ثم قال مجيبا سؤال با سين: «ليس كافيا، ليس كافيا على الإطلاق. ما زال هناك الكثير لنفعله. لكن هذه هي البداية المناسبة. أصغ.»
ذهب إلى السور ليبصق مضغة قرمزية من التانبول، ثم شرع يذرع الشرفة بخطوات قصيرة، واضعا يديه خلف ظهره، بينما جعله الاحتكاك بين فخذيه الهائلين يتمايل قليلا. وكان يتحدث أثناء سيره بالرطانة الركيكة للمكاتب الحكومية؛ مزيج من الأفعال البورمية والعبارات الإنجليزية المبهمة قائلا: «فلنتناول هذه المسألة من البداية. سوف نشن هجوما منظما على الدكتور فيراسوامي، الجراح المدني ومأمور السجن. سوف نشهر به، وندمر سمعته ونقضي عليه إلى الأبد في النهاية. ستكون هذه العملية دقيقة بعض الشيء.» «أجل يا سيدي.» «لن يكون هناك خطر، لكن لا بد أن نعمل بتأن. فلسنا بصدد كاتب بائس أو رجل شرطة. إننا بصدد مسئول كبير، وحين يكون المسئول كبيرا، حتى إن كان هنديا، يختلف الأمر عما إذا كان كاتبا. كيف السبيل للقضاء على كاتب؟ الأمر سهل؛ اتهام، عشرون شاهدا، ورفت ثم سجن. لكن لن يجدي ذلك في هذه الحالة. لذلك سيكون سبيلي الرفق، ثم الرفق، ثم الرفق. من دون فضيحة، والأهم من ذلك، من دون تحقيق رسمي. يجب عدم توجيه اتهامات يمكن الرد عليها، لكن لا بد أن أرسخ في ذهن كل أوروبي في كياوكتادا أن الدكتور شخص رذيل. فبماذا أتهمه؟ لن تفي الرشاوى بالغرض؛ فالأطباء لا يحصلون على رشاوى مطلقا. ماذا إذن؟»
قال با سين: «ربما بإمكاننا الترتيب لوقوع تمرد في السجن. فيلقى باللوم على الدكتور بصفته المأمور.» «لا، هذا أمر خطير جدا. لا أريد أن يطلق حراس السجن النار من بنادقهم في كل اتجاه. كما أنه أمر مكلف. من الجلي إذن أن الاتهام يجب أن يكون عدم الولاء ... الوطنية، الترويج للشغب. لا بد أن نقنع الأوروبيين أن الدكتور مؤمن بأفكار معادية لبريطانيا ولا يحمل لها الولاء. هذا أسوأ كثيرا من الرشاوى؛ فهم يعلمون أن المسئولين المحليين يتقاضون الرشاوى. لكن لندعهم يشكون في ولائه ولو للحظة واحدة، وسوف يهلك.»
قال با سين معترضا: «سيكون هذا شيئا من الصعب إثباته؛ فالدكتور مخلص جدا للأوروبيين، ويثور غضبه عند التفوه بأي شيء ضدهم. سوف يعلمون الحقيقة، ألا تعتقد ذلك؟»
قال يو بو كين باطمئنان: «هراء، هراء. لا يوجد أوروبي يكترث البتة للأدلة. ما دام للرجل وجه أسود، يكون الشك دليلا. ستصنع بعض الخطابات المجهولة المصدر العجائب. إنها مسألة مثابرة فحسب؛ توجيه الاتهام، والاستمرار في ذلك؛ ذلك هو السبيل مع الأوروبيين. خطاب مجهول المصدر تلو الآخر، إلى كل أوروبي تباعا. وحين تثور شكوكهم تماما ...» أخرج يو بو كين ذراعه القصيرة من وراء ظهره وطرقع بالإبهام والوسطى. وأردف قائلا: «سنبدأ بهذا المقال في ال «بورميز باتريوت». سيستشيط الأوروبيون غضبا حين يرونه. حسنا، والخطوة التالية ستكون إقناعهم أن الطبيب هو من كتبه.» «سيكون هذا عسيرا وهو لديه أصدقاء بين الأوروبيين، وكلهم يذهبون إليه حين يمرضون. لقد عالج السيد ماكجريجور من الانتفاخ هذا الشتاء. أعتقد أنهم يعتبرونه طبيبا ماهرا جدا.» «كم أنت قاصر عن فهم العقلية الأوروبية يا كو با سين! إذا كان الأوروبيون يذهبون إلى فيراسوامي فإنما هذا لأنه لا يوجد أي طبيب آخر في كياوكتادا. لا يوجد أوروبي لديه ذرة من ثقة في شخص أسود الوجه. حسبنا إرسال عدد كاف من الخطابات المجهولة المصدر. قريبا سأعمل على الأمر حتى لا يتبقى له أصدقاء.»
