ثقيلا سخيفا في وقت واحد؛ فقد كان نظام البعثة يقضي بأن يعود الطالب إلى مصر على نفقة الجامعة إن أتم دراسته على الخطة المرسومة له، ولكن صاحبنا لن يعود وحده، بل ستصحبه زوجه، فعلى نفقة من تعود هذه الزوج؟
هنا حار المدير الإنجليزي للبعثة، فكتب إلى الجامعة مستفتيا، وأذنت له الجامعة في أن يعيد الزوجين جميعا، ولكن الزوجين لن يستطيعا العودة إلا إذا عادت معهما أثقالهما. وكانت الكتب أهم هذه الأثقال، فهي أكثر وأضخم من أن توضع في الحقائب، وكثير منها ملك للجامعة سيستقر في مكتبتها آخر الأمر، والانتقال من باريس إلى القاهرة لا يتم بمجرد أن يتسلم المسافر بطاقات السفر في القطار والسفينة، ولكنه يحتاج إلى فضل من النفقة، فمن يؤدي هذا الفضل من النفقة؟ وكذلك احتاج مدير البعثة أن يكتب إلى الجامعة مستفتيا مرة أخرى، وليس شيء أضيع للوقت ولا أفل للجد ولا أدعى إلى السأم والضيق من الجدال الطويل المتصل حول الموضوع السخيف الذي لا خطر له ولا طائل فيه.
وكم ضاق الفتى بما كان يكتب وما كان يتلقى من الرسائل حول هذا السخف الذي لا يغني عنه شيئا، ولكنه وصل مع زوجه إلى مارسيليا عشية اليوم الذي حدد لإبحار السفينة.
ولا يكادان يصلان إلى هذه المدينة حتى يعلما، ويا ثقل ما علما! أن سفينتهما لن تبحر من الغد؛ لأن إضرابا يحول بينها وبين الإبحار، واتصل الإضراب يوما ويوما ويوما. ثم اتصل بعد ذلك حتى بلغ خمسة وعشرين يوما، وليس مع صاحبنا وزوجه وطفلهما ما ينفقان، ولا أمل في الاتصال بمدير البعثة، ولا سبيل إلى الاتصال المباشر بالجامعة، فليقترض إذن من زميله ذاك الذي سيعود معه على السفينة نفسها، والذي ينتظر مثله أن ينقضي الإضراب، والذي لا يخلو جيبه من مال كثير، لا لأنه كان غنيا، بل لأنه كان مدبرا مقتصدا أروع تدبير واقتصاد، وقد أخذ يقترض، وبدأ الزوجان حياتهما المستقلة بالدين وأي دين.
ويبلغان الإسكندرية بعد لأي وقد شق عليهما السفر، وعنف بسفينتهما البحر، ونفد ما اقترضا من المال، ولكن الفتى كان قد كتب إلى صديقه الكريم عليه المؤثر له حسن باشا عبد الرازق محافظ الإسكندرية إذ ذاك بمقدمه، فلا تكاد السفينة ترسو حتى يقبل رسل المحافظ الصديق فيستخلصوا الأسرة من الضيق والشدة والحيرة إلى السعة والدعة والاطمئنان في ذلك البيت الرائق الجميل الذي كان المحافظ قد اتخذه في رمل الإسكندرية.
وفي هذا البيت تقيم الأسرة مع الصديق الكريم رحمه الله أسبوعا قبل أن تمضي إلى القاهرة، ولكنها تؤثر الإقامة في الإسكندرية وتشفق من شظف العيش الذي ينتظرها متى هبطت من القطار، ومن لها بالقطار وصاحبنا لا يملك أجره ولا يجرؤ على أن يتحدث إلى صديقه في ذلك، ولا يستطيع أن يكتب إلى أخيه في القاهرة؛ لأن زوجه لا تكتب العربية، ولأن أخاه لا يقرأ الفرنسية!
وإن الزوجين لفي سمرهما مع المحافظ الصديق ذات ليلة، وإذا هو ينبئهما بأن قد آن لهما أن يسافرا، وآن للفتى أن يقدم نفسه إلى الجامعة التي تعرف وصوله إلى مصر وتنتظر مقدمه إليها.
وقد أعد كل شيء لسفرهما في القطار الذي يبرح الإسكندرية ضحى الغد، فإذا أصبحا وفرغا من طعام الإفطار أقبل الصديق متلطفا يقول لزوج الفتى: أتعرفين النقد المصري؟
قالت متضاحكة: لا. - هاهو ذا فادرسيه على مهل.
ثم ودعهما وانصرف مسرعا فركب عربته إلى مكتبه.
وتدرس زوج الفتى هذا النقد، فإذا الصديق قد جمع لها أوراقا تصور النقد المصري إلى العشرة من الجنيهات، وقد فهم الزوجان عن صديقهما، وأضافا في حسابهما دينا لم يؤد قط، إلى دين ما أسرع ما طالب صاحبه بأدائه ومعه فوائده على قلة ما لبث الدين في ذمتهما من الأسابيع!
ويتجاوز النهار نصفه قليلا ويبلغ القطار محطة القاهرة، وينظر الزوجان فإذا هما في غمرة من الأهل والصديق، ومنذ ذلك اليوم اتصلت أسباب حياتهما الجديدة بأسباب مصر.
الفصل التاسع عشر
رفضت أن أحضر مؤتمرا للعميان!
وبدأت حياة الزوجين في مصر متعثرة، يبسم لها الأمل فتخف وتشرق، وتعبس لها الضرورة فتثقل وتظلم. كانا ضيفا على أخي الفتى، ولكنهما كانا يعلمان أن هذه الضيافة لا ينبغي لها أن تطول، وأن ليس لهما بد من أن يستقلا بحياتهما ولا يكونا عيالا على قريب أو غريب. واستقلال الأفراد كاستقلال الجماعات، لا يهبط لهم من السماء ولا ينجم لهم من الأرض، وإنما يكتسب اكتسابا، وتبتغى إليه الوسائل، وتسلك إليه السبل التي تستقيم بأصحابها حينا وتلتوي بهم حينا آخر. وكانا يعرفان هذا كله، ويعرفان السبيل إلى استقلالهما، ولكن صاحبنا لم يكن يملك الوسائل إلى سلوك هذه السبيل؛ فهو لا يملك درهما ولا دينارا، وقد بخلت الجامعة عليه بما كانت تمنحه الناجحين من طلابها إذا عادوا إلى مصر من المكافأة ليهيئوا أنفسهم لاستقبال حياتهم الجامعية. وأكبر الظن أنها لم تبخل عليه بهذه المكافأة عن رضا واختيار، بل عن كره واضطرار، فقد رأى صاحبنا نفسه إذن مضطرا إلى أن يقترض من المال ما يتيح لزوجه وله أن يأويا إلى دار يعيشان فيها كما يريدان، لا كما يراد لهما.
وهون عليه الأمر صديق كريم هو الأستاذ محمد رمضان رحمه الله صحبه إلى شركة كانت تسمى شركة التعاون المالي، وضمنه عند هذه الشركة، فأقرضته مئة من الجنيهات واقتطعت منها الفائدة وأعطته سائرها. وظن الفتى حين وقع في يده هذا المال أنه أصبح على رأس ثروة ضخمة، فهو لم يملك مثل هذا المقدار من المال قبل اليوم. وقد أتى عليه حين من الدهر كان أقصى ما يمكن أن يقع في يده من المال لا يبلغ الجنيه غالبا ولا يتجاوزه بحال من الأحوال، ثم أتى عليه حين آخر من الدهر كان أقصى ما وصل إليه من المال لا يزيد على عشرين جنيها.
أتيح له هذا المقدار الذي كان يراه ضخما حين نجح في الجامعة بمصر، وحين نجح في السوربون بباريس، وهو اليوم يعد الجنيهات التي صارت إليه بالعشرات الكثيرة، على أنه لم يلبث أن رأى هذه العشرات تتناقص شيئا فشيئا، فقد أدى دينه إلى زميله ذاك الفتى الذي أعانه على انتظار آخر الإضراب في مارسيليا.
ومر مع زوجه بمصرف الكريدي ليونيه، ولا أدري كيف كان ذلك، فقرأت عليه زوجه إعلانا ينبئ بأن المصرف يعرض منذ اليوم للبيع سهاما في قرض فرنسي جديد. ومن مزايا هذه السهام أن القرعة تجري بينها من حين إلى حين، وأن بعض هذه السهام يمكن أن يربح مليونا من الفرنكات، وكانت قيمة هذا المليون في تلك الأيام عشرين ألفا من الجنيها. ولم يسمع الفتى هذا الإعلان حتى عزم على زوجه لتدخلن معه المصرف وليشترين لها سهما من هذه السهام، وقد أبت عليه أشد الإباء، ولكنه ألح وغلا في الإلحاح حتى استجابت له كارهة. وما هي إلا ساعة حتى رأى الفتى زوجه مسهمة في هذا القرض الفرنسي، وجعلت الآمال تداعبه، وجعل يقيس ما بقي له من مال إلى الألوف العشرين التي يمكن أن تساق إلى زوجه إن ربح سهمها بعد حين، فيأخذه شيء يشبه الدوار.
ولكن الاقتراع الأول قد أجري، وربح فيه سهم مصري لم يكن سهم زوجه، وإنما كان يملكه مظلوم باشا رحمه الله.
وما أكثر ما ضحك الزوجان حين قرأا ذلك النبأ، وحين صح لهما ما كانا يسمعان من أن المال يدعو المال، ومن أن العسر لا يدعو اليسر إلا قليلا!
وقد مرت الشهور والأعوام وجعل الفرنك ينحل ويتضاءل، وتنحل معه قيمة هذه الأسهم وتتضاءل، حتى بلغت قيمة السهم الذي اشتراه الفتى لزوجه سبعة جنيهات، ثم خمسة، ثم انتهى إلى ثلاثة، ثم انقطعت أنباؤه وذاب كما يذوب الملح في الماء. مهما يكن من شيء فقد نظر صاحبنا بعد أداء دينه وشراء سهمه إلى ما بقي له من المال، فإذا هو لا يبلغ العشرات الخمس، وإذا هو أقصر يدا وأضيق ذراعا من أن يبلغ ما يريده ويؤسس لزوجه ولنفسه دارا يرضيان عنها وعما فيها، ولا بد لهما مع ذلك من دار ومن أثاث في تلك الدار، فاستأجر لهما الأستاذ محمد رمضان دارا في حي السكاكيني، وعمدا ومعهما الأستاذ محمد رمضان إلى سقط المتاع، فاشتريا منه ما يقوم بأمر تلك الدار من الأثاث.
وما أشد ما شقيت نفس الفتى حين كان يرى زوجه تغالب دموعها وهي تختار بين ذلك السخف الذي لم يكن بد من الاكتفاء به حتى يجعل الله بعد عسر يسرا، وبعد ضيق سعة، وبعد حرج فرجا.
وقد أوى الزوجان آخر الأمر إلى دارهما، وخادعا نفسيهما عما فيها، واطمأنا إلى ما لم يكن بد من الاطمئنان إليه.