قال با سين: «لدينا السيد فلوري، تاجر الأخشاب.» (كان ينطق الاسم «السيد بورلي».) «إنه صديق حميم للطبيب. أراه يذهب إلى منزله كل صباح حين يكون في كياوكتادا، حتى إنه دعاه مرتين إلى العشاء.» «ها قد أصبت الآن. ما دام فلوري صديقا للطبيب من الممكن أن نتأذى؛ فلا يمكنك إيذاء شخص هندي لديه صديق أوروبي . فهذا يعطيه ... ما تلك الكلمة التي لديهم ولع شديد بها؟ ... وجاهة. لكن سيتخلى فلوري عن صديقه سريعا جدا حين تبدأ المتاعب؛ فهؤلاء الناس لا يكنون مشاعر الوفاء لأهل البلد. كما تصادف أنني أعلم عن فلوري أنه جبان، وأستطيع أن أتعامل معه. أما أنت يا كو با سين فدورك أن تراقب خطوات السيد ماكجريجور. هل كتب خطابات مؤخرا إلى المفوض؛ أقصد سرا؟» «لقد كتب خطابا منذ يومين، لكن حين فتحناه على البخار وجدناه غير ذي أهمية.» «حسنا، سنعطيه شيئا ليكتب عنه. وبمجرد أن تساوره الشكوك في الطبيب، سيحين الوقت لتلك المسألة الأخرى التي حدثتك عنها. وبهذا سوف ... ماذا يقول السيد ماكجريجور؟ نعم، «نصيب طائرين بحجر واحد.» بل سربا كاملا من الطيور. ها ها!»
كانت ضحكة يو بو كين عبارة عن صوت بقبقة مقزز يتصاعد من أعماق معدته، كأنه يتأهب للسعال؛ إلا أنها كانت مرحة، بل وطفولية. لم ينبس بالمزيد عن «المسألة الأخرى»، التي كانت شديدة السرية لمناقشتها في الشرفة. حين رأى با سين أن اللقاء قد بلغ نهايته، هب واقفا وانحنى فصار مثل مسطرة قابلة للطي.
وقال: «هل هناك شيء آخر تود أن أفعله يا سيادة القاضي؟» «احرص على أن يحصل السيد ماكجريجور على نسخته من «بورميز باتريوت». ومن الأفضل أن تخبر هلا بي بأن يقول إن لديه نوبة دوسنتاريا ويبتعد عن المكتب. فسوف أحتاج إليه في كتابة الخطابات مغفلة التوقيع. هذا كل المطلوب الآن.» «هل أذهب إذن يا سيدي؟»
قال يو با كين بشيء من شرود الذهن: «في رعاية الرب.» وفي الحال صاح مرة أخرى مناديا با تايك، فهو لا يضيع لحظة من اليوم. لذلك لم يمض وقتا طويلا في محادثة الزوار الآخرين وصرف فتاة القرية دون أن يجازيها، بعد أن تملى في وجهها وقال إنه لم يتعرف عليها. بعد ذلك حان وقت الإفطار. بدأ يشعر بقرصات الجوع العنيفة، التي كانت تهاجمه في هذه الساعة بالضبط كل صباح، وهي تعذب معدته، فصرخ في استعجال: «با تايك! يا با تايك! كين كين! الإفطار! أسرعا، إنني أتضور جوعا.»
كان في غرفة المعيشة وراء الستار مائدة سبق تجهيزها بوعاء أرز ضخم وعشرة صحون تحتوي على أكلات الكاري والقريدس المجفف وشرائح المانجو الأخضر. تهادى يو بو كين إلى المائدة وجلس وهو يخور وفي الحال انهمك في الطعام. وقفت خلفه ما كين، زوجته، لتقوم على خدمته. كانت امرأة نحيلة القوام، في الخامسة والأربعين من العمر، ذات وجه سمح، بني فاتح، شبيه بوجه القردة. لم يلق يو بو كين لها بالا وهو يأكل. فقد كان وعاء الأرز ملاصقا لأنفه وهو يحشر الطعام في فمه بأصابع سريعة متسخة بالدهن، وأنفاس متلاحقة. كانت كل وجباته سريعة وضخمة وبانفعال؛ لم تكن وجبات بقدر ما كانت طقوسا للانغماس والانهماك في أطباق الكاري والأرز. وحين فرغ من الطعام رجع بظهره، وتجشأ عدة مرات، وطلب من ما كين أن تأتي له بسيجار بورمي أخضر. فهو لم يدخن التبغ الإنجليزي قط، وكان يقول إنه بلا مذاق.
Page inconnue