وكان صاحبنا قد صرف هذا الوقت الطويل عما كان ينبغي أن يفكر فيه منذ بلغ القاهرة . فستبدأ الدراسة في الجامعة بعد أيام، وليس له بد من أن يعد درسه الأول ويتهيأ لإلقائه في ذلك الحفل الذي سيقدمه فيه إلى المستمعين عضو من أعضاء مجلس الإدارة. وما أسرع ما عاد إلى الكتب، وعاد الصوت العذب إلى القراءة، وعاد اشتراك الزوجين في هذه الحياة الصافية النقية التي لا يكدرها المال ولا ينغصها الحرمان، والتي تسلي عن اليأس والبؤس والحرمان.
وجاء اليوم الموعود، وأقبل صاحبنا إلى قاعة الدرس، فتلقاه ثروت باشا رحمه الله، وقدمه إلى المستمعين أحسن تقديم، وألقى صاحبنا درسه، فرضي عنه الناس، ورضي عنه هو أيضا.
وعاد الزوجان من ليلتهما تلك موفورين محبورين، قد ملأ الأمل قلبيهما، وأزالا عنهما وضر ما احتملا من شقاء، وكان حظهما من السعادة والغبطة والرضا أعظم وأعمق بعد أن ألقى صاحبنا درسه الثاني.
وكان تاريخ اليونان هو الموضوع الذي اختاره صاحبنا لدروسه في هذا العام، ولا سبيل إلى الأخذ في درس التاريخ إلا إذا قدم بين يديه وصف جغرافي للبلاد التي يدرس تاريخها، فكان على صاحبنا أن يعرض الوصف الجغرافي لبلاد اليونان، وشهد الله لقد عرض هذا الوصف فملك قلوب الذين استمعوا له، وملأ نفوسهم رضا عنه وإعجابا به، وهو لم يصنع في إعداد هذا الدرس إلا أن سمع لزوجه وأطاع.
أرادت زوجه أن تفهمه الوصف الجغرافي لبلاد اليونان، فأخذت قطعة من الورق وصاغتها في شكلها على نحو ما صاغت الطبيعة تلك البلاد، ثم أرادت أن تصور ما في هذه البلاد من الجبل والسهل الذي يضيق حينا ويتسع حينا، ومن البحار التي تأخذها من أكثر جهاتها. فصورت ذلك بارزا في هذه القطعة من الورق ثم أخذت يد الفتى وجعلت تمرها على هذه الورقة، بعد أن افترضت معه أنها تبدأ من الجنوب وتمضي إلى الشمال، وتنحرف مرة إلى الشرق ومرة إلى الغرب، لتبين له مواقع البحر، ولتبين له الأماكن التي تضيق حينا وتتسع حينا، والتي كانت تقوم فيها المدن القديمة، وما زالت به حتى فهم ذلك حق الفهم وأعاده عليها فاطمأنت إليه.
وكان أول ما عجب له الموظفون في الجامعة أن صاحبنا طلب قبل الدرس أن تعرض الصورة الجغرافية لبلاد اليونان في قاعة الدروس. سمع الموظفون ذلك فأنكروه، ولكنهم أضمروا إنكارهم وأجابوه إلى ما أراد، وأقبل الفتى على مجلسه فأنبأ المستمعين بأنه سيصف لهم بلاد اليونان من جنوبها إلى شمالها، وليس عليهم إلا أن يتبعوه بأبصارهم على هذه اللوحة المصورة. ثم أخذ في الحديث فلم يلجلج ولم يتردد، والطلاب يسمعون بآذانهم ويتبعون بأبصارهم حتى انقضت ساعة الدرس وقد أتم الفتى ما أراد من الوصف الجغرافي لبلاد اليونان.
وكان ثروت باشا حاضرا هذا الدرس، فلما تفرق الطلاب دعا الفتى إليه فأشبعه ثناء وتقريظا وتشجيعا.
ولم تمض أيام بعد تلك الليلة السعيدة حتى أقبل على دار الفتى ذات ضحى شاب من موظفي القصر، فأنبأه بأنه قد أقبل يدعوه للقاء رئيس الديوان.
قال الفتى: وماذا يريد مني رئيس الديوان السلطاني وأنا لم أعرفه، وما أظنه رآني قط؟
قال الموظف: لا أدري، ولكنه أمرني أن أدعوك للقائه، وأن أصحبك إلى مكتبه.
وبعد ساعة كان الفتى عند رئيس الديوان شكري باشا رحمه الله فرأى رجلا سمح النفس، عذب الحديث، خفيف الظل، له مشاركة في الأدب العربي، ولكن في الأدب العربي الذي كان الناس يحبونه في القرن الماضي، فهو كان يتحدث عن الجناس والطباق وحسن الفكاهة وبراعة التورية، ويروي لكل هذا أمثلة من الشعر المتأخر لم يحفظ الفتى منها إلا بيتا واحدا؛ لأنه لم يكد يسمعه حتى غلبه الضحك على ما كان ينبغي له من الأدب والوقار في ذلك المجلس المهيب، وضحك شكري باشا لضحك الفتى، وقال في نغمة لا تخلو من حزن: كان هذا البيت يملؤنا رضا وإعجابا وها أنتم أولاء شباب اليوم تضحكون وتتندرون به وبأمثاله، والبيت هو:
أخذ الكرا مني وأحرمني الكرى
بيني وبينك يا ظلوم الموقف
ويجب أن تقرأ الكرا مكسور الكاف في أول البيت وهو الأجر ومفتوح الكاف في آخر الشطر الأول وهو النوم، وأن تعرف أن «الموقف» هو ذلك المكان الذي كانت تجتمع فيه الحمر لتحمل إلى حيث يريدون من المدينة.
والشاعر يريد أن يقول: إن صاحب الحمار قد أخذ منه الأجر، واشتط عليه فيه، فذاد عنه النوم، ثم هو يشكو من ظلم صاحب الحمار، ويجعل موقف الحساب يوم القيامة بينه وبينه لينصفه الله منه.
وظاهر أن الجناس بين الكرا والكرى والتورية بالموقف لموقف الحمر هما مصدر الجمال الذي فتن رئيس الديوان وأضحك الفتى؛ ولا عليك من هذه الهمزة التي زيدت في حرمني فقد دعت إليها ضرورة الوزن، والضرورات تبيح المحظورات!
وطال مجلس الفتى عند رئيس الديوان حتى إذا أقبل بعض الزائرين، استأذن في أن ينصرف، فأذن له الرئيس وهمس في أذنه: إن مولانا يحب أن يراك.
ولم يعرف صاحبنا كيف يقول، ولكنه لم يمس من ذلك اليوم حتى عاد إليه موظف القصر يحمل إليه كتابا من كبير الأمناء بأن المقابلة التي التمس التشرف بها قد حدد لها تمام الساعة الحادية عشرة من صباح غد.
وسمع الفتى ذلك الكتاب فلم يملك نفسه أن قال: ولكني لم ألتمس شيئا.
قال موظف القصر في صوت يجري فيه الخوف: لا تقل هذا، فمراسم التشرف بمقابلة مولانا تقتضي دائما أن تطلب المقابلة.
وسكت الموظف قليلا ثم قال: هل عندك سترة الردنجوت؟
قال الفتى: نعم.
قال الموظف: ما شاء الله! كنت أريد أن أعيرك سترتي.
قال الفتى: لقد اتخذت هذه السترة حين كنت أتهيأ للزواج.
ولم تتم الساعة العاشرة من صباح غد حتى أقبل موظف القصر ذاك رحمه الله فصحب الفتى إلى حيث أسلمه لأحد الأمناء الذي أخذ يحدثه حتى حان موعد المقابلة، فصحبه إلى مكتب السلطان، وخف السلطان للقائه كأحسن ما يكون اللقاء، ثم أجلسه غير بعيد من المائدة التي كان يجلس إليها، وتلطف له في الحديث، وشمله بعطف كثير، وسأله: ماذا درس في فرنسا؟ وماذا نال من الدرجات الجامعية؟ فلما أنبأه الفتى بما درس وما نال من الدرجات أظهر الرضا، وأثنى على الفتى ثناء حسنا لأنه درس اللغتين القديمتين، ثم قال مترفقا: تعلم أني كنت رئيس الجامعة حين كنت أنت طالبا فيها
فأطرق الفتى ولم يجب، قال السلطان: إنما ذكرتك بذلك لأدعوك إلى أن تلجأ إلي كلما ضقت بشيء أو احتجت إلى عون.
واضطرب لسان الفتى بالشكر، ولكن السلطان دق الجرس ووقف، فوقف الفتى، وأقبل الأمين فصحبه إلى خارج الغرفة، وأسلمه إلى موظف القصر ليرده إلى داره.
وكان الفتى مضطربا قبل أن يلقى السلطان لقصة كانت له معه حين كان رئيسا للجامعة، وكان صاحبنا طالبا فيها.
انعقد في مصر مؤتمر للمكفوفين في سنة من تلك السنين، واهتم له سكرتير الجامعة أحمد زكي «بك»، فألقى فيه حديثا وقدم إليه كتابا عربيا قديما ينبئ فيما يظهر بأن العرب قد سبقوا إلى اختراع الكتابة البارزة.
وفي ذات مساء كان الفتى يسعى إلى غرفة الدرس، وإذا رجل يأخذ بمجامع جبته وقفطانه ويقول له في لغة ملتوية: تعرف أن في مصر الآن مؤتمرا منعقدا يبحث في شئون العميان!
قال الفتى في عنف: وما أنا وذاك؟!
قال الرجل: تلقي فيه خطبة.
قال الفتى: لن ألقي شيئا.
فخلاه الرجل ومضى وهو يقول: مش فاهم، مش فاهم.
ولم يكد الفتى يبلغ غرفة الدرس حتى أحاط به ثلاثة أو أربعة من أعضاء مجلس إدارة الجامعة وجعلوا يسألونه: أتعرف من حدثك؟
قال الفتى: لا أعرفه، ولا يعنيني أن أعرفه.
قال قائل منهم وهو يضع يده على كتف الفتى: إنه أفندينا الأمير! إنه رئيس الجامعة، فلا أقل من أن تجيبه في أدب حين يتحدث إليك.
وهز الفتى رأسه ولم يقل شيئا، فتفرقوا عنه، وإن أحدهم ليقول: «دعوه فإنه شيخ!»
ذكر صاحبنا هذه القصة في طريقه إلى القصر فاضطرب لها، فلما ذكره السلطان بأنه كان رئيسا للجامعة وقع في نفسه أن السلطان يريد أن يذكره بتلك القصة، فكاد الاضطراب يغلبه على أمره لولا أن السلطان رده إلى الهدوء بما مضى فيه من حديثه ذاك.
ولم يمض وقت طويل حتى تعقدت الأمور بين الجامعة وبين صاحبنا، فهو قد تبين أن زوجه لا تستطيع أن تمنحه من وقتها كل ما يحتاج إليه للقراءة وإعداد الدروس، ولا تستطيع أن تصحبه دائما إلى الجامعة، ولا أن تخرج معه كلما أراد الخروج، فليس لها بد من أن تعنى بصبيتها ومن أن تقوم على دارها، وإذن فهو محتاج إلى رفيق يقرأ له أكثر النهار، ويغدو معه ويروح كلما أراد غدوا أو رواحا، ولا سبيل إلى أن يقتطع أجر هذا الرفيق من مرتبه، وكان ثلاثة وثلاثين جنيها يقتطع منه في كل شهر ما يؤدي به بعض دينه لشركة التعاون، فطلب إلى الجامعة أن تزيد في مرتبه ما يعينه على أجر ذلك الرفيق، وأبت عليه الجامعة ما طلب كأنها ضاقت بكثرة مطالبه، فاستقال في لهجة شديدة غضب لها مجلس الإدارة أشد الغضب.
وقال سكرتير الجامعة لصاحبنا ذات مساء: إن المجلس مزمع أن يقبل استقالتك وأن يطالبك بأن ترد على الجامعة ما أنفقت عليك في أثناء إقامتك في فرنسا.
وسمع صاحبنا ذلك فضاق به، واكتأب له، وراح إلى أهله محزونا كاسف البال؛ فلما قص الأمر على زوجه هونت عليه الصعب، ويسرت عليه العسير، وأقنعته بأنه كغيره من الناس يخطئ ويصيب، وبأنه أخطأ حين أسرع إلى الاستقالة، والرجوع إلى الصواب خير من الإصرار على الخطأ، وأسرف حين أساء إلى الجامعة التي أحسنت إليه، والرجوع إلى القصد خير من التمادي في الإسراف، فليس عليه بأس أن يسترد استقالته، وليس عليه بأس أن يعتذر من لهجته تلك القاسية.
وأصبح صاحبنا فاسترد استقالته راغما، واعتذر إلى الجامعة راغما أيضا، واقتطع من مرتبه منذ ذلك اليوم أجر ذلك الرفيق الشيخ الذي كان يقرأ له ويغدو معه ويروح.
ولم يعلم الفتى كيف ارتفع أمر هذه الخصومة بينه وبين الجامعة إلى السلطان، ولكن موظف القصر يزوره ذات مساء ويقول له في صوت متضاحك: لقد التمست التشرف بمقابلة عظمة السلطان، وقد حدد لهذه المقابلة منتصف الساعة الثانية عشرة من الغد.
ويدفع إليه كتابا من كبير الأمناء بهذا المعنى، فإذا انصرف عنه قال: سأصحبك غدا إلى القصر.
وتلقى السلطان صاحبنا لقاء حسنا، وتحدث إليه فأطال الحديث ، ثم قال له فجأة: لقد بلغني نبأ استقالتك من الجامعة، وقد أحسنت بالعدول عن هذه الاستقالة، ولا بد من صبر طويل واحتمال كثير من الجهد، فبين هؤلاء الناس وبين حسن الذوق وقت ما زال طويلا، ولكن اذكر دائما ما قلته لك حين لقيتك في المرة الأولى.
ثم دق الجرس ووقف، فوقف الفتى، وأقبل الأمين فقاده إلى خارج الغرفة.
وشعر صاحبنا بأن عليه منذ اليوم للسلطان دينا يجب أن يؤدى، ولم تمض شهور حتى كان قد أتم أول كتاب أصدره بعد عودته من أوروبا: «صحف مختارة من الشعر التمثيلي اليوناني»، فأهداه إلى السلطان، ورفعه إليه في مقابلة ثالثة التمسها هو وأجيب إليها، وظن أنه قد أدى إلى السلطان حقه وشكر له عطفه عليه وبره به، ولكن السلطان كان يرى شيئا آخر، وينتظر شكرا آخر غير إهداء كتاب مهما يكن موضوعه.
الفصل العشرون
إيمان بالثورة!
لم يكن صاحبنا قد أتم العقد الثالث من عمره حين عاد من أوروبا وأصبح أستاذا في الجامعة، ولكنه كان يعتقد أن تجاربه الكثيرة التي بلا حلوها ومرها في أثناء إقامته في فرنسا قد تجاوزت به هذه السن، ونيفت به على الأربعين؛ فهو قد أنفق في فرنسا أعوام الحرب العالمية كلها، وهو لم يعش تلك الأعوام لاهيا عما كان يجري حوله من الأحداث، ولا غافلا عما كان في هذه الأحداث من عبر وعظات. وهو لا يذكر أنه صرف عن أحداث الحرب وأصدائها في الأمة الفرنسية وغيرها من الأمم المحاربة يوما من الأيام. كان يقرأ الصحف الفرنسية معنيا بقراءتها، وكان يطيل التفكير فيما يقرأ.
وهو لم يعد إلى مصر إلا بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وامتاز المنتصر من المنهزم، وظهرت آثار الانتصار عند الغالبين، وآثار الهزيمة عند المغلوبين، وثلت عروش كان الناس يقدرون لها الخلود، وذلت شعوب كان الناس يقدرون لها سلطانا لا يزول.
وفي أثناء تلك الحرب كانت ثورة لم يعرف التاريخ لها نظيرا إلا الثورة الأمريكية والفرنسية في القرن الثامن عشر. وقد حاولت هذه الثورة أن تحقق نظاما كان الناس يقرءونه في الكتب، ويعتقدون أنه من هذه المثل البعيدة التي لا سبيل إلى تحقيقها.
كل ذلك عرفه صاحبنا وتتبع أنباءه وآثاره في عناية لم تكن أقل من عنايته بالدرس والتحصيل، وهو في هذا الدرس وهذا التحصيل قد قرأ وسمع أساتذته يعرضون ويفسرون تاريخ الأمم القديمة والحديثة، وما اختلف عليها من الأحداث التي تطورت لها نظم الحكم على اختلاف العصور. وكان شديد التأثر بدروس الأستاذ دوركيم في علم الاجتماع، وكان الأستاذ دوركيم قد أنفق عاما كاملا يدرس لتلاميذه مذهب الفيلسوف الفرنسي سان سيمون الذي يقوم على أن أمور الحكم الصالح المنتج الذي يحقق العدل، ويكفل رقي الشعب، ويتيح للإنسانية أن تتقدم إلى أمام، يجب أن تصير إلى العلماء؛ لأنهم هم الذين يستطيعون أن يلائموا بين نتائج العلم على اختلافها وبين حاجات الناس وطاقتهم واستعدادهم للتطور والمضي في سبيل الرقي.
فليس غريبا أن يعود صاحبنا إلى وطنه مؤمنا بالثورة التي نشبت فيه، ومؤمنا في الوقت نفسه بأن عبئا خطيرا من أعباء هذه الثورة سيقع على العلماء والمثقفين من أبناء هذا الوطن. فهم قد عرفوا تجارب الأمم، وعرفوا حقائق العلم، واستطاعوا أن يميزوا بين ما يمكن من الأمر وما لا يمكن، وهم القادرون على أن يقودوا الشعب إلى الخير، ويسلكوا به قصد السبيل، ويعصموه من التورط فيما تورطت فيه شعوب كثيرة فلم تجن منه إلا شرا.
وكان صاحبنا يقدر أن الساسة الذين يقودون الثورة سيختلفون في يوم قريب أو بعيد، ويعتقد أن العلماء والمفكرين سيكونون هم الذين يحققون التوازن بين الساسة حين يختلفون، وسيقضون بينهم فيما يضطرون إليه من الاختلاف.
كان مؤمنا بهذا، وكان مستيقنا أن العلماء والمفكرين لن ينحازوا إلى الأحزاب، ولن يكونوا كغيرهم من عامة الناس، الذين يقادون ولا يقودون. ولم يكن يقدر أن سيشارك في السياسة من قرب أو بعد، ولكنه لم يكن يتردد في أنه لن يحجم عن أداء الواجب، وقول كلمة الحق إن اضطر إلى ذلك غير حاسب للظروف ولا للعواقب حسابا.
على أنه لم ينفق في مصر شهورا حتى تبين أنه كان واهما في كل ما قدر، وأن العلماء والمفكرين ناس من الناس يتأثرون بالجماعات التي يعيشون فيها، فيخطئون مثلها ويصيبون. بل هم قد يرون الخطر ويعمدون إليه متابعين للجماعات التي يذهبون مذهبها أو يرون رأيها، وهنالك تبين أن ذلك الشاعر الجاهلي إنما صور حقيقة خالدة من حقائق الجماعات حين قال:
أمرتهمو أمري بمنعرج اللوى
فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
فلما عصوني كنت منهم وقد أرى
غوايتهم أو أنني غير مهتدي
وهل أنا إلا من غزية إن غوت
غويت وإن ترشد غزية أرشد
وكان أول ما لاحظ بعد أن أقام وقتا قصيرا في مصر، أن الأمر كان مختلفا بين الذين كانوا يرون أنفسهم علماء ومفكرين وبين عامة الناس والشباب منهم خاصة.
فأما أولئك فكانوا يؤمنون بالثورة، ولكنهم كانوا يؤمنون بأنفسهم أيضا؛ وهم من أجل ذلك لا ينظرون إلى الأحداث ولا يشاركون فيها خالصين لها في غير تردد، وإنما كانوا يقدرون لأرجلهم مواضعها قبل الخطو، ولا يتحرجون من نقد الساسة والقادة والتندر بهم حين يقولون وحين يفعلون، وكان هذا الموقف يعرضهم للانقسام على أنفسهم ومشاركة الساسة في الاختلاف حين يتورطون فيه.
وأما عامة الناس - والشباب منهم خاصة - فكانوا مؤمنين بالثورة، قد أخلصوا لها نفوسهم وقلوبهم وأيديهم أيضا، لا يفكرون في عاقبة ولا يخافون هولا مهما يكن. وهم كانوا يعرضون صدورهم لرصاص الإنجليز، ويغامرون بحياتهم مغامرة رائعة على حين كان بعض الساسة القائمين بالحكم في تلك الأيام لا يحفلون بهم ولا بما يلقون، وإنما يصانعون الإنجليز حينا، ويصانعون القصر حينا آخر، ويسخرون من أولئك الذين كانوا ينتظرون في باريس أن تفتح لهم أبواب وزارات الخارجية أو يحاولون في لندن أن يصلوا مع الإنجليز إلى كلمة سواء.
ولم يكد الإنجليز يعلنون زهدهم في الحماية وميلهم إلى إلغائها وإقامة نظام خير منها، ولم تكد وزارة الثقة - كما كانت تسمى في تلك الأيام - تنهض بأعباء الحكم، ولم يكد سعد رحمه الله يعود إلى مصر، حتى نجم الخلاف بين الوزارة وبين الوفد حول المفاوضات؛ من الذي يجريها؟!
أتجريها الوزارة لأنها تمثل السلطان الشرعي النظامي؟
أم يجريها الوفد لأنه يمثل الشعب الثائر؟
وكان الغريب من أمر هذا الخلاف أنه كان يتصل بالمظاهر والصور لا بالوقائع وحقائق الأمر، كان أعضاء الوزارة وأعضاء الوفد يؤمنون جميعا بحق مصر في الاستقلال، وبأن هذا الاستقلال يجب أن يستخلص من الإنجليز بالمفاوضة الحرة؛ إيثارا للسلم ورغبة في العافية وبخلا بالدماء على أن تراق وبالنفوس على أن تزهق قبل أن تستنفد وسائل السلم. ولكنهم على هذا الاتفاق والإجماع كانوا يختلفون في مظاهر هذه المفاوضة؛ لأن من يجريها سيتاح له تحقيق الاستقلال إن قدر له النجاح.
وكذلك انقسم المصريون وثارت بينهم فتنة منكرة جعلت بأسهم بينهم شديدا.
ونظر صاحبنا فإذا العلماء والمفكرون كغيرهم من الناس قد انقسموا إلى فريقين: فريق منهم مال إلى الوفد وقال مع القائلين: «لا رئيس إلا سعد.» وفريق آخر مال إلى الوزارة وقال مع القائلين: «إنما المفاوضات لمن ولي الحكم.» ثم نظر صاحبنا فإذا هو كغيره من عامة الناس، وإذا هو مع الفريق الذي مال إلى الوزارة ورئيسها عدلي باشا رحمه الله.
وما أسرع ما اضطرمت الفتنة حتى مس لهبها كل نفس وكل عقل وكل ضمير، وإذا الوفد يتمنى الإخفاق للوزارة في مفاوضاتها، ويدبر لهذا الإخفاق، وإذا أتباع الوفد يجهرون في غير تحفظ بدعائهم ذاك البغيض: «الحماية على يد سعد خير من الاستقلال على يد عدلي»!
وإذا صاحبنا ينفق أقصى ما كان يملك من العنف في مهاجمة هؤلاء الوفديين الذين اتخذوا من بغضهم لعدلي وأصحابه، ومن حرصهم على رياسة المفاوضات دينا، وإذا هو يكتب ذات يوم في صحيفة «المقطم» ساخرا من السعديين: «يقول الوفديون: لا رئيس إلا سعد كما يقول المسلمون: لا إله إلا الله.»
وقد بلغ الشر أقصاه بين الفريقين حتى انتهى إلى إخفاق المفاوضات، ولم ينزل الإنجليز لعدلي عن الاستقلال وكثرة المصريين لا تؤيده بل لا تحبه بل تبغضه وتبغض أصحابه أشد البغض وأنكره.
ويعود عدلي مخفقا، فيفرح بإخفاقه الوفد وأتباعه ، ويزعم أصحاب عدلي أن صاحبهم قد كان أبيا كريما قد ثبت للإنجليز فلم ينزل لهم عن حق الوطن، ولم يقبل منهم الدنية، وعاد أشم مرفوع الرأس.
ويرى صاحبنا نفسه ذات يوم في محطة القاهرة مع المستقبلين لعدلي وهو يصيح مع الصائحين: «ليحي عدلي باشا!»
وقد حمل العدليون صاحبهم على الأكتاف حتى وضعوه في سيارته، ولا يكاد المستقبلون للمخفق العظيم يخرجون من المحطة حتى تنهال عليهم اللعنات ويصب عليهم الاستهزاء صبا، ثم يقذفون بالحجارة والعصي، ويصاب صاحبنا ببعض الأذى، ولولا أن رفيقه كان ماهرا لبقا لتعرض لشر كثير، ولكن رفيقه انعطف به إلى حارة من الحارات ثم نفذ به إلى حيث أمن الحصى والحجارة والشتم، وأعاده إلى داره موفورا مكدودا مع ذلك.
وينفى سعد بعد إخفاق عدلي بقليل، وينكر عدلي هذا الإخفاق، ويلح في قبول استقالته، ويرى أصحاب عدلي أن نفي سعد إهانة للوطن كله، وتوشك الكلمة أن تجتمع، ويوشك المصريون أن يصبحوا يدا واحدة على خصمهم من الإنجليز، ولكن العصا لا تلبث أن تنشق، والخلاف لا يلبث أن يعود كأعنف ما كان، لم يغير أحد الفريقين من رأيه ولا من خطته شيئا.
يقول العدليون: إن حب الوفد للرياسة قد أضاع المفاوضات!
ويقول السعديون: إن ازدراء عدلي للشعب وممثله قد أضاع الاستقلال، ويوشك الاستقلال أن ينسى وتنصرف عنه النفوس بفضل هذه الفتنة المظلمة التي كان المصري فيها يخرج يده فلا يكاد يراها.
على أن تصريح الثامن والعشرين من شهر فبراير سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة وألف يرد إلى العدليين شيئا من ثقة وكثيرا من أمل، فقد ظفر ثروت باشا رحمه الله ببعض الحق، وشيء خير من لا شيء!
وقد أتيح لمصر أن تدبر أمورها بنفسها، وأتيح للشعب أن يكون له دستور، وأن يحيا حياة ديموقراطية كريمة ... وأصبح السلطان ملكا، وأصبح لمصر أن ترسل ممثليها السياسيين إلى البلاد الأجنبية بعد أن عادت إليها وزارة الخارجية التي ألغاها الإنجليز حين أعلنوا الحماية.
وكل هذا يتيح لمصر مظاهر الاستقلال وشيئا من حقائقه مهما يكن قليلا فإن له ما بعده، ولكن السعديين كانوا ينكرون هذا التصريح ويرونه شرا ونكرا ويرون قبوله جريمة وإثما.
والخلاف يمضي في طريقه لا تهدأ ثورته ولا تزداد ناره إلا اضطراما، وصاحبنا ماض مع أصحابه في إذكاء هذه النار لا يعنيه أن يرضى عنه الراضون أو يسخط عليه الساخطون، وإنما هو مقتنع بأن شيئا خير من لا شيء، وبأن القليل صائر إلى الكثير، وبأن هذه المظاهر ستصبح في يوم من الأيام حقائق إن عرف المصريون كيف يحزمون أمورهم وكيف يجمعون كلمتهم وكيف يحسنون انتهاز الفرص.
وقد أخذ ثروت باشا رحمه الله يهيئ لوضع الدستور فألف لجنة الثلاثين، وأخذت هذه اللجنة في عملها، ولكن شرا آخر يظهر في أفق مصر.
فهذه اللجنة قد أخذت عملها على أنه جد، وجعلت تضع دستورا ديموقراطيا يخول الشعب من الحقوق ما لا يريد القصر أن ينزل عنه، وإذا سلطان الأمس وملك اليوم يمكر بالوزارة واللجنة جميعا، وإذا الخلاف يظهر بين القصر وبين ثروت باشا، وتكون ديموقراطية الدستور هي أصل هذا الخلاف. وصاحبنا ماض في تأييد الدستور الديموقراطي غير ملق بالا إلى القصر ولا إلى صاحب القصر الذي أحسن لقاءه ومنحه كثيرا من العطف والبر والتشجيع.
وفي ذات يوم ينبئ ثروت باشا صاحبنا بأن القصر ساخط عليه، وبأنه يحاول أن يصلح الأمر.
قال صاحبنا متضاحكا: فأصلح الأمر بين الوزارة وبين القصر إن وجدت إلى ذلك سبيلا، فهذا أجدر بعنايتك من إصلاح الأمر بين القصر وبيني!
ولم يستطع ثروت باشا أن يصلح الأمر بين القصر والوزارة، ولا بين القصر وصاحبنا، وإنما استقال.
ونظر صاحبنا فإذا هو بين عدوين لا يدري أيهما أنكى له من صاحبه.
يراه السعديون مارقا مالأ المارقين.
ويراه القصر كافرا بالنعمة جاحدا للجميل.
ويرى هو أنه قد أرضى ضميره وأدى واجبه وليكن بعد ذلك ما يكون.
وكذلك غرق صاحبنا في السياسة إلى أذنيه، وكان جديرا أن يفرغ للعلم والتعليم وألا يفكر إلا في طلابه وكتبه، ولكن بعض الظروف تحيط بالشعوب فتجعل الحيدة بالقياس إلى بعض أبنائها إثما لا يغتفر، ولا تمحى آثاره.
وكان صاحبنا يرى الحيدة في ذلك الوقت جبنا ونفاقا. والمهم أنه غرق في السياسة أو احترق بنارها، ولم يكن له بد من أن يحتمل تبعات هذا الغرق أو هذا الحريق، وهل كانت حياته كلها منذ تلك الأيام إلا نتيجة طبيعية لإقدامه على السياسة وغرقه فيها واصطلائه نارها؟
كل ما لقيه بعد ذلك في حياته من خير أو شر، ومن عرف أو نكر، ومن رضا أو سخط، لم يكن إلا أثرا من آثار تلك السياسة التي أقدم عليها غير حاسب لأعقابها ونتائجها حسابا. وعلى كثرة ما لقي من أهوال السياسة وما احتمل من أثقالها، وما تعرض لسخط المتطرفين حينا والمعتدلين حينا آخر، لم ينكر من سيرته شيئا ولم يندم على فعل فعله أو قول قاله.
وكثيرا ما كان الناس من صديقه يلومونه على أنه عرض نفسه لسخط هذه الفئة أو تلك، فلم يكن يزيد على أن يهز رأسه ويرفع كتفيه ويجيب هؤلاء الصديق بما كان يديره بينه وبين نفسه دائما: لو استؤنف الأمر من حيث ابتدأ لاستأنف سيرته التي سارها، لم يغير منها شيئا ولم ينكر منها قليلا أو كثيرا؛ ذلك لأنه لم يستجب فيما قال أو فعل إلا لما كان يدعوه إليه ضميره من الإقدام في غير تهيب ولا وجل، ولا سيما حين يبلغ الشر أقصاه وتنتهى الفتنة إلى غايتها.
ولقد رأى نفسه ذات يوم وليس بينه وبين المحنة إلا خطوة إلى أمام، وليس بينه وبين العافية إلا خطوة إلى وراء، وأن أصدقاءه المحبين له العاطفين عليه الذين لم يكونوا يملكون له في تلك الأيام إلا المشورة والنصح، ليلحون عليه في أن يؤثر العافية، ولو وقتا قصيرا، فلا يسمع لمشورتهم ولا يحفل بإلحاحهم، وإنما يخطو خطوته تلك إلى أمام، فيلقي بنفسه بين ذراعي وجبهة الأسد كما يقول الشاعر القديم، وما أمض ما وجد ووجد أهله معه من ألم! وما أمر ما ذاق وذاق أهله معه من شقاء! ولكنه كان يستحب تلك الشدة الشديدة والقسوة القاسية على العافية واللين.
كان يعرف نفسه حين يشقى في سبيل ما يرى أنه الحق، وينكرها أشد الإنكار بل يبغضها أشد البغض إذا نعم بالخفض واللين؛ لأنه صانع أو داجى أو جهر بغير ما يسر أو آثر رضا السلطان على رضا الضمير، وكان شعاره دائما الشعار الذي كان يبادي به من يخاصمه، كما كان يبادي به من يغريه قول أبي نواس:
وما أنا بالمشغوف ضربة لازب
ولا كل سلطان علي أمير!
Page inconnue